الفصل الثامن عشر

الراهب الذي ذكره مصباح أفندي تلك الليلة في نزل كنتيننتال إنما هو راهب البحيرة؛ ذاك الذي كان في طبريا يستحم بحماماتها المعدنية يوم كان القس جبرائيل مقيمًا في تلك الناحية ومريم، بل هو القس بولس عمون الذي اجتمع به القس جبرائيل بلبنان، ولما سافر فجأة من طبريا جاء إلى مصر يعلم اللغة العربية في إحدى مدارس الإفرنج، وقد يذكر القارئ أن القس بولس من علماء الكنيسة العصريين، فيلسوف روحي غزير المادة ثاقب الفكر يجمع بين أشد النزعات الدينية والأدبية مؤلفًا مقارنًا، بهي الطلعة، حاد النظرات فصيح اللسان، شديد العارضة، يحمل في عظاته الرنانة على كُفر شبان العصر مستشهدًا بفولتير، وعلى تهتكهم وفحشهم مستشهدًا بالقديس أوغسطينوس، وما لبث أن اشتهر في مصر وأصبح محترمًا معززًا في قومه يشار إليه بالبنان.

ولما ظهرت غصن البان تحدجها الشهرة من كل مكان، وجعلت الجرائد تنشر الفصول الطوال فيها مُطْريَةً مغرقة، والناس من علية القوم وعامتهم يلهجون بذكرها، طفق القس بولس يندد في عظاته بها ويحذر الناس من ذا الجنون بخزعبلات الملاهي والفنون المؤدية إلى فساد في الذوق، وفي الأخلاق، وفي العقول.

والقس بولس حر الكلمة شاذ الطباع لا يحفل بأقوال الناس إذا رام عملًا، ولا يهمه انتقاد إخوانه إذا انبرى يناصر ما يظنه حقًّا وعدلًا، فقد ذهب ذات ليلة إلى الكازينو ليشاهد بعينه رقص غصن البان، فلما ظهرت الراقصة على المسرح في مظهرها البسيط الفتان اعترته هزة إعجاب أحدثت في قلبه تأثيرًا جديدًا، بل استيقظت فيه عاطفة الحنان والوداد — أجل فقد سحر القسيس برهة كسائر الناس، أوقفت حركات الراقصة حركة المنطق فيه والبيان، أفسدت حجته، بلبلت أفكاره، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى علمه وتقاليده — إلى معقوله في الأشياء ومنقوله، واستمرَّ يندد برقصها ويحذر الناسَ من السم في دسم فنها، ومن الشر في سحرها.

وفي صباح ذات يوم بينا هو ذاهب إلى الكنيسة خطر له خاطر استعاذ بالله منه: أحق ما أقول، أَعدلٌ ما أنا فاعل؟ ومن هي يا ترى هذه الفتاة من أين؟ فإن بين رقصها ورقص بقية الراقصات فرقًا عظيمًا، في رقصها شيء من التقوى، شيء من العبادة، شيء من الحزن، أحق ما أقول فيها؟ أعدل ما أنا فاعل؟

وظلت هذه الأفكار تتجاذب معقوله ووجدانه حتى حملته ثانيةً إلى الكازينو، جاء يطلب مقابلة صاحبها الحاج محيي الدين.

فأدخله الخادم إلى الإدارة فاستقبله الحاج مرحبًا وأجلسه على الديوان، فعرَّف القسيس نفسه إليه قائلًا: وقد تظنها خبثًا ونفاقًا ممن يندد براقصتكم الشهيرة ويرغب بمشاهدة رقصها.

فهتف الحاج مرددًا وهو يعد سبحته: أستغفر الله، أستغفر الله، سبحانه تعالى جبلنا كنا من طينة واحدة؛ الحاج والقسيس والراقصة، والله سبحانه يحب الجمال.

– وهل لك أن تطلعني على شيء من أمر هذه الفتاة؟ هل هي من مصر؟

– لا يا سيدي، لا، وجاء إذ ذاك الخادم بالقهوة.

– تفضل، لا، لا، العفو! وما الغرض من سؤال سيادتكم؟

فسكت القس بولس عن الجواب هنيهة، ثم قال: سمعت أن اسمها غصن البان إنما هو اسم مستعار.

– هذا صحيح.

وأطرق الحاج قليلًا، ثم نظر إلى جليسه نظرةَ ساحرٍ يدَّعي علم الغيب، نظرةً خبيثة مزعجة وقال: أشعل سيكارة، وأطرق ثانيةً.

– ممنون.

فرفع إذ ذاك الحاج رأسه فجأةً كأنه لقي ما أضاعه، أو كأنه يسائل جليسه: وهل أنت الرجل؟ ثم قال:صحيح، صحيح، اسمها الحقيقي مريم، مريم، وقصتها عجيبة غريبة، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء، يرفع الوضيع ويخفض الرفيع، فإن نشوء غصن البان لمن أعجب الأمور، ولا أخشى أن أطلعكم على شيء من أمرها، ولا أكتم سيادتكم — أتأمرون بأركيلة؟

– ممنون لا أدخن.

– لا أكتم سيادتكم أن تنديدكم بها ينفعها وينفعنا أكثر من مديح الشعراء وإطراء الصحافيين، ووددت والله لو أن مشايخنا مشايخ الأزهر يقتفون أثركم، ما لنا وهذا؟! مريم يا سيدي ولدت في قرية صغيرة قرب الناصرة، وتربت في دير من أديرة الأيتام فيها، وخدمت سنتين في بيت أحد الوجهاء هناك، و…

وأمال الحاج بعمامته إلى الأمام وتثبت في جلسته على الديوان وهو يحدق النظر بالقسيس، ثم قال: وحدث لها من الحوادث ما لا يليق ذكرها، حوادث محزنة، محزنة جدًّا، وجاءت القاهرة من باريس، وهي الآن — لا تؤاخذني — ربة الرقص في البلاد، هذه قصتها بإيجاز، سبحانه تعالى وهَّاب الذكاء، رب النعم والآلاء، يمنحها من يشاء ويحرمها من يشاء، الذكاء نعمة، والجمال نعمة، وغصن البان …

فقاطعه القس بولس قائلًا: وهل لك أن تدلني إلى بيتها؟

– على الرأس والعين.

وصفق كفًّا على كفٍ فجاء الخادم، فقال يخاطبه: دُلَّ سيادة المحترم.

– لا، لا، لا أكلفه إلى ذلك، وليس غرضي … تَكرَّمْ بعنوانها فقط.

– كما تريد، وأدى إليه ورقة كتب فيها عنوان غصن البان.

فأخذها القس بولس ونهض شاكرًا مودعًا، فشيعه الحاج محيي الدين إلى الباب، وشيعه بنظره وبفكره إلى ما وراء الأبواب وهو يعد سبحته ويهز رأسه متأملًا حائرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤