الفصل التاسع

– ولكنه لطيف كريم، يا أمي، وعدني ببيت وبعريس إذا قبلت نصيحته وأصلحت حالي وندمت على خطاياي.

– هل هو كاهن نصراني؟

– لا هو رجل غنيٌّ، له أملاك في جهة تلحوم وعنده أجراء، ويريد أن أقيم هناك معهم فأخدم في بيته ويزوجني بشابٍّ ظريفٍ ابنِ أحد أجرائه.

– ما لكِ وهذا التلفيقَ، هو خدَّاع منافق مثل سائر الرجال، كم يدفع أجرتك في الأسبوع؟

– مجيديين.

– مجيديين فقط؟ اطلبي منه أربعة مجيديات، يدفعها، وحق الله إذا كان يحبك يدفعها وابقي معه إلى أن يسافر إلى بلاده، ثم عودي إلى شغلك، ولا تغرك تلفيقاته، من يعيشني إذا بعدتِ عني وأنا الآن مريضة، وافرضي أنني شفيت غدًا فلا أحد يلتفت إليَّ، ولَّت أيامي، يا بنتي، كبرت وشبت من الويل والشقاء، ألا ترين كيف هجرنا ذاك اللعين أبو هذا الولد، لا عاشت الأولاد، ولا عاش الرجال!

وكان الطفل إذ ذاك نائمًا فاستفاق وجعل يبكي، فجذبته بعنفٍ إليها ودقت برأسه على صدرها وهي تقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع البلاء، سأرميك في البحيرة يومًا ما وأرتاح منك ومن بذرة أبيك، هاتي الإبريق يا هيلانة، أحسُّ أنَّ في جوفي أتون نار، آه ما أحلى الموت! هنيئًا للموتى!

– أنت دائمًا يائسة يا أمي، ويحق لك أن تفرحي اليوم.

– نعم يا بنتي، الجنة التي نحن فيها تفرح القلب، اسمعي ألم تقولي لي: إن الامرأة التي مع هذا الرجل حبلى؟

– بلى.

– ارجعي إذن إلى بيته، وابقي عنده إلى أن تلدَ فأخبرك بعدئذٍ ما تفعلين، واطلبي منه أربعة مجيديات كلَّ أسبوع، أفهمت؟ أواه! أين جمالي يخدمني الآن؟ فإني الآن أعرف كيف أنتفع به، كفاك، كفاك يا بن الستين كلب! قطَّعت ثديي، هس! لا تبك، لا تبك. الإبريق يا هيلانة! احترق قلبي والله، احترق كبدي. أفهمت ما قلت لك؟ اطلبي منه أربعة مجيديات كلَّ أسبوع، وهبيه البيت والعريس.

– وربما كان هو العريس بنفسه، والله يا أمي! هو شلبي وكريم ولطيف وغني، أحبه والله أحبه.

– الله يعمي قلبك، حمارة، دابة، ماذا يريد الرجل من بنت الهوى؟ زواجها؟ لم تزالي بسيطة يا هيلانة، يتمتع بك ويتركك مثلما تركني ذاك النذل، الله يبليه بالبرص، الله يبليه بالطاعون، أتعرفين ما كنت أصنع لو كنت اليوم صبية جميلة يا بنتي؟ أعطيني الإبريق! لو كنت اليوم صبية جميلة لبنيت علية على شاطئ البحيرة أكرسها للغرام وللموت فأمتص فيها حياة الرجال وأجعلهم بعد ذلك طعمًا للأسماك، أواه! روحي إلى شغلك يا بنتي، أعطي وانسي! ولكن لا تنسي أن تطلبي من معلمك أربعة مجيديات.

وعادت هيلانة إلى بيت القسِّ جبرائيل لا تعرف بأي نصيحة تنتصح: أبنصيحة أمها، أم بنصيحة الغريب سيدها؟ ولكنها استسلمت إلى التقادير وظلت تخدم القسيس ورفيقته شهرين لتطبخ وتغسل الثياب وتجيء إلى البلد تقضي حاجاتهما وتبتاع لهما زادًا، وكانت ترافقهما في نزهاتهما أيضًا، كأنها تقيم معهما رفيقةً لا خادمةً، وكان سيدها يحسن إليها ويرشدها ويعاملها ومريمَ معاملةً واحدةً.

ولم تكن مريم لترضى بذلك، فازداد غمُّها واحتدمت نار الغيرة في موقد أحزانها؛ فنفرت من هيلانة ولم تتمالك نفسها فأخذت تخشن لها الكلام وتسيء معاملتها، وكانت هيلانة إذا حدثت مريم تكثر من ذكر الرجال وتردد بعض أقوال أمها البذيئة.

– قلت لك مائة مرة: لا ترددي على مسمعي مثل هذا الكلام.

– لا تؤاخذيني، ولكن مثلك لا تشمئز من ذكر الرجال.

– سُدِّي فمَك.

– أمرك يا معلمتي، ولكني طالبة الإفادة، سمعت الناس يقولون: إنك زوجة معلمي ولست ابنته.

– هذا لا يعنيك يا هيلانة.

– بلى يا معلمتي، هذا يهمني، فإذا كنت زوجتَه لا أفسد — والله — بينكما، بل أعود إلى بيتي، إلى شغلي.

– وما معنى كلامك؟

– معنى كلامي: إذا كنت زوجة معلمي فرزقي إذن على الله، ولو أحبني فأنا لا أفتن بينكما.

فلم تتمالك مريم أن ضحكت، فتشجعت هيلانة وتمادت بمثل ذا الحديث، فأسكتتها مريم وضربتها.

فشكتها إلى القس جبرائيل فطيب خاطرها ونصح لمريم أن تعاملها بالحسنى.

– لا نقدر أن نغير خادمتنا كلَّ أسبوع يا بنتي، ونحن نبتغي الستر والبعد عن الناس، ولا نقدر أن نعيش هنا بلا خادمة، فاصبري عليها من أجلي.

وبعد أيام بعث القسيس هيلانةَ برسالةٍ إلى أجيره في تلحوم، فأدتها وجاءت بالجواب، وفي عودتها عرَّجت على طبريا لتزور أمها، وكانت قد تعافت فأخبرتها بما جَدَّ في أمرها.

– الحقُّ معك يا أمي، كنت أظن أن البيت في تلحوم قصر وإذا هو كوخ، وأن الشابَّ ابن أجير معلمي ظريف وإذا به مثل القرد، والامرأة التي معه خبيثة شرسة، وأظنها ابنته أكرهها من كل قلبي، ضربتني بنت الكلب وعيرتني، والله لو لم تكن في تلك الحالة لأخذتها بشعرها ومرغت فمها بالتراب، لكسرت رأسها والله.

– وهل قرب يوم ولادتها؟

– لا أدري، ولكني سمعته يقول لها: إن هذا شهرها، غريبة والله أطوار هذا الرجل؛ فقد أقام في بيته حاجزًا من الخام، فأنام أنا والامرأة في شقة منه، وينام هو في الشقة الثانية، وما رأيته مرة يقترب منها لا ليلًا ولا نهارًا، وقد راقبته مراتٍ في الليل وأنا أتناوم، يظهر يا أمي أنها ابنته.

– لا فرق ابنته كانت أو امرأته، فهو يحبها وهو غني أليس كذلك؟

– بلى.

– إذن ينبغي أن ننقل من هذا البيت إلى حارة أخرى في قلب البلد، فقد دبَّرت الأمرَ وإذا سمعت كلامي وعملت بإشارتي نغتني، ابقي اليوم عندي تساعديني في النقل، وغدًا تعودين إلى بيت معلمك.

وفي اليوم الثاني عادت هيلانة تحتفظ بوصية أمها وتحمل إلى القس جبرائيل جواب أجيره في سهل المغير، وقد قال فيه: إنه سافر إلى حيفا وبحث هنالك عن عارف فلم يجده ولم يسمع له خبرًا.

فمزَّق الكتاب وملامح الغيظ والفشل تبدو في وجهه.

– وأين كنت الليلة البارحة؟

– نمت عند أمي.

– حسن، ولكنني أسألك ألا تتغيبي في هذه الأيام أبدًا، لازمي معلمتك، ولا تغيظيها بشيء، والتي مثلها اليوم تضيق أخلاقها، فكوني طائعة أمرها صابرة عليها، أفهمت؟ وأعطاها ثلاثة مجيديات.

– نعم، أمرك سيدي.

– وسأعطيك ليرة عندما تلد معلمتك.

– كثَّر الله خيرك.

وراحت الفتاة إلى شغلها، وراح القسُّ جبرائيل يداوي نفسه في الحقول، وكان الشتاء وقتئذٍ قد همَّ بالرحيل، فصعد في الجبل فوق الحمامات وجلس على صخرة هنالك بدأت تنطق بجمال الربيع، فنورت في نخاريبها بعض زهيرات أخذ القسيس واحدة منها وطفق يقلبها في يده وهو يقرأ في كتابه المحبوب «كتاب الاقتداء بالمسيح»، ثم نظر إلى البحيرة وقد صفا وجهها، وهي نائمة تحت قدميه كالطفل في رابعة النهار والنسيم يهز سريرها والحمام فوقها ينتحب وينوح، فهتف صارخًا.

– يولي الشتاء والحمام لا يفتأ ينوح، يجيء الربيع والحمام ينتحب وينوح، تبتسم الطبيعة لهذه الأماكن المقدسة والحمام فيها ينوح، تنيرها الشمس فتدفئها وتحييها وينيرها القمر فيخفي معاصيها والحمام لا يزال ليلَ نهارٍ يبكي وينوح، فما سرك أيها الحمام وما خبرك؟ أفي نفسك نفس تلاميذ السيد؟ أفي صوتك صوت المريمات؟ أفي انتحابك تتجسد أصوات الدهور وأنين الشعوب؟ أو هل هو نبأ من أنباء الرب القدوس تردده الأيام والأنام فيسمعناه في مهد روحياته الحمام؟ آه، أواه! وإن في الإنسان مهما تقلبت أطواره ومهما تغيرت أيامه صوتًا مثل صوت الحمام حيًّا أبديًّا، آه، أواه! إن فيَّ سرك أيها الحمام، وفيَّ خبرك، ولو تممت غدًا أشرف مقاصدي وأسماها، لو تكلل غدًا مسعاي في سبيل الفتاة مريم لكان الغد أسعد أيامي، ولسمعت مع ذلك نوح الحمام؛ نوح الحمام في الجليل ونوح الحمام في نفسي، آه، أواه!

«ارحمني يا رب حسب رحمتك، حسب كثرة رأفتك امح معاصيَّ، اغسلني كثيرًا من إثمي، ومن خطيتي طهرني؛ لأني عارف بمعاصيَّ، وخطيتي أمامي دائمًا.»

وبينا هو عائد إلى البيت زالت سكرته الروحية وأحس بنار الجسد تتأجج في صدره، فأخفى دخانُها نورَ بره وتقواه وأسمعه اضطرابُه صوتًا يقول: قسمتُ يمينًا أن أرعى هذه الفتاة وأصونها من تصاريف الزمان، وحين أراها تهتز لها جوارحي كلها، يبتسم لها فؤادي، أحبها وأكرهها، أودُّها بعيدةً مني قريبةً، لحظاتها ذبحت نذري، سكوتها هدم مذبحي، تأوهاتها فرطت مسبحتي، كلماتها محت اسم الله من كتاب صلاتي، آه أواه! إيلياس البلان! إيلياس البلان! أين أنت؟ عارف، عارف! أين أنت؟ لو علمت اليوم أن أباها في الهند لذهبت بها إليه، ولو علمت اليوم أن عارفًا في أميركا لسافرت وإياها إلى أميركا، ولكنَّ الله وقد أخفى عني وعنها الاثنين يريد أن أحمل الحمل وحدي، لتكمل مشيئتك يا رب، لتكمل مشيئتك، ولكنَّ القسُّ جبرائيل عبدك إنما هو بشر يا ربي، ومنذ أخذ يد مريم بيده يوم ماتت أمها سارة ما زالت أمواج الحب والعفة تتلاطم حول نفسه.

«قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرفني حكمة، طهرني بالزوفا فأطهر، اغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج، أسمعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظام سحقتها، قلبًا نقيًّا اخْلِقْ فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جَدِّدْ في داخلي، لا تطرحني من قدَّام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني.»

ولم تكن مريم أقلَّ غمًّا واضطرابًا من القسِّ جبرائيل، بل كانت نفسها تردد دائمًا صدى تأوهاته البشرية، وهي في بلاء أشد من بلائه؛ لأنها وحدَها لا تعرف لمن تشكو مصابها ولا لمن ترفع عتابها، الراهب وصيُّها يناجي اللهَ فيجد في يقظاته الروحية بعضَ التعزية، وهي تناجي نفسها فتزداد حسرةً واحتراقًا، وإن فتاةً في عمرها ومزاجها لقيت باكرًا أشدَّ المحن وأخبثَها ولم تستيقظ الروح فيها لجديرة بعطف غير عطف الناسك، وبحبٍ بشريٍّ لا تشوبه إلهيات البررة الزاهدين، وأما القس جبرائيل فكان يمازج عطفه وحنانه وإرشاده شيءٌ بلبل بال مريم وزاد بحيرتها وعذابها، فلم تدرك سرَّ اضطرابه ولم تحسن فهم إرشاده وعتابه، ولما ألبسها الذخيرة التي أعطته إياها سارة لم يقل لها: إن تلك الذخيرة من أمها، فظنت الفتاة أنها منه وفرحت لذلك، إلا أن إقامتها وإياه في ذاك البيت تحت سقف واحدٍ وليس بينهما غير حاجز من الخام أزعجها جدًّا وكاد يهدُّ قواها، وفوق ذلك لم يكن يأذن لها أن تحدث أحدًا من الناس أو أن تخرج وحدها إلى النزهة، فسئمت مريم الحياة وضاقت صدرًا، ولم تكن تجسر أن تحدِّثَ القسَّ جبرائيل بما يُكِنُّ فؤادُها، ولكن ما بدا في شحوب وجهها وفي ذبول عينيها وفي ضعفها وسقمها وأخلاقها كان ينطق بأفصح بيانٍ بما في أعماق قلبها الكسير، فيسمعه القسُّ جبرائيل ساكتًا صابرًا، ويلجأ إلى الله؛ صونًا لنفسه لا صونًا لنفسها، وتخفيفًا لآلامه لا تخفيفًا لآلامها.

وعلى هذه الحال قضت وإياه شهري حبلها الأخيرين، وفي ذات يوم عند غروب الشمس بينا كان يصلي على شاطئ البحيرة جاءت هيلانة إليه تقول: معلمتي متألمة جدًّا، فبعثها إلى البلد تستدعي قابلةً: أسرعي، خذي العربةَ عند الحمامات، وارجعي وإياها حالًا. فامتثلت هيلانة أمرَه، ولمَّا وصلت إلى طبريا ذهبت توًّا إلى أمها.

– الليلة، الليلة.

– طيب، وهل استدعيتم القابلة.

– أنا ذاهبة الآن إليها.

– حسن، عند القبور بعد ساعة أو ساعتين ولا تنسي ما قلت لك، تشجعي وتيقظي وكوني رشقة وشاطرة.

وفي تلك الليلة ولدت مريم بعد طويل العذاب وشديد الألم طفلًا ذكرًا، وكان القس جبرائيل ينتظر على شاطئ البحيرة خلاصَها، فجاءت هيلانة تبشره بذلك، ثم سارعت إلى جهة القبور فكلَّمت شخصًا واقفًا هناك تقول: بعد ساعتين، أجيئك بعد ساعتين.

وفي الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقد كانت القابلة أنجزت عملها ونامت، وكانت مريم والطفل والقسيس نيامًا كذلك، نهضت هيلانة تتسلل إلى فراش القابلة فأخذت الطفل من جانبها فاستفاق باكيًا، فاستفاقت لبكائه القابلة، فتظاهرت هيلانة بأنها تربته وتطايبه لينام، ثم عادت إلى فراشها تترقب الفرصة، ونهضت بعد نصف ساعة فحملت الطفل النائم وأسرعت به إلى الشخص الذي كان ينتظرها عند القبور، وعادت إلى فراشها فنامت ناعمة البال نومة البررة الأطهار.

ونهض القس جبرائيل باكرًا صباح ذاك اليوم فدخل على مريم ليهنئها ويشاهد ولدها، وكانت النساء الثلاث لم يزلن نائماتٍ فأيقظ القابلةَ وسألها عن الطفل، فنظرت حولها يمينًا ويسارًا ثم نهضت تصفق كفًّا على كف وتصيح، فأسكتها القسيس وأيقظ الخادمة هيلانة وما كاد يتم سؤاله حتى أخذت تبكي وتقسم بالله وبالأنبياء، فاستدعا الاثنتين إلى الخارج؛ خوف أن يوقظ لغطهما مريم فتعلم بالحادثة فيجهز عليها.

– لما عدت أنا إلى البيت يا هيلانة كان الباب مفتوحًا وكنت خارجًا.

– نعم سيدي.

– وهل أقفلت الباب عند رجوعك؟

– لا، تركته مفتوحًا حسب العادة، والله يبليني ويضربني بالسبع ضربات إذا كنت … فأومأ بيده أن اسكتي، وأوعز إليها وإلى القابلة أن يقولا لمريم: إن ولدها عند المرضعة في البلد ترضعه إلى أن تتعافى.

وراح يسرع إلى الحمامات مشتت الفكر مضطرب البال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤