الفصل التاسع

إلى الأستاذ طه حسين١

سيدي الأستاذ!

أطالع بشوقٍ وإمعان مقالاتكم الأسبوعية على أدب القدماء والمُحْدَثين، أو «حديث الأربعاء»، ومما يلفت النظر، ويستدعي التمحيص والحذر في ذلك الحديث، حكمكم أن أبا نُوَاس ومن في طبقته أو على شاكلته من الشعراء كانوا مثالًا صادقًا للعصر الذي عاشوا فيه، وأن الرشيد والمأمون ذهبا من الشك والاستمتاع باللذائذ في ذلك العصر، مذهب أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون، وقد سردتم طائفة من الشعر والأخبار المنسوبة إليهم، واستنتجتم منها ذلك الحكم الذي يحتاج إلى تمحيصٍ كثير.

نعم! إن المقدمات التي استخرجتم منها تلك النتيجة ربما ظهرت صحيحة لأول وهلة؛ لأنها تستند إلى أشعارٍ وأخبارٍ مكتوبة ومنسوبة إلى ناقليها وقائليها، وهم معروفون مشهورون في التاريخ، لكن هذا وحده لا يكفي لمثل ذلك الاستنتاج، ولا تبنى عليه أحكام سوداء في تاريخ أبيض ناصع، كتاريخ الرشيد والمأمون ومن عاصرهما من العلماء والفضلاء، وأرى أن الأستاذ تعجل في الحكم، لتلقيه أخبار أبي نواس وما نقل إلينا من شعره، كأخبار صحيحة لا غبار على نسبتها إليه، وصدورها عنه، وهذا لا يصح للمؤرخ الممحص التسليم به، والسكوت عليه.

إن الحقائق التاريخية، ولا سيما في تاريخ الإسلام، تشبه الدر الملقى بين أشواك، يحتاج مريد استخراجه من تلك الأشواك، إلى أناة وروية ونظر في وجوه السلامة من أذى الشوك، ولا نريد أن نذهب بعيدًا في مذاهب الشك التي ذهب إليها الأستاذ، وإنما يكفي أن ننبهه بما نقول — وهو العليم — إلى ما عاناه رواة الحديث، ونقلة الأخبار النبوية في تمحيص تلك الأخبار وتنظيفها من شوائب الوضع المكذوب، ولا سيما في أيام الفتنة الكبرى التي انقسم فيها المسلمون إلى شيع سياسية، كانت تعمل للسياسة باسم الدين، وتضع من الأخبار ما يوافق مذاهبها السياسية، وإن كان فيه مساس بالدين وتشويه له، هذا فيما له صلة بأصل الشريعة، وانتساب إلى صاحب الشرع، فما بالك بأخبار الخلفاء ووقائع التاريخ وأخبار الناس؟!

نقرأ شيئًا في التاريخ وشيئًا في كتب القصاصين، عما أنتجه التنازع بين الشيع الدينية والسياسية على الأصح، في عصور المحنة التي مرت على المسلمين، نقرأ في كتب التاريخ أخبارًا نسبها شيع العباسيين إلى خلفاء بني أمية، وأخبارًا نسبها شيع آل علي إلى خلفاء بني العباس، هي أحط ما ينسب إلى خلفاء أو ملوك أو سمِّهم ما شئت، كانوا في مثل مرتبتهم من العزة والمنعة وبسطة الجاه والملك، وكان من المحال أن يكونوا من انحطاط الأخلاق والسيرة في المنزلة التي أنزلهم إليها الوضاعون، ويدوم لهم طويلًا ذلك الملك العريض والشهرة الذائعة في التاريخ.

ونقرأ ما هو أقبح من ذلك في كتب القصاصين منسوبًا إلى الخلفاء وأهل العلم والأدب.

فلو سلمنا بكل ما جاء في تلك الكتب والأقاصيص، واعتبرناها أخبارًا صحيحة ليس فيها شائبة من شوائب الكذب والاختلاق والتلفيق، لكان لنا أقبح مثال من أمثلة العصور الإسلامية الأولى، التي نعتبرها من مفاخر تاريخنا الغابر الماجد.

الحقيقة التي ينبغي أن تقال: إن التنازع السياسي بين الشيع الإسلامية أدخل من روايات بعض الأخباريين شوائب في التاريخ الإسلامي ليست هي منه في شيء، وإنما هي من وضع المتزلفين لبيوت الإمارة والملك، أو المتشيعين لبعض المذاهب السياسية أو الدينية.

ولما أنكر ابن خلدون أقوال الملفقين الذين لفقوا على الرشيد تلك الحكايات الشائنة، لم يكن في إنكاره إلا على حق لما عرف عنه من بعد النظر في التاريخ وصحة بحثه في طبائع الاجتماع وأخلاق الأمم ومنازعها، شأن كل مؤرخ بحاث لا يُلقي الكلام على عواهنه، ولا يأخذ الحوادث بظواهرها، ولا شك عند كل منصفٍ أن ابن خلدون أوثق وأصدق كلامًا من أبي نواس وأمثاله من المجونيين، هذا إذا صحت كل أخبار المجون المنسوبة إلى هؤلاء.

أما القصص أو كتب القصاصين فلها شأن آخر؛ لأن واضعيها إنما وضعوها لأغراضٍ وبواعث تجارية، أو سياسية، أو دينية، أما الأغراض التجارية فهي الكسب والانتفاع، وأما البواعث السياسية أو الدينية، فهي منع العامة عن الخوض في سياسة الخلفاء والحكام، والخوض في أخبار الصحابة وما شجر بينهم على ما يقال أو يظن، إذ من المعلوم أنه لم يكن في القرون الأولى للإسلام من وسائل التسلية وأماكن اللهو العامة ما يقضي فيه العامة أوقات الفراغ، وهم بالضرورة في حاجةٍ إلى الاجتماع، فكانت أكثر أحاديثهم في مجتمعاتهم، تدور على أخبار الصحابة وحوادث الصدر الأول لقرب العهد به، ثم سياسة الخلفاء وحكامهم، وقد كان ذلك يجر في كثير من الأحيان إلى الشجار ثم الفتنة كما نقرأ في أخبار أهل السنة والشيعة في بغداد عاصمة الملك والخلافة، وكانت هذه المنازعات والفتن تفضي أحيانًا إلى إهراق الدماء بين العامة، الذين يتشيع كل فريق منهم لرأيه ومذهبه، بلا علم ينفع، أو فهم يردع.

فكان هذا سببًا على ما يظهر لتفكير العلماء في وسيلة من الوسائل تشغل العامة عن الخوض في مثل تلك الأخبار، فأخذ بعض الأذكياء في وضع قصص تتلى في المجتمعات، فيلهو بها العامة عن الأخبار المثيرة للعواطف أو الأحقاد، فكان منها المختصر المبعثر في ثنايا الكتب، ومنها المطول المجموع في كتبٍ على حدة، ومن ذلك أخبار الفتوحات، كفتوح الشأم، وفتوح مصر، وفتوح اليمن، المنسوبة إلى الواقدي وهي ليست له، وكتاب قصة عنترة العبسي وواضعها مجهول، وكتاب ألف ليلة وليلة وكاتبها مجهول أيضًا، وقد قالوا: إنها مترجمة عن الفارسية ولكن أخبارها لا تدل على ذلك.

ولما استطاب الناس أمثال هذه القصص والأخبار، وأصبحت ضرورة من ضرورات الحياة؛ لأن فيها نوعًا من التلهي وترويح النفس، تنافس الرواة والقصاصون في تدوين الأخبار ووضعها تارة مجموعة وتارة متفرقة في كتب الأدب كأخبار العشاق والشعراء والبخلاء والكرام وغير ذلك … فكان منها الغث والسمين ومنها الملفق والقريب من الصحة.

وقد غالى بعض الأخباريين في إيراد أخبار المجون والتهتك والانغماس في الشهوات، مغالاة تكاد تشهد على نفسها بالغلو والتلفيق، لما فيها من العبث بالأخلاق، والتجرد عن معنى الأدب، الذي أخذ منه الشعراء والأدباء المنسوبة إليهم بسببٍ كبير، ينافي ما ينسب إليهم من اطراح رداء الحشمة والمروءة، ولا أظنني مخطئًا إذا قلت: إن ما نقل من هذا القبيل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء ذلك العصر، ويسميه حضرة الأستاذ طه حسين عصر الشك والمجون، ويتخذه دليلًا على حكمه على أهل ذلك العصر، إنما هو تلفيق قصصي يراد به أحد أمرين: إما تشويه سمعة بعض الخلفاء العباسيين كالرشيد والمأمون، وإما سد نهمات العامة إلى أمثال تلك القصص المخزية والروايات الملفقة، على أنه لو صح شيء منه، لما كان لنا أن نتخذه دليلًا على شيوع الفحش والفجور والشك بين أهل ذلك العصر، لأنه مجون لا يجوز أن يتعدى الماجن مهما تطاول إلى النيل من سواه باسم المجون.

على أني أعتقد — كما قلت — أن ما نسب إلى أولئك الشعراء كأبي نواس وبشار ومن في طبقتهما محل للشك، ولا سيما إذا صح أن شعر أبي نواس لم يجمع في كتاب — ديوان — على حدة في حياته، وإنما جمعه رواة القصص وأخبار شعراء المجون، وتناولوه بعد وفاته بزمنٍ قريب أو بعيد، ومحل هؤلاء الرواة من الثقة أو عدمها، لا يحتاج إلى تعريف بعد الذي قدمناه، وحسبنا أن الأستاذ طه حسين نفسه تردد في قبول رواية عبدوس عن المقاطيع الشرعية التي قال: إن أبا نواس أنشدها له قبيل وفاته في أيام متتابعة في التوبة والاستغفار، تردد الأستاذ في صحتها، وقال: إنها قصة متكلفة من غير شك، وإنما نعتقد أن الرجل قال أكثر هذا الشعر في أوقاتٍ مختلفة من حياته.

فالذي جوَّز للأستاذ الشك في صحة هذه القصة يجوز الشك في صحة أكثر القصص، والروايات التي نقلت عن أبي نواس وغيره من شعراء المجون، ويثبت أنها قصص موضوعة ليس لها قيمة تاريخية، فلا يصح أن تتخذ مثالًا صادقًا لذلك العصر، وإذا قرئت فإنما تقرأ لأن فيها فكاهة وترويحًا للنفس لا لأنها أمثلة من تاريخ أمة كان عصرها ذاك عصر جدٍّ لا هزل، وعصر نهضة علمية بلغت فيه أقصى ما يمكن أن تبلغه أمة في عشرات من السنين.

ولقد أحسن الأستاذ في مقالته الأخيرة بالإشارة إلى ذلك في قوله: «إنه لا يرغب أن تكون حياتنا كلها خلًّا، وإنما يريد ألا تخلو من الفكاهة واللذة.» فإن في قوله هذا دليلًا على أنه يريد أن يخفف عن أبي نواس عبء الحمل الذي ألقاه على عاتقه، وأن يستدرجنا، ونعم ما فعل، إلى الشك في صحة تلك القصص المخزية، وأنه إنما أوردها للفكاهة، ولا سيما بعد أن عزز ذلك بقوله: «إن أبا نواس لم يكن قليل الخطر، ولا رجلًا لا يؤبه له، وإنما كان ذا مكانة عالية، وعالية جدًّا.» ثم سرد عن تاريخ الحافظ ابن عساكر أسماء من رووا عن أبي نواس، وروى عنهم أبو نواس.

ولا جرم أن المجاهرة بالمجون، والاستمتاع باللذات، ثم رواية الحديث، نقيضان لا يجتمعان، وهذا ما يؤيد رأينا في أن أكثر ما نقل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون، إنما هي روايات قصصية بعيدة عن الصحة، وأنه لا يصح أن تتخذ دليلًا على حالة الأمة الروحية والخلقية في ذلك العصر، وفوق كل ذي علم عليم.

رفيق العظم
١  نُشرت بالسياسة في ٢١ جمادى الآخرة ١٣٤١ / ٧ فبراير سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤