إلى روح أبي

كان والدي رحمه الله يحب الشعر ويحفظه ولطالما ردد على مسمعي قصائد طويلة، فأتعجب من ذاكرته التي ظلت نشطة حيَّة حتى آخر أيام عمره الأربعة والثمانين. ولم يسمح لي حبه للغة العربية أن أنصت مرة واحدة إلى نشرة الأخبار بشكل كامل؛ إذ كان يصوِّب لفظًا هنا، وعبارة هناك، ويأخذ بشرح قواعد ما عرفتها إلا منه. وكان لا يرضيه الخطأ، ويأسف لبعض المذيعين إذ لم يتقنوا فن الأداء الصوتي والنبرة اللازمة في الاسترسال والوقوف. ورفض في شهر أكتوبر من عام ١٩٥٦م الالتحاق بالإذاعة البريطانية BBC، بعد نجاحه في اختبار مذيعي الأخبار، نصرة لجمهورية مصر العربية عقب تعرضها للعدوان الثلاثي آنذاك.

أما عن اللغتَين الفرنسية والإنكليزية اللتين أتقنهما وترجم عنهما مختلف المواضيع، فقد كان لمجهوده الذاتي أكبر الأثر في بلوغ ما طمح إليه من معرفة واطلاع لم ينتهِ، إلا بعد أن أصاب الداء الأصفر عينيه في السنوات العشر الأخيرة؛ فأقعده عن الترجمة التي كان يعشقها، وعن مطالعة كتب مكتبته الضخمة التي كان قد أعدها وحرص عليها؛ ليتابع شغفه في أثناء فترة التقاعد.

لقد كان أبي محبًّا للعلوم الإنسانية، من تاريخ وأدب وفلسفة وشعر وتصوف وعلم نفس، ومحبًّا للتعمق في أديان العالم وثقافات الشعوب، من سياسة وأساطير وحكايات. لطالما أذهلني بوافر اطلاعه، حتى أيقنت أن الله سبحانه اختصَّ أدمغةً دون غيرها لتلقي هذا الكم الغزير من الثقافة، الذي قلما تجد مثيله بين البشر.

أما مزاجه المتفرد وتفضيله العزلة، وعدم سعيه للشهرة فكان له الدور الأكبر في ندرة من يعرفونه؛ إذ إن أصدقاءه لم يتجاوزوا الخمسة، ولقاؤهم على الأغلب كان يجري بشكل دوري في أحد المقاهي من مدينة حلب حيث مسقط رأسه. وفي أثناء عمله رئيسًا لدائرة التسويق في الهيئة العامة لحلج وتسويق الأقطان. كانت له أسفار عديدة إلى كل من الهند والصين واليابان، وإلى إسبانيا وإيطاليا وغيرها من البلدان التي كانت تستورد القطن السوري.

لقد كان أبي حنونًا عطوفًا، طيبًا حد البكاء. وأذكر أنه كان يغريني بالهدايا، إن حفظتُ بعض المقاطع الأدبية التي كان ينتقيها خصوصًا، من أجل أن أحذوَ حذوه في حب الشعر والأدب واللغة العربية. كما كان له الفضل الأكبر في تأسيسي على قواعد اللغة العربية والفرنسية التي اعتمدت عليها لاحقًا في مهنتي.

وأذكر حين عدتُ يومًا باكية؛ لأنني لم أحرز المرتبة الأولى كما عادتي في المرحلة الابتدائية، أذكر أنه احتضنني ومسح دمعتي، وهنأني وخفف عني حزني؛ فكان درسًا في التواضع، والثقة بالنفس، وتقبل عثرات الدرب وما ستحمله لاحقًا إليَّ الحياة.

أحَب والدي أحفاده لابنته الوحيدة، وأسهم في تربيتهم، وعمل حثيثًا على نقل معارفه إليهم. وأحب القطط حبًّا شديدًا؛ إذ قلما خلا بيتنا منها، فكان يعطف عليها، ويعمل ما في وسعه، إن أصاب أحدها مكروه أو مرض.

كان أبي من الذوَّاقين جدًّا للطعام كمعظم أهالي حلب، حتى إنه كان يقول لأمي باستمرار إن له الفضل في إتقانها فن الطهي من خلال ملحوظاته، فصارت، وهي ابنة اللاذقية، من أمهر من أعد الأطباق الشهيرة الخاصة بمدينة حلب.

كنت وددت — ككل من فارق أحبته — لو قضيت معه أوقاتًا مديدة، ولو أنني خدمته أكثر، لكن زحمة الحياة ومشاغلها، والمسئوليات والأعباء التي ألقتها على عاتقي كانت جمة؛ فكانت الفترة الأطول التي بقيت فيها بجانبه قبيل وفاته، خلال علاجه في المشفى؛ حيث التقى بربه بعد أزمة شديدة في القلب، فارق على إثرها الحياة وهو يدعو لي ولزوجي وأولادي: اللهم ارضَ عنهم جميعًا، ولا تُرِهم الضيم أبدًا.

رحمكَ الله وأمي وأسكنكما فسيح جناته.

آمين يا رب العالمين.

لينة نهاد خياطة قطان
٢٠ / ٣ / ٢٠٢٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤