إسماعيل سري باشا

طويل القامة كبير الهامة، عريض «الوجهة» ناتئ الجبهة، ضخم الأنف، مرسل اللحية والحاجبين، له عينان متحيرتان، دائمتا الحركة والدوران، نفضت الطبيعة على هيكله كل جلال الشيوخ، ويأبى هو إلا أن ينفض على لسانه كل خفة الشباب. فإذا أنت رأيته، كدت تعلق نفسك من روعة وإكبار: جلالة علم في جلالة منصب في جلالة مشيب، حتى إذا سمعته يخوض في بعض من لا يحبهم ويستريح إليهم، لم تكد تملك نفسك من الاستنكار أو ما هو أشد من الاستنكار!

وسري باشا مهندس رائع، كفء، في بابه، لكل عظيمة. وهو شيخ المهندسين المصريين وإمامهم غير مدافع. وإن له فوق هذا لشهرة عالمية، فقد دفعه خطره، وسعة علمه، وصحة تقديره، وقوة ماضيه إلى أن يسلك بحق في زمرة كبار المهندسين في العالم.

وسري باشا ولد في عائلة رقيقة الحال في قرية «ريدة» من أعمال مركز المنيا، ونزح والده إلى قصبة ذلك الإقليم لا يتكئ إلا على بدنه فيما يكون أرد على شمله، فاستخدم في ديوان المديرية في عمل لا يتسق لذكائه ولا لقوة استعداده، فتطلعت نفسه إلى ما هو أولى به وأجدى، ولم يلهه عمله المضني عن أن يتعلم القراءة والكتابة، وما زال دائبًا حتى أحسنهما وحتى عين كاتبًا في مديرية الفيوم، ولأمر ما نفي عمدة المنيا إلى السودان فعين بدله محفوظ أفندي، وأدخل ولده «إسماعيل» في مدرسة المنيا مع حسن فتحي الذي صار بعد مفتشًا للري، وظهرت مخايل النجابة على ولده هذا إسماعيل، وبرع أقرانه، وما برح له السبق عليهم حتى اصْطُفِي فيمن اصطفتهم الحكومة «للإرسالية»، فمضى إلى فرنسا واتصل بكلية «سنترال» حيث درس الهندسة، وخرج منها بأعلى شهاداتها.

figure
لا أبالي إزاء نفع الأقارب والأصهار، أجف النيل أم ذوت الثمار!

وعاد إسماعيل سري، فاتصل بخدمة الحكومة مهندسًا صغيرًا، وتدرج بكفايته في مناصب وزارة الأشغال حتى أصبح مفتشًا لعموم المشروعات، ومن ذلك اليوم رنت الآفاق باسم إسماعيل بك سري في المهندسين العظام.

وفي الحق إن ما مُتِّعَ به كَبِدُ الصعيد «مديرية المنيا وطرفا أسيوط وبني سويف» من ري صيفي، فإقبال زرع، فسعة ثروة، إنما كان من صنعة إسماعيل سري، مهما عدوا على تلك «المشروعات» من العيوب.

وفي الحق أيضًا إنه — بعد أن طويت من صحيفة وزارة الأشغال أسماء المهندسين المصريين حين أودى الردى بعلي باشا مبارك وإسماعيل باشا محمد وبهجت باشا وأشباههم من النواظير الأوالى — كان إسماعيل باشا سري أول من بعث على الألسن أسماء المصريين مع ديبوي ووليم جارستن وأكفائهما من المهندسين الإنجليز.

•••

ولو قد ترك إسماعيل باشا سري في عمله الفني البحت لأجدى بعلمه على البلاد كثيرًا، ولكن الرزية كلها في المناصب — وقاتل الله المناصب — فقد قلد الوزارة، والوزارة سياسة أكثر مما هي فن، والرجل لا يحذق السياسة ولا يفهم منها إلا القدر الذي يعصم عليه منصبه، ويستديم له أبهة الوزارة وما إليها من الراتب، والجدوى على الأولاد والأقارب.

ويبالغ صاحبنا في الإخلاص لهذا المعنى ويفرط في الحرص عليه إلى حد أن يسخر، إذا دعت الضرورة، كل ما أوتي من علم وفن لخدمة السياسة، ولو أودى في هذا السبيل بكل وادي النيل، حتى ظفر في عهد اللورد كتشنر — إن عد هذا من الظفر — بتلغراف تأييد من حكومة إنجلترا يضمن له السلامة «والنغنغة» في المنصب والجاه على طول الزمان!

وإني لأعرف طائفة من المصريين كانوا، ولعلهم ما زالوا، يراءون أهل السلطة من الإنجليز ويتجملون لهم ويظاهرونهم بالمودة والعطف استخراجًا للمنافع، إذ قلوبهم لا تنطوي من ذاك على كثير. أما إسماعيل سري باشا فهو لا يماري القوم في هذا، ولا يرائيهم، فإنه مخلص الحب لهم، صادق الصبابة فيهم، يواليهم بالهوى في سره، كما يتشيع لهم في جهره. لا يتحرج في ذلك ولا يتأثم، والإخلاص — لو علمت — فنون!

•••

ومِن أظهر صفات هذا الرجل أنه وصول لرحمه، دائب جاهد في غير ملل ولا سأم على كل ما يعود بالخير على ولده وأصهاره وسائر عشيرته. ولو مد له في الحكم وبسط له في السلطان «لرفت» جميع موظفي الحكومة، وجمع إلى كل فتى من أهله ٤٥٧ وظيفة في آن واحد، حتى يستطيع أن يقصر وظائف الدولة عليهم فلا يتولى واحدة منها خارج عنهم. وإن له في دسهم في الوظائف والقفز بهم إلى عليا المناصب لأحاديث تجمع وتنشر، وأفاكيه تروى وتؤثر. وحسبك أن تردد النظر في دواوين الحكومة وسائر مصالحها؛ لتقع في كل واد على أثر من ثعلبة. ولقد بدا يومًا لبعض الحسدة أن يجمع ما يَجبيه «آل سري» من أموال الدولة، فخرج له منها ما يقوم بنفقات مصلحة كاملة «وعين الحسود فيها عود» حصنتُ آلَ سري برب الفَلَق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.

ومن طريف ما يروى له، وكل ما يروى له في هذا الباب طريف، أن وزيرًا كان من زملائه له قريب في وزارة الأشغال، فسأله أن يرقيه إلى بعض مناصبها الخالية؛ لأنه قد «استحق الترقية» فتثاقل عنه سري باشا وتعذر عليه، وتوسط في الأمر بعض إخوانهما من الوزراء، فقال لهم معالي «وزير الأشغال»: ولماذا أرقي له قريبه وعنده قريبي «فلان» لا يرقيه! فقيل له: ولكنه لم يحن بعد أوان ترقيته؟ قال: إذن نتربص بقريبه حتى يجيء الدور على قريبي. وتعلم — أيدك الله — أن صاحب الحاجة أرعن، فبادر الوزير الآخر بترقية قريب سري باشا بالاستثناء في سبيل ترقية قريبه وهو بحكم الدور!

وجاءه مرة أحد زملائه الوزراء من هذا الباب، فسأله أن يرقي أحد صنائعه درجة على أن يرقي هو أحد أقرباء الباشا في ديوانه درجة، فدار بذهنه «الرياضي» الكبير في «الحسبة»، فرآها «تفرق» ٢٤٠ قرشًا في كل شهر، فتوقف أو يوفاها «على داير القرش»، وتعاصى الأمر، وتعذر الحل، وأخيرًا، وبعد طول محادثات ومفاوضات، توسط أحد الوزراء أيضًا في الأمر، على أن يزيد قريبًا لسري باشا في وزارته هو مائتي قرش، على أن هذا كل ما تبلغه طاقته ويدخل في جهده، وذلك كله تفاديًا من وقوع أزمة وزارية Crise Ministérielle، وبعد لَأْيٍ رضي سري باشا بهذا الحل محتسبًا عند الله ٤٠ قرشًا في كل شهر، كانت — لو أن في البلاد عدلًا وإنصافًا — تعود على بعض الولد أو الأصهار أو الأقرباء، بشيء ولو قليل، من اليسر والسعة والرخاء! وكانت تضحية من نفس سري باشا هائلة استحق بها أن يقام له تمثال يخلد به «المثل الأعلى» للتضحية والإيثار على تطاول الأيام والليالي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤