الفصل الثالث والعشرون

دخل فريد إلى البيت راكضًا ينادي الماما، فأمسكه القس بولس وأجلسه على ركبته يقبله، ويقول: الماما نائمة الآن، ألا تحبني يا ابني؟

– من أنت؟

– أنا أبوك.

فهز فريد رأسه مشككًا ثم قال: لا، لا، عمِّي القس جبرائيل قلي البابا ساب ظليف.

– صحيح يا ابني، واليوم نراه إن شاء الله.

– اليوم؟ البابا؟ البابا كمان؟

وجعل يصفق بيديه طربًا.

– أي نعم.

– ومن أي بزي؟

– من حيفا.

– وأين هيفا؟

– حيفا عند البحر.

– البحر في تلهوم؟

– لا، لا، البحر بعيد،

فهز فريد رأسه عابسًا.

– لا يزي البابا اليوم.

وكان الصغير مصيبًا في ظنه؛ لأن عارف مبارك سافر من حيفا ذاك النهار إلى الناصرة فبات في بيته هناك، وعوَّل على أن ينهض باكرًا فيركب العربة إلى طبريا فيصل إلى بيت عمه في الغور قرب الظهر، وليلة كان في بيته بالناصرة قصَّ على والديه بعض قصة مريم وابنها وأخبرهما بما هو عازم، فسكت أبوه مطرقًا واستشاطت أمه غيظًا.

– جننت يا عارف، والله بالله! إذا فعلت هذه الفعلة؛ إذا تزوجت بهذه الفتاة الساقطة لا ترى وجهي فيما بعد، رح اعمل ما تشاء، عمُّك مجنون، وقد أصبت بعدوى جنونه، ابن مبارك يتزوج براقصة ساقطة، بل بخادمة من خادمات بيته، يا ربي يا ربي! أيَّ ذنب اقترفنا ليكون هذا قصاصنا؟ أستحلفك بالله وبأجدادك يا عارف أن تقلع عن قصدك، أن تسمع كلمتي، أن تعمل بإرادتي؛ إكرامًا لأمك الحزينة، عد إلى رشدك، ارجع غدًا إلى أشغالك بحيفا، اترك هذه الفتاة وشأنها، اتركها لعمك القسيس المجنون، هو يخلصها ببركاته وصلواته.

فانتهرها زوجها قائلًا: اسكتي يا امرأة، اسكتي، في الأمر ما لا تدركينه أنتِ، القس جبرائيل أعلم مني ومنكِ بما هو حق وما هو باطل، وعارف بعد هذا وذاك راشد يحسن إدارة شئونه بنفسه، هو الآن ولي أمره، رح يا ابني، اعمل ما تشاء وفقك الله!

– وأنت أيضًا مجنون، أنت أيضًا تريد أن ترمي بابنك إلى التهلكة ولا تهمك الفضيحة والعار.

فانتهرها زوجها ثانيةً فخرجت الست هند تسبُّه وتسبُّ أخاه وتدعو على ولدها وعليهما بالموت العاجل.

وفي صباح اليوم الثاني لما كان عارف راكبًا العربة قاصدًا طبريا جاء القس جبرائيل يسأل مريم أن ترافقه في نزهة إلى تلحوم ليريها خرائب تلك البلد القديمة، وكان قد سكن جأش مريم ذاك الصباح سكونًا يتلو العواصف أو يتقدمها منذرًا بها، فحدثها القسيس في الطريق بما قد يكون اليوم من أمرها وكشف لها الأخير من ستور السر المحجوب، فنظرت مريم إلى ما وراءه ساكتة باهتة غير حافلة، وبعد أن فكرت قليلًا قالت لمحدثها: عملت دائمًا بما تشاء فلا أقاوم اليوم إرادتك، إنني راضية إكرامًا لولدي، سأقبله زوجًا لي وإن كنت لا أستطيع أن أعيش وإياه.

– بل ستعيشين وإياه سعيدةً إن شاء الله، عارف يعشقك ولقد ذرف الدموع فرحًا حين أطلعته على خبرك وبشرته برجوعك.

– ولقد كدت أغرق في بحر من دموع العشاق المخادعين، ويا ليتك لم تنقذني منه حية.

– انسي الماضي ماضيك يا مريم، انسي تلك الأيام السوداء.

فنظرت مريم إليه نظرةً حادةً محرقةً، وهتفت قائلة: الماضي؟ ماضيَّ؟ هو شبح مفزع يمشي أمامي، يُظلم الأفق في ناظريَّ منه، يحبس عني نور الشمس، يقود نفسي إلى الهاوية، الماضي يا قس جبرائيل سوس ينخر في عظمي، نار تتأجج في دمي، نمل يدب في جسمي، الماضي؟ ليتك تعرف كيف تعيش المومسات — وقد دعيت بمصر مومسة — ليتك تعرف كيف تعيش المومسات، وكيف تموت القديسات البارَّات؟ تلبس البائسات الحرير فيظن أنهنَّ راتعات في بحبوحة من العيش باهرة زاهرة، وإن لم يلبسن الحرير يمتن جوعًا، حريرهنَّ مسوحهنَّ، والطيوب التي يذرينها على شعورهن وصدورهنَّ إنما هي رماد التقشف والتقوى، المومسة يا قس جبرائيل إنما هي القديسة، تمشي وراء ماضيها إلى النار مستشهدة، وأنا الآن أمشي وراء ماضي، ومهما كان من مستقبلي فإن ما أساق إليه هو هو، لا ينقص بلاؤه ولا يزيد، أنت يا قس جبرائيل مخلصي وأنت صليبي، قبلتك وحملتك صابرة راضية، ولكني لعنتك مرارًا في قلبي ولم أزل أكرهك.

فحاول القسيس أن يسكِّن رَوعها ويعزيها ببعض كلماتٍ ذاكرًا مريم المجدلية، فنهضت عن الحجر الذي كانت جالسة عليه في ظل صفصافة قديمة، وغيظ التهكم واليأس يحتدم في ناظريها.

– أي نعم، مريم المجدلية! المومسة القديسة، شهيدة الإيمان والغرام والأوهام، وأنا، أنا …

ثم أشارت بيدها باسمة إلى سلسبيل من الماء قريبًا.

– تفضل يا مولاي، هذا الماء وهذي يدي وهذا شعري، تفضل يا مولاي إلى الغدير! أظنك اليوم تبارك إكليلي، فتحرمني إكليل الاستشهاد.

وضحكت ضحكة أعادت الإثم إلى جفنيها واللعنة إلى فمها، فأغضى القس جبرائيل على ما بدا من تغيظها وتجديفها وقام يناعمها ويطايبها وهو عائد وإياها إلى البيت.

وبينا هما عائدان كان قد وصل عارف من الناصرة فاستقبلته لطيفة طاهية بيتهم القديمة وفريد الصغير.

يقال: إن الغريزة أصدق من العقل، ولا ريب أنها تصح غالبًا بين الآباء والبنين، لما شاهد عارف الولد الذي لم يره قطُّ حياته ضمَّه إليه وسأله عن الماما، وكان الصغير يحدجه بنظرات من نظرات الأطفال المبهمة كأنه يستطلع حقيقة أمره، ثم قال وهو يقبل الغريب: أنت البابا؟

– نعم يا ابني، أنا البابا.

– الماما لاهت تسم الهوا مع عمي القس جبلايل، وتفلَّت منه إذا شاهد أمه وركض يلاقيها ويبشرها بقدوم أبيه وهو يصفق بيديه طربًا: يا ماما، يا ماما، زا البابا، زا البابا!

فوقفت مريم في الباب والدم واقف في عروقها تنظر إلى الشابِّ الذي لم تشاهده منذ خمس سنوات نظرة الغريب القريب، بل نظرة الهاجر المحب، فتقدم إليها يقول: أتسامحيني؟ أتغفرين لي؟

فأحنت مريم رأسها ولبثت ساكتة، فمدَّ عارف إليها يديه مستغفرًا مستعطفًا: سامحيني، اغتفري، اصفحي.

فبدت على وجنتيها الدموع كالطلِّ على الورد وأخذت يدَه ذاهلةً ساكتةً واجفةً، صافحته اليد منها ولم تصافحه النفس، وليس عارف ممن يشعرون لأول وهلة ببشاشة النفس أو بتجهمها، فظل قابضًا على يدها وتقدم وإياها فأجلسها على الديوان يعتذر إليها ويستغفرها.

فدبَّت كلماته في قلب مريم دبيب النار المدخنة في جوانب البيت فأدفأته وأظلمته معًا، أحسَّت بحنوٍّ طالما تاقت إليه في هذه الأيام؛ حنوٍّ صافٍ لا تمازجه الغايات السافلة ولا يشوبه حب المكارم والجميل، فجاءها كالعاصفة دفعة واحدة فضاقت منه صدرًا، على أنه وإن كانت قد ضعفت بل ضاعت ثقتها بالناس وصارت تخشى حتى المعروف منهم والإحسان، رضيت بما ساقته إليها الأقدار إكرامًا لولدها.

جلست على الديوان تُنصت إلى كلمات عارف، معلمها السابق، والد ابنها، خطيبها الآن، ولم تفه بكلمة واحدة، وفي تلك الآونة دخل القس بولس فسلَّم على عارف مبارك، فانبرى القس جبرائيل يتمم واجبات التعريف فاضطرب عليه، فأراحه القس بولس من حيرته وتردده قائلًا: أعرفك بنفسي، أنا زوج سارة الراعية التي توفيت في الناصرة منذ خمس سنوات، والفتاة الجالسة إلى جنبك بنتي.

فبهت عارف لهذا الخبر وشرع يقلِّب نظره بمريم وبوالدها القسيس.

– لا تتعجب من جهري، من لا يخجل من الصدق أمام الله لا يخجل منه أمام الناس.

فقاطع القس جبرائيل الحديث قائلًا: دعونا من هذا الآن، لقد أشرقت الشمس؛ شمس الحب والحق وأزفت الساعة، أترضى يا عارف مريم زوجةً لك؟

– نعم، نعم.

– أترضين يا مريم عارفًا زوجًا لكِ؟

فلم تجب مريم فأعاد القسيس السؤال: أتقبلين عارف مبارك عريسًا لكِ؟

– ولماذا تسألني؟ ألم أبح لك بسر قلبي، كمِّل عملك وأرحني منك.

– سرِّي عنك يا بنتي خففي من روعك، هذي ساعة فرحك، لتكمل مشيئة الله.

ونادى إذ ذاك أجيره أبا إبراهيم ولطيفة، فقال يخاطبهما: عندنا الآن عرس يا أولادي، كوني أنت الأشبينة يا لطيفة، وأنت يا أبا إبراهيم الأشبين.

وبدأ القس جبرائيل بالصلاة، وكان فريد الصغير أثناء ذلك واقفًا إلى جنب أمه متمسكًا بردائها رصينًا عبوسًا حائرًا بما هو جار أمامه، ولما بارك القسيس إكليل العروسين ركض فريد إلى لطيفة يقول: الخلوف زاع، اسمعيه يمعق، روهي أطعميه، ثم جاء يقول لأمه: اطلعي نطلع علكلم ونأخذ البابا معنا، العنب استوى، وأنا أقطفله العنقود.

فضحك القس جبرائيل معجبًا، وقال: خذوا الحقيقة من هؤلاء الصغار، أجل لقد استوى العنب وحان وقت القطاف، ليبارككما الله ليبارككما الله!

فنظرت إليه مريم نظرة ودَّت لو أنها خنجرًا في فؤاده.

ثم هنأهما القس بولس وودعهما قائلًا: إذا كنتم تستحيون بي فسأخفي منذ الآن وجهي وأمري عن الناس، وأقيم والقس جبرائيل متنسكًا في هذه الديار.

– لا يا أبي لا، بل يجب أن تقيم معنا — معي أنا، لا طاقة لي على فراقك، سامحني أبي، اغفر لي، لقد أهنتك وجرحت قلبك ساعة كنت متألمة متعذبة، سامحني.

وأخذت يده تقبلها باكية، فقبلها القس بولس ووعدها أن يقيم قربها: إكرامًا لأمك وإكرامًا لكِ يا بنتي، ويا ليتني توفَّقت في شبابي إلى هذه السعادة التي أنعم الله بها عليك يا عارف، ليتني أُلهِمتُ إلى مثل شهامتك ومروءتك ووفائك، بارككما الله ومتعكما.

ثم قالت مريم تخاطب زوجها: قم بنا نطلع إلى الكرم إكرامًا لفريد، احمله على ظهرك، امشِ قدَّامي على مهلٍ، لا تسرع فالمشي يتعبني.

وبينا هم سائرون في البرية جلست تحت صفصافة تستريح وقد اعترتها نوبة سعال شديدة، فسألها زوجها: أمن زمن تسعلين؟

– منذ أشهر، ولم تشتد عليَّ الوطأة إلا في هذا الشهر.

– وهل استشرت الطبيب؟

– لا تسل عما يزيد بآلامي.

ثم نهضت مستنشطة تظهر من الضعف قوةً ومشت مصعدةً حتى وصلت إلى الكرم على رأس الجبل.

– ما أبدع هذا النهار، وما أجمل المشاهد حولنا! تغيب الشمس فتودعها حمائم البحيرة نائحةً باكية، ثم تشرق فتستقبلها نائحةً باكية، كأنها تدرك ما لا يدركه الإنسان من أسرار الحياة وحقائق الوجود، أنا بائسة يا عارف وأنت قليل الحظ، سيئ الطالع، عدتَ إليَّ مستعطفًا مستغفرًا يوم لا أستحق أن أرى وجهك ولا أن أسمع كلماتك، لقد تدنس جسمي، وتدنس قلبي، وتدنست نفسي، آه أوَّاه! حياتي نغمة من نوح الحمام، حياتي قطرة من دم طائر مذبوح، حياتي شعاع من هذه الشمس الغاربة، شعاع لامس الأرض فتبدد نوره، نقطة دم امتزجت بالتراب فاعتراها الفساد، أغنية سمعتها آذان البشر فضحكت منها قلوب البشر، راقصة …

فقاطعها فريد وهو قادم إليها يقول: ماما، هذا عنقود للبابا.

– خذه منه، هذا عنقود السعادة، إذا ظل على الدالية يبلى، وإذا قطف لا يدوم، بل هذا الصغير الحبيب عنقود سعادتنا، ويلاه! لولاه اليوم لكنت سعيدة، لولاه لعرفت ما أفعل، لعرفت مصيري، لقررت أمري، لأنهيت حياتي.

– ما بالك يا حبيبتي، ولِمَ هذا اليأس؟ إذا كان مرضك يُقلق بالك فمرضك إن شاء الله يزول، غدًا أعود بك إلى حيفا نستشير الطبيب، وإن كنتِ لا تحبين الإقامة هناك فأقيم وإياك حيث تشائين، ننتقل إلى لبنان، إلى مصر، إلى باريس، إلى حيث يميل قلبك.

– قلبي لا يميل إلى شيء، كان قلبي نارًا موقدة فصار رمادًا، وبلاد الله في عيني كالغور، وحياتي كالنبع المالح الذي شاهدته اليوم، الكامن في الأدغال تحيط به الدفلى وورق البردي والقصب والشوك، فإذا اخترقتها سالمًا تشاهد غديرًا بهيجًا مترقرقًا يركض إلى البحيرة منشدًا نشيد السرور، فتهتف قائلًا: ما أجمل وجهك في ظلال الدفلى والقصب، وما أبدع صوتك في سكينة الأدغال! ولكنك إذا شربت منه تجد مياهه مذقة مالحة.

– كفاك من هذه التأملات المحزنة، كفاك من هذه الأوهام، تعالي نشاهد من ذاك المطل مشهدًا يزيل الأكدار ويبهج القلوب.

– أين فريد؟

ونهضت مريم مذعورة تتلفت منادية ابنها، فأجابها من تحت الدكة ثم صعد الدرجة وجاء راكضًا هاتفًا: ماما، ماما، عسفول، عسفول.

وكان الولد قد رأى عصفورًا متفلتًا من قضيب نصبه هناك أحد الصبيان ولم يزل على جنحه شيء من الدبق، فلحقه وأمسكه وجاء والديه يريهما إياه بهجًا طربًا: عسفول عسفول، مسكته تحت الهفه.

فتأمله عارف وقال مخاطبًا عروسه: قلبك مثل جنح هذا العصفور، حطَّ على قضيب الصائد ثم تفلت ولم يزل الدبق عليه يمنعه من الطيران، لذلك أنت حردة يائسة.

– وما أقل حظ من يمسكني ويغسل جنحي، تعال يا حبيبي نمشي والبابا.

– ماما، بكله أغسل العسفول وأربطه بخيط.

– برافو فريد، برافو! لقد ردَّ صغيرنا عليك وأفحمك، اركب على ظهري، هات يديك، مكن رجليك، امشِ قدامنا يا حبيبتي فنماشيك، على مهل، على مهل.

ولما وصلوا إلى ذاك المشرف العالي بدتِ البلاد أمامهم في حلة باهية حاكتها شمس المغيب، فأكسبت مروجها رونقًا وآفاقها اتساعًا، هنا سهل الغوير يزدهي ببساتينه وتترقرق فيه الينابيع ماءً طهورًا، وماءً أجاجًا، وهناك إلى جوانب البحيرة جبال شامخة قائمة كالقلاع على ضفاف البحار، وسواد أحراجها وأدغالها يستحيل من نور المغيب ازرقاقًا فاحمرارًا فاصفرارًا، والبحيرة كالطفل على صدر أمه هادئة ساكنة تُنصت إلى هديل الحمام وتسمع فوق الهديل حفيف أجنحة النسور، وهنالك شمالًا يبدو جبل الهرمل أبيض اللمَّة يحيي الجبال المتوارية وراء قمة طابور، والشمس فوق الناصرة المحجوبة عمَّن وقف فوق سهل الغوير تشع بأشعتها الصفراء المائتة فتملأ السهول المنورة حزنًا وتصفر لفراقها وجوه الربى، وفي هذه السكينة يسمع الواقف على ذاك الجبل طنين أجراس المواشي عائدةً إلى زرائبها وأجراس خيل العربات في الطريق المختبئة تحت جفن الجبل.

فقالت مريم وهي في وسط ذا المشهد: أجمل وأحزن ما فيه؛ غروب الشمس غروب الحياة.

ثم ضمَّ فريد صوته إلى أصوات الحمام والأجراس سائلًا: بابا، أين تلوه الشمس؟

– تسوح في الأرض يا حبيبي.

– وبكله تلزع؟

– بلى.

– وليس تلوه الليلة إذا كانت بدها تلزع بكله، ما تتعب من المسي في الليل؟

فضحك أبوه وقال مطمئنًّا: غدًا نعزمها تبيت عندنا.

فضرب فريد كفًّا على كف هاتفًا: أيوا، وبكله أنام أنا والسمس، أنا أهب السمس.

فضمته أمه إلى صدرها وجعلت تقبله ضاحكة باكية.

ولما عادت وإياه وزوجها إلى البيت كان القس بولس والقس جبرائيل ينتظرانهم للعشاء، وكانت لطيفة قد أعدت لهم مائدة فخمة من سمك البحيرة المشوي والمقلي، ولحم الضأن المطبوخ بالخمر والدجاج المحمر والأرز المفلفل والمحاشي والرمان المفروط بالسكر، والجبن والعسل وتوابعهما، فقدمت الألوان دفعة واحدة على طبق كبير من النحاس الأبيض الشامي المنقوش، وهي تقول: لو كنت أحسن الكتابة يا بنتي مريم لكتبت لكِ لائحة الطعام، تفضلوا.

ولم يفهم غير مريم هذه الإشارة، فابتسمت وأشارت إلى لطيفة أن اسكتي، وجلس الجميع على مساند إلى المائدة، ولطيفة واقفة تنتظر الأوامر وتقصُّ عليهم بين الفصل والفصل من قصص فريد وعجائب ذكائه.

وقد كان إصغاء مريم إلى هذا الحديث أكثر من أكلها، وبعد العشاء قُدمت القهوة وجاءت لطيفة بأركيلة إلى سيدها عارف أفندي، وخرجت ومريم إلى المصطبة قدام الباب تستنشق الهواء، ثم عادت تقول لزوجها: غدًا نسافر من هذه الأديار، لا أقدر أن أعيش هنا، الوحشة تروعني، والحر يهلكني، أكاد أختنق.

– مؤكد، مؤكد، سنسافر غدًا.

ودخلت مريم إلى غرفتها تخلع ثيابها، ثم جلست أمام الشباك تتأمل الظلمات المخيمة على السهول والجبال، وكان الليل ليل الغور هادئًا خامدًا ساكنًا لا يحركه من أصوات الأرض غير خرير الينابيع التي لا تسمع في النهار، وصرير الجنادب الذي لا يتعشق غير الظلمة ولا يتحمس في أناشيده لها إلا إذا سكت الليل من شدة الحر منصتًا، وكانت ترى بين الأدغال وفي جوانب الربى أقسامًا من مجاري المياه تتلألأ كأنها سيوف وحراب امتشقتها العبيد السود ليدفعوا عنها بلية مقبلة، نظرت إلى السماء فرأت النجوم تهتز فيها كأنها دراهم في يد بخيل أو أزاهر من النيلوفر في بحيرات يداعبها النسيم.

شربت مريم كأسًا من يد الليل فزادتها أرقًا وغمًّا، نظرت من شباكها في وجه هذا الليل الأسود، وفي عيونه المتعددة البيضاء الصفراء، فهالها جموده وسكوته وأرَّقها منه تلك اليد الممدودة تحمل كأسًا أخرى؛ كأس الذكرى والأسى، وكأنها سمعت تنهداته وهو واقف أمامها حزينًا مثلها يقول: تعالي أحملك إلى بلاد النسيان، تعالي أسقيك في بيتي غير هذه الكأس، في بيتي عند باب الشمس.

أحسَّت مريم بشيء يشتعل في فؤادها، بل كادت تسمع فيه تأجج النيران، فهتفت صارخة: ليت شعلة من الجحيم تحرق جسدي، جسدي هذا الذي تضنُّ به نفسي عليَّ.

وراحت إلى الباب فأقفلته، ثم عادت تفكِّر بما جرى لها في فترة من الزمن قصيرة، وبما صادفته من أسباب السعادة التي تسعد أية فتاة في غير حالها.

– لقيت ابني بعد أن ظننته ميتًا، لقيت أبي فإذا هو أبٌ محبٌّ حنون رقيق الشعور كريم السجايا عظيم الخلق، وعاد من قطف زهرة حبي يستر حملي مستغفرًا فاعتنق ذنبي وتزوج عاري، أرى حولي أيادي لا تتحرك في غير خدمتي، أسمع حولي أصواتًا لا تردد غير كلمات الحب والمعروف والعطف والحنان، القس جبرائيل يغمرني بإحسانه، والدي يدهشني بعطفه وحنانه، عارف يحزنني بمروءته وشهامته ووفائه، وولدي ولدي! آه من نغمات صوته وأزاهر ابتسامه وضياء نظراته، لولاها لكنت سعيدة، لسلمت نفسي إلى الليل يحملني إلى عالم النسيان يدفنني في قلب ظلماته، نعم نعم، بنوا لي هيكلًا من أزاهر السعادة فدخلته فإذا هو خربة تصفر فيها الرياح، آه ثم أوَّاه، ما أجملك، أيام الصبوة! أيام السذاجة، ما أبهاكِ! يوم كنا نقطف زهرة الأقحوان فنعد بتلاتها مؤمنين بما تقول واثقين بما تحكم كأنها صوت من السماء، واليوم اليوم؟ إن أصوات السماء المتجسدة حبًّا وإحسانًا لتقع على آذان منا صماء وقلوب مستحجرة، ربي ما أجمل جسد الحب، وما أقبح نفسه! ما أبهجه في عينيَّ، وما أكرهه في فؤادي! ما أجمل الفضيلة بعيدة وما أقبحها قريبة! تنادينا من العلاء فننصت إليها ونجيبها ونسعى إليها طاقتنا، ثم تلمسنا بيدها المحناة بعناء الجميل فننفر منها هاربين.

وسمعت إذ ذاك بومة تنعق فاستنكرت صوتها ونهضت عن الكرسي مذعورة، فجلست على الديوان قرب السرير تمسح العرق المتصبب من جبينها ووجنتيها وصدرها، فعثرت بالذخيرة المعلقة في عنقها، فجعلت تقبلها مناجيةً أمها، وذكرت الليلة التي حلمت ذاك الحلم، فسمعت أمها تقول لها: اخرجي من القاهرة.

– خرجت من القاهرة التي فزت فيها وسقطت فيها، وها أنا في محيط من السعادة أسمع أصوات الحياة؛ حياة الفن، حياة الجهاد، حياة المجد، حياة الشقاء، فأود أن ألبيها، أمي، أمي! أنتِ الوحيدة التي لا يغير البعد ولا القرب حبها ولا الموت ولا الحياة، ليتك الآن إلى جانبي أشعر بلمس يدك وأسمع صوت حنانك اللذيذ.

وقفت أمام الشباك كأنها تنادي أمها، فسمعت زوجها يطرق الباب فلم تفتح، فظنها عارف نائمة وعاد إلى غرفته، ولكن مريم حاولت أن تنام فحال الحر دون رغبتها فخرجت من غرفتها إلى الفناء تمشي حافية على البلاط، فسرت في رجليها إلى قلبها نفحات باردة أنعشتها، ثم تحرك الليل فهبَّ نسيمه فبرَّد جسمها المحترق وجفف العرق المتصبب منه، ولامست نفحات السحر جفنيها فأخذها النعاس.

دخلت غرفتها ونامت ساعة فأيقظتها نوبة من السعال شديدة أقامتها فجأة من سريرها، فسمعها عارف تسعل فنهض من فراشه مسرعًا وجاء يحمل شمعة مضيئة، فتح الباب ودنا من مريم يسند رأسها وهي تسعل، فأحس برعشة غريبة مضنكة إذ لامست يده شعرها المبلل بالعرق البارد، وجمد الدم في عروقه حين رأى الدم في الطشت أمامه، فمرَّت في مخيلته كالبرق صورة عمه القسيس وسمع صدى لعنات رددها في قلبه.

عادت مريم إلى سريرها فجلس عارف على كرسي إلى جانبها يربت يديها ويواسيها.

– اتركني يا عارف، لا بأس عليَّ وحدي، رح نم يا أخي، رح نم، أعطني الإبريق قبل أن تتركني، وملعقة من تلك القنينة، سلمت يداك، اتركني الآن، وأقفل الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤