الفصل الأول

أسلوب في العتب

سيدي الفاضل الدكتور حسين هيكل بك

أرسل إلى السياسة هذه الرسالة عاتبت بها ظريفًا من أدباء الشام كنت كتبت إليه فتفتَّر في رد كتابي، لأن جماله ظرف وظرفه جمال، وهما إذا اجتمعا كان لهما حكم خاص في قانون الرسائل.

وقد كتبتها من النمط الأول الذي هو فن من زينة البلاغة العربية يشبه بعض فنون الزخرف والتنسيق، وهو حين يكون في مثل هذه الرسالة لا يكون أبدع منه شيء من الأساليب الأخرى.

فأرجوكم الحفاوة برسالتي هذه في السياسة الغراء، والتمهيد لها بما يبين عن سبب كتابتها. حفظكم الله للمخلص.

مصطفى صادق الرافعي

سيدي

كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول: إنها بعيدة، وتمر قديمة ولكن ما في هذه النفس منها يجعلها دائمًا جديدة، وكأنها تجري بي إلى الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس من كل أمس فتنسخ به معنى الأمل في كل غد، وأرى الأيام تعد بالأرقام، أما هي فقد جعلتها أنت تعد بأنها لا تعد.

وانتظرت رد خطابي وأن تلقي إليَّ ورقة من شجرة عتابي، فما زالت تنقطع الساعة من الساعة ويلتقي اليوم باليوم، ويذهب اللوم إلى العتاب ويجيء العتاب إلى اللوم، وكتابك على ذلك كأنه الذهول نوم اليقظة أو السهد يقظة النوم.

فسبحان من علم آدم الأسماء كلها لينطق بها، وعلمك وحدك السكوت … والسلام عليك في أزلية جفائك، أما أنا فأقول: «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت.» ما هذا يا سيدي وليس خيط العمر في يدك، ولا أمس الضائع بمعوضٍ عليَّ من غدك، ولا أنا أقل من «أنا» ولا أنت أكثر من «أنت»، ولا أعلمتنا من قبل أنك مع القدر تحركت ومع القدر سكنت، أتراك لما خفت المحاكم في قتلي جعلت تقتل بهجرك أيامي؟ ولما عرفت أنك من سروري أردت أن أعرف أنك من آلامي؟ أم أنت الذي في نورك وظلامك تفعل ما يفعل الليل والنهار؟ أم أغراك بنا ذلك الذي قال: خلقته من طين وخلقتني من نار؟ أم تحسبنا خلقنا بهذه الرقة لنعرف كيف يتحجر قلبك ويجمد، وأنبتنا الله في هذا العمر لتجيء أنت يا صاحب «المزرعة» فتحصد؟ أم خُلقت في يد الله إرادة ماضية وخلقنا عليك اتكالًا، وجئنا على الطاعة شكلًا واحدًا وجئت أنت من يد الله أشكالًا؟!

فإن كان قلبك شيئًا غير القلوب فما نحن شيئًا غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خُلقت أيامنا في طولها وقصرها للقياس، وهب قلبك في هذه الهندسة مربعًا أفلا يسعنا ضلع من أضلاعه، أو مدورًا أفلا يمسكنا محيطه في انخفاضه وارتفاعه، وهبه مثلثًا فاجعلنا منه بقية في «الزاوية»، أو مستطيلًا فدعنا نمتد معه ولو إلى ناحية.

ما بال كتابنا — حفظك الله — يمضي سؤالًا فيبقى عندك بلا «جواب»؟ ونبنيه على حركة القلب فتجعله أنت مبنيًّا على السكون ولا محل له من «الإعراب»، وما بالنا نقطع في انتظار الرد مسافة من هجرك لو طار فيها البريد لانتهى بكتب الحسنات والسيئات إلى السماء، ولو جاس خلال الأرض لتقدم حتى لا يبقى أمام وتأخر حتى لا يبقى وراء؟! فإن كنت تضن أن توجه إلينا من عرشك خطابًا أو تنزل علينا من سمائك كتابًا؛ فقد أقفل باب النبوة من قبلنا فما هذا الباب، واحتجب الوحي من زمن بعيد فما هذا الحجاب؟!

لعلك تخشى إذا جاءني كتابك الكريم أن يزعم الناس أن جبريل أصبح في الأرض من سعاة البريد، وأن السماء عادت تشرع لهذه الأرض فجاءتها بكتابٍ جديد! أم لعلك تخاف أن تكتب بقلمك الأعلى أن يتعجل على الناس قدر لا يحتمل التأجيل، وإن انتهى إليَّ كتابك قامت قيامة أوروبا على مصر؛ لأن عندي صفحة ناقصة من الأناجيل؟!

لقد هممت أن أعاقب القلم الذي كتبت به إليك فأحطم سنه، وأجعله من ناحيتي في «خبر كان» حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر «إنه» وقلت كيف، ويحك، سودت وجه صحيفتي بما هو في سواده مداد مع المداد، وفي نفسه سواد غير السواد؟ فقال: وهل أنا في هذه النغمة إلا «عود»، وهل كنت إلا حركة ألفاظك من قيام وقعود، وسل الدواة من أمدَّها، والصحيفة من أعدَّها، وسل أناملك كيف كانت تضغط علي كأنها تسلم سلامًا، ولا تخط كلامًا، وسل نفسك كيف كانت في حركتي تضطرب، وقلبك كيف كان من كلمة يبتعد وفي كلمة يقترب.

فما ندري يا سيدي وقد أحببناك أنعدك في ذنوب الزمان أم في أعذاره، ونأخذك في الحب من وقائعه أم في الجفاء من أخباره … فإن أبيت أن تكون منا إلا سماء من أرضها، وأن نكون منك إلا سنة من فرضها، وأبيت وأنت مفرد الحسن إلا أن نعدك مع كبريائك مثنى بألف ونون، وإلا أن تكون كما أردت أن تكون، فإذا خاطبناك قلنا: يا أيها الصديقان … ويا غضبانان وراضيان، وأنشدنا: ولو كان همًّا واحدًا … ولكنه همٌّ وثانٍ، وإن أبيت إلا ما نأبى، ولم ترضَ مع صدقنا في حبك إلا كذبًا، قلنا لك بلغة اليأس منك: لشد ما أصاب الزمان فينا وأخطأ، فليصب بك أو فليخطئ، وكثيرًا ما أعطانا الدهر وأخذ، فلتكن فيما يأخذ أو فيما يعطي، وقلنا مع الذكر نسيان، وما عسى أن ينقص الناس بإنسان!

ومن ظن «بصرفنا» عن نفسه أنه كبير، جعلناه من «نحونا» في باب التصغير، ومثلنا — أصلحك الله — لا يتكلم إلا بفائدة ولا يسكت إلا لفائدة؛ فإن أخطأنا معك في واحدةٍ أصلحناها بواحدة، والسلام.

مصطفى صادق الرافعي

أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرًّا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي، ولا سيما في مصر، تغيرًا شديدًا.

طه حسين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤