زيور باشا

أما شكله الخارجي، وأوضاعه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية؛ فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة. والواقع، أن زِيوَر باشا رجل — إذا صح هذا التعبير — يمتاز عن سائر الناس في كل شيء، ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولًا، وأوفر لحمًا، إلا أن لكل منهم هيكلًا واحدًا. أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعابها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق!

وإنك لتجد ناسًا يصفون زيور بالدهاء وسعة الحيلة، بينما ترى آخرين ينعتونه بالبساطة، وقد يتدلون به إلى حد الغفلة. كما تجد خلقًا يتحدثون بارتفاع خلقه وتنزهه عن النقائص، إذ غيرهم ينحطون به إلى ما لا تجاوره مكرمة، ولا يسكن إليه خلق محمود!

كذلك زيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكي وغبي، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطني حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه، يجود منها بالطارف والتلاد!

كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب. وإذا كان هذا مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد فقد غلط الناس إذ حسبوا زيور رجلًا واحدًا. والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري كما حدثتك، كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض! فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك؛ لأن هذا الجِرْم العظيم الذي تحسبه شيئًا واحدًا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه وتصوره وحظه من التربية والتهذيب. فمنها العاقل ومنها الجاهل، ومنها الحكيم ومنها الغر، ومنها الكريم ومنها البخيل، ومنها المصري ومنها الجركسي، ومنها الفرنسي، ومنها الإنجليزي، ومنها المالطي … إلخ؛ كل منها يجري في مذهبه ويتصرف في الدائرة الخاصة به، فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات!

figure
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!

والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه المتملكات الواسعة، عاجز تمام العجز عن إدارتها وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقي والكمال، وحسب عقله في هذا النظام الجديد، أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام!

•••

وإني أورد عليك طائفة يسيرة تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئًا واحدًا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء.

فزيور باشا معروف بالقناعة والتعفف عن الابتذال في إحراز الأموال، ولكنهم في الوقت نفسه يقولون إن جميع نفقات الولائم التي أقامها في مصر وفي أوروبا قد تناولها من «المصاريف السرية»، بينما هو يقبض من خزانة الدولة ألف جنيه لهذا الغرض في كل عام!

ومما يحسن ذكره في هذا الموضوع، ما تحدثوا به من أنه لما زار أوروبا في الصيف الماضي، طاف بجميع المفوضيات المصرية هناك، فسل كل ما فيها من «المصاريف السرية» حتى إذا علم أنه قد أتى على كل ما في مفوضية باريس من هذه الأموال، ولم يدع لها قرشًا ولا بارة، أرسل تلغرافًا إلى مفوضية لندن لتسعفه بكل ما عندها من النقود!

ولقد تعلم أحيانًا عن زيور باشا حرصه على مصالح الدولة، على أنك إذا عاتبته على إسراف الحكومة في عهده وابتذالها لأموال الدولة بهذا الأسلوب الفادح، أجاب من فوره: «إن مصر غنية» l’Egypte est riche.

ولقد تعرف في زيور باشا طيبة في القلب، وسلامة في الخلق، ثم لقد يظهر لك فيه من المكر، وترى له من أنواع الدس ما يعيا بمثله أخبث الشياطين. ولقد ذكروا أنه كلما التقى بسعدي، أنب قومه على اتفاقهم مع «ألد أعدائهم» الأحرار الدستوريين، وإذا أصاب حرًّا دستوريًّا، قال له: كيف يصح أن تتحدوا مع أولئك «المجانين المخربين»!

ولقد كان شديد الشكوى من نشأت باشا وبسطة يده في كل مصالح الحكومة، فإذا قيل له: وكيف لا تكفه عن هذا وأنت رئيس الحكومة؟ بسط كفيه ورفع رأسه إلى السماء وأجاب: وهل يستطيع أحد أن يعمل شيئًا؟ فلما أقيل نشأت باشا من السراي، جعل زيور يقبل على كل من لقيه يتمدح بأنه هو الذي أخرجه، ووقى البلاد شرًّا عظيمًا!

وقد يعرف عنه بعض الناس قلة الخير، ومع ذلك فإن له صاحبًا ورفيقًا من رفقاء الصبا هو «ص بك غ»، وله ولد يطلب العلم في باريس، فعينه في مفوضية باريس في وظيفة غير موجودة!

وعلى هذا الصديق دين لبعثة المرسلين الأفريقيين في مصر، وقد استبهظ الربح، فوسط في الأمر صديقه زيور باشا الذي قصد إلى روما في تجواله بأوروبا في العام الماضي. ومع ما يعرف عن دولته من أنه خريج مدارس الجزويت، وأنه أخذ عنهم الدهاء والمكر وبعد غور النفس؛ فقد طلب مقابلة قداسة البابا نفسه، وخاطبه في الأمر، وسأله التخفيف من دين صاحبه. والبابا أحاله على وزير خارجيته الكاردينال جاسباري، وبعد أن سمع هذا من رئيس وزراء مصر، كل ما أراد أن يقول، هز كتفيه وقال له: Chi recevato paga أي: «على من أخذ أن يدفع.» وكان على زيور باشا أن يعرف ذلك!

تلك بعض آثار هؤلاء الذين يدعونهم زيور باشا، فإذا تمثلوا شخصًا وبدوا للعيون رجلًا واحدًا، فذلك مصداق قول أبي نواس:

ليس على الله بمستكر
أن يجمع العالم في واحد

وإن أهل مصر ليأخذون زيور باشا كله بما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية، وإنهم ليعدون عليه سفهه في أموال الدولة واستهتاره بمصالحها. وإنهم ليحسبون عليه إيثاره الأهل والأقربين، والأصحاب والمحبين، وذوي أرحامهم بمناصب الدولة ومنافعها. وقد يكون لمجلس النواب مع هؤلاء الرجل شأن إذا أقبل يوم الحساب!

وإن ظلمًا أن يؤخذ البريء بجريرة الآثم، وإن عسفًا أن يعاقب المظلوم بما أجرم الظالم، فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور باشا الأيسر، أو القسم الأسفل من «لغده»، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى، أو غيرها من تلك الكائنات التي تجمعت في هيكله العظيم، فما شأن تلك المخلوقات كلها تجر إلى مواطن الاتهام، وتعاقب بما ارتكب بعضها من الجرائر والآثام؟!

إن الحق والعدل ليقضيان أن يؤلف مجلس النواب، إن شاء الله، لجنة تقوم بعمل التحقيق في جسم صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوًا عضوًا، وتحقق مع أشلائه شلوًا شلوًا، حتى يفرق منها بين المحسن والمسيء، ولا يخلط في العقوبة بين المجرم والبريء.

ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل!

•••

وبعد، فإذا كان هناك وصف جامع وخلة مشتركة لهذه الخلائق التي تجمعت لجسم زيور باشا، حتى انتظمت فيه شعبًا واحدًا، فذلك أنه قسيس جزويتي في جلد رئيس وزراء مصري، فقد تربى زيور باشا في مدارس الجزويت كما قلت لك، وتخرج عليهم وتخلق بأخلاقهم. فإذا رأيت في طبعه سهولة، وفي نفسه بساطة، فذلك لبعد غوره حتى ليخفى عليك ما في نفسه من مكر ودهاء!

وفيه صفة أخرى جامعة أيضًا، هي شدة احترامه «للبرنيطة»، وعمله على إرضائها بكل الوسائل، فما عرف أن زيور رد في حياته طلبًا «لبرنيطة» مهما كان حاملها في الناس، حتى لقد زعموا أن بعض كبار علمائنا الأعلام، مصابيح الدجى وعمد الإسلام، بعدما أعياه الكد والجهد وشدة الطلب، والسعي وطول الوقوف بالأبواب، والتردد بين مختلف الأحزاب، في سبيل وظيفة خالية، عزم أخيرًا على لبس القبعة لعله يحظى في هذه الأيام١ بمعونة زيور على إفتاء الديار أو مشيخة الإسلام، ومولانا الشيخ المذكور بوجه خاص، لا يعدم ألف فتوى من الشريعة، تحل له هذه الذريعة.
١  نشرت هذه المرآة وزيور باشا في رياسة الوزارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤