الفصل الثالث

القدماء والمحدثون١

نظلم العصر الأموي، ونظلم معه تاريخ الأدب العربي، إن زعمنا أن التجديد الذي تناول لفظ الشعر ومعناه، إنما حدث في العصر العباسي خاصة؛ فإن العصر الأموي قد كان عصر تجديد أيضًا، بل قد كان عصر تجديد قوي ظاهر في اللفظ والمعنى.

وربما كان عصر الأمويين من هذه الناحية أخصب وأكثر إنتاجًا من عصر العباسيين؛ فقد حاول الشعر في هذا العصر أن يتجدد لا في لفظه ومعناه فحسب، بل فيهما وفي الموضوع أيضًا، ولكن هذه المحاولة لم توفق توفيقًا تامًّا؛ لأن عصر الأمويين لم يطل، ولأنه لم يكن عصر ثبات واطمئنان، وإنما كان عصر تحول وانتقال، وكان من الممكن أن يتمم العصر العباسي ما بدأه العصر الأموي من تجديد موضوع الشعر، ولكنا سنرى في غير هذا الفصل أن هذا لم يتح للشعر العربي؛ لأن العصر العباسي سلك بالأمة العربية طريقًا جديدة، مغايرة مغايرة شديدة للطريق التي سلكها العصر الأموي.

لم يكد يمعن المسلمون في الفتح وبسط سلطانهم على أرض الفرس من جهة، والروم من جهةٍ أخرى، حتى تغير كل شيء في حياة الطبقة العليا من الأمة العربية، وكان مصدر هذا التغير شيئين: أحدهما مادي، وهو كثرة ما أفاء الله على المسلمين، في هذا الفتح والتغلب، من المال والغنائم الموفورة، التي بدلت حياة هؤلاء الناس، فجعلتها يسيرة بعد عسر، سهلة بعد صعوبة، لينة ناعمة بعد شدة وخشونة، والآخر معنوي، فقد رأى العرب في هذه البلاد المفتوحة نظمًا للحكم والسياسة لم يألفوها، وطرقًا للإدارة وتدبير الأمور العامة لم يعهدوها من قبل، فتأثروا بما رأوا من ضروب الحياة السياسية أيضًا، ونتج عن هذا التأثر المزدوج، أن استبدل العرب بالخيام دورًا وقصورًا فيها ضروب الترف واللذة، وحاولوا أن يستبدلوا بالخلافة التي كانت بدوية في كل شيء مُلكًا حضريًّا في كل شيء، وما لبثوا أن وفقوا إلى الأمرين جميعًا.

ولم يكن بد من أن يترك هذان الأمران آثارًا ظاهرة قوية في حياة العقل والشعور؛ فإن الحضري يشعر ويفكر بطريقة تخالف طريقة البدوي في شعوره وتفكيره، وكذلك يشعر الرجل الغني المنعم الذي لا تشرق عليه الشمس إلا اشتد طمعه في اللذة والنعيم، بغير ما يشعر به الرجل الفقير المعدم الذي أخذ نفسه بضروب الصبر والقناعة واحتمال الشدة والمشقة.

ثم إن الأمة العربية كانت أمة ذات عصبية شديدة، فلم تكن تنقاد بطبيعتها لزعيم، أو تذعن لسلطان ثابت الملك، وإنما كانت قبائل وشعوبًا، ترى كل قبيلة من نفسها السيادة والسلطان، وكان هناك دين جديد يحاول أن يمحو هذه العصبية أو أن ينظمها فيؤسس الخلافة، وكانت هناك فكرة جديدة تحاول أن تمحو هذه العصبية أو تنظمها فتؤسس الملك مكان الخلافة.

ومن هنا كان تجدد الشعر ملائمًا كل الملائمة لتجدد الحياة، فنشأ عند العرب في عصر بني أمية نوعان من الشعر لم يكن قد ألفهما الجاهليون، أو على أقل تقدير لم يكن هؤلاء الجاهليون قد أحسنوا فَهْمَهُمَا والعناية بهما؛ الأول: نشأ عن حياة الترف والغنى والثروة، وهو «الغزل» وليس ينبغي أن يقال: إن الغزل فن قديم عند العرب، فنحن نعلم ذلك ولا نشك في أن الشعراء الجاهليين جميعًا قد تغزلوا وشببوا ووصفوا النساء، وإنما نريد أن فنًّا جديدًا قد نشأ في هذا العصر لم يكن موجودًا من قبل، وهذا الفن هو الغزل يقصد لنفسه، لا ليتخذ وسيلة لشيءٍ آخر، هو فن الحب من حيث هو حب، هو الفن الذي يُعنى به شاعر قد فرغ من كل شيء، فحياته المادية ميسرة ولذاته موفورة عليه، فكل ما يعنيه هو أن ينعم بهذه اللذات، وأن يفنيها في شعره، لا أكثر ولا أقل.

ومن الظاهر أن الجاهليين لم يعرفوا هذا الفن ولم يتذوقوه، فلسنا نعرف في العصر الجاهلي شاعرًا قصر شعره على الغزل، وحياته على الحب والغرام، وإنما كان الغزل كغيره من فنون الشعر، أو بعبارة أصح: كان وسيلة إلى غيره من فنون الشعر، كان العرب يبدءون قصائدهم — مهما يختلف موضوعها — بوصف الطلول والنساء، كما كان اليونان يستهلون قصائدهم بمناجاة آلهة الشعر، وقلما كان الشاعر العربي قبل الإسلام يقصر قصيدة بأسرها على الغزل.

وليس الأمر كذلك في عصر بني أمية، فقد نرى في هذا العصر شعراء يتخذون الغزل لنفسه صناعة وفنًّا مختارًا، لا يتكلفون غيره ولا يعنون بسواه، فهم لا يمدحون ولا يهجون، وإنما حياتهم وصف النساء وما تبعث النساء في أنفسهم من عواطف وأهواء وميول، فإن طلبت إليهم القول في شيءٍ غير هذا أعرضوا أو عجزوا.

وفي الحق أن هذا الفن الجديد كان مختلفًا متنوعًا في هذا العصر باختلاف الشعراء، واختلاف ضروب الحياة التي كانوا يحيونها، فكان هناك شعراء يتخذون الغزل صناعة يصفون به لذاتهم وأهواءهم وافتتانهم فيما يتذوقون من نعيم الحياة، وزعيم هؤلاء الشعراء «عمر بن أبي ربيعة» ذلك الذي أقام بمكة فاتخذ كل شيء وسيلة إلى وصف المرأة والتغزل بها، ولم يكتف بالوصف والقول، وإنما أضاف إليهما حياة عملية فيها شيء من اللذة والترف كثير، وكان هناك شعراء آخرون لا يقصدون إلى وصف اللذات وما تستتبعه، وإنما يقصدون إلى شيءٍ آخر، يقصدون إلى وصف العواطف الحارة الصادقة، التي تعذب صاحبها وتعنيه دون أن تتيح له لذة مادية ما، وإنما اللذة الوحيدة التي يجدها، والتي هو بها كلف وعليها حريص، هي لذة الألم بأنه يحب، ويحب من لا سبيل إلى وصله أو التقرب إليه، وزعيم هؤلاء الشعراء «جميل» الذي أمضى حياته، وقصر شعره على حب «بثينة»، لا يطمع من هذا كله بشيءٍ إلا الشعور بأنه يحب وبأن حبه لا حد له، وبأن هذا الحب يضنيه ويعنيه، وبأنه يجد في هذا الألم والعذاب لذة لا تعدلها لذة بل كان يطمع في شيءٍ آخر، وهو أن تحس صاحبته ما يدخر لها من حب وما يلقى في سبيلها من ألم.

كان «عمر بن أبي ربيعة» زعيم المتغزلين الإباحيين، وكان «جميل» زعيم المتغزلين العذريين، وكان بين هذين الرجلين المتناقضين، شعراء يتوسطون في الأمر فيبيحون أحيانًا ويعفُّون أحيانًا أخرى، وربما كان كلفهم بالفن الشعري والإجادة فيه، أشد من كلفهم باللذة لأنها لذة، أو بالعفة لأنها عفة، فلم يكن أحدهم يعنيه أن يقال: إنه ماهر في تذوق لذات الحياة أو إنه عفيف حقًّا مثال للعفة وطهارة القلب، وإنما كان يعنيه أن يقال: لقد تغزل فأجاد الغزل، وشبب فأحسن التشبيب، وهؤلاء الشعراء كثيرون، ولكن جمهورهم لم يقصر حياته الفنية على الغزل وحده، وإنما تناول مع الغزل فنونًا أخرى، ومن هؤلاء الشعراء «كثيِّر» الذي تغزل فأكثر الغزل، واتخذ لنفسه صاحبة كانت هي مصدر حبه الغرامي وهي «عزة»، ولكنه مدح وارتزق من شعره، ولست أشك — والرواة لا ينكرون ذلك — أن كثيِّرًا لم يكن صادق الحب ولا عفيفه، وإنما كان يتخذ الغزل صنعة، ويقفو فيه أثر أستاذه جميل.

ولقد راج هذا الفن الجديد في عصر بني أمية رواجًا ظاهرًا جدًّا، نشأ عنه أن كلف به الشعب، فأضاف إلى حياة جميل وكثير وعمر ما ليس منها، واخترع شعراء ربما لم يكونوا قط، وألف لهم فصولًا من الحياة الغرامية ربما لم يعرفها التاريخ، ونظم على لسان هؤلاء الشعراء الخياليين قصائد ومقطعات ربما لم يثق بصحتها الرواة، فمن ذلك حياة «قيس بن الملوح» و«ليلاه» ومن ذلك هذه الأخبار الكثيرة المسرفة التي تضاف إلى «قيس بن ذريح» و«لبناه».

ثم تكلف الشعراء الحقيقيون المبالغة في هذا الفن، واختراع المواقف الحرجة المعضلة التي ليس لها حل وليس منها مخلص، ولعل أحسن مثال لهذا التكلف هذان البيتان اللذان يضافان إلى ليلى الأخيلية:

وَذِي حَاجَةٍ قُلْنَا لَهُ لا تَبُحْ بِها
فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حَييتَ سَبِيلُ
لَنَا صَاحِبٌ لا يَنْبَغي أَنْ نَخُونَه
وأَنْتَ لِأُخْرَى صَاحِب وحَلِيلُ

فانظر إليها كيف اخترعت هذا الموقف العسير، موقف عاشقين كلفين، ليس إلى وصالهما سبيل؛ لأن كليهما متزوج، ولأن كليهما وفيٌّ عفيف.

لا أشك في أنك ستقول: ليس في هذا الموقف شيء من الغرابة؛ فقد كانت ليلى متزوجة وكان «توبة» متزوجًا، وليس غريبًا أن يكون كلاهما وفيًّا عفيفًا، لا أشك في أنك ستقول هذا، وقد أقوله أنا أيضًا، ولكني لا أدري لماذا أميل ميلًا قويًّا جدًّا إلى اعتقاد أن هذا الموقف موقف فني اخترعته الشاعرة لتجيد في الفن؛ فهو إلى الشعر أقرب منه إلى الحياة الواقعة.

ومهما يكن من شيء؛ فقد نرى أن هذا الفن الجديد قد عظم شأنه عند العرب في هذا العصر، واختلفت مذاهب الشعراء فيه، فذهب بعضهم فيه مذهب اللذة، وذهب الآخرون فيه مذهب العفة.

وربما كان من الخير أن نلاحظ أن الذين ذهبوا مذهب اللذة في هذا الفن كانوا المترفين من أهل الحجاز وأبناء المهاجرين والأنصار، الذين ورثوا الثروة الطائلة الضخمة عن آبائهم، وحيل بينهم وبين العمل السياسي لأمرٍ ما.

ومن هنا كانت مكة والمدينة — في هذا العصر — أقرب إلى اللهو والمجون والافتنان في اللذة، وما تستتبعه من لعبٍ وشرب وغناء وغزل، من دمشق عاصمة الملك ومستقر الخليفة، وإن الذين ذهبوا مذهب العفة وأسرفوا في هذا المذهب كانوا من أهل البادية، بل إن الشعراء الذين اخترعوا — ولم يعرفهم التاريخ — كانوا أيضًا يخترعون في البادية، وكانت عشيقاتهم من نساء البادية أيضًا، ولقد يكون من العسير تعليل هذا فنحن نعلم من أخلاق العرب البادين أنهم إلى المادة والإباحة، أقرب منهم إلى هذه الحياة العذرية.

وإذن فقد يحسن أن نفترض أن شعورًا جديدًا قد أخذ في هذا العصر يستأثر بالنفوس العربية، وأن هذه النفوس قد خضعت في هذا العهد الجديد لنزعة جديدة هي الطموح إلى المثل الأعلى والسمو إلى حياة عقلية وشعورية جديدة راقية لم تكن معروفة من قبل، ولكن هذا افتراض لم أوفق إلى تحقيقه بعد.

على أن الشعراء الآخرين الذين كانوا يمثلون السنة الموروثة، ويذهبون مذهب الجاهليين فيمدحون ويهجون ويصفون، قد تأثروا بهذا الفن الجديد، فمع أن حياتهم الشعرية لم تكن مقصورة على الغزل؛ فإن هذا الغزل نفسه قد رق ولطف في شعر الفرزدق وجرير والأخطل حتى أصبح الفرق بينه وبين غزل الجاهليين ظاهرًا بينًا، فقليلًا ما تجد في شعر الجاهليين غزلًا يقارب في عذوبة اللفظ وسحره، وفي لطف المعنى ودقته، وقول جرير:

إِنَّ الذِينَ غَدَوْا بِلبِّكَ غَادَرُوا
وَشَلا بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينَا
غَيَّضْنَ من عَبَرَاتِهِنَّ وَقُلْنَ لِي
مَاذَا لَقِيتَ منَ الْهَوَى وَلَقِينَا

فانظر إلى هذا الشطر الأخير «ماذا لقيت من الهوى ولقينا.» انظر إلى جمال لفظه وسهولته وخفته على السمع، وحسن موقعه من النفس، وانظر إلى دقة معناه ولطفه، وإلى سعة هذا المعنى التي لا حد لها، والتي عجز الشاعر عن أن يستقصيها، وأراد أن يشعرك بهذا العجز، فعمد إلى الاستفهام «ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟» شيء ليس إلى وصفه ولا إلى تحديده من سبيل، فهذا هو الفن الأول الذي استحدث في الشعر العربي أيام بني أمية ولنختصر …

نشأ عند العرب فن جديد هو الغزل، ذهب فيه الشعراء مذهبين مختلفين «مذهب اللذة» ورافع لوائه «عمر بن أبي ربيعة» ومذهب العفة، ورافع لوائه «جميل بن معمر»، ومضى بين هذين المذهبين الشعراء الآخرون، فمنهم من اتخذ الغزل صنعة وفنًّا فحذا حذو أولئك أو هؤلاء، ومنهم من سلك مسلك الشعراء الجاهليين فتناول فنون الشعر كله، ولكن غزله تأثر بمذهب الفن الجديد فوق لفظه وسهل، ودق معناه ولطف.

أما الفن الآخر الذي استحدث أيام بني أمية فهو «الشعر السياسي»، وقد نشأ عن استحالة الخلافة إلى ملك، وعما كان من حرب بين العصبيات من جهة، ومن حرب بين العصبية والدين من جهة أخرى، ولعل من الخير أن نرجئ بحث هذا الموضوع إلى حديث الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٢ جمادى الأولى سنة ١٣٤١ / ٢٠ ديسمبر سنة ١٩٢٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤