فلسفة الضوء

في ماهيته وكيفية انتشاره ونواميسه للفيلسوف الطبيعي الأستاذ الحسن بن الحسين البصري المشهور بابن الهيثم
الكلام في ماهية الضوء من العلوم الطبيعية، والكلام في كيفية إشراق الضوء محتاج إلى العلوم التعليمية١ من أجل الخطوط التي يمتد عليها الأضواء، وكذلك الكلام في ماهية الشعاع هو من العلوم الطبيعية، والكلام في شكله وهيئته هو من العلوم التعليمية، وكذلك الأجسام المشفة التي ينفذ الأضواء فيها، الكلام في ماهية شفيفها هو من العلوم الطبيعية، والكلام في كيفية امتداد الضوء فيها هو من العلوم التعليمية، فالكلام في الضوء وفي الشعاع وفي الشفيف يجب أن يكون مركبًا من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.

وحيث قررنا ذلك، فلنشرع الآن في الكلام على هذه المعاني ولنقل قولًا كليًّا، وهو: أن كل معنى يوجد في جسم من الأجسام الطبيعية، ويكون من المعاني التي بها يتقوم ماهية ذلك الجسم، فإنه يُسمى صورة جوهرية؛ لأن جوهر كل جسم إنما يتقوم من جملة جميع المعاني التي في ذلك الجسم التي هي غير مفارقة له ما دام جوهره غير متغير عما هو عليه، والضوء في كل جسم مضيء من ذاته هو من المعاني التي بها يتقوَّم ماهية ذلك الجسم.

فالضوء في كل جسم مضيء من ذاته هو صورة جوهرية في ذلك الجسم، والضوء العرضي الذي يظهر على الأجسام الكثيفة التي يشرق عليها من غيرها هو صورة عرضية، وهذا هو رأي المحققين في علم الفلسفة.

فأما أصحاب التعاليم، فإنهم يرون أن الضوء الذي يشرق من الجسم المضيء من ذاته الذي هو صورة جوهرية في الجسم، هو حرارة نارية تكون في الجسم المضيء من ذاته؛ وذلك أنهم وجدوا ضوء الشمس إذا انعكس عن المرآة المقعرة واجتمع الضوء عند نقطة واحدة وكان عند تلك النقطة جسم من الأجسام التي تقبل الاحتراق، احترق ذلك الجسم عند اجتماع الضوء عنده، ووجدوا ضوء الشمس أيضًا إذا أشرق على الهواء سخن الهواء، وإذا أشرق ضوء الشمس على جسم من الأجسام الكثيفة وثبت عليه زمانًا ما فإن ذلك الجسم يسخن سخونة محسوسة، فتقرر في نفوسهم من أجل هذه الأحوال أن ضوء الشمس هو «حرارة نارية».

ثم رأوا أن جميع الأضواء من جنس واحد، وأن جميعها هو حرارة نارية، وإنما تختلف بالأشد والأضعف، فما كان من الأضواء محرقًا فلقوته، وما كان غير محرق فلضعفه. كما يوجد ذلك في حرارة النار: وذلك أن النار تسخن ما يجاورها من الهواء، وكلما قرب إلى جرم النار من الهواء كان أشد سخونة مما بعد، وإذا جُعل في الهواء المجاور للنار الذي بعده عن النار مقدار جسم يقبل للإحراق لم يحترق، وإذا قرب ذلك الجسم إلى النار وجُعل في الهواء الملتصق بجسم النار احترق ذلك الجسم، ولا فرق بين الهواء الملتصق بجرم النار وبين الهواء البعيد عن النار الذي قد سخن بحرارة النار سوى أن الهواء الملتصق بجرم النار أشد حرارة، وكل واحد من الهواءين فيه حرارة نارية، وأحدهما محرق وهو الذي حرارته قوية، والآخر غير محرق وهو الذي حرارته ضعيفة، وكذلك الأضواء هي حرارة نارية وما كان منها قويًّا كان محرقًا وما كان منها ضعيفًا كان غير محرق، فجميع الأضواء عند أصحاب التعاليم هي حرارة نارية وإنما يظهر في الجسم المضيء كما تظهر النار في الجسم الحامل للنار.

والأجسام المضيئة في ذواتها التي يدركها الحس هي نوعان، وهما: الكواكب والنار، وهذه الأجسام يشرق ضوءُها على كل ما يجاورها من الأجسام، وهذا المعنى يُدرَك بالحس، وقد بينا في كتابنا «في المناظر» في المقالة الأولى منه أن كل ضوء في كل جسم مضيء، ذاتيًّا كان الضوء الذي فيه أو عرضيًّا، فإن الضوء الذي فيه مشرقٌ منه على كل جسم يقابله، وشرحنا هذا المعنى هناك شرحًا مستقصًى، ومع ذلك فإن الاستقراء يقنع في هذا المعنى، فإنه لا يوجد جسم كثيف مقابل لجسم مضيء إلا ويوجد ضوء ذلك الجسم المضيء ظاهرًا على ذلك الجسم الكثيف، إذا لم يكن بينهما ساتر، ولم يكن بينهما فرق متفاوت، ولم يكن الضوء الذي في الجسم المضيء في غاية الضعف.

وجميع الأجسام الطبيعية، المشف منها والكثيف، فيها قوة قابلة للضوء، فهي تقبل الأضواء من الأجسام المضيئة، والمشف من الأجسام فيه مع القوة القابلة للضوء قوةٌ مؤدية للضوء وهو الشفيف، والأجسام التي تُسمى مشفة هي الأجسام التي ينفذ الضوء فيها ويدرك البصر ما وراءها.

وهذه الأجسام تنقسم قسمين، وينفذ الضوء فيها على وجهين:
  • الوجه الأول: أن ينفذ الضوء في جميع الجسم المشف.
  • الوجه الثاني: أن ينفذ الضوء في بعض أجزاء الجسم المشف دون بعض.

أما الأجسام المشفة التي ينفذ الضوء في جميعها فكالهواء والماء والزجاج وما جرى مجراها.

وأما التي ينفذ الضوء في بعض أجزائها دون بعض فكالثياب الرقاق وما جرى مجراها، وذلك أن الثياب الرقاق ينفذ الضوء في الثقوب التي بين خيوطها ولا ينفذ في الخيوط نفسها؛ لأن الخيوط أجسام كثيفة لا ينفذ الضوء فيها، ومن أجل أن الثوب الرقيق خيوطه الدقاق في غاية الدقة، فليس يتبين للبصر الأضواء التي تخرج من ثقوبه من الأضواء التي تقف عند خيوطه، والبصر يدرك ما وراء الثوب الرقيق من الشعاع الذي ينفذ في الثقوب، ومع ذلك فليس يتبين له ذلك الشعاع الذي يقف عند الخيوط؛ لدقة الثقوب ودقة الخيوط؛ لأن البصر لا يدرك ما هو في غاية الدقة، فالشفيف الذي في الهواء والماء والزجاج وما يجري مجراها هو غير الشفيف الذي في الثياب الرقاق، والمشف على الحقيقة هو الذي ينفذ الضوء في جميعه كالهواء والماء والزجاج وما جرى مجراها، والثياب الرقاق إنما سُميت مشفة لشبهها بهذه في نفوذ الضوء فيها.

وإذ قد تميزت الأجسام المشفة، فإنا نقول إن الأجسام المشفة التي ينفذ الضوء في جميعها فيها قوة قابلة للضوء كمثل ما في الأجسام الكثيفة، ولنستدل على ذلك في كل واحد من النوعين (أعني بالنوعين الأجسام الكثيفة والأجسام المشفة التي ينفذ الضوء في جميع الجسم منها).

فالذي يدل على أن في جميع الأجسام الكثيفة قوة قابة للضوء هو أن كل جسم كثيف إذا قابل جسمًا مضيئًا ولم يكن بينهما ساتر ولم يكن الضوء الذي في الجسم المضيء في غاية الضعف وثبت الجسم المضيء في قبالة الجسم الكثيف زمانًا محسوسًا، فإن الناظر إلى الجسم الكثيف يدرك الضوء في سطح الجسم الكثيف زمانًا محسوسًا إذا لم يكن الجسم الكثيف في غاية البعد عن البصر ولا في غاية البعد عن الجسم الذي فيه الضوء.

فإدراك البصر للضوء في سطح الجسم الكثيف زمانًا محسوسًا دليلٌ ظاهرٌ على أن في سطح الجسم الكثيف ضوءًا ثابتًا في سطحه، وليس تثبت صورة من الصور في جسم من الأجسام إلا إذا كان في ذلك الجسم قوة قابلة لتلك الصورة؛ لأن قبول الجسم للصورة ليس هو أكثر من ثبوت تلك الصورة في ذلك الجسم، فظهور الضوء في سطوح الأجسام الكثيفة دليل واضح على أن في الأجسام الكثيفة قوة قابلة للضوء.

فأما الأجسام المشفة فأمرها أظهر، وذلك أن الأجسام المشفة ينفذ الضوء فيها، ويظهر الضوء الذي ينفذ فيها على الأجسام الكثيفة التي تكون من ورائها إذا كان الجسم المشف متوسطًا بين الجسم المضيء وبين الجسم الكثيف، ويثبت الضوء في الجسم الكثيف الذي من وراء الجسم المشف ما دام الجسم المضيء ثابتًا في قبالة الجسم الكثيف، وإذا كان الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف إنما هو مشرق من الجسم المضيء وممتد في الجسم المشف إلى الجسم الكثيف، فما دام الضوء ثابتًا على الجسم الكثيف فهو ثابت في الجسم المشف.

والذي يدل على أن الضوء ثابت في الجسم المشف بعد نفوذه فيه، هو أنه إذا قُطع الجسم المشف بجسم كثيف في أي المواضع كان القطع، ظهر الضوء على ذلك الجسم الكثيف القاطع للجسم المشف في كل موضع منه، دليلٌ ظاهرٌ على أن الضوء ثابت في الجسم المشف، وإذا كان الضوء ثابتًا في الجسم المشف، ففي الجسم المشف قوة قابلة للضوء كما تبين من قبل، فقد تبين مما بيناه أن كل جسم من الأجسام اللطيفة المشفة منها والكثيفة فيها قوة قابلة للضوء.

فأما أن في الجسم المشف قوة مؤدية للضوء ليست هي في الجسم الكثيف فهو بيِّن، وذلك أن كل جسمٍ مشفٍّ فإن الضوء ينفذ فيه، وكل جسم كثيف فإن الضوء لا ينفذ فيه، فتبين إذًا من ذلك أن في الجسم المشف معنى ليس هو في الجسم الكثيف؛ ولأن الضوء ينفذ في كل جسمٍ مشفٍّ ولا ينفذ في شيء من الأجسام الكثيفة التي ليس فيها شيء من الشفيف، يكون المعنى المؤدي للضوء هو الشفيف؛ ولأن الشفيف من المعاني التي بها يتقوم ماهية الجسم المشف، يكون الشفيف هو صورة جوهرية في الجسم المشف.

فقد تبين من جميع ما ذكرناه أن كل جسم من الأجسام الطبيعية فيه قوة قابلة للضوء، وأن المشف منها فيه مع القوة القابلة للضوء صورة مؤدية للضوء، ويتبين مع ذلك أن الشفيف هو صورة جوهرية بها يتقوم الجسم المشف، والأجسام المشفة تختلف، ويختلف قبولها للأضواء وتأديتها لها، ونحن نبين جميع ذلك من بعد أن نستوفي الكلام في الضوء.

وإذ قد تبين أن الضوء يشرق من كل جسم مضيء على كل جسم مقابل له وعلى كل جسم مجاور له، فقد بقي أن نبين كيف تشرق الأضواء على الأجسام المقابلة لها وكيف تنفذ في الأجسام المشفة المجاورة لها، فنقول أولًا: إن الضوء يشرق من كل جسم مضيء، وينفذ في كل جسمٍ مشفٍّ مجاور للجسم المضيء، ويظهر على كل جسم كثيف مقابل للجسم المضيء، وهذا المعنى ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وذلك أن الشمس والقمر والكواكب ينفذ ضوءُها في جسم السماء الذي هو جسمٌ مشفٌّ، وفي جسم الهواء الذي هو أيضًا مشفٌّ، ويظهر على وجه الأرض وعلى الأجسام الأرضية وينفذ في جسم الماء، وإذا كان الماء في إناءٍ مشفٍّ ظهر الضوء على كل جسم كثيف يكون من وراء ذلك الإناء، وكذلك الأحجار المشفة كالزجاج والبلور وما يجري مجراهما، وإذا أشرق عليها الضوء وكان وراءها جسم كثيف ظهر الضوء على الجسم الكثيف، فمن هذا الاعتبار يظهر ظهورًا بيِّنًا أن الأضواء تنفذ في الأجسام المشفة.

فأما كيف يكون نفوذ الضوء في الأجسام المشفة، فهو أن الضوء يمتد في الأجسام المشفة على سموت خطوط مستقيمة، ولا يمتد إلا على سموت الخطوط المستقيمة،٢ ويمتد من كل نقطة من الجسم المضيء على كل خطٍّ مستقيمٍ يصح أن يمتد من تلك النقطة في الجسم المشف المجاور للجسم المضيء، وهذا المعنى قد بيَّناه في كتابنا «في المناظر» بيانًا مستقصًى، ولكنا نذكر الآن منه طرفًا يقنع فيما نحن بسبيله فنقول:

إن امتداد الضوء على سموت خطوط مستقيمة يظهر ظهورًا بينًا من الأضواء التي تدخل من الثقوب إلى البيوت المظلمة، فإن ضوء الشمس وضوء القمر وضوء النار إذا دخل في ثقب إلى بيت مظلم وكان في البيت غبار أو أثير، فإن الضوء الداخل من الثقب يظهر في الغبار الممازج للهواء ظهورًا بينًا، ويظهر على وجه الأرض أو حائط البيت المقابل للثقب، ويوجد الضوء ممتدًا من الثقب إلى الأرض أو إلى الحائط المقابل للثقب على سموت خطوط مستقيمة، وإن اعتُبر هذا الضوء الظاهر بعود مستقيم، وُجد الضوء ممتدًا على استقامة العود، وإن لم يكن في الأرض غبار وظهر الضوء على الأرض وعلى الحائط المقابل للثقب، ثم جُعل بين الضوء الظاهر وبين الثقب عود مستقيم أو مُدَّ بينهما خيط مدًّا شديدًا ثم جُعل فيما بين الضوء والثقب جسم كثيف، ظهر الضوء على ذلك الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه. ثم إن حرِّك الجسم الكثيف في المسافة الممتدة على استقامة العود، وجد الضوء أبدًا يظهر على الجسم الكثيف، فيتبين من ذلك «أن الضوء يمتد من الثقب إلى الموضع الذي يظهر فيه الضوء على سموت خطوط مستقيمة.»

وقد بينا في كتاب «المناظر» تأليفنا كيف يعتبر امتداد الضوء في كل واحد من أنواع الأجسام المشفة، وهذا القدر الذي ذكرناه ها هنا كافٍ.

وامتداد الضوء في الأجسام الطبيعية هو خاصة طبيعية لجميع الأضواء، ولا يصح أن يُقال «إن امتداد الضوء في جميع الأجسام المشفة على سموت الخطوط المستقيمة هو خاصة تخص الأجسام المشفة»؛ لأن هذا القول الأخير يفسد عن السبر والاعتبار، والقول الأول هو الصحيح؛ وذلك أنه لو كان امتداد الضوء في الجسم المشف هو خاصة الجسم المشف لكان امتداد الضوء لا يكون إلا على سموت مخصوصة، وليس يوجد الأمر كذلك. بل توجد الأضواء تمتد في الأجسام المشفة على سموت متقاطعة ومتوازية ومتلاقية وغير متلاقية في وقت واحد ومن ضوء جسم واحد، وذلك أن كل نقطة من الجسم المضيء يمتد منها ضوء على كل خطٍّ مستقيمٍ يصح أن يمتد من تلك النقطة، فالأضواء التي تمتد من نقطتين مفترقتين من النقط التي في الجسم المضيء تكون متقاطعة. أعني أنه يكون الخطوط الممتدة من إحدى النقطتين في جميع الجهات متقاطعة للخطوط الممتدة من النقطة الأخرى في جميع الجهات، وإذا حضر في الوقت الواحد عدة من الأجسام المضيئة امتدت الأضواء من كل واحد منها فتكون الخطوط التي يمتد عليها جميع تلك الأضواء مختلفة الوضع اختلافًا متفاوتًا، ويعرض من ذلك أن يكون امتداد الأضواء في جهات متضادة إذا كانت الأجسام المضيئة في جهات متضادة بالقياس إلى الجسم المشف، فيبطل الاختصاص ولا يكون في الجسم المشف سموت مخصوصة تؤدي الضوء، ومع ذلك فإن الحركات الطبيعية لا تكون في جهات متضادة، فلو كانت الصورة المؤدية للضوء التي في الجسم المشف تؤدي الضوء على سموت مستقيمة بخاصة تخصها لكانت لا تؤدي الضوء على سموت واحدة بأعيانها في جهتين متضادتين، وإذا كانت الأضواء تمتد في الجسم الواحد المشف على سموت واحدة بأعيانها في جهتين متضادتين فليس امتداد الضوء في الأجسام المشفة على سموت الخطوط المستقيمة بخاصة تخص الأجسام المشفة، وإذا كان الضوء لا يمتد إلا في الأجسام المشفة، ولا يمتد في الأجسام المشفة إلا على سموت خطوط مستقيمة، وكان الامتداد على الخطوط المستقيمة ليس هو بخاصة تخص الأجسام المشفة: فليس امتداد الضوء على سموت الخطوط المستقيمة إلا بخاصة تخص الضوء، فخاصة الضوء أن يمتد على سموت خطوط مستقيمة، وخاصة الشفيف أن لا يمنع نفوذ الأضواء في الأجسام المشفة.

والضوء الممتد في الأجسام المشفة على سموت الخطوط المستقيمة هو الذي يُسمى «شعاعًا».

فالشعاع هو الضوء الممتد من الجسم المضيء في الجسم المشف على سموت خطوط مستقيمة، والخطوط المستقيمة التي يمتد عليها الضوء هي خطوط متوهَّمة لا محسوسة، والخطوط المتوهَّمة مع الضوء الممتد عليها لمجموعها هو الذي يُسمى الشعاع.

فالشعاع هو صورة جوهرية ممتدة على خطوط مستقيمة، وإنما يسمي أصحاب التعاليم شعاع البصر شعاعًا لشبهها بشعاع الشمس وشعاع النار.

وذلك أن المتقدمين من أصحاب التعاليم٣ يرون أن الإبصار يكون بشعاع يخرج من البصر وينتهي إلى المبصَر، وبذلك الشعاع يكون الإبصار، وأن ذلك الشعاع هو قوة نورية من جنس الضوء، وأنها هي القوة الباصرة وأنها تمتد من البصر على سموت خطوط مستقيمة مبدؤها مركز البصر، وإذا انتهت هذه القوة النورية إلى البصر أدركت المبصر، والقوة النورية الممتدة على الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز البصر مع الخطوط المستقيمة هو الذي يسميه أصحاب التعاليم «شعاع البصر».

فأما مَن يرى أن الإبصار يكون بصورة ترد عن المبصَر إلى البصر، فإنه يرى أن الشعاع هو الضوء الممتد من المبصَر على سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي عند مركز البصر، وذلك أن أصحاب هذا الرأي يرون أن الضوء يمتد من كل نقطة منه ضوء على كل خطٍّ مستقيمٍ يصح أن يمتد من تلك النقطة، فإذا قابل البصر مبصرًا من المبصرات وكان في ذلك المبصر ضوءٌ ما ذاتيًّا كان ذلك الضوء أو عرضيًّا، فإن كل نقطة من ذلك الضوء يمتد منها ضوء على كل خطٍّ مستقيمٍ يصح أن يمتد بين تلك النقطة وبين سطح المبصَر، فيخرج من البصر ضوء إلى سطح المبصَر على خطوط مستقيمة بلا نهاية وعلى أوضاع مختلفة اختلافًا بلا نهاية، فتكون الخطوط المستقيمة المتوهَّمة الممتدة بين مركز البصر وبين سطح المبصَر هي من الخطوط التي امتد عليها الضوء فيدرك البصر صورة المبصَر في الضوء الذي يرد إليه على سموت هذه الخطوط فقط؛ لأن مَن يرى هذا الرأي يعتقد أن البصر مطبوع على أن يحس بالأضواء التي ترد إليه على سموت هذه الخطوط فقط، ولا يحس بما يرد إليه على غير هذه الخطوط، ويُسمى الضوء الممتد على سموت الخطوط المستقيمة التي تلتقي عند مركز البصر مع هذه الخطوط أنفسها شعاعًا، فشعاع البصر عند جميع أصحاب التعاليم هو ضوءٌ ما ممتد على سموت الخطوط المستقيمة المتلاقية عند مركز البصر.

وهذه الخطوط على انفرادها وهي خطوط متوهمة سماها أصحاب التعاليم خطوط الشعاع.

والشعاع بالقول الأول الكلي: هو ضوء ممتد على سموت خطوط مستقيمة أكان الضوء ضوء الشمس أو ضوء القمر أو ضوء الكواكب أو ضوء النار أو ضوء البصر، وهذا هو حد الشعاع، وليس لأصحاب العلم الطبيعي قول محرر في الشعاع.

وإذ قد تبين ذلك فلنرجع الآن إلى الكلام في الأجسام المشفة فنقول:

إن الشفيف هو صورة في الجسم المشف فهي مؤدية للضوء، والأجسام المشفة تنقسم إلى قسمين هما: الفلكية وما دون الفلك، والفلكية منهما هي نوع واحد؛ لأن الأجسام الفلكية من جوهر واحد، وأما دون الفلك من الأجسام المشفة فإنها منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
  • (أ)

    فالأول الهواء.

  • (ب)

    والثاني الماء والرطوبات المشفة كبياض البيض وطبقات البصر المشفة وما يجري مجرى ذلك.

  • (جـ)

    والثالث الأحجار المشفة كالزجاج والبلور والجواهر المشفة.

فهذه هي جميع أنواع الأجسام المشفة، وهذه الأجسام المشفة يختلف شفيفها، وكل نوع من أنواعها يختلف شفيفه، ما سوى جسم الفلك، وذلك أن الهواء يختلف شفيفه فمنه غليظ ومنه لطيف، والغليظ كالضباب والدخان وما خالطه غبار أو دخان، ومنه لطيف كالأهوية التي بين الجدران والهواء القريب من الفلك والهواء الذي لم يخالطه شيء سواه، والهواء اللطيف أشد شفيفًا، كالماء الجاري والماء الذي يخالطه شيء من الأصباغ.

والماء وكذلك الرطوبات المشفة بعضها أشد شفيفًا من بعض، وكذلك الأحجار فإن البلور أشد شفيفًا من الياقوت، وجميع ذلك يشهد به الحس بين، فأما جسم الفلك فليس يظهر في شفيفه اختلاف، فأما أنه مشفٌّ فذلك بيِّن؛ لأن الكواكب مختلفة الأبعاد عن الأرض ومع ذلك فإن البصر يدرك جميعها مع اختلاف مواضعها من سمك جسم الفلك.

والأجسام المشفة التي هي دون الفلك جميعها فيها كثافة ما، وذلك أن كل واحد منها إذا أشرق عليه ضوء الشمس فإنه يصدر عنه ضوءٌ ثانٍ كما يصدر عن الأجسام الكثيفة إذا أشرق عليها ضوء الشمس، إلا أن الضوء الثاني الذي يصدر عن الأجسام المشفة يكون أضعف، وقد بينا هذا المعنى في المقالة الأولى من كتابنا «في المناظر» بيانًا مستقصى، وأرشدنا إلى الطريق التي تبين بها هذا المعنى في كل واحد من الأضواء التي تظهر من الأجسام الكثيفة وتوجد في الأجسام المشفة.

ونحن نذكر في هذا الموضع طرفًا من ذلك البيان. أما أن الهواء يصدر عنه ضوء ثانٍ فذلك يظهر عند ضوء الصباح، فإن وجه الأرض يضيء في وقت الصباح وقبل أن تطلع الشمس. ويدرك الحس وجه الأرض … أضوأ مما كانت في الليل، والشمس في وقت الصباح وقبل أن تظهر للبصر ليس تكون مقابلة للأرض، والأضواء «ليس تصدر عن الأجسام المضيئة إلا على سموت خطوط مستقيمة.»

وقد بينا هذا المعنى بالبرهان والاعتبار في كتاب المناظر، وليس بين الشمس وبين وجه الأرض الذي لم يشرق عليه الشمس خطوط مستقيمة، ولا جسم الأرض يقطعها جسم الأرض، فليس الضوء الذي يظهر على وجه الأرض هو ضوء مشرق من نفس جرم الشمس، وليس يقابل وجه الأرض جسم مضيء يصح أن يصدر عنه ضوء إلى وجه الأرض غير الهواء الذي بين السماء والأرض الذي هو مضيء بضوء الشمس، وهذا الهواء مقابل لجِرم الشمس، وليس بينه وبين الشمس ساتر، وهذا الهواء يكون مضيئًا في وقت الصباح ويُدرك الضوء فيه بالحس، فالضوء الذي يظهر على وجه الأرض في وقت الصباح هو ضوء يصدر عن الضوء الذي في الهواء المقابل لوجه الأرض. أما الماء والنار والزجاج والأحجار المشفة فإنها إذا أشرق عليها ضوء الشمس فإنه يصدر أيضًا عنها ضوء ثانٍ مع نفوذ الضوء عينها، وهذا الضوء يظهر للحس إذا قُرِّب إلى للماء أو الحجر المشف جسم أبيض من غير الجهة التي يمتد إليها الضوء النافذ فيها، فإنه يوجد على ذلك الجسم الأبيض ضوء حادث لم يكن يظهر عليه من قبل، ويكون ضوءًا ضعيفًا، وقد استقصينا طريق الاعتبار لهذا المعنى في كتاب المناظر، وهذا القدر في هذا الموضع مقنع.

فكلٌّ من الأجسام المشفة التي فيما دون الفلك فإنه إذا أشرق عليها ضوء الشمس فإنه يصدر عنها ضوء ثانٍ كما يصدر عن الأجسام الكثيفة إذا أشرق عليها ضوء الشمس، إلا أن الضوء الثاني الذي يصدر عن الأجسام المشفة يوجد أضعف من الضوء الثاني الذي يصدر عن الأجسام الكثيفة، وقد بيَّنا أن في الأجسام الكثيفة قوة قابلة للضوء، وأن في الأجسام المشفة أيضًا قوة قابلة للضوء، وبينا أن في الأجسام المشفة ضوءًا ثابتًا مع نفوذ الأضواء في هذه الأجسام، فنقول الآن إن إشراق الضوء الثاني عن الأجسام المشفة ليس هو إشراقًا عن الأضواء النافذة فيها، وذلك أن الضوء النافذ في الجسم المشف إنما هو ممتدٌّ في الجهات المقابلة للجسم الذي يشرق منه الضوء وليس هو ممتدًّا في غير تلك الجهات، والضوء الثاني الذي يصدر عن هذه الأجسام يوجد ممتدًّا في الجهات المقابلة لتلك الجهات، فليس إشراق الضوء الثاني عن الجسم المشف هو إشراق عن الضوء النافذ فيه، وليس في الجسم المشف ضوء سوى الضوء النافذ فيه والضوء الثابت فيه، فالأضواء الثواني التي تصدر عن الأجسام المشفة إنما تصدر عن الأضواء الثابتة، وليس لثبوت الضوء في الأجسام الطبيعية علة غير الكثافة التي هي ضد الشفيف؛ لأن الجسم إذا لم يكن فيه كثافة فهو مشفٌّ، وإذا كان مشفًّا فالضوء ينفذ فيه، وإذا كان الجسم في غاية الشفيف ولا كثافة فيه بوجه من الوجوه فالضوء ينفذ فيه فقط ولا يثبت فيه؛ لأن الشفيف هو علة النفوذ لا علة الثبوت، وإذا كان كل جسم كثيف يثبت الضوء فيه، وكل جسم مشفٍّ ينفذ الضوء فيه، فليس لثبوت الضوء علة غير الكثافة.

فإذا كان قد تبين أن كل جسم من الأجسام المشفة التي تحت الفلك إذا أشرق عليه الضوء ففيه ضوء ثابت، فكل جسم من الأجسام المشفة التي تحت الفلك فيه كثافةٌ ما مع الشفيف الذي فيه، وقد تبين أن الشفيف الذي في هذه الأجسام المشفة يختلف، وإذا كان الشفيف الذي في هذه الأجسام يختلف، وكان قد تبين أن كل واحد من هذه الأجسام المشفة فيه كثافةٌ ما، فإن اختلاف الشفيف الذي في هذه الأجسام المشفة إنما هو من أجل الكثافة التي فيها، وكل ما فيه كثافة أكثر كان شفيفه أقل، وكلما كانت كثافة فيه أقل كان أكثر.

فأما شفيف الفلك فرأى صاحب المنطق (أي أرسطو) أن شفيفه أصفى من شفيف جميع الأجسام المشفة، وأنه غاية الشفيف، وأنه لا يمكن أن يكون جسمٌ أشدَّ شفيفًا من الفلك، فأما أصحاب التعاليم فيرون أن الشفيف ليس له غاية، وأن كل جسمٍ مشفٍّ فإنه يمكن أن يكون جسمٌ أشدَّ شفيفًا منه، وقد بيَّن هذا المعنى بعض أصحاب التعاليم المتأخرين وهو أبو سعد العلاء بن سهيل، فإن له مقالة بيَّن ذلك فيها ببرهانٍ هندسيٍّ، ونحن نذكر البرهان على هذا المعنى ونلخصه تلخيصًا أكثر من تلخيص أبي العلاء بن سهيل له ونشرحه شرحًا أوضح من شرحه فنقول:

إن كل ضوء يشرق على كل جسمٍ مشفٍّ فإنه ينفذ في ذلك الجسم المشف على سموت خطوط مستقيمة، والوجود يشهد بذلك. ثم إذا امتد الضوء في الجسم المشف وانتهى إلى جسم آخر مشفٍّ مخالف الشفيف للجسم الأول الذي امتد فيه، وكان مائلًا على سطح الجسم الثاني، انعطف الضوء ولم ينفذ على استقامة، وقد بيَّنا هذا المعنى في المقالة السابعة من كتابنا «في المناظر»، وأرشدنا إلى طريق اعتباره في كل واحد من الأجسام المشفة، وبيَّنا هناك أن الانعطاف يكون على زوايا مخصوصة، وإذا كان الانعطاف من الجسم الألطف إلى الجسم الأغلظ كان الانعطاف إلى جهة العمود الخارج من النقطة التي عندها يقع الانعطاف القائم على سطح الجسم الأغلظ على زوايا قائمة، وإذا كان الانعطاف من الجسم الأغلظ إلى الجسم الألطف كان الانعطاف إلى خلاف جهة العمود، وأن الضوء إذا امتد في الجسم الألطف وانعطف في الجسم الأغلظ أحدث زاويةً ما عند نقطة الانعطاف، فإنه إذا امتد أولًا في الجسم الأغلظ ثم انعطف في الجسم الألطف فإن الضوء الذي يمتد في الجسم الأغلظ على الخط المنعطف ينعطف في الجسم الألطف على تلك الزاوية بعينها التي حدثت بين الشعاع الأول وبين الشعاع المنعطف، وأن الضوء إذا انعطف من جسمٍ مشفٍّ لطيف إلى جسمين أغلظ من الجسم الأول، وكان الجسمان الغليظان مختلفي الغلظة، فإن انعطاف الضوء في الجسم الذي هو أكثر غلظًا يكون أكثر، أعني أن الضوء إذا انعطف في الجسم الذي هو أكثر غلظًا يكون أقرب إلى العمود الخارج من نقطة الانعطاف، وأن الضوء إذا انعطف من جسمٍ مشفٍّ غليظٍ إلى جسمين لطيفين وكان الجسمان اللطيفان مختلفي اللطافة، فإن انعطاف الضوء في الجسم الذي هو أشد لطفًا يكون أبعد عن العمود من نقطة الانعطاف.

وقد بيَّن بطليموس هذا المعنى أيضًا في شعاع البصر في المقالة الخامسة من كتابه في المناظر، أعني أنه بيَّن أن شعاع البصر إذا امتد في الجسم المشف ثم لقي جسمًا آخر مشفًّا مخالفًا في الشفيف للجسم الأول وكان مائلًا على سطح الجسم الثاني، انعطف ولم ينفذ على استقامته، وبيَّن أن انعطاف شعاع البصر من الهواء إلى الزجاج أكثر من انعطاف شعاع البصر من الهواء إلى الماء، والزجاج أغلظ من الماء.

وبيَّن أيضًا هناك أن البصر إذا كان في الجسم الألطف وانعطف الشعاع في الجسم الأغلظ على زاويةٍ ما، ثم مارَّ البصر في الجسم الأغلظ على الشعاع المنعطف، انعطف الشعاع على تلك الزاوية، فتبين من جميع ذلك أن كل شعاع يمتد في جسمٍ مشفٍّ ثم يتلقى جسمًا آخر مشفًّا ويكون شفيف الجسم الثاني أغلظ من شفيف الجسم الأول الذي امتد فيه، فإنه ينعطف في الجسم الثاني ويكون انعطافه في الجسم الثاني بحسب غلظ الجسم الثاني (أي كلما كان الجسم الثاني أكثر غلظًا كانت زاوية الانعطاف أعظم)، وأن كل شعاع يمتد في جسمٍ مشفٍّ ثم يلتقي جسمًا آخر مشفًّا ويكون شفيف الجسم الثاني ألطف من شفيف الجسم الأول، فإنه ينعطف في الجسم الثاني ويكون انعطافه في الجسم الثاني بحسب لطافة الجسم الثاني.

نمثل في ذلك مثلًا ليكون أوضح، فليكن (شكل ١) جسمان مشفان مختلفي الشفيف، ولتكن نقطة أ في الجسم الألطف، ولنخرج من نقطة أ سطحًا مستويًا قائمًا على سطح الجسم الأغلظ على زوايا قائمة، وليكن الفصل المشترك بين السطحين — أعني السطح المستوي وسطح الجسم الأغلظ — خط ب ج، وليكن مستقيمًا، ولنخرج من نقطة أ شعاع أ د وليكن مائلًا على خط ب ج ولينعطف على خط د ح، ونخرج من نقطة د عمودًا على سطح الجسم الأغلظ وليكن د ﻫ، ونخرج أ د على استقامته إلى و، فيكون زاوية ح د وهي زاوية الانعطاف، فإذا خرج شعاع على خط ح د، انعطف على خط د أ وخرج بعيدًا عن عمود ﻫ د ط، فإذا كان مكان الجسم الألطف الذي فيه أ جسم ألطف منه، انعطف شعاع ح د على خطٍّ أبعد عن عمود د ط، فليكن الانعطاف في الجسم الذي هو أشد شفيفًا على خط د ك، فالشعاع الذي يمتد في الجسم الأغلظ فينعطف على خط د أ يكون أقرب إلى عمود ط ﻫ، فليكن ذلك الشعاع شعاع ع د ينعطف على خط د أ، فإذا امتد شعاع على خط أ د وكان الجسم الألطف وهو الجسم الثاني كان أشد شفيفًا، انعطف على خط د ع، وإذا كان الجسم الألطف الذي فيه نقطة أ أشد شفيفًا من الجسم الألطف الثاني، كان الشعاع الذي يمتد في الجسم الأغلظ وينعطف على خط د أ أقرب إلى عموده من خط د ع، وكذلك كلما ازداد الجسم الألطف لطفًا وشفيفًا انعطف على خطٍّ أقرب إلى عمود د ﻫ، وكلما قرب الشعاع المنعطف إلى خط د ﻫ صغرت زاوية ﻫ د ع وتكون الزاوية التي تحدث بين الشعاع المنعطف وبين العمود بحسب الشفيف الذي في الجسم الألطف «فيلزم من ذلك أن يكون كيفية الشفيف إنما هو بحسب الزاوية التي عند نقطة الانعطاف.»

لا خلاف بين أصحاب التعاليم ولا خلاف بين المحققين من أصحاب الطبيعة أن كل زاوية فإنها تنقسم انقسامًا بلا نهاية، وذلك أنه إذا جعلت نقطة الزاوية مركزًا، ورُسم بأي بُعد كان قوس لوتر الزاوية، فإن تلك القوس تنقسم أجزاءً صغارًا لا نهاية لتصاغرها؛ لأن القوس التي توتر الزاوية تنقسم إلى ما لا نهاية لها، وإذا خرج من نقطة القسمة خطوط إلى نقطة الزاوية، انقسمت الزاوية في التصاغر إلى ما لا نهاية له، فكل زاوية يمكن أن يكون زاوية أصغر منها، وإذا كان شفيف الجسم إنما يكون بحسب زاوية الانعطاف، وكان لا زاوية إلا ويمكن أن يوجد أصغر منها، فلا شفيف إلا ويمكن أن يُتخيل شفيف ألطف منه، وكل ما يمكن أن يُتخيل ألطف منه فليس هو في غاية الشفيف، فليس للشفيف غاية يقف عندها.

وقد بيَّن بطليموس أن شعاع البصر منعطف عند مقعر الفلك، وأن الفلك أشد شفيفًا من الهواء، ويلزم في ذلك أن يكون ضوء الشمس وأضواء الكواكب تنعطف عند مقعر الفلك، وليعد المثال السابق ويجعل الجسم الأغلظ كريًّا، وليكن الفصل المشترك بين السطح المستوي الذي يخرج من نقطة أ وبين السطح الكري قوس ب د ج (شكل ٢)، وليكن مركزها ك، وليكن الجسم الأغلظ هو الذي يلي المركز والجسم الألطف هو الخارج عن تحديب القوس، وليكن نقطة أ بالجسم الألطف، ولنخرج شعاع أ د وليكن مائلًا عن السطح الكري وينعطف شعاع أ د على خط د ح، ونصل ك د وننفذه إلى ﻫ فيكون د ﻫ عمودًا على سطح الجسم الكري، فإذا خرج شعاع إلى خط ح د انعطف على خط د أ، فإذا كان الجسم الذي يلي أ أشد شفيفًا، كان الشعاع الذي يمتد على خط أ د ينعطف على خطٍّ أقرب إلى عمود ك ﻫ، ويتبين ذلك بمثل ما تبين في الخط المستقيم، ويصير الزاوية التي بين الشعاع المنعطف وبين عمود ك ﻫ أصغر من زاوية ح د ك، وزاوية ح د ك يمكن أن تنقسم وتتصاغر إلى غير نهاية، فيمكن أن يتخيل شفيف الجسم الألطف الذي فيه أ يتزايد شفيفًا ولطفًا إلى غير نهاية، وإذا كان الجسم الألطف هو الفلك وكانت الشمس عند نقطة أ وامتد شعاعها على خط أ د وانعطف على خط د ح، فإن شفيف الفلك لو كان أصفى وألطف مما هو عليه كان شعاع أ د ينعطف على خطٍّ فيما بين ح د، د ك، وقد يمكن أن يقع فيما بين خطي ح د، د ك خطوط بلا نهاية، ويمكن أن يُتخيل أن شفيف الفلك قد كان يمكن أن يكون أصفى وألطف مما هو عليه إلى غير نهاية.

فهذا الذي ذكرناه هو رأي أصحاب التعاليم؛ أعني أن الشفيف الذي في الأجسام المشفة يمكن أن يزداد لطفًا وصفاءً إلى غير النهاية. أعني أن كل شفيف في جسمٍ مشفٍّ فيمكن أن يُتخيل شفيف أصفى منه، فأما أصحاب العلم الطبيعي فإنهم يقولون إن كل معنى في الأجسام الطبيعية فإنه إنما يكون إلى حدٍّ ونهايةٍ، وليس يكون إلى غير نهاية، وأن الزوايا التي تنقسم إلى غير نهاية إنما هي الزوايا المتخيَّلة التي تحيط بها خطوط متخيَّلة، فأما الزوايا التي تكون في الأجسام الطبيعية والتي تُتخيل في الأجسام الطبيعية فليس تنقسم إلى ما لا نهاية له، والجسم الذي هي فيه هو على ما هو عليه؛ لأن الجسم الذي يُتخيل فيه الزاوية لا يمكن أن ينقسم إلى غير نهاية؛ لأن كل جسم طبيعي فإنه ينقسم إلى حدٍّ ما وهو على ما هو عليه من صورته، ثم إذا انقسم بعد ذلك خلع الصورة التي كانت له ولبس صورة أخرى، ومثال ذلك قطرة الماء إذا قُسِّمت إلى أبعد أجزائها فإنها تنتهي إلى حدٍّ هو أصغر أجزاء الماء، فإذا انقسمت بعد ذلك خلعت صورة الماء ولبست صورة الهواء.

ثم الهواء ينقسم إلى أصغر الصغير من أجزاء الهواء، ثم إذا انقسم بعد ذلك خلع صورة الهواء ولبس صورة النار. ثم إن النار تنقسم إلى أصغر الصغير من أجزاء النار ثم لا يمكن أن تنقسم بعد ذلك؛ لأنه ليس في الوجود ألطف من صورة النار، فإن كانت صورة الفلك ألطف من صورة النار، وكان ممكنًا أن يصير النار من جنس الفلك، انقسم أصغر الصغير من أجزاء النار وصار من جوهر الفلك. ثم إن جسم الفلك لا ينقسم، ولو يُتخيل منقسمًا لكان ينتهي إلى أصغر الصغير من أجزائه ثم لا ينقسم بعد ذلك؛ لأنه ليس في الوجود صورة ألطف من صورة الفلك. ثم إن ما يُتخيل منقسمًا بعد أن ينتهي إلى أصغر الصغير من أجزائه إن كان انقسامه ممكنًا، فإنما يُتخيل انقسام أبعاد الجسم لا جوهر الجسم، وإن أمكن أن يُتخيل جوهر الجسم منقسمًا فهو قسمة في التخيل لا في الوجود، وصاحب المنطق إنما يقول إن الفلك في غاية الشفيف يريد أنه لا يوجد من الأجسام الطبيعية أشد شفيفًا من الفلك، فلا يصح أن يوجد؛ لأنه يرى أن كل ما يصح وجوده من الأنواع قد خرج إلى الوجود.

المذهبان صحيحان؛ أعني أن الشفيف ليس له غاية في التخيل وله غاية في الأجسام الطبيعية وهو شفيف الفلك، فهذا الذي ذكرناه في الشفيف وفي الأجسام المشفة هو جميع ما يحتاج إلى علمه من أحوالها.

لقد أتينا فيما ذكرناه على تبيين جميع المعاني التي قصدنا تبيينها في هذه المقالة، فلنقتص إذًا في ختامها جميع ما بيناه فيها؛ ليكون تيسيرًا لمن أراد فهم هذه المعاني من غير بحث عن عللها ودلائلها، فنقول:

إن الذي بيناه في هذه المقالة هو أن الضوء عند أصحاب علم الفلسفة في كل جسم مضيء من ذاته هو صورة جوهرية في ذلك الجسم، وأن الضوء العرضي هو صورة عرضية تظهر على الأجسام الكثيفة التي يشرق عليها الضوء، والضوء عند أصحاب التعاليم هو حرارة نارية، الذاتي منه والعرضي هو صورة عرضية تظهر على الأجسام الكثيفة التي يشرق عليها الضوء، والعرضي إنما يظهر في الأجسام المضيئة كما تظهر النار في الأجسام الحاصلة، والشعاع هو كل ضوء يمتد على خطوط مستقيمة في جسمٍ مشفٍّ، أكان الضوء ضوء الشمس أو كان ضوء القمر أو كان ضوء الكواكب أو كان ضوء النار أو كان ضوء البصر، والأجسام المشفة هي كل ما ينفذ الضوء فيها ويدرك البصر ما وراءها، وهي تنقسم قسمين: أحدهما ما ينفذ الضوء في جميعها، والآخر هو ما ينفذ الضوء في بعض أجزائها دون بعض، والتي ينفذ الضوء في جميعها تنقسم نوعين هما: جسم الفلك والأجسام التي دون الفلك، وتنقسم الأخيرة إلى ثلاثة أقسام هي: (١) الهواء. (٢) الماء وما جرى مجراها من الرطوبات المشفة. (٣) الأحجار المشفة كالزجاج والجواهر المشفة، وشفيف الأجسام المشفة هو صورة مؤدية للضوء، والشفيف يختلف، ويعتبر اختلاف الشفيف بزوايا الانعطاف، فمثلًا إذا كان جسمان مشفان مختلفي الشفيف وامتد فيهما شعاعان وأحاط الشعاعان مع العمودي الخارجي من موضع الانعطاف بزاويتين متساويتين مما يلي الجسمين، ثم انعطفا في جسم واحد وأغلظ منهما وكان انعطافهما في الجسم الأغلظ على خطين مختلفي الوضع، وأحاطا مع العمودين بزاويتين مختلفتين مما يلي الجسم الأغلظ، كان الذي أحدثت (منه؟) الزاوية الصغرى هو أشد شفيفًا.

وهذه المعاني هي جميع المعاني التي بيناها في هذه المقالة.

وإلى هنا نختمها والله المستعان.

١  علوم التعاليم هي التي يُطلق عليها اسم «العلوم الرياضية» في زماننا هذا، ويقابلها في الاصطلاح الأوروبي «ماتيماتيقى» Mathematics والجسم التعليمي في اصطلاح «الفلسفة الطبيعية» العربية هو ما له حدود ثلاث: طول وعرض وعمق.
٢  بقوله «إن الضوء يمتد في الأجسام المشفة على سموت خطوط مستقيمة ولا يمتد إلا على سموت الخطوط المستقيمة» قد حقق أول نظرية في علم البصريات.
٣  أصحاب التعاليم؛ أي «علماء الرياضة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤