تمهيد

سألني صديق لي كريم المنزلة عندي أن أتخير له صورًا من تلك «المرايا» التي أرسلتها في «السياسة الأسبوعية»؛ ليطبعها ويسويها للناس كتابًا. وتعذرت عليه دهرًا لأنني إنما أعانيها على أنها بنت ساعتها وحديث يومها، لا على أنها مما يثبت في الزمان، لتردد الأنظار واعتياد الأفكار. وما برح يعتريني بإلحاحه الكريم، ويملك علي مذاهب الحجج في مطاولته حتى لم أجد لي مفيضًا من التسليم. فجمعت منها طائفة وضممت إليها ما كتب في هذا الباب شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم في حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وما كتب أديب آخر في حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر. وجعلت أعود على تلك «المرايا» بألوان التهذيب، فأرم ما رث بالطبع، وأستدرك ما عسى أن تكون قد فوتت العجلة من فنون المعاني، وأعالج ما أضعفت السرعة من القول وأوهت من نسج الكلام. وأضفت إلى هذه المجموعة طائفة أخرى من رسائل شتى كان قد جرى بها القلم، على أنها كلها مما يدخل في معنى تلك «المرايا» ويتصل بجنسها. ثم لقد اعتمدت من ألفاظ هذا الكتاب كل ما يحتاج إلى الضبط فضبطته بالشكل، وكل ما يحتاج إلى المراجعة ففسرته؛ تدريبًا للناشئين على المنطق الصحيح. وأمدني بأصدق العون في هذا كله وفي تصحيح طبع الكتاب، الأديبان اللغويان الأستاذ أحمد زكي العدوي والأستاذ محمد صادق عنبر، وصلهما الله عن الأدب بخير الجزاء.

وصدرت كل «مرآة» بصورة صاحبها «الكاريكاتورية» من رسم الفنان الأشهر الأستاذ «سنتيز». أما صورة الغلاف فقد تفضل بوضعها الأستاذ الفنان المبدع مصطفى بك مختار محرم، مد الله في عمر أناملهما رحمة بالفن الجميل.

ولست أتحدث عن مطبعة دار الكتب، فإن كل آثارها تحدثك وحدها عما أوفى على الغاية من الدقة والجمال والإحسان. ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بما لحضرة محمد نديم أفندي، ملاحظ المطبعة، من همة وخبرة يزينهما حسن الخلال.

وقد راعيت في ترتيب هذه «المرايا» تواريخ نشرها في «السياسة الأسبوعية»، فلا تأخذني، بعد هذا، بتقديم زيور باشا في «رجال السياسة» على سعد زغلول، ولا بتقديم الدكتور محجوب ثابت في «الطب» على علي بك إبراهيم، ولا بتقديم الأستاذ فكري أباظة في «الوطنية» على حافظ بك رمضان!

•••

والغاية التي تذهب إليها «المرآة» هي تحليل «شخصية» من تجلوه من الناس، والتسلل إلى مداخل طبعه، ومعالجة ما تدسى من خلاله، ونفض هذا على القارئ في صورة فكهة مستملحة. وهذا النوع من البيان إنما ترويناه عن كتاب الغرب، وما فتئنا نقلدهم فيه تقليدًا. على أن بعض كتاب العرب من أمثال الإمام الجاحظ قد سبقوا إلى شيء من هذا التصوير البياني، إلا أنهم لم يعدوا فيه تسقط هنات المرء والصولة عليها بألوان التندر والتطريف. أما التوسل بمظاهر خلال المرء إلى مداخل نفسه ومنازع طبعه، وإجراء هذا على أسلوب علمي وثيق Psyc Hologigue، فذلك ما لم أقع عليه في منادراتهم، ووجوه تطرفهم.

ولا يذهب عنك أن شأن الكاتب في هذا الباب كشأن المصور «الكاريكاتوري»؛ فهو إنما يعمد إلى الموضع الناتئ في خلال المرء، فيزيد في وصفه، ويبالغ في تصويره بما يتهيأ له من فنون النكات. وأنت خبير بأن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو بتزييفها أو بوصلها، بحكم التورية ونحوها، بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس. وهذا الذي يبعث العجب، ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع. ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق، متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم، خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.

ولعلك آخذي بأنني أُسِفُّ أحيانًا إلى العامية الشائهة فأوردها في دَرْج الكلام. وعذري في ذاك ما تعرف من أننا نكتب بلغة، ونتناول أسبابنا الدائرة بلغة أخرى، وهيهات لك أن تجلي على القارئ صورة كاملة من حديث قوم في مناقلاتهم ومنادراتهم، وما تطارحوا من فنون النكات، إلا بأن تورده كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، فإذا حاولت أن تؤدي هذا بفصيح اللغة؛ فسَد الغرض، واختل نظم الكلام. وللإمام الجاحظ في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه «البخلاء».

•••

وبعد، فالرأي ألا تتناول الأقلام بمثل هذا النوع من الحديث إلا أمرًا يقوم على شأن عام، على ألا تَتِرَه حقًّا، ولا تضيف إليه ما ليس له، وعلى ألا تتدسس إلى مكارهه، ولا تطلب من مستور هناته ما لا يتصل بالشأن العام. فإذا هي اعترته بعد هذا بألوان التندر؛ كان حقيقًا بها ألا تصرف وجه القول إلى الرغبة في تهاونه والتهزُّؤِ به والكيد له. وهذا ما تحريته فيما عالجت من هذه «المرايا»، فإن يكن قد ند القول بعض الحين، فإنني امرؤ ينبو على القلم، وتزل بي القدم، وإني أستغفر الله وأسأله العافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤