الفصل الحادي والعشرون

في الشعر: الملاح التائه لعلي محمود طه

أعود الآن إلى هذا الحديث بعد أنْ صرفتني عنه الحياة وخطوبها أعوامًا إنْ لم تبلغ العشرة فليست تنقص عنها إلا قليلًا، وأريد أنْ أمضي في هذا الحديث كما كنت أمضي فيه من قبل، حرًّا طليقًا، لا أقيد نفسي بزمان، ولا بمكان، ولا بلونٍ من ألوان الأدب، ولا بفنٍّ من فنون البحث، إلا أنْ يكون هذا الشيء الذي التزمته فيما مضى، وأحب أنْ التزمه فيما يقبل من هذا الحديث، وهو ألا أتجاوز به الأدب العربي إلى غيره من الآداب.

ولكن الأدب العربي واسع، بعيد الأطراف، مختلف الفنون، متباين الأزمنة والأمكنة، فلا عليَّ أنْ أتنقل بهذا الحديث من عصرٍ إلى عصر، ومن بيئةٍ إلى بيئة، ومن فنٍّ إلى فن، لا أتبع في ذلك إلا ظروف القراءة وأهواءها، وظروف القراءة غير المنظمة، ولا المضطردة، ولست أكره ذلك ولا أشفق منه، ولعلي أنْ أجد فيه شيئًا من الخير لهذا الحديث، فإن في الاختلاف والتنوع لذة غير مجهولة، وقد يكون النظام والاضطراد والمحافظة الدقيقة، على ائتلاف الموضوعات وتشابه فنون الحديث، ومن الأمور التي إنْ أعجبت في الكتب فهي ثقيلة مملولة في الصحف، وحسب الصحف أنها تصدر في نظامٍ واضطراد، فلا أقل من أنْ يختلف ما تشتمل عليه ويتنوع ويلهي بعضه عن بعض، ويريح بعضه من بعض.

وليس من اليسير عليَّ أنْ أستأنف هذا الحديث، وأنْ أمضي فيه كما كنت أمضي فيه من قبل بعد أنْ طال العهد وبعد الأمد، ودفعت إلى أعمال مختلفة أنستني مذهبه وأسلوبه إلى حدٍّ بعيد؛ فقد احتاج إلى شيءٍ من التجربة والمران لتستقيم لي طريقه على ما أحب، أو على قريبٍ مما أحب، وعلى ما يرضي القارئ أو على ما لا يسخطه ويسلمه إلى السأم أو يضطره إلى النوم، وما أعرف أني شعرت بالحاجة إلى أنْ أستأنف هذا الحديث كما أشعر بها الآن، لا لأني فرغت لتحرير هذه الصحيفة وإصدارها، ففي حياتنا والحمد لله على الخير والشر ما نستطيع أنْ نتحدث عنه في الصحف، وأصدقائي وأصحابي والذين يتصلون بي ويختلفون إليَّ، يعلمون أني شديد الميل إلى استئناف هذا الحديث منذ زمنٍ بعيد، ومنهم من كان يدفعني إلى ذلك دفعًا، ومنهم من كان يردني عن ذلك ردًّا؛ بل لأن حياتنا الأدبية في هذه الأعوام قد تعقدت بعض التعقد، واختلطت أمورها بعض الاختلاط، وظهرت فيها فنون من الإنتاج لم تكن موجودة أو لم تكن ظاهرة الوجود قبل عشرة أعوام.

وصرفت أنا عن هذه الحياة إلى أعمال التعليم والإدارة في الجامعة حينًا، ثم إلى أمور السياسة والجدال في مشكلاتها حينًا آخر، حتى لقد كان يمر بي العام وأكثر من العام لا أقرأ شيئًا من أدبنا الحديث، أو لا أكاد أقرأ منه شيئًا، إنما هو الانصراف المطلق إلى الأدب القديم حين كنت أدرسه في الجامعة، والانصراف المطلق إلى السياسة حين أعمل في السياسة، والإلمام اليسير بالآداب الأجنبية، ألتمس فيها من حينٍ إلى حين من الغذاء العقلي والفني ما لا بدَّ منه للرجل المثقف الذي يريد أنْ يعيش عقله وقلبه من جهة، وأنْ يلقى الناس فيتحدث إليهم ويفهم عنهم من جهةٍ أخرى، حتى انقطعت الصلة أو كادت تنقطع بيني وبين حياتنا الأدبية المعاصرة.

وكنت شديد الضيق بذلك، كثير التبرم به والشكوى منه، ولكن كتابنا وشعراءنا كانوا أشد مني بذلك ضيقًا وتبرمًا، وأكثر مني سخطًا على ذلك وإنكارًا له، وكانوا يظلمونني، فيسرفون في الظلم، ويقضون عليَّ فيشتطون في القضاء، يزعمون أني أتعمد الإعراض عنهم والغض منهم، وأكره إنصافهم والتحدث عن آثارهم، وشهد الله ما أعرضت، ولا هممت بالإعراض، ولا غضضت من أحد، ولا هممت بالغض منه، ولا كرهت إنصاف آخر، ولا رغبت عن أنْ أؤدي إليه حقه، إنما هي حياة ثقيلة كريهة فرضتها عليَّ الظروف فرضًا واحتملتها؛ لأني لم أكن أستطيع شيئًا آخر، وكان كتابنا وشعراؤنا يتأولون هذا الصمت عن آثارهم، فيسرفون في التأول ويتجاوزون الحق، ومنهم من كان يتجاوز الخلق الكريم في التفسير كأنما هم يظنون أنَّ الحياة لعب، نصرفها كما نشاء وندبرها كما نحب، وإنَّ الكتاب إذا انتهى إليك لم تكد تأخذه حتى تنظر فيه، ولم تكد تبدؤه حتى تتمه، ولم تكد تفرغ منه حتى تناله بالنقد أو التقريظ، ثم ترسل ذلك إلى صحيفةٍ من الصحف، فإذا هو منشور وإذا صاحب الكتاب راضٍ عنك، أو ساخط عليك، ولكنه ظافر بحقه منك على كل حال؛ لأنك لم تهمله، ولم تسلمه إلى الإغضاء، أو الإهمال، أو إلى التجاهل والنسيان.

ومثل هذا الظن إنما يخطر للذين فرغ بالهم وخلت حياتهم مما لا تخلو منه حياة بعض الناس، ولكن ماذا؟ أراني دفعت إلى شيءٍ من القول لم أكن أريد أنْ أدخل فيه وأكبر الظن أنها العدوى قد أصابتني من صديقي المازني، فلأعد إلى نفسي ولآخذ فيما أردت أنْ أتحدث فيه.

ولأعلن مسرعًا إلى كتابنا وشعرائنا أني سأبذل ما أستطيع من الجهد؛ لأفرغ لهم بعض الوقت منذ اليوم.

فأقرأ ما كتبوا وما يكتبون، وأتحدث إليهم وإلى قرائهم وقرائي بما أرى في آثارهم، وأنا أعلم حق العلم أنَّ هؤلاء الكُتَّاب والشعراء، أو أنَّ كثيرًا من هؤلاء الكُتَّاب والشعراء الذين كانوا يكرهون مني الصمت، وينكرون عليَّ السكوت، ويتهمونني بالإعراض والإغضاء، ويسرف بعضهم فيتهمني بالحسد، وبما هو شر من الحسد، سيتمنون لو أني مضيت في الصمت وأغرقت في السكوت، وسيقولون في أنفسهم وسيقول بعضهم لبعض ليتنا ما أثرناه ولا دعوناه، إذن لاسترحنا منه، كما كنا مستريحين، ولأرحناه من أنفسنا، كما كنا نريحه ولمضى كل منا لشأنه … ولكن ماذا يريدون وقد كرهوا الصمت، فسأمنحهم الكلام، فأما إنْ كرهوا الكلام فلن أمنحهم الصمت، ولكن سأمضي إنْ شاء الله فيما قصدت إليه ولهم عليَّ العهد — وما عرفتني مخالفًا للعهد قط — ألا أحملهم شططًا وألا أتعمد الإساءة إلى أحدٍ منهم، أو أتجاوز الإنصاف مهما تكن الظروف، وأنا أعلم أنَّ بين قوم منهم وبيني إحَنًا وصروفًا، ولكن أقسم لأعرضن عن هذه الإحن والصروف، ولأمتنعن عن أنْ أخلي بينها وبين ما يجب من الإنصاف والقسط، حين يكتب الكاتب وينظم الشاعر، ثم يأتي الناقد فيعرض لما نظم هذا أو كتب ذاك، ولكن ماذا؟ يظهر أنَّ سلطان المازني عظيم، وأنَّ التخلص من عدواه ليس بالشيء اليسير، فقد بدأت هذا الحديث بعنوانٍ ولم أصل بعد إلى هذا العنوان، وإنما أنا أدور حول الموضوع — أستغفر الله — بل أنا أدور بعيدًا عن الموضوع دون أنْ أدنو منه فضلًا عن أنْ أصل إليه، ولو أني جاريت نفسي ومضيت أملي ما يمر بها من الخواطر لقلدت المازني تقليدًا تامًّا، ولأتممت هذا الفصل قبل أنْ أبلغ الملاح التائه، ولاضطررت أنْ أعد القارئ والشاعر بنقد هذا الديوان البديع في فصلٍ آخر يذاع بعد أسبوع، ولكني لا أريد أنْ أقلد المازني، ولا أريد أنْ أدور حول النقد، فصلًا كاملًا دون أنْ أبلغه، ولهذا خادعت نفسي عن نفسها، وبدأت النقد على غير شعورٍ منها ولا التفات، فها أنا ذا قد وصفت الملاح التائه بأنه ديوان بديع، وإذن فقد سجلت على نفسي رأيًا من الآراء وحكمًا من الأحكام، ولا بدَّ لي من أنْ أحتمل تبعة هذا الرأي وأبين أسباب هذا الحكم، ومن أنْ أحتمل تلك التبعة وأبين هذه الأسباب في هذا الفصل نفسه، لا أنتظر ولا أضطر القارئ إلى الانتظار، فإلى اللقاء يا صديقي المازني، فقد أتأثر بأسلوبك، وقد أدور كما تدور في الأسبوع المقبل — إنْ شاء الله — حول كتاب من النثر أو ديوان من الشعر، أما الآن فإني أهدي إليك التحية الصادقة، وأودعك لألقى «الملاح التائه».

•••

وأنا مشوق جدًّا إلى لقاء الملاح التائه، فلم أكن أعرفه قبل أمس، ولست أدري ألقيته أم لم ألقه، فما أكثر من ألقى من الناس، ساعة من نهار أو ساعة من ليل، ثم نفترق فكأني لم أعرفه، لم أكن أعرف الملاح التائه لا من قرب ولا من بعد، فقد كنت أسمع اسمه، وكان يقال لي إنه مهندس، يقرض الشعر، وكنت أحب ذلك وأرضى عنه؛ لأني أحب أنْ يُعنى العلماء بالأدب والفن، وأنْ يفرغوا لهما من حينٍ إلى حين، ويستريحوا إليهما من عناء الحياة وجهد العلم، وكنت إذا سمعت الناس يُعْجَبُون بهذا المهندس الشاعر، وسمعتهم يعجبون بشاعرٍ آخر طبيب ألقاه من حينٍ إلى حين، أبتسم في نفسي وأحس شيئًا من الرضا؛ لأني أرى العلماء مقبلون على الأدب، فيسبقون فيه الأدباء الخالصين إلى حدٍّ بعيد، ويجمعون لأنفسهم تفوقًا في الأدب، وتفوقًا فيما يعالجون من علمٍ أو فن، على حين لا يستطيع الأدباء أنْ ينهضوا بأدبهم إلا متعثرين، ولكني على ذلك كله أعترف، ويا له من اعتراف مؤلم بأني لم أقرأ لهذا المهندس الشاعر قبل أنْ يصل إليَّ ديوانه قليلًا ولا كثيرًا، فكنت إذن أجهله جهلًا تامًّا، أجهل شخصه، وما زلت أجهله إلى الآن، وأجهل فنه، ولكني بدأت أعرفه منذ أمس، وأنا سعيد بهذه المعرفة كل السعادة، مغتبط بها أحسن الاغتباط؛ لأنها أرضت نواحي من نفسي كانت في حاجةٍ إلى أنْ ترضى، ولأنها أسخطت نواحي من نفسي كانت في حاجةٍ إلى أنْ تسخط، وأنا أريد أنْ أكون صريحًا، فقد سبق العهد مني بذلك، فلو أني قلت لمهندسنا الشاعر أو لشاعرنا المهندس: إنَّ معرفته أرضتني من كل وجهٍ لكذبت عليه، ولو أني قلت له: إنَّ معرفته أسخطتني من كل وجهٍ لكذبت عليه أيضًا، ولكني عرفته فرضيت، وسخطت، وأنا سعيد بهذه المعرفة التي أتاحت لي هذا المزاج الذي أحبه من الرضا والسخط.

فأما أنَّ معرفتي لشاعرنا المهندس قد أرضتني فلأن شخصيته الفنية محببة إليَّ حقًّا، فيها عناصر تعجبني كل الإعجاب وتكاد تفتنني وتستهويني، فيها خفة الروح، وعذوبة النفس، وفيها هذه الحيرة العميقة، الطويلة العريضة، التي لا حد لها، كأنها محيط لم يوجد على الأرض، هذه الحيرة التي تصور الشاعر ملاحًا تائهًا حقًّا، والتي تقذفه من شكٍّ إلى شك، ومن وهمٍ إلى وهم، ومن خيالٍ إلى خيال، والتي لا تستقر به على حقيقةٍ حتى تزعجه عنها إزعاجًا وتدفعه عنها دفعًا، وتقذف به إلى حقيقةٍ أخرى لا يكاد يدنو منها ويتبينها بعض الشيء حتى يراها أشد هولًا وأعظم نكرًا، وإذا هو يهرب منها ويجد في الهرب، وإذا هو يلتمس جبلًا يعصمه من الماء في هذا البحر الطاغي فلا يجده؛ أو قل لأنه لا يكاد يجده ويستقر عليه مستريحًا بعض الشيء مما احتمل من عناء وتكلف من جهد، حتى يبلغ الماء قمته، ويوشك أنْ يغمره كله، وإذا صاحبنا مفلت هارب يلتمس جبلًا آخر، ولولا أنَّ له جناحين قويين يطير بهما فيبعد في الطيران، ويرتفع بهما فيمعن في الارتفاع، لغمره البحر واحتواه الماء، ولانتهى إلى قرارٍ من الظلمة والهلكة لم يصل إليه الشعراء بعد.

لقد صحبت الملاح التائه في قصيدة سماها «الله والشاعر»، فأحسست كل هذا الذي صورته لك آنفًا، ورأيت رجلًا لا هو بالشاك المطمئن إلى الشك، ولا هو بالمستيقن المطمئن إلى اليقين، ولا هو بالمنكر المستريح إلى الإنكار، وإنما هو رجل مضطرب حقًّا، مضطرب أشد الاضطراب، يؤمن بالقضاء والقدر، ثم يثور بالقضاء والقدر، يرضى أحكام الله ثم يجادل فيها، يشكو ثم يستسلم، ويستسلم ثم يشكو، رجل حائر دائر هائم لا يستطيع أنْ يستقر، وأكبر ظني أنه لو استقر لكان أشقى الناس، فهو سعيد بحيرته، مغتبطٌ بهيامه، مبتهج بهذا التيه الذي دفعته إليه نفس طموح جدًّا؛ لأنها نفس شاعر، عاجزة جدًّا؛ لأنها نفس إنسان.

لست أنسى أني ذهبت في بعض أيام الصيف مع جماعة من الأصدقاء نستريح في مدينة «فونتنبلو»، وكان بين هؤلاء الأصدقاء رجل أحب شيء إليه أنْ يخرج للنزهة، فيمضي في غير طريق ويسعى على غير هدى، وكان إذا خرجنا معه إلى الغابة لم نلبث أنْ نسمع منه هذه الجملة: «هلمَّ نضل في الغابة ساعات.» وكان سعيدًا كل السعادة حين يضل، ولكن غابة فونتنبلو على سعتها واختلاطها محدودة لا يلبث الضال فيها أنْ يهتدي، أما الغابة التي يألفها شاعرنا المهندس فليست محدودة؛ لأنها ليست في الأرض ولا في السماء، وإنما هي في الكون، أو هي الكون الذي هو أكبر من الأرض والسماء، فإذا ضل فيها شاعرنا فليس إلى أنْ يهتدي من سبيل، والواقع أن لم يهتدِ، وأنه إنْ مضى على حاله هذه فلن يهتدي أبدًا، وأكبر الظن أنه يحسن الإحسان كله إذا وضع في هذه الصحراء التي يهيم فيها، أو في هذه الغابة التي يضل فيها، أعلامًا يهتدي بها في الظلمات، وأكبر الظن أنه يجد هذه الأعلام لو تعمق في قراءة الفلسفة وفي قراءة طائفة من الفلاسفة بنوعٍ خاص، وليس عيبًا على الشاعر أنْ يقرأ ولا أنْ يكثر القراءة، وإنما يعيب الشاعر ألا يقرأ أو ألا يقرأ إلا قليلًا.

ولعل شاعرنا المهندس إذا قرأ وأكثر القراءة حمى شعره من بعض ما قد يعاب به، فشاعرنا يلتقي في بعض الطريق مع جماعة من الشعراء والفلاسفة، وأكبر الظن أنه يلقاهم مصادفة، ولعله أنْ يكون قد قرأ لبعضهم شيئًا، ولكن المحقق أنه لا يسعى إليهم، ولا يعتدي عليهم، فلو أنه قرأ وأكثر القراءة ونظمها، وقيد ما يستخلصه منها، لظهر في شعره ما يدل على أنه قد سعى أو لم يسعَ إلى هذا الفيلسوف أو ذاك، ولما استطاع أحد أنْ يظن به السعي أو الاعتداء.

ومن الكُتَّاب من يقول: إنَّ شاعرنا تأثر بأبي العلاء ثم يضيق بهذا التأثر، ولست أدري أتأثر شاعرنا بأبي العلاء حقًّا، أم تأثر ببيرون، أم تأثر بهما جميعًا وبقومٍ آخرين غيرهما، أم لم يتأثر بأحد، وإنما لقي من لقي من الشعراء والفلاسفة مصادفة وعلى غير قصدٍ ولا عمد، وأحس أنا في قصيدة أخرى سماها «غرفة الشاعر» روحًا «لموسييه»، ولكني لا أدري أهو روح الذي قرأ فتأثر أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا، فلقي موسييه في هذا كله أو في بعضه، ولست أتردد في الرضا عن هذه القصيدة والحب لها والإعجاب بها، ولست أكره أنْ تشاركني في هذا الرضا، وأنْ تشاطرني هذا الحب والإعجاب، فاقرأ معي هذه القصيدة وقف معي عند بعض أبياتها وقفات قصارًا:

أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ
ـل وما زلت غارقًا في شجونك
مسلمًا رأسك الحزين إلى الفكـ
ـر وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى
في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا
سك يطغى على ضعيف أنينك

•••

لست تصغى لقاصف الرعد في الليـ
ـل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشي خلال غرفتك الصمـ
ـت ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشا
حب يهفو عليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذا
بل تبكي الحياة في الأرماق

•••

أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض
وحطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليـ
ـل وما زلت سادرًا في مكانك
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأ
سى لتلك الدموع في أجفانك
ما وراء السهاد في ليلك الدا
جي وهلا فرغت من أحزانك

•••

فقم الآن من مكانك واغنم
في الكرى غطة الخلى الطروب
والتمس في الفراش دفئًا ينسيـ
ـك نهار الأسى وليل الخطوب
لست تُجزى من الحياة بما حمـ
ـلت فيها من الضنى والشحوب
إنها للمجون والختل والزيـ
ـف وليست للشاعر الموهوب

هذه الصور المتتابعة المختلفة حسان كلها، ولكنها بعيدة إلى حدٍّ ما عن المألوف من حياة شعرائنا الشرقيين، إلا أنْ يكونوا مترفين قد ألفوا حياة الغرب، وكلفوا بالسهاد في غرفةٍ يضطرب فيها نور ضئيل شاحب، وتفنى فيها بقايا الجذوة في الموقد، وكل هذا يألفه الغربيون، وهو يذكر بموسييه تذكيرًا قويًّا، وبعض الناس يعيب شاعرنا «بتغريب» الشعر، أما أنا فأحمد له هذا النوع، وأراه تشريفًا للشعر العربي، ورياضة للذوق الشرقي واللغة العربية على أنْ يسيغا ما لم يتعودا أنْ يسيغاه من قبل، وإذا كان لي أنْ آخذ الشاعر بشيءٍ فهو ما قدمته من أنَّ الأمر يختلط في شعره على القارئ، فلا يدري ألقي زملاءه الغربيين والشرقيين مصادفة أم عن تعمدٍ وسعي.

وواضح جدًّا أني لا أريد ولا أستطيع أنْ أقول لشاعرنا كل ما يعجبني، أو كل ما يغضبني من شعره، فذلك أطول مما تسعه هذه الصحيفة، ولكني قلت له بعض ما يعجبني، وقليلًا مما يسوءني، وأريد أنْ أضيف إلى ما يعجبني في شعره، أنه حلو الأسلوب جزل اللفظ، جيد اختيار الكلام، وأنَّ لألفاظه ومعانيه رونقًا أخاذًا تألفه النفس وتكلف به وتستزيد منه، وأنَّ في شعره موسيقى، قلما نظفر بها في شعر كثير من شعرائنا المحدثين، وأنه قد استطاع أنْ يلائم، إلى حدٍّ بعيد، لا بين جمال اللفظ وجمال المعنى فحسب، بل بين التجديد والاحتفاظ باللغة في جمالها وروائها وبهجتها وجزالتها، كل ذلك ظاهر في أكثر ديوانه لا أكاد أستثني منه إلا هذه القصائد التي قيلت في المناسبات العامة، ولم يوحها الشعور الطبيعي لنفس الشاعر، فشاعرنا ترجمان الطبيعة، وترجمان الإنسان إذا اتصل بالطبيعة وضل في فيافيها أو فتن بجمالها، ولكنه ليس شاعر الجماعات ولا ترجمانها، شاعرنا مغنٍّ، شخصيته أقوى من بيئته، وليس قصاصًا بيئته أقوى من شخصيته، وأظنه يسمح لي الآن أنْ أغاضبه بعض الشيء وأنْ أغاضبه في غير رفقٍ ولا لين، فهو حريص على الموسيقى، وهذا واجب عليه وأداؤه مشكور له، ولكنه يحرص على الموسيقى في الوزن أكثر مما يحرص عليها في القافية، وأظنه يسيء في القافية كثيرًا، وليس يعنيني أنْ يجد له عذرًا عند أصحاب القوافي، أو لا يجد، ولكن الذي يعنيني أنَّ القوافي يجب أنْ تلائم السمع، وما أظن أنَّ هاتين القافيتين تأتلفان لمكان الواو الساكنة من إحداهما، والباء الساكنة من الأخرى، وانظر إلى هذين البيتين:

روحك في روحي تبث الحياه
نزلت دنياي على نورها
فإن جفاها ذات يوم سناه
لاذت بليل الموت في قبرها

وأخرى ألوم عليها الشاعر لومًا غير رفيق، وهي تقصيره في ذات النحو أحيانًا، وفي ذات اللغة أحيانًا أخرى، ولن يعدم الشاعر من يعتذر له بمذهب من مذاهب النحو، أو بشاهد من الشواهد الشاذة، ولكني أكره للشعراء المجيدين أنْ يحتاجوا إلى مثل هذا الاعتذار، وانظر إلى قوله:

إنْ كنت في شكواي بالمذنب
فمنك يا رب أخذت الأمان

فالباء في خبر «كان» التي لم يسبقها نفي غريبة نابية ثقيلة على الأذن، ولأسأل الشاعر بين قوسين: متى وكيف وأين أخذ الأمان من ربه؟

وانظر إلى قوله:

يعرق حد السيف من لحمه

فالذي أعرفه أنَّ العظم هو الذي يعرق إذا ما أخذ ما عليه من اللحم، فأما اللحم فإنما يشق أو يقطع أو يمزق، أو ما شئت من هذه الأفعال التي تلائمك، ومثل هذا التقصير في موسيقى القافية وفي النحو واللغة كثير، لا أحب أنْ أقف عنده فأطيل الوقوف؛ لأني لا أريد أنْ أكون شريرًا، وإنما أكتفي بلفت الشاعر إليه ليصلحه في الطبعة الثانية، وليتقي مثله فيما يستأنف من الشعر.

وأحب بعد هذا كله أنْ أخاصم الشاعر في بعض مذهبه في الشعر، فهو يغلو في الخيال أحيانًا حتى يجاوز المألوف، ويتورط تورطًا فاحشًا فيما عاب النقاد به أبا تمام.

فهو يجسم ما لا سبيل إلى تجسيمه، وليس بذلك بأس إذا لم يسرف فيه الشعراء وإنما ألموا به إلمامًا، أما شاعرنا فيغلو فيه غلوًّا فاحشًا، وما رأيك فيمن جسم الليل حتى جعل له أوصالًا وعروقًا وأجرى في هذه العروق دمًا، وليت شعري كيف يكون دم الليل، أجامد هو أم سائل، أناصع هو أم قاتم، أخفيف هو أم ثقيل! وليت شعري كيف تكون حال الليل إنْ سفك سافك دمه: أيموت أم يتجدد له الدم فتتجدد له الحياة، وليت شعري كيف تكون أوصال الليل، ومن المحقق أنَّ هذه الأوصال والعروق تستتبع لحمًا وعظمًا وجلدًا وما يتصل بهذا كله، أليس يوافقني الشاعر على أنَّ هذا كثير، وعلى أنَّ هذه القطعة التي جسم فيها الليل قد شوَّهت هذه القصيدة الجميلة التي سماها «ميلاد شاعر»؟ بلى، وأحسبه سيلغيها في الطبعة الثانية، وأنا أحب أنْ يمضي فيما أتقن من الوصف والتصوير، ولكن كما تعود أنْ يصف ويصور، وفي رشاقة وخفة لا في تثاقل وإلحاح.

وأريد بعد هذه الملاحظات السريعة أنْ أثني على الشاعر أجمل الثناء، وأنْ أقول له رأيي في صراحة لا سبيل فيها للغموض والالتواء، فهو شاعر مجيد حقًّا، ولكنه ما زال مبتدئًا، وهو شاعر مجيد حقًّا، ولكنه في حاجةٍ إلى العناية باللغة وأصولها وتعرف أسرارها ودقائقها، فلا ينبغي للشعراء الذين يستحقون هذا الاسم أنْ يكون علمهم باللغة يسيرًا محدودًا، وأنا واثق بأن شاعرنا إنْ عُني بلغته ونحوه وقافيته وتوخى ما ألف من خفة التصوير ورشاقته ودقته، فسيكون له شأن في تاريخ الشعر العربي الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤