الفصل الرابع والعشرون

كان القس جبرائيل منشغلًا بفحص أوراق له قديمة حينما دخل عليه القس بولس والقلق بادٍ في وجهه، فحياه يسأله عن حاله: وما لي أراك مضطرب البال؟

– هل أخطأتُ في ما فعلت؟

– لم أفهم ما تريد؟

– هل أخطأت في جهري أن مريم بنتي؟

فعمد القس جبرائيل إلى أوراقه يقلبها وهو يقول دون أن ينظر إلى أخيه الراهب: وهل أنت مرتاب بما تظنه حقًّا؟

ثم دفع إليه تلك الورقة التي لقيها عند حمامات طبريا لما كان هناك واحتفظ بها، فقرأ ما فيها القس بولس مدهوشًا وقد علم أنها من أوراقه، من أوراقه، وبخط يده.

– فيها جواب على سؤالك.

– نعم، نعم، وفيها ما هو أرسخ بنفسي من التعاليم الدينية والأدبية، هذا يا قس جبرائيل من أوراقي، أنا كتبتها وحق ما كتبت: «لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم»، «الاعتراف مرهم النفس» حق هذا، حق ما كتبت، وبهذا أبشر، وبهذا أنا عامل، ولكني أحس من نفسي الآن وهنًا فاعذرني إذا لجأت إليك، العلم لا ينفع في الشدات نفع نفحة من نفس سامية أو شذرة عزاء وتشجيع من ذي خلق مجيد عظيم، فلا تضن عليَّ باليسير من كثيرك، إني متيقن يا قس جبرائيل أن أيامي ستكون كلها سوداء إذا قضيتها بعيدًا من بنتي، وإذا أقمت معها أو قربها أكون عليها وعلى زوجها منشأ عار دائم وبلاء مستمر، أنا معذب بين واجبين؛ واجب بشري وواجب إلهي، بنتي أحبها ولا أطيق وحياة الله فراقها، ولما جهرت بالحقيقة أمام عارف زلقني ببصره كأن يرميني بأفظع الآثام، طعنني طعنة أدمت فؤادي كسرت نفسي، فعلمت آسفًا أن من المستحيل أن أرى ابنتي بعد أن تنتقل إلى بيته.

– ستراها هنا، ستجيء مريم من حين إلى حين في فصل الشتاء لتقضي عندنا بضعة أسابيع.

– ولكنها لا تقيم وزوجها بلاي.

– كلام النساء، فإنها لتنساك حين تشفى من مرضها وتنساني، فتنصرف عنك وعني إلى زوجها وولدها.

– وهل تظنها تشفى من ذا المرض، إني لأخشى عليها منه، ولا أحب أن أفارقها ما زالت مريضة، أسفت لجهري المبتسر، ليتني لم أفعل.

– إن ما فعلت حق، وقد تكون واهمًا في ما تظنه بعارف، فهو كريم الأخلاق شريف النفس.

– لا أنكر ذلك، ولكنه لا يطيق أن يرى في بيته الراهب الذي هو والد زوجته، ولقد طالعت ذلك في عينيه، ولا لوم عليه، على أني أظن أنه مساق إلى ما فعل بما تقول أنت يا أبتي، لا تسئ فهمي، أظنه وزوجته ينجذبان إليك مطيعان لك، عاملان رغم إرادتهما بمشيئتك، ولا أظنهما يعيشان سعيدين، إذا شفيت البنت من مرضها.

– يا قس بولس، أنت أطول مني باعًا في العلم والفلسفة والآداب، ولكن نفسي ترى ما لا يراه علمك، إنما رجل الله يا قس بولس من عمل بحق الله، واقتبل شاكرًا مستسلمًا كلَّ نتائجه وعواقبه، وحق الله ما تم عندنا البارح، وحق الله أن نعيش صادقين مخلصين وإن عشنا تعيسين بائسين.

– وأنا اليوم كسير القلب، كسير النفس، بل أنا اليوم أشد الناس بؤسًا وبلاءً بنتي، بنتي، حرمت رؤيتها عشرين سنةً ولم أنسها يومًا واحدًا، واليوم وقد حقق الله بغيتي القصوى يفسدها عليَّ عبده، أيمنحني الله نعمة فيحرمنيها الإنسان؟ لا وحياة الله لا، سأقيم قربها ولو متنكرًا سأزورها ولو شحاذًا.

– لو كنت خامل الذكر لاستطعت ذلك، ولكنك معروف مشهور حيث سرت وحيث أقمت، والجرائد اليوم تلهج بذكرك، وا أسفاه، اقرأ ما كتبته عن غصن البان وأصحابها الرهابين، قد وصلتني هذه الجرائد اليوم.

طالع القس بولس مقالة في إحداها ونهض يلطم خديه ومنكبيه: «قد فتن القس بولس عمون الواعظ الشهير بغصن البان الراقصة وفرَّ هاربًا وإياها.» هذه الكلمات في الجريدة سملت عينيه ومزقت أحشاءه — رحماك ربي! رحماك ربي! إن بلايا أيوب كلها لو بليت بها لأخف عليَّ من هذه البلية، سأطلعهم على الحقيقة، سأطلعهم على الحقيقة، نعم نعم من السر سريرة ألبسه الله رداءها، ليعلم العالم إذن بدخيلتي، بسري، بذنبي، بعاري.

وعمد إلى القلم والورق يكتب كتابًا عموميًّا إلى جرائد القاهرة، يقول فيه: إن غصن البان بل مريم الناصرية هي ابنته من لحمه ودمه، وشخص تلك الساعة إلى طبريا فسلَّم الكتاب إلى مدير البريد هناك فنفثت بعض كربته، وعاد إلى البيت في الغوير ماشيًا يجتاز في طريق جميلة تطوق الربى إلى جانب البحيرة متغلغلة في البساتين منسابة في الحقول، فدخل المجدل والشمس تميل إلى المغيب وجلس إذا وصل إلى تلحوم يستريح، فشاهد في خرائب تلك البلد ما رسمته الشمس في أطلالها من الأظلال والأضواء المتقطعة، فقال في نفسه: وما أشبه الدين اليوم والبر والتقوى بهذه الخرائب المقدسة وما يتخللها من نور زائل وظل يميل إلى الزوال، وكلٌّ ينكر الشمس ويظنها ذراعًا من النور؛ نور الله الأزلي الأبدي، وأنتِ أيتها الشمس، بل أنت أيها السيد المسيح محجوب سناؤك، مشحوب بهاؤك، الويل لك يا كفر ناحوم، الويل لك يا بيت صيدا، يا كفر ناحوم مصر، يا كفر ناحوم فرنسا، الويل ثم الويل لك، بل الويل ثم الويل لكتبة هذا الجيل وفريسي هذا الزمان، وأنا منهم، أنا القس بولس عمون، أنا إيلياس البلان منهم، أقمت بينهم خمس عشرة سنة، اردد رطاناتهم، وأزين خزعبلاتهم، وأسلك مسلكهم، عابدًا تزاويقهم، متناهيًا في سبيل معبوداتهم، بلى، بلى، أفلم يرقني رقص غصن البان فحملت عليه؟ أوَلم أقل في نفسي ليس في ذا الرقص ما يفسد الأخلاق ويخل بالآداب ثم نددت به من على منبري؟ قريبًا، أحسست بميل إلى تلك الفتاة وفنها فلعنت الاثنين؛ لأن التقليد كان مستعبِدًا نفسي والخبث مالِكًا معقولي، ارحمني يا الله حسب رحمتك وحسب كثرة رأفتك امحُ معاصيَّ، ومهما كان من أمري وأمر بنتي فإن حناني الأبوي — اللهم — حنانك، وما حبي اللهم إلا ذرة من حبك.

صلى القس بولس في خرائب كفر ناحوم صلاة المساء وعاد إلى البيت يناجي نفسه ويقول: الرقي الحقيقي والدين الحقيقي والآداب الحقيقية إنما هي في خروجنا من أنفسنا حين يتهدم هيكلها وتغيب شمسها، حين تمسي بِلًى، بِلًى. ولماذا حمل بياني على ما أقره وجداني؟ لأني ولا مشاحة كنت كالطلل الدارس في الغور الدامس، حين تمسي مثل كفر ناحوم.

نام تلك الليلة وفكرة جديدة تشرق في نفسه، وفي صباح اليوم الثاني أخبره عارف بما قاسته مريم ولامه على مجيئهم بها إلى الغور. فقال القس بولس: والأجدر بك أن تَلُومَ عمَّك.

– عمي؟ لا أدري ما يصنع عمي، أعماله تحير العقول.

ثم جاءت مريم تقبل يد أبيها وتقول: سنسافر اليوم، هذه الساعة، ألست متأهبًا يا أبي؟

– لا يا بنتي، لا يمكنني أن أسافر وإياكم، ولا أن أقيم في المدينة معكم، ولكني سأزورك من حين إلى حين.

فصاحت مريم وقد اغرورقت عيناها: أتهجرني أبي؟ أتهجرني في شدتي.

– ولكن زوجك يا بنتي خير رفيق وخير أب لكِ.

– لا وحياة الله! لا أسافر بلاك، سأبقى هنا، سأقيم وإياك وولدي حيث تقيم، وسأخدمك وأكون لك ابنة محبة طائعة لا يهمها في العالم غير ابنها وأبيها.

– ولكنك في حالة تقضي عليك بمشورة الطبيب، وتقضي علينا بخدمتك والاعتناء بك.

– ولماذا تتركني إذن، دخيلك أبي، تعال معنا.

فقال عارف معقبًا بلهجة باردة على كلام مريم: تعال يا أبتي معنا، تعال وعمي تقيمان في البيت عندنا على الرحب والسعة، وليس ما يوجب عليك أن تطلع الناس على دخيلة أمرك.

فقال القسيس والنار تحتدم في ناظريه: ليس ما يوجب عليَّ الصدق والإخلاص؟ أنت شاب يا ابني تبتسم للحياة فتبتسم الحياة لك، ولا تدرك ما في أعماقها من البؤس والشقاء، أطلعتك على سري فازدريتني ولا حق عليك، ولست أنا لصًّا ولست نبيًّا، فأسلبك راحتك وأنذرك بما قد يكون من أمرك، كشفت لك سري؛ لأني لا أريد أن أخدعك فتخدع نفسك وتخدع زوجتك، فهل تنكرني الآن فتخدع الناس وتخدع الله؟ سأبقى بعيدًا منك وإذا أنكرتني أنا عمك والد امرأتك فلا أحرك ساكنًا في تكذيبك، اعمل ما تشاء وما تطمئن له نفسك ونفس زوجتك.

– لا تطمئن نفسي يا أبي إلا بقربك مني، والدي العزيز لا تهجرني بعد أن لقيتني، هذه ذخيرة أمي على صدري أستحلفك بها أن تسافر وإيانا وتقيم عندنا، وإذا كان عارف لا يريد ذلك فأنا أفضل الإقامة وإياك في هذه البرية، فأموت بين يديك سعيدة، نعم، نعم، أفضل أن أموت بقربك على أن أعيش بعيدًا منك.

وجاء إذ ذاك القس جبرائيل يقول: وهل وطنتم النفس على السفر؟ فقال عارف: نعم. وقالت مريم: لا.

فأسرَّ القس جبرائيل إلى القس بولس كلمة، ثم قال: سافري يا بنتي مع زوجك وولدك، وبعد يومين أزورك والقس بولس في بيتك الجديد، وإذا اصطفتم في لبنان نرافقكم ونقيم وإياكم هناك.

– أصحيح ما تقول؟ أتسافر وإيانا إلى لبنان يا أبي، إذن لنسافر من هنا.

– ذلك مستحيل، ينبغي لي أن أعود اليوم إلى حيفا لقضاء بعض حاجات وسنسافر إذا شئت من هناك بحرًا.

– ليكن ذلك يا بنتي، سافري اليوم وزوجك.

– وهل تسافر وإيانا إلى لبنان.

– نعم، نعم.

– وبعد يومين أشاهدك بحيفا عندنا؟ أتزورنا بعد يومين؟

– نعم، نعم.

– ونسافر يومئذٍ إلى لبنان.

– نسافر إلى لبنان.

وبينا كان القس جبرائيل يتناول العشاء وضيفه ليلة ذلك النهار خاطبه قائلًا: ما ضرَّك لو أقمت عند بنتك؟

– لا يضر ذلك بي بل يضر بها وبزوجها.

– وهل أنت متيقن؟ هل أنت مؤكد أن عملك هذا إنما هو إكرامًا لهما فقط، لا تجبني على هذا السؤال، أجب نفسك، أجب ربك.

– كل كلمة من كلماتك يا قس جبرائيل تفتح بابًا من الحق للنفس وبابًا من العذاب.

– والعذاب في سبيل الحق عذب، وإنه لمحتم علينا قبول ما جرَّه السالف من أعمالنا وذنوبنا، القضاء لا يرد، والله سبحانه لا تُرد أحكامه، وإن الحقيقة التي تطهر النفس لفوق السعادة، أي نعم، وما شأن السعادة يا ترى إذا قابلناها بفضائل النفس السامية، بالصدق والإخلاص والبطولة والصبر والاستشهاد في سبيل الحق، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه، ما كان مكتومًا سيعلن وما كان مختبئًا سيظهر، لتكمل مشيئة الله.

فطأطأ القس بولس رأسه مرددًا: لتكمل مشيئة الله.

وفي صباح اليوم الثاني نهض باكرًا يودع القس جبرائيل.

– إلى أين يا أبتي؟

– إلى حيفا.

فأحنى القس جبرائيل رأسها قائلًا: رافقتك السلامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤