الفصل الثامن والعشرون

خاتمة القول في الغزلين:١ الحب في شعر ابن أبي ربيعة

أظنك لم تنسَ حديثنا الماضي عن عمر بن أبي ربيعة، وأظنك تذكر ذلك الرأي الذي ختمت به ذلك الحديث، وقلت: إنه يمثل رأي القدماء في زعيم الغزلين، وهو رأي مصعب بن عبد الله الزبيري الذي تناقله الرواة على اختلافهم وتباين أهوائهم وأعجبوا به، وحفظه لنا صاحب الأغاني، فكان هذا كله مرآة لرأي هذه الطبقات في عمر بن أبي ربيعة، بحيث نستطيع أن نقول: إنه يمثل رأي القرن الثاني والثالث في هذا الشاعر.

أعترف بأني قرأت حديث مصعب بن عبد الله هذا مع شيء من اللذة كثير، وأحسست شيئًا عظيمًا من الغبطة؛ لأن صاحب الأغاني استطاع أن يرويه في جملته، حتى يخيل إليك وأنت تقرؤه أنه فصل كامل من كتاب، أو أنه نص كامل لمحاضرة ألقاها هذا الأديب، ومن ذا الذي لا يغتبط حين يظفر بشيءٍ كهذا؟! ولست أريد أن أنقد هذا الرأي ولا أن أناقشه، وإنما نقلته لك لترى كيف كان القدماء من أصحاب اللغة والأدب ينظرون في الشعر ويحكمون عليه، وكيف كانوا يقدِّرون عمر بن أبي ربيعة ويعجبون به إلى غير حد.

وأنا أعلم حق العلم أن طريقة القدماء في فهم الشعر والحكم عليه لا ترضينا ولا تقنعنا، ولا تلائم ذوقنا الحديث وأطماعنا العلمية الواسعة، فهم كانوا يتعجلون الحكم تعجلًا، ويجتزئونه اجتزاء، ويعممون في غير موضع للتعميم، وهم كانوا لا يستطيعون أن يتصوروا أن لشعر الشاعر وحدة يجب أن تدرس، ويجب أن يتبين فيها الناقد شخصية الشاعر وقوته، وهم كانوا يجهلون أو يكادون يجهلون هذه الشخصية، وينظرون لا إلى القصيدة ولا إلى المقطوعة بل إلى البيت أو البيتين، فيحكمون بأن الشاعر أشعر الناس في هذا المعنى.

وربما حكموا بأنه أشعر الناس في كل شيء؛ لأنه قال بيتًا راقهم أو شطرًا وقع منهم موقعًا حسنًا، وهم كانوا إلى هذا كله يغمضون في ألفاظهم ويعمدون إلى معانٍ مبهمة بحيث لا تستطيع أن تتبين آراءهم كما هي، فهم يذكرون الديباجة، والحاشية، والأديم، وما إلى ذلك من ألفاظ مستعارة يعجبك وقعها ويخطئك معناها الدقيق.

أعلم هذا كله، ولكني مع ذلك أحب هؤلاء القدماء، وأحب آراءهم، وأجد في قراءتها لذة وبهجة، وإلى تفهمها راحة واطمئنانًا، وإذا أخطأني رأيهم الدقيق في الشعر أو حكمهم الصحيح عليه؛ فإني أجد نقدهم مرآة صادقة لنفس جذابة حلوة أحب أن أخلو إليها من حينٍ إلى حين.

نعم! إن رأي مصعب بن عبد الله الزبيري لا يعطي صورة واضحة من عمر بن أبي ربيعة ولا من شعره، ولكنه يعطي صورة واضحة من مصعب نفسه ومن أصحابه الذين استمعوا له وحفظوا عنه، ومن الرواة الذين تناقلوا هذا الحديث وخلدوه، وليس هذا بالشيء القليل، ثم من الذي يستطيع أن يزعم لك أن الأجيال المختلفة تستطيع أن تفهم الأدب على وجهٍ واحد، وتصدر في الحكم عليه من مصدر واحد؟ وكيف السبيل إلى ذلك وأنت لا تستطيع أن تضمن تشابه أطوار الحياة وظروفها في الأجيال والبيئات المختلفة؟ وإذن فلا تستطيع أن تضمن تشابه الذوق، وإذن فلن تستطيع أن تضمن تشابه النقد، وإذن لن ينبغي لك أن تطلب إلى القدماء ما تطلبه إلى المحدثين، ولئن عجبت لشيء فإنما أعجب لهذه الميول والأهواء التي قد يشترك فيها القدماء والمحدثون، على تباين الأطوار واختلاف الظروف وتبدُّل أحوال الحياة، أقول هذا كله بعد أن فرغت من قراءة رسالة صغيرة، ولكنها ممتعة قيمة للدكتور «زكي مبارك» خريج الجامعة المصرية، تناول فيها شعر عمر بن أبي ربيعة فدرسه من بعض نواحيه درسًا حسنًا يسرني أن أهنئه به، ويسرني أيضًا أن أنتهز هذه الفرصة لتسجيل ما للجامعة المصرية من فضلٍ على عقول الشباب، ولكن الدكتور «زكي مبارك»، وهو شاب حاد الشباب عنيفه، قد أسرف في نقد مصعب بن عبد الله إسرافًا جعله إلى الظلم أقرب منه إلى الإنصاف، وليس مصدر هذا الإسراف إلا أنه لم يقدِّر، كما ينبغي، اختلاف المثل الأدبية باختلاف العصور والأجيال، وما أحسب إلا أنه عائد إلى هذا النقد فملطف ما فيه من حدة ومزيل ما فيه من جور.

كان القدماء مجمعين أو كالمجمعين على إكبار عمر بن أبي ربيعة وتقديمه، يستوي في ذلك خصومه وأنصاره؛ فقد كان ضربًا من الإكبار والتقديم هذا التحرج من رواية شعر عمر، وهذا الإشفاق من أثره في الفتيان والفتيات، فلم يكن لهذا التحرج والإشفاق مصدر إلا الاعتراف بأن هذا الشعر قوي خلاب ساحر للنفوس.

ولكن من أي ناحية نستطيع أن ندرس شعر عمر بن أبي ربيعة، أندرسه من حيث هو مرآة للحياة الاجتماعية الحجازية في القرن الأول للهجرة؟ أم ندرسه من حيث هو مظهر من مظاهر الحياة الأدبية في ذلك العصر؟ أم ندرسه من حيث هو مرآة لنفس المرأة الحجازية وحياتها بوجهٍ عام؟ أم ندرسه من حيث قيمته في لفظه وأسلوبه ومعناه؟ أم ندرسه من حيث عبث الرواة به وإضافتهم إليه؟ أم ندرسه من حيث تطوره؟ فقد تطور شعر عمر بن أبي ربيعة كما تطور ابن أبي ربيعة نفسه؟ ولعل أصدق دليل على أن القدماء أنفسهم أحسوا هذا التطور قول جرير: «ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.»

أما أن ندرسه من حيث هو مرآة لنفس عمر ومظهر شخصيته ومثال لقوة حسه ودقة شعوره، فكل هذه النواحي خليقة بالدرس، وأنا زعيم لك بأنك ستظفر إن درستها بنتائج أدبية وتاريخية قيمة جدًّا، ولكنك تعلم حق العلم أني لا أستطيع أن أعرض لهذا كله في هذه الأحاديث؛ فليست هي مما يسع هذا البحث العلمي الدقيق، ولو أني عرضت لها لقضيت فيها سنة أو أكثر من سنة، وقد طلب إليَّ بعض أصدقائي منذ حين أن أنصرف عن الغزلين إلى غيرهم، فأجبته إلى ما أراد، وأنا أريد أن يكون هذا الحديث خاتمة القول في الغزلين، ويسرني جدًّا أن يُعنى غير واحد من رجال الأدب بالبحث عن كل هذه النواحي التي أرى أنها خليقة بالدرس من شعر عمر بن أبي ربيعة.

أما أنا فلست أدرس في هذا الحديث إلا ناحية واحدة أو جزءًا من ناحية واحدة إن صح هذا التعبير، ولكني ألفتك إليه، وأود لو استطاع الباحثون أن يتموه، فلن أزيد عن الإشارة الموجزة إليه، أريد أن أبحث عن حب عمر بن أبي ربيعة ما هو؟ وما سبيله؟ وما أثره في البيئة التي ظهر فيها؟

وقد رأينا في الحديث الماضي أن عمر لم يكن عذريًّا، ولم يكن يريد أن يذهب مذهب العذريين، وإنما كان عمليًّا محققًا يلتمس الحب في الأرض لا في السماء، ورأينا كذلك أنه لم يكن يذهب في حبه مذهب أصحاب المجون من شعراء العصر العباسي، فلم يكن يسرف في العبث، وإنما كان يقتصد اقتصادًا ويتوسط في حبه توسطًا، فيعف كثيرًا، ويعبث قليلًا، وكانت ظروف حياته نفسها تكرهه على هذه العفة، لأنه لم يدع امرأة شريفة من قريش إلا شبب بها، وما كان له أن يتجاوز العفة في هذا التشبيب، إنما الذي نريد أن نتبينه هو طبيعة هذا الحب، فنلاحظ قبل كل شيء أن عمر لم يكن يحب بعقله ولا بقلبه، وإنما كان يحب بحسه، وبحسه ليس غير، كان موكلًا بالجمال يتبعه، وله في ذلك أحاديث أذكر منها قصته مع عروة بن الزبير؛ فقد سايره ذات يوم وأخذا يتحادثان، فإذا عمر يسأله عن ابنه محمد، فأجابه عروة: لقد تقدمنا، فأظهر عمر الرغبة في أن يلحقه ويسايره، وأنكر عروة ذلك، فقال عمر: أنا موكل بالجمال أتبعه، وكان محمد بن عروة جميلًا رائع الطلعة، وقد أذن عروة لعمر فلحق بالفتى وسايره.

وله أحاديث أخرى مع الشبان في البيت الحرام وخارج البيت الحرام، وتستطيع أن تقرأ ديوان عمر بن أبي ربيعة كله فلن تجد فيه من وصف نفس المرأة وجمالها المعنوي إلا قليلًا جدًّا، فأما الذي تجده في هذا الديوان فوصف جمالها المادي من جهة، ووصف ميولها وأهوائها من جهةٍ أخرى، ولم يخطئ نُصيب حين قال: «عمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربَّات الحجال.» فلم يعرف العصر الأموي كله شاعرًا وصف المرأة جملة وتفصيلًا بمثل ما وصفها به عمر بن أبي ربيعة جودة وكثرة ودقة بنوعٍ خاص.

كانت الصلة الجنسية أساس الحياة الأدبية وغايتها بالقياس إلى عمر بن أبي ربيعة، فهو لم يكن يتصور المرأة إلا على أنها مكملة للرجل، لا يستطيع أن يعيش بدونها كما أنها لا تستطيع أن تعيش بدونه، ولم يكن عمر يقصر هذه الصلة الجنسية على معناها المادي وحده، وإنما كان يريدها واسعة متناولة جميع أطراف الحياة، ولست أشك في أن عمر بن أبي ربيعة كان صديقًا للمرأة بالمعنى الحديث الذي نفهمه لصداقة المرأة، كان يريد لها من الحرية مثل ما يريده للرجل، وكان يريد أن تكون صلة الغزل بين الرجل والمرأة صلة ظاهرة لا حرج فيها ولا جناح، وكان يريد أن تظهر المرأة فخرها بجمالها وروعتها كما يظهر الرجل فخره بشجاعته وبأسه، وكان يريد أن تستفيد الجماعة الإنسانية من خلال المرأة، كما تستفيد من خلال الرجل، كان يريد أن تزول الفروق بين الجنسين وألا يكون بينهما حجاب، وسواء علينا أشعر بذلك أم لم يشعر، أكوَّن فيه رأيًا صريحًا أم لم يكوِّن، فهناك شيء لا شك فيه وهو أن شعر ابن أبي ربيعة كله ليس إلا تغنِّيًا بجمال المرأة وتأثيرها في حياة الرجل ومكانها من نفسه، وكان كل شيء في حياة عمر وسيلة إلى الاتصال بالمرأة وذكرها والتحدث إليها ولا سيما الحج، فلم يكن ابن أبي ربيعة يفهم من موسم الحج إلا أنه معرض إسلامي للجمال، وكان إذا قرب الموسم اتخذ أجمل ما كان يستطيع من زينة وظهر في مظهر الفتوة والقوة، وفارق مكة فتعرض للحجيج في طريق المدينة والشام والعراق يتلمس نساءهم، ويتبين هوادجهن، ويعرض منها لما تظهر عليها آثار النعمة والترف، فإذا وافى الحجيج مكة وغيرها من مواضع المناسك، كان عمر قد أحصى النساء اللاتي يجب أن يكون بينه وبينهن لقاء أو حديث أو مكاتبة، وكانت له رسل تعمل في ذلك فتأتيه المواعيد في مكة حينًا، وفي منى حينًا آخر، وكانت أحب ساعات الدهر إليه أوائل الليل من أيام الموسم حين ينتهز النساء فرصة الليل فيخرجن للطواف، هنالك كان عمر بن أبي ربيعة يترصدهن، ومنهن من كانت تترصده، وهنالك كانت تبتدئ الأحاديث لتتم بعيدًا عن البيت، حتى إذا انتهى الموسم وأزمع الحجيج العودة إلى بلادهم، رأيت عمر مقسمًا بين نساء المدينة ونساء الشأم ونساء العراق، يشيع هذه ثم يعود فيشيع تلك، ثم يترك هاتين ليشيع امرأة أخرى، وهو لا يفرغ من تشييع امرأة إلا قال الشعر الجيد يسبقها إلى مواطنها، ولا يلبث أن يسقط بين أيدي المغنين فإذا هو مصدر للهو والطرب لهذه الأرستقراطية المترفة من أبناء قريش والأنصار، فكان موسم الحج موسم شعر وغناء في الحجاز.

وقد ذهب الشعراء مذهب عمر بن أبي ربيعة، وتأثر النساء تأثرًا شديدًا بهذه الحركة الغزلية فأحببنها وحرصن عليها واجتهدن في تقويتها وتذكية نارها، واستبقن إلى إرضاء الشعراء وتحريضهم على قول الشعر وإغرائهم بالغزل فيه.

أظنك تستطيع الآن أن تفهم السبب في افتتان النساء بعمر، وتنافسهن فيه، واستباقهن إلى مودته، وأظنك تشاركني في الحكم بأن عمر لم يكن مغرورًا ولا مفتونًا ولا تياهًا، كما كان يظن به بعض القدماء، وكما يظن به بعض المُحْدَثين أيضًا، كان عمر يصف نفسه كثيرًا، وكان يسرف في هذا الوصف أحيانًا، حتى قال له ابن أبي عتيق ذات يوم: لم تشبب بها وإنما شببت بنفسك، ولكن مصدر هذا لم يكن غرورًا ولا فتنة ولا تيهًا، وإنما كان حب النساء إياه حقًّا، وتهالكهن عليه حقًّا، وليس من المنكر أن يكون هذا قد اضطره إلى شيء من الغرور والتيه، ولكني لست أحسب أن الغرور والتيه وحدهما هما اللذان أنطقاه بهذا الشعر الكثير الذي اتخذ نفسه موضوعًا له.

لم يكن عمر مغرورًا ولا تياهًا، كما أنه لم يكن كاذب الحب ولا متكلفه، وإنما كان صادق الحب حقًّا قويه أيضًا، ستقول: فكيف يلائم ذلك ما زعمت من أنه لم يكن عذريًّا ولم يكن يذهب مذهب جميل؟ بل كيف يلائم ذلك ما ذكرت من أنه كان يتبع النساء جميعًا بحبه لا يكاد يدع امرأة إلا ليعرض لأخرى، وربما اشتغلت نفسه في وقتٍ واحد بغير امرأة؟ كان هذا كله حقًّا، وكان عمر بن أبي ربيعة مع ذلك صادق الحب قويه أيضًا، ذلك لأنه لم يكن عذريًّا، لم يكن يحب بعقله ولا بقلبه، وإنما كان يحب بحسه وبحسه ليس غير، كما قلت آنفًا، لم يكن حسه يطيع قلبه فيرى الجمال في عشيقته ويميل إليها، وإنما كان قلبه طوع حسه، فكان يكفي أن يرى جمال المرأة ليخلع عليها ما شاء له الشعر من الصور الرائعة الخلابة، وليجد بها ما شاء له الحب من وجد لا حد له، كان عمر يرى كلما أحب امرأة أنه لم يحب قط امرأة كما أحبها، وأنه لن يسلو عنها مهما تتبدل الأحوال وتختلف صروف الحياة، وكان صادقًا في هذا كله، ولكنه لم يكن يلبث أن يقول هذا الشعر حتى يحب امرأة جديدة حبًّا ليس له بمثله عهد، ولن يكون له بمثله عهد، ولن يجد سبيلًا إلى الانصراف عنه، ومصدر هذا أن قلبه كان كما قلت يتبع حسه، وأن النساء كنَّ مفتونات به، فكان لا يكاد يقف عند مظهر من مظاهر الجمال حتى يخلبه مظهر آخر، وكان لا يكاد يسمع ثناء امرأة حتى يستهويه ثناء امرأة أخرى، فكان طمعه متصلًا وأمله لا حد له.

ليس عمر بن أبي ربيعة بدعًا من الشعراء ولا من العشاق؛ فأنت تجد في كل عصر من العصور وفي كل بيئة من البيئات عشاقًا أفلاطونيين وعشاقًا آخرين يحبون بالحس، ولكني أريد أن ألتمس لعمر بن أبي ربيعة شبيهًا من أهل الأدب الحديث، وأعتقد أن هذا الشبيه سيفسر عمر حق التفسير ويوضح نفسه وحبه أحسن توضيح.

منذ سنين كتب صديقي الأستاذ ضيف رسالة باللغة الفرنسية قدمها إلى السربون وقارن فيها بين عمر بن أبي ربيعة وبين الشاعر الفرنسي «ألفرد دي موسيه»، وقد تكون هذه المقارنة خلابة في ظاهر الأمر، فعمر بن أبي ربيعة أظهر عشاق العرب، و«ألفرد دي موسيه» أظهر الغزلين من شعراء فرنسا في القرن الماضي، وكلاهما وقف حياته على المرأة وحبها، وكلاهما وقف شعره على جمال المرأة والتغني به، ولكن الفرق عظيم جدًّا بين الشاعرين، عظيم إلى حد أن المقارنة بينهما مستحيلة؛ فليس بين نفسيهما شبه ما.

أنت محزون حين تقرأ «ألفرد دي موسيه» يتفطر قلبك لوعة وأسى، ويأخذك شيء من اليأس والسخط على الحياة والزهد فيها حين تنظر إلى هذا الحب القوي المتين، فترى أنه على قوته وصدقه ومتانته جريح يدمي.

ولكنك مبتهج راضٍ مبتسم للحياة حين تقرأ شعر ابن أبي ربيعة، فلم يكن قلبه جريحًا ولم تكن نفسه كئيبة، ولم يكن يرى في الحياة إلا لهوًا أو سبيلًا إلى اللهو، وأنت حين تقرأ ما يظهر ابن أبي ربيعة فيه الحزن والأسى مطمئن راض بل مبتسم؛ لأنك تعلم أن هذا الحزن إنما هو وسيلة إلى السرور ومذهب من مذاهب الاستعطاف وسبيل من سبل اللذة.

لا أضع ابن أبي ربيعة بإزاء «ألفرد دي موسيه» وإنما أضعه بإزاء رجل فرنسي آخر هو أخوه حقًّا، هو صورته الصادقة لولا ما بينهما من فروق البيئة والجيل، ولكن نفسيهما نفس واحدة، ولكن حسيهما حس واحد، ولكن مذهبيهما في الحب وإعلانه مذهب واحد، ولكن ميليهما في الحياة يوشكان أن يكونا ميلًا واحدًا، كلاهما أحب بحسه وأخضع قلبه لحسه، وكلاهما فتن النساء، وكلاهما تحدث بفتنته للنساء حديثًا حلوًا خلابًا، وكلاهما تعمق في الحب الحسي حتى وصل إلى قرارته، وكلاهما أحب حتى كره الحب، ولذ حتى زهد اللذة، وكلاهما لم يعرف لحبه موضوعًا يقصره عليه، فكان يترك هذه ليحب تلك، ويخلص من هذه ليقع في شراك تلك.

ستسألني عن هذا الفرنسي الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة هذا الشبه القوي الغريب، ليس شاعرًا ولكنه ناثر كالشاعر، أنت تعرفه حق المعرفة لأن بينك وبينه صلة قوية؛ لأنه صديق الشرق عامة وصديق مصر خاصة: «بيير لوتي».

أقرأت شيئًا من حب هذا الكاتب؟ أقرأت كتبه عن فتيات قسطنطينية بنوعٍ خاص؟ إني أحب أن تقرأ هذه الكتب، وأنا واثق كل الثقة بأنك لن تشك بعد قراءة ابن أبي ربيعة في أن هذين الرجلين يصدران عن مصدر واحد، ولو أن لي أن أومن بالتناسخ لقلت: إن نفس ابن أبي وبيعة قد مرت بها أطوار الحياة المختلفة فهذبتها تهذيبًا وصفتها تصفية، ثم تمثلت في هذا العصر الحديث في شخص «بيير لوتي» فكتبت ما كتب «بيير لوتي».

مكان هذا الكاتب الفرنسي من النساء عامة ومن فتيات القسطنطينية خاصة، كمكان عمر بن أبي ربيعة من المرأة عامة والمكيات خاصة.

أحب أن تقرأ هذه المذكرات الخاصة التي تنشرها «الألوستراسيون» منذ أسبوع والتي تركها «بيير لوتي» فسترى في هذه المذكرات والكتب نصوصًا لا تدع في نفسك موضعًا للشك فيما أقول، وقد أتخذ هذه المذكرات موضعًا لحديثٍ من أحاديث الأحد.

وفي هذه المذكرات ينبئنا «بيير لوتي» في ألفاظ أشبه بالنار منها بالكلام أنه أحب امرأة حبًّا حسيًّا خالصًا لم يعرفه من قبل ولن يعرفه بعد، أنساه كل شيء وكل إنسان وكل واجب، وأن هذه المرأة تحبه حبًّا حسيًّا أيضًا، ولكنها في الوقت نفسه تحب رجلًا آخر، وهي صادقة في الحبين، ثم ينبئنا أنه شديد الألم لأنه لا يقف عند امرأة ولا يستطيع أن يقصر حياته على حب واحد، ومن غريب الأمر أنك تجد في هذه المذكرات صديقًا «لبيير لوتي» ينصح له ويشير عليه، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التفكير في عمر بن أبي ربيعة وصديقه ابن أبي عتيق، ثم تجد في هذه المذكرات فصولًا تصف لنا تنكر «بيير لوتي» وإخفاءه نفسه، كما تجد ذلك أيضًا في قصة «اليائسات»، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التفكير في ابن أبي ربيعة وما كان يسلك من سبلٍ وحيل للوصول إلى النساء، فإذا وصل «بيير لوتي» إلى صاحبته فالأمر بينهما كالأمر بين ابن أبي ربيعة وصاحبته؛ لهو حينًا، وعفة حينًا آخر، والمرأة في كلتا الحالتين تعلم حق العلم أن عاشقها لعوب مخلاف لا يكاد يقف عند المرأة إلا حينًا كالنحل تنتقل بين الزهر.

اسمع إلى «بيير لوتي» وقد قضى مع صاحبته ساعات يراها أسعد ساعات حياته وهو يقول لها: إني أحبك، فتجيبه: هذا شيء تقوله، ثم اقرأ ما شئت من شعر عمر بن أبي ربيعة وعتب النساء عليه وكلفهن به مع هذا العتب، وإن بين يديَّ الآن لصحفًا من كتاب «اليائسات» كنت أريد أن أترجمها لك وأروي معها شيئًا من شعر ابن أبي ربيعة، لتلمس تشابه النفسين لمسًا، ولكن من لي بالمكان الذي يسمح لي بالترجمة والرواية، فحسبي أن أترجم لك هذه القطعة الموجزة من كتاب «اليائسات» لترى كيف كانت الفتيات تتحدث إلى «بيير لوتي» ولتعلم أن «بيير لوتي» لم يكن أقل إيمانًا بسلطانه على النساء من صاحبه العربي القديم، وهي من كتاب كتبته إليه إحدى عاشقاته وقد شربت السم وهي تموت:

… أيها الحبيب العزيز أسرع إليَّ فأنا أريد أن أنبئك نبئي … ألم تكن تعلم أني كنت أحبك من أعماق نفسي؟! يستطيع من مات أن يعترف بكل شيء … فهو لا يذعن لسلطان ما … وما لي لا أعترف لك وأنا مفارقة هذه الحياة بأني كنت أحبك! … أي أندريه! في ذلك اليوم الذي جلست فيه إلى هذا المكتب حيث أكتب إليك هذا الوداع أرادت المصادفة أن أميل فألمسك … حينئذ أغمضت عيني، ومن دون هاتين العينين المغمضتين مرت أحلام ما أجملها! … وكانت ذراعاك تضماني إلى قلبك، وكانت يداي اللتان يملؤهما الحب تمسان عينك في لطف وتذودان عنهما الحزن … آه! لقد كان يستطيع الموت أن يأتي حينئذ، ولقد كان يصادف لو أتى مَلَلُكَ وسآمتك! ولكن ما كان أحلاه وما كان أملأ هذه النفس التي يجملها بالغبطة والشكر … آه! كل شيء يختلط ويحتجب … زعموا لي أنني سأنام، ولكني لا أحس النوم بعد! ولكن كل شيء يضطرب ويتضاعف وكل شيء يرقص … وإن شمعاتي لكالشموس … وأرى زهراتي يعظمن، يعظمن حتى لكأني في غابة من زهر شائق! تعال أندريه … ادن مني، ماذا تصنع بين الورود؟! … ادن مني حينما أكتب … أريد أن تطوقني بذراعك وأريد أن تقبل شفتاي عينيك الغاليتين … هنا أيها الحب فهكذا أريد أن أنام قريبًا منك وأن أقول لك: إني أحبك … أدنِ مني عينيك؛ فإن الموتى مثلي يستطيعون أن يقرءوا النفوس من طريق العيون …

لست أزعم أن إحدى صاحبات عمر تحدثت إليه بشيءٍ يشبه هذا أو يقاربه، وما كان لقرشية أن تتحدث في القرن الأول للهجرة بمثل ما تتحدث به هذه التركية المترفة في القرن الماضي، ولكن هذه التركية تشبه تلك القرشية شبهًا قويًّا جدًّا، فهي تحب صاحبها وتعلن إليه حبها في قوةٍ وعنف وفي غير تحرج ولا تحفظ، أو قل: إن «بيير لوتي» يشبه عمر بن أبي ربيعة فهو ينطق هذه التركية بحبها إياه كما كان ينطق ابن أبي ربيعة القرشيات بحبهن.

ولنختصر حكمنا في عمر بن أبي ربيعة، كان هذا الحب حسيًّا صادقًا متنقلًا بطبعه شديد التأثير في النساء إلى حد الفتنة، وقد فتن عمر النساء وتيمهن فأخذن يطرينه ويتهالكن عليه حتى فتن بنفسه، فلم يتغن بحبه إياهن كما تغنى بحبهن إياه، هو في هذا كله مشبه كل الشبه «لبيير لوتي» لا فرق بينهما إلا ما ينشأ من اختلاف أطوار الحياة، ولكني لم أثبت شيئًا مما قلت عن عمر بشيءٍ من شعره، ولم أروِ لك شعر عمر، وأنا لن أروي لك منه الكفاية، وأنت تستطيع أن ترجع إليه، فديوانه شائع منشور، وأنا واثق أنك ستنتفع بقراءته انتفاعًا جديدًا إذا لاحظت ما قدمت لك من أمر حبه.

وأحسب أن قد آن لنا أن ندع الغزلين بعد أن ألممنا بما ألممنا به من حياتهم وفنونهم وشخصياتهم وأهوائهم المختلفة، فلندعهم، ولكن إلى من؟ ذلك شيء لا أعرفه الآن وقد أعرفه في الأسبوع المقبل.

١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ١٧ ديسمبر سنة ١٩٢٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤