الفصل الرابع والعشرون

الغزلون:١ الأحوص بن محمد الأنصاري

حدثتك في بعض الفصول الماضية عن أصحاب الغزل من أهل الحاضرة الحجازية، بعد أن حدثتك عن أصحاب الغزل من أهل البادية، ولكنني لم أتجاوز، فيما كتبت إلى الآن، الغزلين من قريش وأهل مكة، وسأعود إليهم حين أختم هذه الفصول بزعيم الغزل الحضري في عصر بني أمية، وهو عمر بن أبي ربيعة.

أما اليوم فأريد أن أحدثك عن رجل ليس قرشيًّا ولا مكيًّا، وإنما هو أنصاري مدني، وسترى من هذا الحديث أن هذا الرجل ليس أقل خطرًا من شعراء قريش، وأن جنسيته اليمنية لم تؤثر في شعره قليلًا ولا كثيرًا، كما أن الجنسية القرشية المضرية لم تؤثر في شعر القرشيين قليلًا ولا كثيرًا، لأن هذا الشعر تأثر في حقيقة الأمر بأسباب ومؤثرات أخرى مخالفة كل المخالفة للجنسية وما إليها: تأثر بتلك المؤثرات التي أكثرت ذكرها والإشارة إليها، والتي سأكثر من ذكرها والإشارة إليها؛ لأن الذين يدرسون الأدب العربي لم يقدروها قدرها بعد، وهي خليقة أن تقدر، إذ عليها وحدها تستطيع أن تعتمد في فهم الشعر الإسلامي عامة، وشعر هؤلاء الغزلين من أهل مكة والمدينة خاصة.

لعلك تذكر العرجي وما ذكرت من يأسه السياسي، وما اضطره إليه هذا اليأس من حياة اللهو والعنف والسخط، ولعلك إذا درست الأحوص تشعر بشيءٍ من الميل إلى المقارنة بينه وبين العرجي، وقد كانا في الحق صديقين، وكان بينهما تشابه قوي من بعض الوجوه، وكان بينهما اختلاف أيضًا، أصابتهما محن سياسية متشابهة، فكلاهما ضُرب، وكلاهما شُهر، وكلاهما أهين علنًا، وكلاهما حبس.

أما العرجي فقد حبس في مكة، وأما الأحوص فقد نفي إلى دهلك، وكلاهما كان صاحب لهو وعبث، وكلاهما كان صاحب غزل وذكر للنساء، ولكن لهو الأحوص كان أفحش من لهو العرجي، ولهو العرجي كان أعنف من لهو الأحوص، وكما أن التشابه بين هذين الرجلين يرجع إلى مصدرٍ واحد هو السياسة، فكذلك الاختلاف بينهما يرجع إلى مصدر واحد هو السياسة أيضًا.

كان الشباب من أشراف مكة والمدينة مضطرًّا إلى هذا اليأس السياسي الذي ذكرته، ولكن هذا اليأس قد كان متفاوتًا أشد التفاوت، بالقياس إلى شباب قريش وإلى شباب الأنصار، كان الملك في قريش، وكان الشباب القرشي يستطيع أن يعتز بهذا الملك وإن أقصي عن مناصبه وحيل بينه وبين تصريف أموره، وكانت لهذا الشباب دالة على الخلفاء من أبناء أعمامهم، وكان الخلفاء مضطرين إلى أن يصانعوهم ويرفقوا بهم تكريمًا لصلة القرابة وللعصبية القرشية، ومداراة لهذه الأطماع الخفية الظاهرة التي كانت توشك في كل وقت أن تنفجر فتديل من دولةٍ لأخرى.

أما شباب الأنصار فقد كان مضطرًّا إلى يأس مظلم شديد الظلام ليس له إلى الأمل من سبيل قريبة أو بعيدة، لم يكن قرشيًّا، ولم يكن الخلفاء في حاجة إلى إكرامه والرفق به ولا مداراته ومصانعته، وإنما كانوا يخشونه ويكرهونه ويفتنُّون في ظلمة والقسوة عليه، لا يخشون في ذلك حسيبًا ولا رقيبًا.

«منا أمير ومنكم أمير» كذلك قال الأنصار حين احتاج المسلمون إلى خليفة، وكانوا مقتنعين بحقهم في الخلافة، وكان كل شيء يبيح لهم هذا الاقتناع، فلم يكونوا أقل بلاء في تأييد الإسلام من المهاجرين، وربما كانوا أحسن بلاء من المهاجرين، فهم آووا الإسلام ونزلوا للنبي وأصحابه من قريش عن ديارهم وأموالهم، وبذلوا في نصر النبي وأصحابه من قريش نفوسهم ودماءهم، وعرف لهم بالنبي هذا كله، فآخى بينهم وبين المهاجرين وآخى بين رجالهم، حتى وجد بين الفريقين حلف أو شيء يشبه الحلف كان من الحق أن يكون أساسًا للحياة الإسلامية المقبلة، ومن يدري لعل المسلمين لو قبلوا رأي الأنصار فأقاموا أميرًا قرشيًّا وآخر أنصاريًّا لعصموا الإسلام من الفتن، ولأقاموا خلافة دينية حقًّا معتمدة على أساسٍ من العدل، معتزة بشيءٍ من التوازن يحول دون ظهور العصبيات التي أحدثت ما أحدثت من الشر في تاريخ المسلمين.

الأنصار يمانية، وقريش مضرية، فلو استقام الأمر للأنصار والمهاجرين، على أن يكون لكل من الفريقين أمير، لأمكن إيجاد التوازن بين المضرية واليمانية من جهة، ولقامت الخلافة المزدوجة على أساسٍ صحيح من الدين يصرف عنها أطماع الطامعين، ويؤخر استحالتها إلى ملك قيصري أو كسروي.

أكان المسلمون بعد موت النبي يجهلون النظام الروماني حقًّا؟ أم كانوا يعلمونه بعض العلم؟ أما أنا فأرجح أنهم كانوا يلمون به إلمامًا ما، ولا أستطيع أن أفهم هذين المذهبين اللذين ظهرا في أول عهد المسلمين بالحياة السياسية إلا على أنهما محاولة لتقليد الرومان في حياتهم السياسية، فقد كان مذهب الأنصار أكثر ميلًا إلى النظام الجمهوري القنصلي الذي كان في عصر رقي الجمهورية الرومانية، يقوم على انتخاب قنصلين، أحدهما يمثل الأرستوقراطية القديمة؛ أرستوقراطية المولد، والآخر يمثل الأرستوقراطية الجديدة؛ أرستوقراطية الثروة والجد والعمل، وقد كان مذهب المهاجرين أكثر ميلًا للنظام الإمبراطوري، ولا سيما في العصر الأخير الذي كان يجمع السلطة كلها إلى الإمبراطور دون أن يجعله ملكًا يورثه الملك أبناءه من بعده.

كان مذهب الأنصار أقرب إلى الديموقراطية من جهة؛ لأنه كان يقوم على المساواة والعدل، وكان أقرب إلى الثيوقراطية من جهةٍ أخرى؛ لأنه كان يكل أمور الدين إلى الذين اشتركوا في إقامة الدين وتأييده.

أما مذهب المهاجرين فقد كان أقرب إلى الأرستوقراطية وإلى الحكومة المدنية معًا.

ومهما يكن من شيء فقد فشلت دعوة الأنصار وحيل بينهم وبين الخلافة، وانتصرت العصبية على الفكرة الديموقراطية الدينية، وأجمع المسلمون أو كادوا يجمعون على هذا المذهب الغريب المتناقض الذي يجعل الخلافة وراثية أو غير وراثية؛ وراثية لأنها في قريش، وغير وراثية لأنهم أبعدوا عنها بني هاشم.

فشلت دعوة الأنصار، وظهر الأنصار في ذلك مظهرًا خليقًا بالعطف والإعجاب، فأذعنوا في غير ملل ولا ضيق صدر، وطابت نفوسهم عن هذا الأمر الذي كان لهم فيه حق ظاهر، ولم يمضِ منهم في الإباء والمشادة إلا رجل واحد هو: سعد بن عبادة، الذي قتلته الجن فيما تزعم الأساطير، والذي قتلته السياسة غيلة في حقيقة الأمر؛ لأن حياته كانت خطرًا على النظام السياسي الجديد، وكان هذا الفشل الذي أصاب الأنصار أول عهدهم باليأس السياسي.

ولكن الدهر كان يدخر لهم ألوانًا أخرى من اليأس، فقد ظهر أنهم لم يحرموا الخلافة وحدها، بل حرموا أن يكون لهم فيها رأي، وليس أدل على ذلك من عهد عمر بن الخطاب إلى أهل الشورى، فأنت ترى أن هؤلاء النفر الذين عهد إليهم عمر في اختيار الخليفة كانوا جميعًا من المهاجرين: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، كلهم قرشي.

ومهما تكن الأسباب الدينية التي أذيعت يومئذ لتعليل هذا الاختيار، فإن الحقيقة الواقعة تشهد بأن الأنصار أبعدوا عن الخلافة وعن المشورة في أمرها، وأن الخلافة أصبحت شيئًا قرشيًّا خالصًا، ومع هذا فقد طابت نفس الأنصار عن المشورة في أمر الخلافة، كما طابت أنفسهم عن الخلافة وأذعنوا لرأي السنة، وكانوا ناصحين للخلفاء الراشدين جميعًا، ولكنهم كانوا منطقيين مع أنفسهم، كانوا يحسون أنهم مبعدون عن الأمر إبعادًا، فكان هواهم مع بني هاشم، أليست قريش قد استأثرت بالأمر لأن النبي منها؟ فلم لا يستأثر بنو هاشم بالأمر، وهم أهل النبي ورهطه الأدنون!

على أن غيظ الأنصار لم يظهر حادًّا إلا حين استحالت الخلافة الإسلامية إلى ملك قيصري أو كسروي، وحين ظهر الميل من بني أمية إلى أن يستأثروا بالأمر وحدهم دون قريش، وحين ظهر ميل معاوية إلى أن ينقل الأمر من بعده إلى ابنه يزيد.

في ذلك الوقت ظهر سخط الأنصار واضحًا جليًّا، وأحسه بنو أمية وأرادوا أن يتقوه باللين والعنف، واستأجروا الشعراء لهجاء الأنصار، ولعلك تذكر هذه الحملة التي حملها عليهم الأخطل في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:

ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ بِالمكارِمِ كلها
واللؤْمُ تحْتَ عَمائِم الأَنصَارِ

ولعلك تذكر احتجاج النعمان بن بشير على هذا البيت عند معاوية واضطراب معاوية لهذا الاحتجاج.

ظهرت معارضة الأنصار، ولكن معاوية استطاع أن ينتصر عليها كما انتصر على غيرها من ألوان المعارضة أثناء حياته، فلما صار الأمر إلى ابنه يزيد ظهرت كل هذه المعارضات عنيفة قوية، فأما الأنصار فأنكروا هذه القيصرية، وأما قريش فنازعت بني أمية الأمر.

انتقض الأنصار في المدينة، وانتقضت قريش في مكة بزعامة عبد الله بن الزبير، وانتقض بنو هاشم في العراق بزعامة الحسين بن علي، واعتزم بنو أمية أن يقمعوا هذه المعارضات قمعًا عنيفًا، ولكنهم أسرفوا في العنف بالأنصار وإرهاقهم إسرافًا اضطر كثيرًا منهم إلى المهاجرة، فتركوا بلاد العرب ومضوا إلى أفريقيا، وأخذوا يتبعون فيها الفتح حتى انتهوا إلى الأندلس، واشتد الخلفاء وعمالهم على من بقي منهم بالمدينة، فقد كان العمال يأبون أن يتخذوا حرس المدينة وشرطتها من أهل المدينة أنفسهم، وكانوا يتخذون الشرطة من الأعراب الذين لا تصلهم بالمدينة صلة ما، ويكفي أن تقرأ أخبار الشعراء والظرفاء من أهل المدينة، وأخبار الولاة والعمال الذين كانوا يرسلون إلى المدينة، لتستيقن أن الخلفاء من بني أمية كانوا يكرهون الأنصار كرهًا شديدًا، ويسرفون في إساءة الظن بهم، ويأخذونهم من ضروب العنف والإذلال بما لم يكن يلائم قديمهم في تأييد الإسلام، بل بما لم يكن يلائم مكانتهم من حيث هم مسلمون.

كانوا يحرمون شباب قريش مناصب الدولة ويمسكونهم في الحجاز، كما كان قياصرة الرومان في أول الأمر يضيقون على شباب الأرستقراطية الرومانية ويمسكونهم في إيطاليا، ولكنهم كانوا يذلون شباب الأنصار إذلالًا، فانصرف هذا الشباب عن السياسة وعن المجد المألوف إلى اللهو أو إلى الفقه، وكان أهل المدينة ظرفاء وفقهاء، فنفعوا الأدب العربي ونفعوا الإسلام نفسه في محنتهم، كما نفعوه حين كانوا أعزاء.

الآن تستطيع أن تفهم شيئين يوصف بهما الأحوص؛ أحدهما: أنه كان شديد الكبرياء مزهوًّا على الناس، مزدريًا لهم جميعًا، يهجوهم ويسرف في هجائهم، لا يفرق في ذلك بين قومه الأنصار وقريش وغير قريش، أما الأنصار فقد كان يزدريهم ويكره منهم الإذعان والخشوع، وأما قريش فقد كان يحقد عليهم وينقم منها ما هي فيه من سلطات وجبروت، وما أسرع ما اشتد تأثير ذلك في نفسه فأصبح سفيهًا سبابًا يهجو حبًّا في الهجاء! وقد انتهى به ذلك إلى أن كانت له حادثة، أعتقد أن الناس لم يفهموها بعد على وجهها، زعموا أنه كان عند سكينة بنت الحسين فأذن المؤذن، فلما انتهى إلى قوله: «أشهد أن محمدًا رسول الله» قالت سكينة: هذا جدي، وفخرت بالنبي، ففاخرها الأحوص وذكر جده الذي حمته النحل من المشركين واحتمله السيل حتى لا يصلوا إليه، وذكر خاله الذي غسلته الملائكة، قالوا: وغضبت سكينة وغضبت غيرها وكفَّروا الأحوص، واتخذ بنو أمية هذا وغيره وسيلة إلى إهانته ونفيه، وقد أراد سوء الحظ ألا تبقى من هذه القصيدة إلا هذه الأبيات القليلة:

فخرَت وانتَمتْ فقُلْتُ ذَريني
ليْسَ جَهْلٌ أَتَيْتِهِ ببَدِيعِ
فأَنا ابنُ الذِي حَمَتْ لَحْمَهُ الدبـْ
ـرُ قَتِيلُ اللَّحْيانِ يوم الرجيعِ
غَسَلَتْ خالِيَ الملَائِكةُ الأَبـ
ـرارُ مَيْتًا طُوبى لُه مِن صَرِيعِ

لم يكن الأحوص مجنونًا ولا سخيفًا، ولم يكن يريد أن يفاخر سكينة ولا أن يضع جده وخاله بإزاء النبي، وإنما كان رجلًا بائسًا محزونًا يريد أن يقول لسكينة: فيم هذا الفخر والأمر في هذه الأيام لقوم آخرين لم يبلوا في الدين بلاء حسنًا؟ فيم هذا الفخر؟ وهل عصمكم اتصالكم بالنبي من هذه المنكرات التي جناها عليكم بنو أمية؟ وهل حقن دماءكم ورد إليكم أمركم؟ ولِمَ نذكر قديمًا ونحن نرى أبناء النبي وأبناء أصحابه وأنصاره يُزْدَرون ويسامون ألوان الخسف؟! لم يرد أن يفاخر سكينة، وإنما رثى لها ولنفسه وأمثالهما، وهجا بني أمية، إذن فلم يكفر ولم يتجاوز حدود الأدب والدين، وإنما كان شاعرًا سياسيًّا، لا أكثر ولا أقل.

هذه الأبيات التي أفهمها على هذا الوجه تمثل نفسية الأحوص، كما تمثل نفسية الشباب الأنصاري والقرشي ذلك الوقت، وهي تفسر لنا هذا الشيء الثاني الذي كان يوصف به الأحوص، وهو الإسراف في اللهو والاندفاع في المجون إلى غير حد.

لا ينبغي أن تطلب إلى الناس جميعًا أن يكونوا أصحاب زهد ونسك ودين، ولا ينبغي أن تطلب إليهم جميعًا أن يكونوا من قوة الإرادة بحيث يقاومون اليأس ويجتنبون آثاره المؤلمة.

كان الأحوص رجلًا كغيره من الناس يطمع فيما يطمع فيه أمثاله، فلما رأى أن أبناء المهاجرين والأنصار قد حرموا ثمرة جهاد آبائهم، وعوملوا معاملة الأسرى والمجرمين، وانتفع غيرهم بهذا الدين الذي أقاموه، وبهذا الملك الذي شيدوه، حقد فأنكر الناس، ثم انتهى إلى إنكار الدين نفسه، ثم لها عن الناس ودينهم وشئونهم المختلفة بهذه اللذات المنكرة التي كان يتهالك عليها تهالكًا شديدًا، وأنا أصدق أنه قال تلك الحملة المنكرة، التي أخجل أن أرويها في هذا الحديث، والتي تمثل نفسًا فاجرة حقًّا لا تحفل بأدب ولا مروءة ولا دين.

كان الأحوص فاجرًا بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة، كان يشرب ويسرف في الشرب، وكان يحب النساء والغلمان، وكان يحب شيئًا آخر غير هذا، وكان بنو أمية معذورين في القسوة عليه وأخذه بما أخذوه به من شدة، فينبغي أن نلاحظ أنه ضرب وأهين ونفي أيام سليمان بن عبد الملك، فلما جاء عمر بن عبد العزيز، وهو رجل عدل منصف صالح، أبى أن يسمع للأنصار وأمسكه في نفيه حتى أطلقه يزيد بن عبد الملك، لأسبابٍ سياسية ستراها بعد حين، ولكني أروي لك قصتين؛ إحداها: تمثل حلم الوليد بن عبد الملك وتغاضيه عن زلات الأحوص، والأخرى: تمثل رأي عمر بن عبد العزيز فيه.

تحدثوا أن الأحوص وفد على الوليد بن عبد الملك فأكرمه وأعز مكانه وأنزله عنده، ولكن الأحوص كان يراود غلمان الوليد الخبازين عن أنفسهم، ثم أشفق أن يظهر ذلك، فدس وكاد لضيف آخر من ضيوف الوليد — هو شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاص — ثم ظهرت جلية الأمر للوليد فغضب على الأحوص وأقصاه، ولكنه لم يضربه ولم يهنه كما فعل أخوه سليمان.

أما رأي عمر بن عبد العزيز فيه فأنقله لك حرفيًّا من الأغاني: «أتى رجال من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فكلموه فيه وسألوه أن يقدمه وقالوا له: قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه، وقد أخرج إلى أرض الشوك، فنطلب منك أن ترده إلى حرم رسول الله ودار قومه، فقال لهم عمر: فمن الذي يقول:

فما هُوَ إِلَّا أَن أَرَاها فُجاءَةً
فَأُبْهَتَ حتى ما أَكادُ أُجيبُ

قالوا: الأحوص، فقال: من الذي يقول:

أَدُورُ وَلَوْلَا أَنْ أَرَى أُمَّ جَعْفَرٍ
بِأَبْيَاتِكُم ما دُرْتُ حَيْثُ أَدُورُ
ومَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلكِنَّ ذا الْهَوَى
إِذَا لَمْ يُزَرْ لا بُدَّ أَن سَيَزُورُ

قالوا: الأحوص، فقال: فمن الذي يقول:

كأَنَّ لبْنَى صَبِيرُ عَادِيَةٍ
أَوْ دُمْيَةٌ زُيِّنَتْ بِهَا الْبِيَعُ
اللهُ بَيْنِي وبَيَنْ قيِّمِهَا
يَفِرُّ مِنِّي بهَا وأَتَّبعُ

قالوا: الأحوص، قال: بل الله بين قيمها وبينه، فمن الذي يقول:

ستَبْقَى لها فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ والْحشَا
سَرِيرةُ حُبٍّ يوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ

قالوا: الأحوص، قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول، والله لا أرده ما كان لي سلطان.»

ولعلك تريد أن تعلم فيم عذب وفيم نفي؟ وليس علم ذلك بالعسير، فقد كان أمره كأمر العرجي سواء بسواء، كان العرجي عنيفًا فاجرًا كارهًا للحكومة هجَّاء لعامل الخليفة على مكة، وكان الأحوص فاسقًا ماجنًا مخنثًا، كما سماه عبد الملك بن مروان، وكان يهجو أشراف الأنصار وقريش ويتغزل بنسائهم، وكان هذا هو السبب الحقيقي في أنه كان يكره ابن حزم عامل سليمان بن عبد الملك على المدينة، يهجوه هجاء صريحًا قبيحًا، فلست أشك في أن هذا الوالي حرض الناس على الأحوص، فشكوه إليه وطلبوا منه أن يكتب فيه إلى سليمان ففعل، وكان سليمان شديد الغيرة يكره الغزلين والمغنين، وأمره مع ظرفاء المدينة مشهور، فكتب إلى عامله أن يضرب الأحوص ويشهره، ويقيمه للناس في السوق، ويصب على رأسه الزيت، وينفيه إلى دهلك، وكان موقف الأحوص في هذه المحنة كموقف العرجي جلدًا وصبرًا وعزة نفس، وانظر إلى هذه الأبيات التي كان يصيح بها وهو يشهر في السوق:

ما مِن مُصِيبَة نَكْبَةٍ أُمْنى بهَا
إِلَّا تُعَظِّمُني وتَرْفُع شانِي
وتَزُولُ حِينَ تَزُولُ عَنْ مُتَخمَّطٍ
تُخْشى بوادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
إِني إِذَا خَفِي اللئامُ رأَيْتَني
كالشَّمْسِ لَا تَخفَى بِكُل مكان

وانظر إلى هذا الشعر يهجو به الوالي:

أَقُولُ وأَبْصَرْتُ ابْنَ حزْمِ بْنِ فَرْتَنَى
وقُوفًا لهُ بِالْمأْزِمَيْنِ الْقَبائلُ
تُرَى فَرْتنى كانتْ بِمَا بَلَغ ابْنُها
مُصَدقَةً لَوْ قَالَ ذلكَ قائلُ

وانظر إلى هذا الشعر يقول لسليمان بن عبد الملك في غير تردد ولا وجل:

سُليْمانُ إِذْ ولَّاكَ رَبُّكَ حكْمَنا
وسُلْطَاننا فاحْكُمْ إِذَا قُلْتَ وَاعْدِلِ
يؤُمُّ حجِيجَ المُسْلِمينَ ابْن فَرْتَنَى
فهَبْ ذَاكَ حَجًّا لَيْس بِالْمُتَقَبَّلِ

وهجاؤه لابن حزم ونعيه على سليمان كثير، ولا تنسَ أنه كان ثقيلًا على قومه، يتخذ هجاءهم وسيلة إلى اللهو والعبث، ويتخذ نساءهم موضوعًا للغزل، يعف فيه حينًا، ويفحش فيه حينًا آخر، فلما ولي الأمر يزيد بن عبد الملك عفا عنه وأكرمه وأحسن صلته، ويقول الرواة: إنه فعل ذلك لأبياتٍ قالها الأحوص فيه ودسها إلى جاريته حبابة، فغنته إياها ذات ليلة فطرب وأطلق الأحوص.

وليس من شك في أن الأحوص استعطف عمر بن عبد العزيز، واستعطف يزيد بن عبد الملك، ولكن سيرة يزيد في أمر الأحوص كانت كسيرة الوليد بن يزيد في أمر العرجي، انتقم الوليد للعرجي، لا حبًّا فيه بل نكاية بآل هشام بن عبد الملك، وانتقم يزيد للأحوص، لا حبًّا فيه بل نكاية بابن حزم وانتقامًا لنفسه.

حج يزيد بن عبد الملك في خلافة أخيه الوليد، فتزوج في حجه هذا فتاة هاشمية هي بنت عون بن محمد بن علي بن أبي طالب، وأمهرها مالًا كثيرًا، وبلغ الأمر الوليد، فغضب وكتب إلى ابن حزم أن ينقض هذا الزواج ويسترد المال من عون، فإن رده فذاك، وإلا فليضربه بالسياط حتى يؤدي إليه هذا المال، وأنفذ الوالي أمر الخليفة بمحضر يزيد، فلما آلت الخلافة إلى يزيد انتقم لنفسه من ابن حزم هذا، ونقض جميع أعماله، ومنها نفي الأحوص، وإذا صحت أخبار الرواة فإن الأحوص لم ينتفع بهذه الفرصة؛ لأن الظرف أخطأه، وملكه حب الانتقام فأهان الخليفة من حيث لا يريد.

قالوا: أمر يزيد أن يحمل إليه الأحوص وابن حزم، فلما بلغا دمشق أذن يزيد للأحوص وظل ابن حزم بالباب، فلما دخل الأحوص على الخليفة قال: يا أمير المؤمنين هذا ابن حزم الذي سفه رأيك وفسخ نكاحك، فغضب يزيد وقال: كذبت عليك لعنة الله! اكسروا أنفه، فأخرج ذليلًا.

ويظهر أن الأحوص أدركه الطمع في آخر أيامه وأراد أن يكون مقربًا من يزيد، فوقف موقفًا آخر لم يشرفه ولم يجنِ له إلا شرًّا.

لما قتل يزيد بن المهلب أراد يزيد بن عبد الملك أن يقول الشعراء شعرًا في هجاء آل المهلب، فاعتذر أكثر الشعراء لأنهم كانوا مدحوا آل المهلب، فكرهوا أن يكذبوا أنفسهم بهجائهم أثناء المحنة، ولشد ما أحب أن يقرأ هذا قوم! أما الأحوص فأجاب وهجا آل المهلب، ثم كانت منه رحلة إلى فارس حيث العصبية لآل المهلب قوية، فاحتاط الوالي حتى دس إليه نفرًا دخلوا عليه ومعهم زق من الخمر، فصبوه على رأسه ثم قادوه إلى الوالي فأنفذ فيه الحد، وجعل يقول الأحوص: ما هكذا تقام الحدود، فيجيبه الوالي: نعم ولكن لما تعلم، ثم كتب الوالي إلى يزيد معتذرًا، فاضطر يزيد إلى أن يقبل العذر لقوته العصبية اليمانية في فارس.

أظنك استطعت الآن أن تتمثل شخصية الأحوص، وأظننا نستطيع أن نلخص هذه الشخصية في أنه كان رجلًا ساخطًا، واضطره السخط إلى الإسراف في اللهو والفجور والسفه، جعل للسلطان على نفسه سبيلًا، كان معذورًا في إسرافه، وكان السلطان معذورًا في معاقبته.

ولكني لم أحدثك إلى الآن عن شخصيته الشعرية، وهي عظيمة جدًّا لم ينكرها عليه أحد، حتى من أشد الناس بغضًا له وسخطًا عليه، لقد اضطر أبو الفرج إلى أن يشيد بمكانته الشعرية مرتين، ولقد أبى الفرزدق وجرير أن يهجواه مخافة لسانه، ولقد كان أشراف الناس يتقونه بالملاطفة حينًا، وبالنذير العنيف حينًا آخر، ولقد أقسم آل الزبير بمحرجات الأيمان ليقتلنه إن هجا زبيريًّا بشعر قليل أو كثير.

كان الأحوص غزلًا ولكنه كان مفتنًّا في ضروب الشعر كلها، له الفخر الرائع، والمدح البديع، والهجاء المقذع، وذلك لأنه لم يكن متكلفًا ولا محتشمًا، وإنما كان يرسل نفسه على سجيتها، وكانت نفسه خصبة غنية بضروب الخير والشر، فكان يكفي أن يعكف على هذه النفس لحظة فيجد فيها كل ما يريد.

كان حلو اللفظ متينه، قوي الأسلوب رصينه، يبلغ الإجادة اللفظية في غير تكلف ولا مشقة، ولم يكن كغيره من الغزلين المكيين يعنى بالمعنى ويستخف بالألفاظ، وإنما كان حريصًا على التجويد في لفظه ومعناه جميعًا.

كان إذا أراد وفيًّا حسن الحديث إلى من يحب، ولكنه كان عابثًا أيضًا، وكان يلهو بالغزل كما يلهو بالهجاء، فكان يكذب على نساء الأنصار فيحرجهن، ويحرج أزواجهن.

زعموا أنه أسرف في ذكر أم جعفر، وهي أنصارية عفيفة، فلما ضاق بها الأمر أقبلت ذات يوم متنكرة حتى وقفت عليه وهو في جماعة من قومه، فقالت له: اقضني ثمن الغنم التي اشتريتها مني، فأنكر ذلك، وألحت وصدَّقها الناس، وأخذ هو يحلف ما رآها ولا يعرفها، فكشفت عن وجهها وأصر هو على إنكاره، وقد اجتمع حولهما الناس، فلما بالغ في الإنكار قالت أم جعفر: صدقت يا عدو الله! والله ما أعرفك وما تعرفني، ولكنك تذكرني في شعرك فتقول: قالتْ لي أم جعفر، وقلتُ لها، ويشيع ذلك في الناس، فخجل الأحوص.

ولست أريد أن أسرف في الإطالة أكثر مما أسرفت، فلأروِ لك هذه القصيدة في شعر الأحوص، فهي تعطيك صورة من سهولة لفظه ومعناه في جودة ومتانة:

ثِنْتَانِ لَا أَدْنُو لوَصْلِهِما
عِرْسُ الْخَلِيلِ وَجارة الْجُنُبِ
أَما الْخَليلُ فَلَسْتُ فاجِعَهُ
والْجَارُ أَوْصاني بهِ رَبِّي
عُوجُوا كَذَا نَذْكرْ لِغانِيَةٍ
بَعْضَ الْحَدِيث، مَطِيَّكُمْ صَحْبي
ونَقُلْ لهَا فِيمَ الصدُودُ وَلَمْ
نُذْنِبْ بَلَ انْتِ بَدَأْتِ بِالذَّنْبِ
إِنْ تقْبِلِي نُقْبِلْ ونُنزِلكُمْ
مِنَّا بِدارِ السَّهْلِ والرَّحْبِ
أَوْ تُدْبِرِي تَكْدُرْ معيشَتنَا
وَتُصَدِّعِي مُتلائِمَ الشَّعْبِ

فانظر إلى هذا الماجن الفاجر كيف عف في هذه الأبيات عن الجارة وعرس الخليل! وكيف أحسن الحديث إلى صاحبته في ظرف ورفق وصفاء طبع! وانظر إلى قوله: «عوجوا كذا» وإلى موضع «كذا» من هذا البيت؛ فهو يختصر الظرف الحجازي كله.

وأنا أوصيك بكل ما قال الأحوص في أم جعفر؛ فهو على قلته كثير الغناء.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٥ نوفمبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤