الفصل السابع

القدماء والمحدثون:١ أبو نواس

أنكر بعض الناس علينا وعلى السياسة حديث الأربعاء، وألحوا في الإنكار، وكتبوا في الصحف يعلنون إنكارهم، ويطلبون إلينا وإلى السياسة أن نصلح هذا الحديث، ونعدل به عن الشر إلى الخير، وعن الهزل إلى الجد، وزعموا أن ما نرويه في هذا الحديث من شك الشعراء حينًا، ومجونهم حينًا آخر، مفسد لأخلاق الشباب، مدنس لقلوبهم الطاهرة، وتجاوزوا هذا إلى أكثر منه، فزعموا أنا متكلفون مخطئون، حين نصف القرن الثاني للهجرة بأنه كان عصر شك ومجون، وأن الناس كانوا فيه أحرارًا، لا يكادون يأخذون أنفسهم في اللهو بخلق أو دين، زعموا أننا مخطئون، وأننا قد اتخذنا طائفة من الشعراء الماجنين ليس لهم وزن، فجعلناهم مقياسًا للعصر الذي عاشوا فيه، وأعرضنا عن العلماء والفقهاء وأهل الجد وأصحاب الحديث، قالوا وليس هذا من الإنصاف في شيء.

كتبوا هذا كله، وتجاوزوه إلى شتم نعرض عنه، ونشكره لكاتبيه، ولعل حديث الأربعاء الماضي يغنينا عن الرد على هؤلاء الكاتبين، من بعض الوجوه؛ فقد بينا في ذلك الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقًّا، وكانوا أشد له تمثيلًا، وأصدق لحياته تصويرًا، من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام، وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم العلمية، ومنازلهم الاجتماعية والسياسية، وعلى أن كثيرًا منهم كان ورعًا مخلصًا طيب السيرة، لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء، ولها كما لها الشعراء، واستمتع بلذات الحياة في سره، كما استمتع بها الشعراء في جهرهم.

فلسنا إذن في حاجة إلى إعادة هذا الحديث والخوض فيه، وإنما نلفت سادتنا المشفقين على أخلاق الشباب وطهارته، إلى أنهم ليسوا أشد منا إشفاقًا على هذا الشباب، أن يسوء خلقه، أو يفسد قلبه، ولكنا لسنا نرى رأيهم في هذا التحرج، ولسنا نحب أن يكون شبابنا من الجهل والغفلة والضعف بحيث نخشى عليه بيتًا من الشعر، ليس حظه من المجون والفتنة شيئًا يذكر، فنحن نتخير لهذا الشباب من هذا الشعر الدنس أقله من الإثم حظًّا، وأنزره من الفجور نصيبًا، ولسنا نروي لك ما يسمع وما لا يسمع، ولسنا نحدثهم بما يقال وما لا يقال، وإنما ننظر في هذا كله إلى الذوق والمنفعة جميعًا، وأين يقع ما نرويه وما نتحدث به مما يقرأ الشبان ويسمعون ويرون من آداب الفرنجة وأحاديثهم، وفي ملاعبهم وملاهيهم!

ولو أن ما نرويه وما نتحدث به هو الخطر الوحيد، الذي نخشاه على أخلاق الشبان، لكنا أسرع الناس إلى إجماله، ولتحدثنا إلى قرائنا في الزهد والتقوى، وفي الطاعة والنسك، ولكن نخشى على الأخلاق أخطارًا أعظم وأسوأ وقعًا من هذا الحديث البريء، الذي ننشره كل أسبوع، وهل يحب سادتنا أن يجهل الناس بشارًا وأبا نواس والرشيد والأمين؟ أم هل يحبون أن نعطيهم من هذا العصر صورة كاذبة كلها جد، حين كان حظ هذا العصر من الهزل عظيمًا؟ على أن هؤلاء السادة الذين يتحرجون ويعتصمون بالدين، يضيقون على الناس ما وسع الدين، ويعسِّرون وقد أمرهم الدين أن ييسروا.

ونستطيع أن نؤكد لهم أن السلف الصالح من المسلمين، كان أشد منهم بالله إيمانًا، وأكثر منهم لله طاعة، وكان في الوقت نفسه أرحب منهم صدرًا، وأشد احتمالًا، فكان يسمع للجد، وكان يسمع للهزل، بل كان يجدُّ وكان يهزل … وإن أخلاقنا العامة وعاداتنا لتمنعنا أن ننشر للناس ما أنشد عبد الله بن عباس في المسجد الحرام، وقد سئل عن الشعر «أينقض الوضوء»؟ وإن أخلاقنا وعاداتنا لتمنعنا أن ننشر للناس ما أنشده عبد الله بن الزبير حين لقي الفرزدق بالمسجد الحرام أيضًا، وكان عبد الله خليفة، وكانت النوار زوج الفرزدق قد شكت زوجها، بل إن أخلاقنا وعاداتنا تمنعنا أن ننشر للناس بيتًا قاله حسان، يهجو به هندًا زوج أبي سفيان، فلما سمعه النبي أعجب به، وقال لشاعره فيما ذكر الرواة: «قل وروح القدس معك.»

نعم! تمنعنا الأخلاق أن ننشر هذا الآن؛ لأن العصر قد تبدل، وقد تطورت نظم الحياة، ولكن هناك أشياء نستطيع نشرها دون أن نجني على الأخلاق، أو نعرضها للخطر، ونحن نستأذن السادة في أن نرغب في ألا تكون حياتنا خلًّا، وإنما نريد ألا تخلو من الفكاهة واللذة، ولقد قال بعض الشعراء يمازح فقيهًا من فقهاء العصر الأول:

سَأَلْتُ الْفَتَى المَكِّيَّ ذَا العِلْمِ مَا الَّذِي
يَحِلُّ مِنَ التَّقْبِيل فِي رَمَضَان؟
فَقالَ لِيَ المَكِّيُّ: أَمَّا لِزَوْجَةٍ
فَسَبْعٌ، وَأَمَّا خُلَّة فَثَمَانِ!

وقال شاعر آخر في مثل هذا المعنى:

سَأَلْتُ الْفتَى المَكِّيَّ هَلْ فِي تَعانُقٍ
وَضَمَّةِ مُشْتاقِ الفُؤَادِ جُنَاحُ؟
فَقَالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ يُذْهِب التُّقَى
تَلاصُقُ أَكْبادٍ بِهِنَّ جِراحُ

ومثل هذا كثير كان يرويه العلماء والفقهاء ويعجبون به، ويرتاحون له، وكان سفيان الثوري يقول: إن أبا نواس أشعر الناس لقوله:

يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ
يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
يَبْكِي فَيُذْرِي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ
ويَلْطِمُ الْوَرْدَ بعُنَّابِ

وقد انتهى بنا الحديث إلى أبي نواس، وأنا أريد أن أحدثك عن أبي نواس، ولست أذكر لك أنه ولد سنة ١٤١ﻫ، ومات سنة ١٩٩، فأنت تعلم ذلك، وتستطيع أن تجده في أي كتاب من كتب الأدب، ولست أصف لك نشأته الأولى، ففيها غموض كثير، وفيها اختلاف واضطراب، وربما كان من الحق عليَّ ألا أنشر لك ما تحدث الناس به من شباب أبي نواس، ففيه شيء من الإثم كثير، قد يغضب سادتنا المتحرجين، وهو في الوقت نفسه يخالف أخلاقنا وذوقنا العام.

لا أحدثك إذن عن نشأة أبي نواس، بل لا أريد أن أحدثك في هذا المكان عن سيرة أبي نواس وحياته، فإن ذلك يحتاج من البحث والتحقيق العلميين إلى ما لا تحتمله الصحف السيارة، ولكني قلت: إن أبا نواس كان مثالًا صادقًا للعصر الذي عاش فيه، وإن العصر كان يمتاز بالشك والمجون وإيثار اللذة، وقلت في حديثٍ آخر: إن شعراء هذا العصر وأدباءه كانوا قد اتخذوا لأنفسهم قاعدة، هي أن يستمتعوا بلذات الحياة ما استطاعوا، فإذا أدركهم الشيب والضعف لجئوا إلى عفو الله، ولاذوا به، ولهذا كان أبو نواس يكره المعتزلة، وينكر على النظام رأيه في الخطيئة والتوبة.

قلت هذا كله، وأريد في هذا الفصل أن أثبت لك أن أبا نواس لم يكن قليل الخطر، ولا رجلًا لا يؤبه له، وإنما كان ذا مكانة عالية، وعالية جدًّا، وأنه على هذه المكانة قد كان ماجنًا، مجاهرًا بالمجون، مستمتعًا باللذة، لا يخشى في ذلك سخط الأمراء، ولا إنكار الفقهاء والمحدثين، وإنما يعتمد على شيء واحد، هو عفو الله، وأنه قد أخذ من الحياة لذاتها جميعًا، فلما مرض وعلم أنه ميت، أنفق مرضه يتوب وينيب، ويعتذر ويستغفر، فلما مات رأى بعض الرواة في المنام أن الله قد غفر له، وأنه قد دخل الجنة.

ولست أروي لك ما سأرويه من كتب ليست موضع الثقة، وإنما أعتمد في حديث اليوم على كتاب واحد معروف لا أتجاوزه، وهو «تاريخ دمشق» للحافظ ابن عساكر؛ فانظر إلى الذين روى عنهم أبو نواس، وانظر إلى الذين رووا عن أبي نواس من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، فأما الذين روى عنهم — فيما ذكر ابن عساكر — فهم: حماد بن حماد، وحماد بن يزيد، وعبد الواحد بن زياد، ومعتمر بن سليمان، ويحيى القطان، وأزهر بن سعد السمان، وأما الذين رووا عنه فهم — فيما ذكر ابن عساكر أيضًا — محمد بن إبراهيم، وابن كثير الصيرفي، وعبيد الله بن محمد العبسي، ومحمد بن جعفر غندر، وأحمد بن حمزة بن زياد الريفي، وعمرو بن بحر الجاحظ، ويعقوب بن زيد الفارسي، ومحمد بن إدريس الشافعي، وجماعة سواهم.

فإذا أردت أن تعرف أقدار هؤلاء الفقهاء والمحدثين، فارجع إلى طبقات الفقهاء والمحدثين، وستثق بأن شاعرنا لم يكن رجلًا ما، وإنما كان رجلًا يقدره أهل عصره، ويكبرونه في كل ما عرض له من الفنون، فكان أهل اللغة يقولون: إنه أعلم الناس بالغريب، وكان الأدباء يقولون: إنه أرق الناس أدبًا وأحسنهم شعرًا، وكان الخلفاء والوزراء والأمراء يعجبون بظرفه، وحسن حديثه، وكان الشعراء يعترفون له بالزعامة والتفوق، وكان الفقهاء والمحدثون لا يأنفون أن يحدثوه، وأن يتحدثوا عنه، ولو روينا لك الأدلة على هذا كله لأسرفنا في الإطالة.

ولكنا ننتقل من هذا إلى ذكر شيءٍ من دعابة أبي نواس ومجونه، مع الفقهاء والمحدثين والخلفاء.

تحدث ابن عائشة أنه قال: كنا على باب عبد الواحد بن زياد، ومعنا أبو نواس، فقال: ليسأل كل واحد منكم، ثم قال: سل يا فتى، فأنشأ أبو نواس يقول:

ولَقدْ كُنَّا روَيْنا
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَهْ
عَن سَعِيدِ بْنِ المُسَيـْ
ـيِبِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبادَه
قالَ: مَنْ مَاتَ مُحِبًّا
فَلَهُ أَجْر شَهادَه

فالتفت إليه عبد الواحد بن زياد، فقال اغرب عني يا خبيث! والله لا حدثتك بشيءٍ وأنا أعرفك، فقام أبو نواس، وقال: والله لا أتيت مجلسك وأنت ترد الصحيح من الأحاديث!

وتحدث محمد بن جعفر قال: لقي شيبة أبا نواس، فقال له: يا حسن، حدثنا عن ظرفك فقال:

حَدَّثَنا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ
وَخَالِدُ الْحذاء عَنْ جَابِرِ
عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ بعْضِ أَصْحَابِهِ
يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلى عامِرِ
قالُوا جَمِيعًا: أَيُّما طَفْلَة
علِّقَها ذُو خُلُق طَاهِرِ
فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ
عَلَى وِصالِ الْحافِظِ الذَّاكِرِ
كَانَتْ لَهَا الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً
تَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ
وَأَيُّ مَعْشُوقٍ جَفا عَاشِقًا
بَعْد وصَالٍ دَائِمٍ ناضِرِ
فَفِي عَذَابِ اللهِ بُعْدًا لَهُ
نَعَمْ وَسُحقٍ دَائِمٍ دَاحِرِ

فقال له شيبة: إنك لجميل الأخلاق!

فما رأي سادتنا المتحرجين؟

وتحدَّث سليم بن منصور قال: رأيت أبا نواس في مجلس أبي — وكان واعظًا — يبكي بكاء شديدًا، فقلت: إني لأرجو ألا يعذبك الله بعد هذا البكاء أبدًا، فأنشأ يقول:

لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ
شَوْقًا إِلى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ
وَلا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ
وَلا مِنَ النَّفْخَةٍ في الصَّورِ
لكِنْ بُكَائي لبُكَا شَادِنٍ
تَقِيهِ نَفْسِي كلَّ مَحْذُور

ثم قال: أما ترى الأمرد الذي عن يمين أبيك؟! إنما بكيت رحمة لبكائه!

وتحدث ابن الزيات، عن محمد بن ضوء بن الصلصال بن الدلهمس، قال: كان أبو نواس يزورني في الكوفة، فيأتي بيت خمار بالحيرة، يقال له جابر، وكان نظيف الثوب، يعتِّق الشراب، فيكون عنده ما يأتي عليه سنون، قال: فرأى في يده يومًا شيئًا عجيبًا، في نهاية الحسن، وطيب الرائحة، فقال لي: يا أبا جعفر! لا يجتمع هذا والهم في صدر. قال: وكان معجبًا بضرب الطنبور، فكان إذا جاءني جمعت له ضراب الطنابير، ومعدنهم الكوفة، فكان يسكر في الليلة سكرات، قال: فجاءني مرة من داره، فقال: قد حدث أمر، قلت ما هو؟ قال: نهاني أمير المؤمنين محمد عن شرب الخمر، وأنشدني:

أَيُّهَا الرَّائحَانِ بِاللَّوْمِ لُومَا
لا أَذُوقُ المُدامَ إِلَّا شَمِيما

القصيدة …

فقلت: ما تريد أن تفعل؟ قال: لا أشربها أخاف أن يبلغه أني شربتها، فأتيناه بنبيذ، وجلسنا في منزل جابر، فلما دارت الكأس بيننا أنشأت أقول، وأذكر قوله لي:

خَفِيَتْ عَلَيْكَ مَحَاسِنُ الْخَمْرِ
أَمْ غَيَّرتْكَ نَوَائِبُ الدَّهْرِ
فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ عَنْ مُعَتَّقَةٍ
تَفْتَرُّ عَنْ خُلُقٍ مِنَ الْبِشْرِ
وَنَسِيتَ قَوْلَكَ حِينَ تَمزُجُهَا
فَنُرِيكَ مِثْلَ كَوَاكِبِ النَّسْرِ
لا تَحْسِبَنَّ عُقَارَ خَابِيَةٍ
وَالْهَمَّ يَجْتَمِعان في صدرِ

فأخذ يسب الأمين في كلام لا نرويه، وشرب الخمر، ثم شخص إلى محمد، فقال له: أين كنت؟ قال: عند صديقي الكوفي، وحدثه الحديث، قال: فقال لي: ما صنعت حين أنشدك الشعر؟ قال: شربتها يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأجملت! ثم قال: اشخص حتى تحمل إليَّ صديقك هذا، قال: فشخص فحملني إليه فلم أزل مع محمد حتى قتل.

ولكنا قد أكثرنا من رواية هذا المجون، ونخشى أن نكون قد أثقلنا على المتحرجين، فلنرو لهم شعرًا لأبي نواس ملؤه البر والتقوى، فيه والزهد والموعظة.

نقل عن عبدوس رواية أبي نواس أنه قال: دخلت على أبي نواس الحسن بن هانئ، في علته التي مات فيها، فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ فقال: أجدني قائلًا:

سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الخَلـْ
ـقَ منْ ضَعِيفٍ مهِينِ
يَسُوقُهُ مِن قَرَارٍ
إِلَى قَرَارٍ مَكِينِ
يَحُولُ شَيْئًا فَشَيْئًا
في الْحُجْبِ دُونَ الْعُيُونِ
حتَّى اسْتَوتْ حَركَاتٌ
مخْلُوقَةٌ مِنْ سُكُونِ

قال: ثم أطرق فتركته وانصرفت، فلما كان من غد دخلت عليه، فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

وَعظَتْكَ أَجداثٌ صُمُتُ
وَنَعتْك أَزْمِنَةٌ خُفُت
وتكلمتَ عن أَوْجُهٍ
تَبْلَى وَعَنْ صُوَرٍ سُبُت
وَأَرَتْكَ قَبْركَ في الْقُبُو
رِ وَأَنْتَ حَيٌّ لَمْ تَمتْ
ولرُبَّما انْقَلَبَ الشَّمَاتُ
فَحَلَّ بِالْقَوْمِ الشُّمُت

ثم أطرق فتركته، فلما كان في اليوم الثالث دخلت عليه، فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

يَا نُواسِيُّ تَفكَّرْ
وَتَعَزَّ وتَصَبَّرْ
سَاءَكَ الدَّهْرُ بِشَيءٍ
وبِمَا سرَّكَ أَكْثَرْ
يا كَثِيرَ الذَّنْبِ عفـ
ـو اللهِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
أَكْثرُ الْعِصيان في
أَصْغرِ عفْوِ اللهِ يصْغُرْ

فلما كان في اليوم الرابع دخلت عليه فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

كُنْ مَعَ الله يَكُنْ لك
واتَّقِ الله لَعَلَّكْ
لا تكنْ إِلَّا مُعِدًّا
لِلْمَنَايا فَكَأَنَّكْ
إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَهْمًا
واقِعًا دُونَكَ أَوْ بِكْ
فعلَى اللهِ تَوَكَّل
وبِتقْوَاه تَمَسَّكْ
نحنُ نُمسِي بَيْن أَسْبا
بِ سُكُونٍ وتَحَرُّك

قال: ثم أطرق فتركته وانصرفت، فلما كان في اليوم الخامس دخلت عليه فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

يا نَاظِرًا يرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ
ومُشَاهِدًا لِلْأَمْسِ غَيْرَ مُشَاهِدِ
مَنَّتْكَ نَفْسُكَ ضَلَّة فَأَبَحْتَها
طُرُقَ الْحِمَامِ وأَنْتَ غيْرُ مُرَاصِدِ
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وتَرْتجي
دَرَكَ الجنَانِ بها وفَوْزَ العَابدِ
وَنَسِيتَ أَنَّ اللهَ أَخْرجَ آدمًا
مِنْها إِلَى الدُّنْيا بِذَنْبٍ وَاحِدِ

قال: ثم أطرق فتركته وانصرفت، فلما كان في اليوم السادس دخلت عليه فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

دَبَّ فِيَّ السَّقَامُ سُفْلًا وَعُلْوَا
وَأَرَاني أَمُوتُ عُضْوًا فَعُضْوَا
لَيْسَ تَأْتِي مِنْ سَاعَةٍ بِيَ إلَّا
تَقْتَضِينِي بِمرِّهَا بِيَ جُزْوَا
ذَهَبَتْ جِدَّتي بِطَاعَةِ نَفْسِي
وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللهِ نضْوَا
قَدْ أَسَأْنا كُلَّ الإِسَاءَةِ يا رَب
فَصَفْحًا عَنَّا إِلهِي وَعَفْوَا

ثم أطرق وانصرفت، فلما كان في اليوم السابع دخلت عليه فقلت له: كيف تجدك يا أبا نواس؟ قال: أجدني قائلًا:

إِنِّي وما جَمَّعْتُ مِنْ صَفَدٍ
وحَوَيْتُ مِنْ سبَدٍ ومِنْ لبَدِ
هِمَمٌ تَصَرَّفَتِ الخُطُوبُ بِها
فَغَدَوْتُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدِ
لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلهِ مُتَّهِمًا
لَمْ تُمْسِ مُحْتَاجًا إِلَى أَحَدِ

ثم أطرق فتركته وانصرفت، فلما كان في اليوم الثامن جئت لأدخل، فلقيني الغلام في الطريق ومعه رقعة مختومة، فسألته عنه، فقال: أعظم الله أجرك في أبي نواس؛ فقد توفي، وكان كتب إليك هذه الرقعة قبل موته، فقرأتها فإذا فيها:

شِعْرُ حَيٍّ أَتَاك مِنْ لَفْظِ مَيْتٍ
صَارَ بَيْنَ الْحَياةِ والْمَوْتِ وَقْفَا
لَوْ تَأَمَّلْتَنِي وأَبْصَرْتَ وَجْهِي
لَمْ تَجِدْ مِنْ مَثَالِ رَسْمِيَ حَرْفَا
نَفَسٌ خَافِتٌ وَجِسْمٌ نَحِيلٌ
أَرْمَضَتْهُ الأَسْقَامُ حَتَّى تَعَفَّى

فجئت معه إلى منزل أبي نواس، فإذا به قد مات، ونظرت فيما خلَّف، فإذا مقدار ثلاثمائة درهم، وإذا بين مخدتيه رقعة فيها هذا الشعر:

يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً
فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
أَدْعُوكَ ربِّ كما أَمَرتَ تَضَرُّعًا
فَإِذا ردَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ
إِنْ كانَ لا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ
فَمَنِ الَّذِي يَرْجُو ويَخْشَى الْمُجْرِمُ
مَا لِي إِلَيْكَ وسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا
وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ

قال: فوقفت حتى جهزناه وصلينا عليه ودفناه وانصرفت.

•••

أكثر هذا الشعر لأبي نواس من غير شك، ولكن هذه القصة التي رويناها متكلفة من غير شك أيضًا، وإنما نعتقد أن الرجل قال أكثر هذا الشعر في أوقاتٍ مختلفة من حياته، وقال بعضه عندما أحس الموت، ولسنا نلح في هذا البحث ولا نفصله؛ فقد أطلنا أكثر مما ينبغي، وإن كان ذنب هذه الإطالة يقع على أبي نواس أكثر من وقوعه علينا، فقد رأيت مكانة شاعرنا ورأيت مذهبه في الدين والمجون والشك، فلنترك هذا كله، ولنحدثك عن قيمة أبي نواس الشعرية في الأسبوع الآتي.

١  نُشرت بالسياسة في ٧ جمادى الآخرة سنة ١٣٤١ / ٢٤ يناير سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤