الفصل السابع والعشرون

في النظم: أنفاس محترقة لمحمود أبي الوفا

يراه صديقنا فؤاد صروف وجماعة غيره من المثقفين شعرًا، وأنا آسف أشد الأسف؛ لأني لا أراه إلا نظمًا، وآسف أشد الأسف أيضًا؛ لأني مضطر إلى أنْ أقول ذلك وأعلنه إلى قراء هذا الحديث، ولو أرسلت نفسي على سجيتها لآثرت ألا أعرض لهذا الديوان، ولكن ماذا أصنع وللنقد علينا حقوقه وتكاليفه الثقال، وللقراء علينا أنْ نصدقهم حين نتحدث إليهم فيما ينشر عليهم من أنواع الكلام، والله يعلم أني أوثر الرفق على العنف، واللين على الشدة، ولكن الله يعلم أيضًا أني لا أتردد في الشدة والعنف حين يدعو إليهما الحق، ويقتضيهما الإنصاف.

وإني لأشعر بشيءٍ من الحزن العميق حين ألاحظ أنا كنا منذ أعوام نقسو على حافظ وشوقي — رحمهما الله — نجادلهما فيما كانا يقولان أشد الجدال، وننازعهما فيه أشد النزاع، لا نكاد نسلم لهما بالإجادة ولا نعترف لهما بالإتقان، ولم نكن في ذلك مسرفين ولا مخطئين، وإنما كنا نؤدي للمثل الفني الأعلى حقه، ولا نكتفي من شعرائنا بما كانوا يكتفون به، ولا نرضى لهم أنْ يُفسد عليهم أمرهم العُجْب، ويحملهم الغرور على التقصير أو القصور، كنا كذلك منذ أعوام، أما الآن فقد أصبح الرضا يسيرًا، وأصبح كل كلام منظوم شعرًا، وكل كلام مرسل نثرًا، وكل شيء مطبوع في مجلد أو سفر من الأسفار أدبًا، وأصبح الجدال في ذلك أو الإنكار له إثمًا من الآثام، وذنبًا من الذنوب العظام، يوصف بالحسد حينًا وبالمنافسة حينًا آخر، وبالقسوة والغلو حين يحسن بك الظن، ويصدق فيك الرأي، وترتفع عند الأدباء عن مظان الريب والشكوك.

وكنا خليقين أنْ يكون تشددنا مع الشعراء والكُتَّاب في هذه الأيام أكثر منه في الأعوام الماضية، فالمفروض أننا نتقدم ولا نتأخر، وأننا نرقى ولا نهبط، وأنَّ المثل الأعلى في كل شيء، يرقى ويعظم ويبعد بمقدار ما يعظم حظ الناس من الحضارة والرقي، ولا بدَّ من أنْ نلتمس العلة لهذا الضعف الذي أصاب الذوق الفني حتى أفسده، أو كاد يفسده إفسادًا تامًّا، وقد ذكرت في غير هذا الفصل شيئًا من الأسباب التي دفعتنا إلى هذا الضعف، وقلت: إنا قد أهملنا النقد إهمالًا، وأعرضنا عنه إعراضًا، فنشأ جيل من الأدباء، يكتبون وينظمون ولا يشعرون بمراقبة النقد، فيخيل إليهم أنهم يجيدون، ثم ينتهي الأمر بهم إلى شيءٍ من الغرور البغيض.

ولكن هناك علة أخرى لهذا الضعف لم يبقَ من الممكن أنْ نهملها، أو نعرض عنها؛ لأنها شديدة الخطر حقًّا على الفن والذوق والخلق جميعًا، وهي حرص السياسة على استغلال الأدب والأدباء، ومن الأشياء التي لا تقبل الشك، وإنْ كنت أكره أشد الكره أنْ أعرض لها أو أطيل فيها، أنَّ هذا العهد السياسي الذي نعيش فيه قد أحس أنَّ الأدب المعروف والأدباء المعروفين لا يميلون إليه، ولا يرضون لأدبهم أنْ يكون له صورة ومرآة، وأراد مع ذلك أنْ يكون له أدب وأدباء، وأنْ يكون له شعر وشعراء، فجد في ذلك وأنفق جهدًا غير قليل، وإذا ميول تظهر، وأهواء تلتقي، وأنباء تذاع في الصحف وجماعات تؤلف، وأندية تنظم، ومحاضرات تلقى، وأصوات كثيرة ترتفع، وما كانت تسمع من قبل، وإذا أدب جديد، أو أدب يوصف بأنه جديد، قد أخذ يدنو من الناس ويتقرب إليهم، ويتملقهم بألوان من أسباب الملق، فيبلغ من بعضهم ما يريد، ويعجز عن أنْ يبلغ من أكثرهم شيئًا، ولولا هذه الظاهرة لظل كثير من الناس الذين يسمون أنفسهم أدباء أو شعراء، مشغولين بما كان يشغلهم قبل هذه المحنة السياسية من فنون الجد والهزل، وألوان الاضطراب في كسب الحياة، وأنا أعترف بأني لا أعرف أبا الوفا، ولست أذكر أرأيته قبل اليوم أم لم أره، ولست أذكر أني قرأت له شعرًا قبل اليوم، ولعلي سمعت من نظمه البيت أو البيتين، فلم أقف عند ما سمعت ولم أفكر فيه، ثم ثارت منذ حين ثائرة عن شاعر مجدد يسمى أبا الوفا، له أصدقاء يحبونه ويعطفون عليه، وله قوم آخرون يكبرون ويعجبون به، وأخذت الصحف تنشر من أنباء أولئك وهؤلاء شيئًا كثيرًا، كنت أسمع به وأقف عند بعضه حائرًا حينًا، ومنكرًا حينًا آخر، ثم يعظم الأمر ويتسع حتى يصل إلى رياسة مجلس الوزراء، وإذا صدقي باشا يرقى إلى الأدب، أو الأدب يهبط إلى صدقي باشا، ثم نسمع أنَّ أبا الوفا قد سافر إلى باريس ليلقى الأطباء، فلا ننكر من ذلك شيئًا، ولكنا ننكر هذه الضجة المتكلفة التي ثارت حول هذه الرحلة للاستشفاء في باريس.

ثم أدع هذا كله فيما كنت أدع من أمور الأدب الحديث والأدباء المحدثين، حتى إذا عدت إلى التفكير في هذا الأدب، وفي هؤلاء الأدباء رأيت بين يديَّ دواوين كثيرة، منها هذا الديوان الصغير الذي يسمى بالأنفاس المحترقة، فأنكر العنوان، ولا أسيغه، ولا أفهم ما يراد به إليه؛ فأنفاس الناس كلها محترقة، وأنفاس الحيوان كذلك، فلو قد سمى الناظم ديوانه الأنفاس ليس غير، لكان في هذا الاسم ما يغني، ولعله أراد أنْ يقول الأنفاس المحرقة، فأخطأ الوصف، على أني لم أطل الوقوف عند العنوان، وإنما أخذت أنظر في الديوان، فإذا مقدمة لصديقنا فؤاد صروف، أعجبني أولها، وأدهشني آخرها، أولها كلام في الشعر مستقيم وإنْ كان الخلاف في بعضه كثيرًا شديدًا متصلًا، وإنْ كان مذهب الأستاذ صروف فيه محتاجًا إلى كثيرٍ من التحقيق والتدقيق.

فليس من الحق فيما أظن أنَّ تحكيم العقل في الشعر يفسده، ولعل جماعة من كبراء الشعراء الفرنسيين وغير الفرنسيين، لا يقبلون الشعر إلا إذا سيطر عليه العقل، وأخضعه لسلطانه المنظم ومنطقه المستقيم، وليس من الحق فيما أظن أنَّ إرسال النفس على سجيتها يصلح أمر الشعر الحديث في الأمم المتحضرة التي لا ترى الشعر ضرورة من ضرورات الحياة العادية، وإنما تراه لونًا من ألوان الترف العقلي والشعوري، ولكن الغريب من أمر صديقنا صروف أنه ينتهي من مقدمته إلى هذه النتيجة، وهي أنَّ صاحب الديوان شاعر من غير شك، وأنَّ شعره خليق بالإذاعة والبقاء، وأنا آسف أشد الأسف لا لأني لا أرى رأي الأستاذ ولا أقره عليه؛ بل لأني أعتب على الأستاذ أنْ يقضي في أمر الشعر والأدب كما يقضي في أمر الطبيعة والرياضة والكيمياء، ولست أتردد مهما أكن قاسيًا عند كثيرٍ من القراء في أنْ أعلن أنَّ صاحب الديوان لا يستطيع أنْ يرقى بديوانه هذا إلى منزلة الشعراء، ولا أنْ يجلس معهم على مائدة «أبُلون»، فالأمد بينه وبين ذلك بعيد إلى أقصى غايات البعد، والأدباء أحرار في أنْ يرفعوا صاحب هذا الديوان إلى حيث يريدون من منازل الشعر، يتأثرون في ذلك بما يريدون، فهذا لن يغير من الحقيقة الواقعة شيئًا، وهو أنَّ هذا الديوان يخلو من الشعر خلوًّا تامًّا، بل أنا أذهب إلى أبعد من ذلك، ولا أكره هذه القسوة، وسيكرهها كثير من القراء، فأزعم أنَّ هذا الديوان على خلوه من الشعر، لا يخلو من سوء النظم وفساده واضطرابه الذي لا يطاق، ولولا أنَّ الظروف السياسية التي أشرت إليها قد حملت جماعة من الناس على أنْ يشيدوا بأمر صاحب الديوان، ويسرفوا في ذلك إسرافًا شديدًا، لما استطاع كلام كهذا الكلام أنْ يوصف بالشعر، أو أنْ يرقى إلى مرتبة الكلام الذي يوصف بجودة النظم، واستقامة الوزن، وحسن الانسجام، فأنت تستطيع أنْ تقرأ الديوان من أوله إلى آخره، دون أنْ تظفر فيه ببيتٍ واحد، فضلًا عن مقطوعة، فضلًا عن قصيدة، يثير في نفسك هذا الرضا الذي يثيره الشعر العالي، أو يبعث في نفسك هذه اللذة التي يبعثها الفن الجميل، إنما هي معانٍ بعضها مبتذل أشد الابتذال، وبعضها مألوف لا جمال فيه، وبعضها مأخوذ من الشعراء المتقدمين والمعاصرين أخذًا بريئًا من الاحتياط، وبعضها فيه استهتار وتكلف للمجون، الذي لا يلائم الذوق الأدبي الممتاز في هذا العصر الذي نعيش فيه، يريد الشاعر أنْ يكون حائرًا؛ لأن من الشعراء من تملك الحيرة أمره، فيتكلف في الحيرة كلامًا لا يغني ولا يدل على شيء، فانظر إليه كيف يقول في هذه القصيدة:

والليل كم فيه سر
يدمي فؤاد الصريح
كأنما الليل قس
يغري بسود المسوح
واهًا وواهًا لقلبي
واهًا له من جريح
لم يَدْرِ سهمًا رماه
أتاه من أي ريح

ولست أدري أنا كيف يكون تخريج هذا البيت عند النحويين، كما أني لست أدري أين الشعر في السهم الذي يأتي من أي ريح؟!

يا طير من أي دَوح
أنا وفي أي دُوح

ولاحظ الدوح بفتح الدال، والدوح بضمها في بيتٍ واحد لا لشيءٍ إلا لتستقيم القافية.

الأرض لم يبق فيها
من موطن للصريح
من لم يغنِّ لموسى
غنى لعيسى المسيح

وهذا المعنى كما يعرف الناس جميعًا علائي، قد كثرت نسبته إلى صاحبه أبي العلاء حتى تحدثت به العامة على قلة عنايتها بالأدب والأدباء:

يا روح من أين جئت
من حيثما جئت روحي

وقِفْ من هذا البيت، فسترى فيه فساد النظم صارخًا حقًّا، فلا بدَّ من أنْ تمد كسرة التاء في «جئت»، حتى تجعلها ياء ليستقيم وزن الشطر الأول، ثم انظر إلى ابتذال اللفظ وسخفه وانحرافه عن الصواب في قوله: «من حيثما جئت روحي.» هذا هو الكلام الفارغ حقًّا.

سر الحياة أليم
بُوحِي به واستريحي

ولكن روحه لم تبح بهذا السر الأليم ليستريح، فإن كان هذا السر هو ما تحدث به الناظم في قصيدته كلها فهو سر معروف، قد اؤتمن عليه أكثر من اثنين.

وأراد الناظم أنْ يتحدث عن الإيمان فلم يقل شيئًا، فانظر إلى هذه القصيدة أو المنظومة التي يعجب بها الأستاذ فؤاد صروف، والظريف أنَّ الناظم أراد أنْ يكون كالأستاذ العقاد — وما الذي يمنعه من ذلك؟! — فقدَّم بين يدي منظومته تلخيصًا للفكرة التي نظمها يحسبه واضحًا، وهو غامض أشد الغموض، فهو لا يرى أنَّ الإيمان نقيض الكفر، وإنما يرى أنَّ الإيمان مرادف الحياة، فكل حي مؤمن سواء أكان كافرًا أم مؤمنًا، وعلى ذلك فآدم لم يقترف خطيئة ولا إثمًا حين عصى الله، وأكل من الشجرة، وإنما رغب في الحياة الحرة المستقلة، فإذا كنت قد فهمت من هذا شيئًا، فأنت رجل عظيم الحظ من الذكاء حقًّا، أما أنا فلا أفهم من هذا الكلام إلا أنه ضروب من اللغو، يريد صاحبه أنْ يزعم لنفسه فنًّا من فنون الفلسفة، فيه خروج على ما ألف الناس من أحكام الدين، وأعوذ بالله من أنْ أدخل فيما بين الرجل وبين ربه، فأنا لا أبيح ذلك لأحد، وإنما ألاحظ أنَّ حب الامتياز قد يدفع الناس إلى سخفٍ كبير، وانظر إلى المنظومة نفسها، فهي آية من آيات الفلسفة التي لا تمتاز بشيءٍ كما تمتاز بالفراغ والقدرة على إحراج الصدور:

قوة لم تتح لقلب جبان
تلك في المرء قوة الإيمان
تتجلى في جميع قوى الكو
ن شيوع الأرواح في الأبدان
لكأني أرى الحياة وإيا
ها سميين أو هما توءمان
أول المؤمنين بالله حقًّا
هو في الأرض كان أول بان
يا ضياء الحياة بوركت فيها
بل تباركت يا يد العمران

إلى أنْ يقول:

ليت شعري ماذا أراد بنا الخا
لق إلا سيادة الأكوان

•••

رب فيم ابتعثت رسلًا ولو شئـ
ـت لأغنت إرادة الإنسان
أفصح الحسن مستهلًا فما حا
جة هذا الجمال للترجمان
لا أرى آدمًا عصى الله لكن
شاء أنْ يستقل بالسلطان
يكره الحر أنْ يعيش على السجـ
ـن ولو كان سجنه في الجنان

أرأيت! أراد آدم أنْ يكون مستقلًّا بالسلطان لا يخضع لأمر الله، ولا يذعن لإرادته، وهو حين أراد ذلك لم يعصِ الله، ولم يخرج عن أمره، وإنما أراد أنْ يكون له شريكًا وندًّا ليس غير، وأكبر الظن أنَّ الناظم قد اختلط عليه آدم وإبليس، أو أنه لم يختلط عليه شيء، وإنما عقد الأمور على نفسه تعقيدًا، وزج بنفسه في مشكلات لم يخلق لها ولم تخلق له.

وتستطيع أنْ تقرأ «ضحية العيد»، وأنْ تقرأ حديث الناظم إلى ﭬيكتور هوجو، فليس المهم أنْ يفهم ﭬيكتور هوجو، أو أنْ يفهمه هذا الشاعر الفرنسي، وإنما المهم أنَّ لﭬيكتور هوجو كتابًا يقال له البؤساء، وأنَّ بعض هذا الكتاب قد ترجم إلى العربية، وعرف صاحبنا أنه ترجم، وصاحبنا بائس فهو يتحدث إلى صاحب البؤساء، وهو يتحدث إليه حديثًا لا يستطيع أنْ يرقى إليه؛ لأنه خالٍ من الشعر كل الخلو، والغريب الذي لا أستطيع أنْ أفهمه، ولا أنْ أسيغه، ولا أنْ أعوِّد نفسي على أنْ تطمئن إليه، أنَّ بين المثقفين قومًا يقرءون هذا الكلام ويذيعونه في الناس على أنه شعر، ويشجعون الشباب على أنْ يذهبوا مذهب صاحبه، ويتأثروا خطواته فيما ينظمون.

ولست أريد أنْ أطيل عليك بالتحليل والتعليل، ولا بالنقد والملاحظة، فكل الديوان يشبه هذا الكلام، أو هو أقل منه حظًّا من الجودة، ولكن لا بدَّ من أنْ أقف بك عند أشياء لا ينبغي أنْ تمر دون أنْ تعرض عليك.

فانظر إلى قصيدته — أستغفر الله — إلى منظومته التي سماها «مجمع الأصفياء» ولست أريد أنْ أفسرها فهي تفسر نفسها، ولا أنْ أنقدها فهي تنقد نفسها، وإنما أرويها لك لتضحك ليس غير:

هذا هو المجلس لا تذكروا
شبيهه في الصفو لا تذكروا
رأيت فيه كيف أضحت لنا
حقيقة مرئية عبقر
كان زكي باشا إلى جنبه
زعيم سوريا الحر شهبندر
وكان هراوي الرقيق الدقيق
واللغوي صادق عنبر
ويوسف الآثار عنوانها
الألمعي العالم الأكبر
والعالم الدكتور عيسى الذي
ينم عنه المعجم المثمر
والعلم المفرد في عصره
خطاط مصر السيد الأشهر

•••

عباقر الفصحى وأحلامها
والأعين اللاتي بها تبصر
انتظم الصفو بهم معشرًا
من خير ما ازدان به معشر
في مجلس يجري به صفوه
كما جرى في الجنة الكوثر
يتابع الضحك به بعضه
كالموج ذي تطوى وذي تنشر
فنكتة في ضحكة تختفي
وضحكة في نكتة تظهر
يرسلها صاحبها لفظة
كأنها من فمه السكر
يا من رأى من قصفنا وصفه
فظننا كنا به نسكر
لا تأثمن في عصبة عمرها
لم يستخف حلمها مسكر
والله في ليلتهم ما احتسوا
إثمًا ولا طاف بهم منكر
نوع من اللهو البريء الذي
يروى عن الأملاك أو يؤثر
يمر ذكر منه في خاطري
فأنثني في حلم أخطر
وينثني للجو مثل الشذى
لهذه الذكرى التي أذكر
يا دار «كيلاني» التي أشرقت
وضوأت من أوجها الأقمر
لله هذا الضوء من مظهر
لولاك ما كان له مظهر

أرأيت إلى هذا النظم البديع، وأيهما أقرب إلى الإجادة: هذا الكلام أم منظومات النحو والفقه والعروض؟!

وانظر إلى منظومة أخرى سماها «القبلة»، ولست أريد أنْ أرويها لك، فأنا أرقى بهذا الحديث عن رواية هذا الكلام الذي هو مجون الشوارع أدنى منه إلى الأدب الرفيع، وماذا يعني الناس من أنَّ الناظم يحسن التقبيل، ومن أنه يمنح القبل الطوال والقصار، والقبل الصامتة وذات الصوت، وأين الروحية التي يتلمسها الأستاذ فؤاد صروف في هذا المجون!

أما الأغلاط النحوية والصرفية والأغلاط التي تتصل بالوزن وإقامة النظم فأكثر من أنْ تحصى، وأنا أعطيك منها أو من بعضها أمثلة تدل على سائرها؛ لأني لا أحب أنْ يضيع وقتك ووقتي في مثل هذا الإحصاء، فانظر إلى قوله:

هذي جوانح صب
في حبكم مستهام
نسجتها مروحة
لما براها الغرام

وأظنك توافقني على أنَّ الشطر الأول من البيت الثاني يخالف سائر البيتين في الوزن، وانظر إلى قوله:

هيِّئي لي جوًّا إذا ما طلعتُ
لم أجد في سمائه إلاك

ودع هذا الذوق الذي يبيح له أنْ يطلب إلى صاحبته أنْ تهيئ له جو الحب، وقف عند هذه الضمة التي يجب أنْ تمتد حتى تصير واوًا ليستقيم الشطر الأول من هذا البيت.

وانظر إلى قوله:

أنا منك وأنت مني روحًا
فإني إليَّ روحي فداك

فلا بدَّ من أنْ تمتد كسرة الكاف في «منك» حتى تصبح ياء ليستقيم وزن الشطر الأول، ولا بدَّ من أنْ تمتد فتحة الياء من «إليَّ» الأولى ليستقيم وزن الشطر الثاني.

والغريب أنَّ الناظم قد تعلم النحو والعروض في الأزهر.

أما الأغلاط النحوية، فانظر إلى منظومته التي يشكر بها إخوانه، وإلى هذه الأبيات الثلاثة التي تبتدئ بهذه الجملة «كي أري الناس» يريد كي أري الناس بفتحة على الياء؛ لأن الفعل ينصب بعد «كي» فيما أظن.

وللناظم ذوق فني لا نظير له بين الأذواق، يكفي أنْ تجده وتعجب به في هذا البيت:

إذا تحدث سال الظرف من فمه
وإنْ يحدَّث تراه مطرق الرأس

ومن الناس من يتحدثون فيسيل الظرف من أفواههم، ومنهم من يتحدثون فيسيل اللعاب من أفواههم، وقوم آخرون يتحدثون فيسيل الشهد من أفواههم، وكل هذا شعر في هذه الأيام!

وانظر إلى هذا البيت الظريف:

لغة البلابل أين تذ
هب بين هدهدة الهداهد

فإذا لم تعجبك هذه الهاءات والدالات، فالتمس لنفسك ذوقًا حيث شئت.

أراني قد أطلت وأسرفت في الإطالة، ولكني لا آسف على ذلك، فقد يجب أنْ يعنى الأدباء بأدبهم أكثر من هذه العناية التي أظهروها إلى الآن، وقد يجب أنْ يغلق الأدباء أبواب الشعر، ويقطعوا أسبابه على الذين لا ينبغي لهم أنْ يلجوا من هذه الأبواب ويتصلوا بهذه الأسباب، فقد يقال: إنَّ مصر تدعي لنفسها زعامة الأدب العربي في الشرق، وهذا الادعاء يفرض على مصر واجبات، أولها أنْ تكون حذرة دقيقة متحرجة، ترتفع بالأدب وبالشعر خاصة عن الإسفاف والابتذال، وإلا فهي ضحكة الشرق العربي كله.

وبعد، فللناظم ديوان آخر تفضل بإهدائه إليَّ وهو الأعشاب، ولم أقرأ هذا الديوان بعد، وسأقرؤه إنْ شاء الله، ولكني لن أتحدث عنه إلا إذا وجدت فيه ما يستحق الثناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤