الفصل السادس

القدماء والمحدثون١

انتهى بنا الحديث في الأسبوع الماضي إلى الأندية الأدبية، التي كان لها أيام بني العباس أثر في الأدب لا يمحى، ويد على الشعر لن ينالها النسيان، لم تكن هذه الأندية تجتمع في أماكن معينة، أو منازل معروفة، وإنما كانت تجتمع حيث يتاح لها الاجتماع، كانت تنتقل بأدبها وعلمها، وبجدها وهزلها بين مدن العراق المختلفة، وبين ما كان في هذه المدن وضواحيها من الحدائق والبساتين ومن الأديرة والمساجد ومن الحانات وبيوت الإثم، وكانت تجتمع بنوعٍ خاص في قصور الخلفاء والوزراء والقادة وكبار الدولة، وكانت تتألف من هؤلاء الناس الذين سمينا لك بعضهم في الأحاديث الماضية.

وكان هؤلاء الناس الممتازون بالشك في كل شيء، والعبث بكل شيء، يلقون في مجالس الخلفاء والوزراء وفي المساجد طبقات أخرى من الناس لا تشك ولا تعبث ولا تتعاطى المجون، كانوا يلقون الفقهاء والمحدِّثين، وكانوا يلقون المتكلمين والرواة وعلماء اللغة، فكانت أحاديثهم في هذه المجالس متأثرة بجد هؤلاء العلماء، وبمهارة الأمراء والوزراء، فكانوا قلما يتجاوزون جد القول إلى هزله، وقلما يمعنون فيما كانوا يمعنون فيه إذا خلوا إلى أنفسهم من الفحش الذي لا حد له، والمجون الذي لا يعدله مجون، كانوا في هذه المجالس يتناولون جد الحياة فيحسنون فيه، فتراهم يروون الشعر، وينقدون الشعراء، ويتحدثون بطرائف الحديث وغرائبه، ويتناولون الخلفاء والأمراء والوزراء بالمدح وضروب الثناء، فيخرجون وقد امتلأت أيديهم بخيرات الدنيا، فإذا خرجوا ذهبوا بما كسبوا من العطاء إلى حيث ينفقونه في اللهو واللعب، وفي اللذة والفسوق.

فأنت ترى أن الإنصاف، وحسن الوفاء للتاريخ يضطراننا إلى أن نعترف بأن الشك والمجون لم يكونا كل شيء في ذلك العصر، وإنما كان إلى جانب الشك يقين، وإلى جانب الهزل جد، كان الشعراء والكتاب والأدباء بوجهٍ عام يشكُّون ويعبثون، وكان الفقهاء والمتكلمون والرواة مستيقنين، يؤثرون الجد ويغلون فيه.

ولكن إذا أردت أن تتخذ من هذا العصر صورة صادقة، تحكم بها عليه حكمًا صادقًا؛ فأنت مضطر إلى أن ترجع إلى هؤلاء الشعراء والكتاب، أكثر من رجوعك إلى هؤلاء الفقهاء والمتكلمين والرواة؛ لأن الشعراء والكتاب يمثلون الجماعة حقًّا، ويعبرون عن أهوائها وميولها، ويصفون ما تضطرب فيه من ضروب الحياة، أفتظن أن شاعرًا كأبي نواس يبلغ ما بلغ من الشهرة حتى يفتن به الناس في بغداد، وغيرها من مدن العراق، بل في الشأم ومصر حين ذهب إلى الشأم ومصر، فيحفظون شعره ويتناشدونه، ثم يضيفون إليه كل ما أعجبهم من شعر فيه هزل ومجون وليس له قائل معروف، ثم لا يكتفون بذلك، بل يروون عنه الروايات، وينتحلون له القصص، ويتحدثون عنه في اللعب واللهو بالأعاجيب، أفتظن أن الناس يتخذون أبا نواس مثالًا للذة ونعيم الحياة، فيكلفون به هذا الكلف إذا لم يكن أبو نواس لسانهم الصادق، ومرآتهم الصافية؟ كلا! ليس من شك في أن صلة حقيقية قوية كانت تصل بين هؤلاء الشعراء، وبين طبقات الناس المختلفة، وتجعل هؤلاء الشعراء تراجمة صادقين، لما يخطر لهذه الطبقات من خواطر، وما يضطرب في نفوسها من عواطف، في حين كان الفقهاء والمتكلمون ورواة الحديث والأخبار عاكفين على الفقه يستنبطونه، وعلى الكلام يمحصونه، وعلى الحديث يروونه، وعلى الأخبار يتلقطونها ويذيعونها بين الناس، وكانوا في هذا لا ينطقون بلسان أحد، ولا يعبرون عن رأي أحد، ولا يمثلون إلا العلم الذي يعنون به، ويعكفون عليه.

بل ربما وجب علينا أن نشك بعض الشك، ونحتاط بعض الاحتياط، حين نذكر ورع هؤلاء العلماء وإمعانهم في البر والتقوى، فقد كان منهم الأبرار والأتقياء حقًّا، ولكن كان منهم أيضًا الذين يحبون الحياة ويتذوقون لذاتها، ويظهرون للناس برًّا ودينًا من ورائهما شيء كثير!

ولعلك تذكر ما يروى من أخبار «يحيى بن أكثم» الذي كان قاضي المأمون ونديمه، ولعلك تذكر ما يروى من أخبار «أبي عبيدة معمر بن المثنى»، وما كان بينه وبين الشعراء، بل لعلك تذكر ما يروى من أخبار الخلفاء أنفسهم، وما كانوا يمعنون فيه من لهوٍ ولعب، دون أن يمنعهم ذلك من أن يظهروا مظهر الأئمة الأتقياء، ولقد آن لنا ألا نخدع أنفسنا بما كان يخدع به ابن خلدون نفسه في أمر الرشيد وأمثال الرشيد؛ فقد تحدثوا أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة، وأنه أمضى خلافته بين الحج والغزو، فظن ابن خلدون أن هذا وحده يكفي لتبرئة الرشيد مما أضيف إليه من أنه كان يلهو ويسكر، وكذلك ذكروا عن المأمون خلالًا نقية، وخصالًا طاهرة، ربما صحت كلها، ولكنها لم تمنع المأمون من أن يلهو ويشرب الخمر.

كان هذا العصر عصر شك ومجون، وكان عصر رياء ونفاق، فكان لكثيرٍ من الناس مظهران مختلفان: أحدهما للعامة والجمهور، وهو مظهر الجد والتقوى، والآخر للخاصة ولأنفسهم، وهو مظهر اللهو والمجون، الذي يخلع فيه العذار، وتترك فيه للشهوات حريتها المطلقة.

وإذن فقد كان هؤلاء الشعراء الذين كانوا يجهرون بالشك، ويعلنون المجون أصدق لهجة وأصح تمثيلًا للعصر الذي كانوا يعيشون فيه من العلماء والخلفاء والوزراء وكبار الدولة، وليس هذا مقصورًا على العرب، ولا على العباسيين، ولا على بغداد؛ فقد عرفه اليونان والرومان والأوروبيون، وعرفته أثينا وروما وباريس، وما لنا نطيل في هذا؟! ويكفي أن تقرأ عصر بريكليس وأغسطس ولويس الرابع عشر، لتفهم عصر الرشيد والأمين والمأمون.

كان هؤلاء الشعراء إذن يمثلون عصرهم تمثيلًا صحيحًا، فلنا أن نتخذهم مقياسًا للحكم على هذا العصر، ولكن تغير الحياة أيام بني العباس لم يحدث الشك والمجون وحدهما، ولم يغير الشعر من هذه الناحية فحسب، وإنما أحدث أيضًا شيئًا آخر، وغيَّر الشعر من ناحية أخرى؛ أحدث سهولة في التعبير عما في النفس، لأنه أطلق للعواطف والأهواء حريتها؛ فانطلقت الألسنة بوصف هذه العواطف والأهواء … ضعف رقيب الدين والأخلاق عن الحياة، وضعف رقيب السلطان السياسي أيضًا، ففكر الناس كما أحبوا، وعاشوا كما أحبوا، تاركين السياسة لأهل السياسة، وتركتهم السياسة أحرارًا، واستفادت من هذه الحرية، فبينما كانوا يلهون ويلعبون، وبينما كانوا يعبثون ويسرفون في الهزل، كانت السياسية تقوِّي سلطانها، وتبسط ظلها على جميع الأقاليم الإسلامية.

أصبحت العواطف حرة، فأصبحت الألسنة حرة، ونشأ من حرية العواطف تنافس في اللذة، واستباق إليها، فنشأ من هذا التنافس في اللذة العملية، تنافس في وصفها، واستباق إلى إجادة هذا الوصف، وكان هؤلاء الشعراء إذا اجتمعوا إلى لذة تنافسوا أيهم يسبق صاحبه في الشرب وغير الشرب، ثم يتنافسون أيهم يسبق صاحبه في وصف الشرب وغير الشرب، ومن هنا كثر الافتنان في اللذات، وكثر معه الافتنان في القول.

ثم تغيرت ألفاظ الشعر لهذا السبب نفسه؛ فإن العاطفة التي أصبحت تستطيع أن تحيا من غير جناح ولا رقيب، أصبحت تستطيع أن تصف نفسها من غير تكلف ولا تقيد بالقديم، وإذا كان الشاعر يستطيع أن يشرب جهرًا دون أن يستخفي من الشرطة، فما له لا يصف الخمر كما يحب دون أن يخشى سطوة الأصمعي أو أبي عبيدة!

نشأ عن هذا كله أن اشتد توقد الأذهان عند الشعراء، وأصبح قول الشعر أيسر وأسهل في هذا العصر منه في العصور الأخرى، وكانت النتيجة الشعرية لهذا القرن الثاني من الهجرة أضخم وأعظم منها لغيره من العصور الماضية، كان هؤلاء الناس إذا اجتمعوا تحدثوا أو كادوا يتحدثون شعرًا لا نثرًا، وكثيرًا ما كانوا يوفقون إلى القول البديع، والشعر الطريف، وكثيرًا ما كانوا يسقطون إلى سخيف اللفظ ومتكلفه، وإلى رديء المعنى وفاتره، ولم يكن ذلك يؤذيهم أو ينال منهم، فهم كانوا لا يعنون في هذه المجالس بإجادة أو إتقان، وإنما كانوا يعنون بوصف شعورهم وعواطفهم من جهة، وبالتفوق والغلب من جهةٍ أخرى.

فانظر إلى هذه الجماعة من الشعراء، وقد اجتمعت مرة تتناشد وتتحدث، حتى إذا كان الظهر سأل واحد منهم: أين نحن العشية؟ فأخذ كل واحد يدعو الجماعة إلى بيته، وعرض عليهم أبو نواس أن تكون هذه الدعوة شعرًا لا نثرًا، وأن تذهب الجماعة إلى أشد الشعراء إجادة، وأحسنهم كلامًا، فقال داود بن رزين الواسطي:

قُومُوا لِمَنْزِلِ لَهْوٍ
وَظِلِّ بَيْتٍ كَنِينِ
فِيهِ مِنَ الْوَرْدِ والنَّرْ
جِسِ وَالياسمينِ
ورِيحِ مِسْكٍ ذَكِيٍّ
وَفَائِحِ المَرْزَجُونِ
وَقَنْيَةٍ ذَاتِ غُنْجٍ
وذاتِ عَقْلٍ رَصِينِ
تَشْدُو بِكُلِّ طَرِيفٍ
مِنْ مُحْكَمِ «ابْنِ رَزِينِ»

وقال أبو نواس:

لا، بَلْ إلَيَّ ثِقاتِي
قُومُوا بِنَا لِحَياتي
قُومُوا نَلَذَّ جَمِيعًا
بِقَوْلِ هَاكَ وهَاتِ
… … … … …
… … … … …
… … … … …
… … … … …
فَثاوِرُوهُ مُجُونًا
في وَقْتِ كلِّ صَلاةِ

وقال الخليع:

إِلَى «الْخَلِيعِ» فقُومُوا
إِلَى شَرَابِ الْخَلِيعِ
إِلَى شَرَابٍ لَذِيذٍ
وَأَكْلِ جَدْيٍ رَضِيعِ
وَنَيْلِ أَحْوَى رخِيمٍ
بِالْخَنْدَرِيسِ صَرِيعِ
فِي رَوْضَةٍ جَادَهَا صَوْ
بُ غَادِياتِ الرَّبيعِ
قُومُوا تَنالُوا وَشِيكًا
مَنَالَ كلِّ رفِيعِ

وقال الرقاشي:

لِلهِ دَرُّ عُقارٍ
حَلَّتْ بِبَيْتِ «الرَّقاشي»
عَذْرَاءَ ذَاتِ احْمِرَار
إِنِّي بِها لا أُحَاشِي
قُومُوا نَدَامَايَ رَوُّوا
مُشَاشَكُمْ ومُشَاشِي
وناطِحُونِي بِكَأْسٍ
نِطَاح سُودِ الْكِباشِ
فَإِنْ نَكلْتُ فَحِلٌّ
لَكُمْ دمِي وَمُشَاشِي

وقال عمرو الوراق:

عُوجُوا إِلَى بَيْتِ «عَمْرِ»
إِلَى سَمَاعٍ وخَمْرِ
ونَاشِجاتٍ عَلَيْنا
تُطَاعُ فِي كُلِّ أَمْرِ
فَهَاكَ أَجْلَى وَأَشْهَى
مِنْ صَيْدِ بازٍ وَصَقْرِ
هذَا، وَلَيْس علَيْكُمْ
أُولَى وَلا وَقْتُ عَصْرِ

وقال الحسين الخياط:

قَضَتْ عِنَانُ علَيْنا
بِأَنْ نَزُور «حُسيْنا»
وأَنْ نَقَرَّ لَدَيْهِ
بِاللَّهْوِ وَالْقَصْفِ عَيْنَا
فَما رأَيْنَا كَظَرْفِ «الـْ
ـحُسَيْنِ» فِيمَا رَأَيْنا
قَدْ قَرَّبَ الله زَيْنًا
مِنْهُ وَباعَدَ شَيْنا

وقال عنان:

مَهْلًا أُفَدِّيكَ مَهْلًا
«عِنَانُ» أَحْرَى وَأَوْلَى
بِأَنْ تَنال لَدَيْهَا
أَشْهَى النَّعِيمِ وَأَحْلَى
فَإِنَّ عِنْدِي حرَامًا
مِنَ الشَّرَابِ وحِلَّا
لا تَطْمَعُوا فِي سَرَائِي
مِنَ الْبَرِيَّةِ كَلَّا
يَا إِخْوَتِي خَبِّرُونِي
أَجَازَ حُكْميَ أَمْ لا

ومضى كل واحد يقول كلامًا كهذا، فيه ترغيب، وفيه حث على اللذة، وفيه تفضيل لما عنده، يقول ذلك كما قاله أصحابه في لفظٍ سهل رشيق غير متكلف، بل غير معني به، حتى يسقط في الخطأ اللفظي، أو في الضرورة، فرأى أبو نواس أن القوم قد استبقوا، فلم يسبق أحد صاحبه، فاقترح ألا يذهبوا إلى بيت أحد، بل إلى حانة، فقال:

أَلَا قُومُوا إِلَى الكَرْخِ
إِلَى مَنْزِلِ خَمَّارِ
إِلَى صَهْباءَ كالْمِسْكِ
إِلَى جُونَةِ عَطَّارِ
وَبُسْتانٍ بِهِ نَخْلٌ
لَهُ زَهْرٌ بِأَشْجَارِ
فَإِن أَحْببْتُمُ لَهْوًا
أَتَيناكُمْ بِمِزْمَارِ

أتريد أحسن من هذا الشعر دلالة على ما كان يمتاز به هذا العصر في حياته المعنوية والمادية، بل في تصوره وشعوره، وتعبيره عن هذا التصور والشعور! عواطف حرة يصفها كلام حر، ومعانٍ سهلة مألوفة لم يبحث عنها صاحبها، ولم يطل البحث، وإنما وجدها في نفسه، فأظهرها في لفظ لم يتكلف تخيره ولا نظمه ولا تنسيقه.

فأنت ترى أن هذا العصر إنما كان يمتاز في حياته الأدبية بخلال أربع: الشك، والمجون وحرية العواطف، وسهولة اللفظ.

وإذا أردنا مثالًا يختصر هذا العصر ويشخصه، فهذا المثال هو أبو نواس، الذي سنتخذ درسه الخاص سبيلًا إلى درس هذا العصر كله.

١  نُشرت بالسياسة في ٣ جمادى الأولى سنة ١٣٤١ / ١٧ يناير سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤