الفصل الثاني

ظاهرة الشَّطح في التصوُّف الإسلامي

(١) البحث الأول

١

أورد السراج الطوسي في «لُمعه» تعريفين للشطح، أولهما قوله: الشطح كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى إلا أن يكون صاحبه مستلبًا ومحفوظًا،١ وثانيهما قوله عبارة مستغربة في وصف وجد فاضَ بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته.٢ ويقول أيضًا: فالشطح لفظة مأخوذة من الحركة لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم؛ فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارة يستغرب سامعها.٣
لكن السراج، رغم غرابة العبارة الشاطحة، يحذر السامع لها من إنكارها؛ فالسامع — في نظره — إما هالك أو ناج: هالك بالإنكار، أو ناج «برفع الإنكار عنها والبحث عما يشكل عليه منها بالسؤال عمَّن يعلم علمها، ويكون ذلك من شأنها.»٤
وهو يسوغ الشطح ويعده أمرًا طبيعيًّا، موضحًا ذلك بالمثال التالي: ألا ترى أن الماء إذا جرى في نهر ضيق فيفيض من حافتيه يقال شطح الماء في النهر؛ فكذلك المريد الواجد إذا قوي وجده ولم يطق حمل ما يرد على قلبه من سطوة أنوار حقائقه؛ فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكلة على مفهوم سامعيها إلا مَن كان من أهلها ويكون متبحرًا في علمها.٥
ثم يختتم السراج الطوسي الباب الذي عَنونه في «لمعه» بعنوان كتاب تفسير الشطحيات التي ظاهرها مستشنع وباطنها مستقيم، محذرًا مَن ليس له قدم في علوم القوم أن ينكر عليهم فيقول: «ومَن لم يسلك سبلهم، ولم ينحُ نحوهم ويقصد مقاصدهم، فالسلامة له في رفع الإنكار عنهم، وأن يَكِلَ أمورهم إلى الله تعالى ويتهم نفسه بالغلط فيما ينسبه إليهم من الخطأ.»٦
يقودنا تعريف الشطح على النحو المتقدم إلى شرح لفظة جاءت فيه وهي «الوجد»، التي يعرِّفها صاحب اللمع نقلًا عن أبي سعيد الأعرابي بقوله: الوجد ما يكون عند ذكر مزعج، أو خوف مقلق، أو توبيخ على زلة، أو محادثة بلطيفة، أو إشارة إلى فائدة، أو شوق إلى غائب، أو أسف على فائت، أو ندم على ماض، أو استجلاب إلى حال، أو داع إلى واجب، أو مناجاة بسر، وهي مقابلة الظاهر بالظاهر، والباطن بالباطن، والغيب بالغيب، والسر بالسر، واستخراج ما لك بما عليك مما سبق لك لتسعى فيه؛ فيُكتب لك بعد كونه منك، فيثبت لك قدم بلا قدم، وذِكر بلا ذِكر.٧
يتولَّى الدكتور عبد الرحمن بدوي شرح هذه الفقرة في كتاب «شطحات الصوفية» بما يلي: وليس من شك في أن الوجد بالنسبة إلى الشطح هو آخر ما ذُكر من دواع، وهو المناجاة بسر، وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن، أي الشعور بالهوية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه، فيشعر بأن المعبود هو الباطن، وأن العبد هو الظاهر، فباطن العبد هو ظاهر المعبود، وباطن المعبود هو ظاهر العبد، فناسوت الله يُظهر سرَّ سنا لاهوته الثاقب، كما يقول الحلاج.٨
لكن الدكتور بدوي، واقعًا تحت إغراء العبارة المدورة، يخطِئ في شرحه إذ يقول؛ فباطن العبد هو ظاهر المعبود، وباطن المعبود هو ظاهر العبد. فهذا القول لا يتفق مع ما سبقه وما لحقه؛ فهو تفسير مقحم بين ما قبله وما بعده إقحامًا يجعل العلاقة وكأنها التقاء بين باطن العبد وظاهر المعبود، وبين باطن المعبود وظاهر العبد؛ على حين يريد الأعرابي المقابلة بين ظاهر المعبود وظاهر العبد، وبين باطن المعبود وباطن العبد. أي لكلِّ من المعبود والعابد ظاهرًا وباطنًا وكل منهما يلتقي أو يتقابل مع ما يماثله ويناسبه، لا مع ما يناظره أو يضاده — كما يريدنا الدكتور بدوي أن نفهم من كلام الأعرابي؛ يؤكد ذلك قول هذا الأخير الذي تلا عبارة مقابل الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن — قوله: «والغيب بالغيب، والسر بالسر.» ثم يمضي الدكتور بدوي في شرح عبارة الأعرابي فيقول: وقوله «استخراج ما لك بما عليك مما سبق لك لتسعى فيه.» معناه أن تستخرج للعبد حقيقته الإلهية التي وُجدت وجودًا سابقًا، وعليه، وقد تبينها أن يسعى إلى الظفر بها من جديد، وذلك بما عليه؛ أي بأدائه ما يجب عليه من حقوق الرعاية وواجبات نحو الحق. هنالك يُكتب له ما كان له، أي يصير ويستحيل من الناسوت إلى اللاهوت؛ فيتحقق الاتحاد بين كليهما، أو بالأحرى يفنى الناسوت ولا يبقى ثم غير اللاهوت؛ لأنه هو الذي كان في الأصل، أي يثبت له اللاهوت بدون الناسوت، ويثبت له ذِكر بلا ذِكر، أي يستحيل إلى الذِّكر نفسه بوصفه المذكور، فلا يعود بعدُ في حاجة إلى الذِّكر، إذ استغنى بالذِّكر المذكور عن الذِّكر الذاكر، فصار ذِكرًا (= مذكورًا) بلا ذِكر (- ذاكر).٩
وفي تعريف الوجد يقول أبو القاسم القشيري: «الوجد ما يصادف قلبك ويرد عليك بلا تعمد ولا تكلف.» وينقل عن أستاذه أبي علي الدقاق قوله: «كل وجد فيه من صاحبه شيء فليس بوجد.»١٠ أي إن العفوية ركن أساسي في الوجد وإلا فهو دعوى وتكلف، وأنه لا دخل للإنسان أو لإرادته في حصوله؛ وهو غالبًا ما يحصل عند انتقال الصوفي من حال ساكنة إلى حال محركة، بتأثير وارد من واردات الحق تعالى على قلبه؛ فيستثير كوامن الشوق إلى الوصول، ولعل من المفيد أن نضيف أن هذا الوجد هو الوجد في درجاته الدنيا، وهو أدنى درجة من الوجد الباعث على الشطح.
ويميز القشيري بين الوجد والوجود بقوله: أما الوجود فهو بعدُ الارتقاء عن الوجد، ولا يكون وجود الحق إلا بعد خمود البشرية؛ لأنه لا يكون للبشرية بقاء بعد ظهور سلطان الحقيقة.١١ وبذلك يكون الوجد نوعًا من التغيير الداخلي ينسلخ به الصوفي عن وجود يفقده إلى وجود «يوجد فيه».

٢

بعد أن ينقل الدكتور بدوي تعريف الشطح عن السراج الطوسي والوجد عن أبي سعيد الأعرابي، يأتي إلى تعريف الشطح ينقله عن العلاَّمة الفرنسي، المستشرق لويس ماسينيون١٢ بالقول إنه تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية؛ فتدرك أن الله هي وهي هو. ويقوم إذَن على عتبة الاتحاد. ويأتي نتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه. فينطلق بالإفصاح عنه لسانه. وفيه يتبين هذه الهوية الجوهرية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه، فيتحدث على لسان الحق، لأنه صار والحقُّ شيئًا واحدًا؛ ومن هنا ينتقل الخطاب إلى صيغة المتكلم بعد أن كان — في حال المناجاة — بصيغة المخاطب، وفي حال الذِّكر بصيغة الغائب. لكن مَن المخاطِب ومن المخاطَب؟ والأحرى أن يكون كلاهما واحدًا؛ ولذا لا يفترض غير يتوجه إليه الخطاب؛ وهذا هو الأصل في تحريم إذاعة ما يجري في النفس إبان هذه الحال. ومَن أذاع فقد شطح. لكن هل كان في وسعه إلا أن يذيع؟ ذلك هو مأزق الصوفية؛ فشدة الوجد ترغمه على الإذاعة، والمذاع سر بين العبد والرب؛ لأن التفرقة انتفت وصار اتحاد. ولهذا يمكن أن يقال إن الشطح سرٌّ للصوفي لا بد منه. هنالك تتخذ الكلمات عند النفس امتلاءها الخاص بحقيقتها الواقعية، وتسمع في باطنها أحاديث قدسية، ثم تصلح النفس لغتها وفقًا لتلك الأحاديث وعلى وصيد الاتحاد تقف ظاهرة الشطح، هذه الدعوة إلى التبادل، فيوزع العاشقان باستبدال كل منهما دوره بدور الآخر، وترغب النفس في التعبير، «بصيغة المتكلم» ومن غير شعورها بذلك، عن مقاصد المحبوب، وإن في هذا لأشد امتحان لتواضعها، وإنه لختم لاصطفائها.١٣
يؤسس الدكتور بدوي على هذا الكلام قوله إن الشطح يقوم على عناصر خمسة: أولها شدة الوجد، وثانيها أن تكون التجربة تجربة اتحاد، وثالثها أن يكون الصوفي في حال سُكر، ورابعها أن يسمع في داخل نفسه هاتفًا إلهيًّا يدعوه إلى الاتحاد فيستبدل دوره بدوره، وخامسها أن يتم هذا كلُّه والصوفي في حال من عدم الشعور، فينطق مترجمًا عما طاف به متخذًا صيغة المتكلم وكأن الحق هو الذي نطق بلسانه.١٤

نقول: إن الشطح المعبر عن «تبادل الأدوار» لا يحصل إلا عند ذروة الاتحاد، وهي النقطة التي يتقاطع عندها الحق والخلق، أو الزمان والأزل، لا عند وصيد الاتحاد أو عتبته. يؤكد ذلك ما جاء في المقطع المنقول توًّا: فتدرك (النفس) أن الله هي وهي هو وهذا اتحاد. وكذلك قوله: «وفيه يتبين هذه الهوية الجوهرية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه، فيتحدث على لسان الحق؛ لأنه صار والحقُّ شيئًا واحدًا وهذا أيضًا اتحاد.» أما قوله: «ومَن أذاع فقد شطح … والمذاع سر بين العبد والرب؛ لأن التفرقة انتفت وصار اتحاد … فإقرار صريح بأن الشطح (المعبر عن تبادل الأدوار) يجري في ذروة الاتحاد، لا عند الوصيد وحسب!»

٣

فالاتحاد — في نظرنا — يقتضي المساواة التامة بين العاشق والمعشوق، أو بين الحق والخلق. لأن جدلية التجربة الصوفية (نفي الإنسان لإثبات الألوهة ونفي الألوهة لإثبات الإنسان والتركيب الناتج عن نفي النفي الذي يتمثَّل في ثبوت الإنسان في الألوهة وثبوت الألوهة في الإنسان) تبدأ من نقطة اضمحلال البشرية أو الفناء عن النفس والخلق، أو الفناء عن السوى، أو فناء الصوفي في الله. وفي ذروة فناء الصوفي في الله، أو امتصاص التجلِّي في المبدأ، أو اندراج الخلق في الحق، يبقى «المبدأ» بلا تجلٍّ أو لا خلق، فيكون مجرد «أزل»، أو «لا وجود». لكن فناء الصوفي في الحق هو — في نفس الوقت — فناء للحق في الخلق، أو امتصاص للمبدأ في التجلي، مما يترتب عليه — في نفس الوقت أيضًا — أن يوجد الحق في الخلق، وأن يوجد الخلق في الحق وعندما قال أبو يزيد البسطامي: (بطشي به أشدُّ من بطشه بي)، كان يعبر عن هذه الحقيقة. فتبادل الأدوار إنما هو تعبير عن الإفناء المتبادل، بمقدار ما هو تعبير عن الإيجاد المتبادل. إن فعل الفناء — بحد ذاته — يصدر عن المبدأ، ويكون التجلي محلَّه، ما هو إلا فناء للمبدأ نفسه، في نفس الوقت. وفي المقابل، إن فعل البقاء يصدر عن المبدأ ويكون التجلي محله، وما هو إلا بقاء للمبدأ نفسه. فكأن الصوفي يقول: «أفناني فأفنيتُه، وأبقاني فأبقيتُه!» وهكذا نرى تبادل الأدوار يجري في الذروةِ، لا عند الوصيد.

٤

وبعدُ ما هي «المناجاة بسرِّ» أو المكاشفة المولدة للسكر، وبالتالي للشطح؟ يقول الدكتور بدوي: إنما يقصد بالسُكر هنا انتشاء الروح بمكاشفة الحق لها (= للنفس الإنسانية) بسرِّه وبأنه هو هي وهي هو؛ فتطرب أشد الطرب لاكتشاف هذه الحقيقة فسكرها إذا شدة غبطتها بمعرفة سر وجودها، وهو أن وجودها هو وجود الله أو أنها هي الله أو أنه ليس ثم إلا الله وفقًا لأنواع الاتحاد.١٥

٥

وأخيرًا، يورد الدكتور بدوي هذا التعريف للشطح منقولًا عن كتاب «التعريفات» للشريف الجرجاني: «الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، تصدر عن أهل المعرفة باضطرار واضطراب. وهو زلات المحققين، فإنه دعوى حق يفصح به العارف لكن من غير إذن إلهي.»١٦
يعقِّب الدكتور بدوي على هذا التعريف بقوله: «وفي هذه العبارة نشاهد الرأي الغالب عند متأخري الصوفية والكتَّاب عامة ممن لا ينكرون هذه الظاهرة، ولا يستشنعون الكلمات الشطحية، بل يرون أن الخطأ الوحيد فيها هو أن أصحابها يفصحون عنها دون إذن إلهي. وأصحاب هذا الرأي إنما يريدون التوفيق بين الاعتراف بصحة الشطحيات وبين إنكار ما يدل عليه ظاهرها مما استبشعه أهل السُّنة … وخصوم الصوفية. ولهذا جاء رأيهم هذا غامضًا لأنه لا معنى لقولهم دون إذن إلهي؛ إذ إن أولئك الذين باحوا بهذه الأسرار لم يشعروا بأنهم أذاعوا أسرارًا محرمة. كما أنهم جعلوا كل الشطحات تندرج تحت هذا، ونقصد بالشطحيات كل الكلمات التي تتصف بالخصائص التي أوردناها في أول هذا البحث؛ فلم يذكر هؤلاء الكتَّاب أن ثمة كلمات من هذا النوع قد أذن بها (أقول: وفي هذه الحالة لا تكون شطحًا!) وأخرى لم يؤذن بها، بل كل ما وجدوه مما يخالف المألوف عدوه شطحًا، وإذًا فلا معنى لهذا القول دون إذن إلهي، إلا إذا كان قد تم الإذن بالنسبة إلى كلمات من نفس النوع؛ أما وهذا لم يحدث، فقولهم هذا غير محصل؛ وما لجئوا إليه إلا من باب الاعتذار عن تلك الكلمات دفاعًا عن أصحابها ضد الفقهاء وخصوم الصوفية.»١٧

٦

هنا تنهض أمامنا الملاحظاتُ التاليةُ:

  • أولًا: لا نجد تفسيرًا لماذا نسيَ الدكتور بدوي، وهو في صدد تعريف الشطح، قول ماسينيون: «لكن مَن المخاطِب ومَن المخاطَب؟ الأحرى أن يكون كلاهما واحدًا، وهذا هو الأصل في تحريم إذاعة ما يجري في النفس إبان هذه الحال. ومَن أذاع فقد شطح.»١٨ (قلتُ: ولعل الأَولى أن يقال: ومَن شطح فقد أذاع!) وقد كان حريًّا به أن يعين من أي جهة جاء هذا التحريم، وهو لو فعل لوجد أن عبارة «دون إذن إلهي» الواردة في تعريف الجرجاني، لها معنًى من عدة أوجه. من هذه الأوجه أن للحق — تعالى — فيما نحن بصدده صفتين: صفة التشريع وصفة التحقيق. فصفة التشريع تجعل منه الحارس الساهر على الشريعة كما جاء بها الكتاب والسُّنة، ودليلها قوله تعالى: إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر ١: ٩). وصفة التحقيق، وهي مكاشفة العبد بسرِّه — تعالى — التي تنطق عن نفسها على لسان الصوفي. فعلماء الظاهر لا يستطيعون إدراك هذه الحقيقة؛ لأنهم ينظرون إلى الموضوع من موقعهم هُم لا من موقع الصوفي. ولذلك تُعتبر الأقوال التي تصدر عنه وهو في حالة الجذب، مخالفة للشريعة والله تعالى لا يأذن بذلك، بل يحض على التمسك بتعاليمه والائتمار به بأوامره والانتهاء عن نواهيه. فالجرجاني يصف كلمة الشطح بقوله إنها «دعوى حق» لكنه ما يلبث أن يستدرك؛ فيقول إنها تصدر عن العارف «من غير إذن إلهي»؛ فكلمة الشطح صحيحة من وجهة نظرِ الحقيقة، وهي غير صحيحة من وجهة نظرِ الشريعة، وهي بالتالي غيرُ مأذون بها.
  • ثانيًا: الشريعة للعموم، والحقيقة للخصوص. الشريعة حدود والحقيقة لا حدود. ولا بد للحقيقة من الاختباء وراء حجاب الشريعة في دخولها إلى عالم الزمان والمكان، وفي تفاعلها مع التاريخ. بذلك تكون الشريعة هي الصدفة التي تحفظ الدرة من العطب. الشريعة تكليف، أوامر ونواهٍ وعبادات. والحقيقة تعريف وتشريف. تعريف الحق بنفسه للخاصة من أوليائه وتشريف لهم بهذا التعريف لأنه لم يأتِ بكسب منهم، بل هبة منه تعالى يهبها مَن يشاء من عباده، وهم غير مأمورين بتبليغها وهي — بهذا الاعتبار — «سِر» بين الله — تعالى — وبين العارف، لا يملكه هذا الأخير حتى يفشيه؛ فإذا أفشاه كان إفشاؤه له تصرفًا فيما لا يملك. والصوفي لا يفشي أسرار الحق وهو في حالة الصحو — أعني مقام ثنائية العبد والرب — لأنه — وهو في ذروة المواحدة — قد اتَّصف بجميع صفات الحق تعالى، ومنها صفتا التشريع والتحقيق. فبالتحقيق يعرف السر، وبالتشريع يحافظ عليه فلا يشيعه؛ لأن إشاعته تجعل المحدود (= الشريعة) غير محدود، مما يؤدي إلى التهاون في مراعاة الأحكام. فإذا شطح المريد، وهو في حال سُكر، أي عن اضطرار وغلبة، فصفة الحارس الساهر على حدود الشريعة التي استمدها من الحق لا تأذن له بالبوح، لكنه في نفس الوقت لا تؤاخذه بشطحه، لأن السَّكران في حكم غير المكلف أو ناقص الأهلية؛ فالسكران الشارب للخمر، وهو في حال أخف وطأة ممن تجرع الخمر الإلهية، إذا أخلَّ بالقانون والنظام أوجد فيه القاضي ظروفًا مخففة للعقوبة أو أعفاه منها بالكلية لا لأن إخلاله بالنظام مأذون به، بل لأنه اجترح مخالفته عن غير وعي منه؛ فعلى قدر الوعي تكون المسئولية. أو قُل إن سلطان الحقيقة إذا ظهر لم يقف في وجهه شكل؛ فهو كالسيل الجارف لا تمنحه حدود ولا ترده سدود. إنه بمثابة «القوة القاهرة» في المصطلح الحقوقي.
  • ثالثًا: حفلَ الأدب الصوفي وافتن افتنانًا منقطع النظير في التماس التأويلات من الكتاب والسُّنة لشطحات الصوفية، كما فعل أبو القاسم الجنيد بالكثير من شطحات أبي يزيد البسطامي.١٩ فإذا جاءت الشطحة، بعد التأويل، متفقة مع الكتاب والسُّنة عُدَّت في «حكم المأذون بها» عملًا بالقاعدة الشرعية المعروفة في بيع المتطوع لمال غيره: «الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة»، وإذا لم يمكن تأويلها تطوى ولا تروى ولا تؤدَّى، كما يقول ابن تيمية وكثير غيره من الفقهاء والصوفية؛٢٠ وعندئذٍ تكون «من غير إذن إلهي.» وتكون عبارة الجرجاني من قبيل الاحتياط وسد الذرائع لكيلا يحتذيها من ليس له قدم في علوم القوم، اتباعًا للأولياء وتقليدًا لهم، فيأثم!
  • رابعًا: قول الدكتور بدوي: «وما لجئوا إليه إلا من باب الاعتذار عن تلك الكلمات دفاعًا عن الصوفية ضد الفقهاء وخصوم الصوفية. إن هذا القول لا ينطبق على قول الجرجاني: «من غير إذن إلهي.» الذي هو إدانة صريحة لمَن يشطح، بقدر ما ينطبق على قوله حين يصنف الشطح بأنه «دعوى حق»!»

٧

عندما يتساءل الدكتور بدوي عما يقع في السكر، يجيب بقوله: «إن سببه هو مكاشفة الحق للروح بسر الاتحاد. وهذه المكاشفة (تأتي) على هيئة طائف أو هاتف يأذن لها أن تستبدل بدورها دوره، فتتحدث عن لسانه، ويعلن أنه يبادلها حبًّا بحب، وأن الأنية قد رفعت بينهما، فصارا شيئًا واحدًا. وهذا هو العنصر الخاص في هذا الجانب من التصوف عند المسلمين. فأحوال الوجد وطلب الاتحاد والسكر كلُّها توجد في أنواع التصوف الأخرى؛ أما هذا التبادل في الأدوار بين العبد والحق والإذن له بالتعبير بصيغة المتكلم فهو العنصر الجديد حقًّا في التصوف الإسلامي. ويمكن تفسيره على أساس أن الهوة وقد بعُدت كل البُعد بين الله والعبد — والتصوف هو المحاولة المضادة للتقريب بينهما — قد اندفع فأوغل في الطريق إلى الطرف المقابل تمامًا. الأطراف في تماس؛ والتطرف في جانب لا يمكن أن يعالج إلا بالتطرف في الجانب المضاد. أما وقد جاءت الشريعة بالغلو في الفارق بين المخلوق والخالق، فلتأتِ الحقيقة في التوحيد بين العبد والمعبود. ولهذا لم نجد هذه الظاهرة — ظاهرة الشطح — في التصوف المسيحي مثلًا.»٢١

٨

لسنا ندري مقدار ما في هذا الكلام لبدوي ومقدار ما فيه لماسينيون أو جلسون، الذي سينقل عنه بدوي مباشرة بعد هذه الفقرة فكرة التوسط بين الله والناس في المسيحية. على كل حال يحتاج الأمر إلى بعض الملاحظات والتصويبات:

  • أولًا: إن صفتَي البُعد والقرب الإلهيَّين، أو المفارقة والبطون، تمثِّل كل منهما قيمة نفسية إنسانية، وتعين موقف الإنسان من الألوهة، وهما عنصران من عناصر التوازن النفسي … وكل وضع يميل بعنصر من عناصر التوازن بعيدًا عن نقطة المركز، سرعان ما تقلبه النفس، في نزوعها إلى التوازن، إلى ضده تحقيقًا لتوازنها ومعافاتها، وهو ما يُعرف عند هيراقليطس بالانقلاب الضدي أو الانقلاب المضاد enantiodromia ويكون الناتج التركيبي توسطًا بين الأقصيَين.
  • ثانيًا: خلافًا لما يذهب إليه بدوي أو ماسينيون أو جلسون، ليس إسلام الشريعة، كتابًا وسُنَّة، هو الذي أوغل في البُعد، بل هو إسلام التاريخ؛ ونعني به تفاعل النص مع الواقع الخارجي من خلال الإنسان في سياق الزمان والمكان، والضرورات التي تقتضي تكييفًا أو تكيُّفًا بين قطبَي الذات والموضوع، فإسلام الشريعة، كتابًا وسُنة، اشتمل على كلتا قيمتي المفارقة والبطون، أو البُعد والقرب بما يكفل تحقيق التوازن النفسي في الإنسان المسلم، لكن إسلام التاريخ كان مضطرًّا لأسباب مرحلية (كما يمكننا القول هذه الأيام) وهو يواجه الوثنية الجاهلية التي كانت تمثل امتصاص «المبدأ الإلهي» في تجلياته، أو اغتراب الألوهة في أشياء العالم حتى لقد كانت «تُصنع» من التمر وتؤكل عند الحاجة أو تبول عليها الثعالب؛ أقول: كان إسلام التاريخ مضطرًّا إلى دفع صفة المفارقة إلى أقصاها في مواجهة منتهى البطون في الوثنية حتى يصل إلى التصوف الجامع بين الحقيقة والشريعة. لقد قوبل نفي الألوهة بنفي الإنسان وصولًا إلى إثبات الألوهة في الإنسان وإثبات الإنسان في الألوهة؛ وبذلك أعيد للنصوص التي اشتملت على قيمة القرب محلها من الاعتبار، بعد أن كان إسلام الصدر الأول مقتصرًا على قيمة المفارقة وحدها وكان يُفسر أو يُئول كل نص فيه معنى القرب أو البطون لصالح قيمة المفارقة، حتى لقد انتهى الأمر بالمعتزلة إلى القول بنفي الصفات عن الألوهة.٢٢
  • ثالثًا: ونحن نعتقد أن الشطح ما هو إلا صيحة دهشة تنطلق من الصوفي؛ إذ يفاجأ أن الله أقرب إليه مما كان يظن (من حيث إن ثقافة عصره قد علمته صفة المفارقة فقط!) ويتحقق تجريبيًّا من أن الله تعالى … «أقرب إليه من حبل الوريد!» ثم إن هذه الصيحة يمكن اعتبارها، من جانب آخر، صيحة تحدٍّ واحتجاج على ثقافة العصر التي أوغلت في «الأحادية» إلى مداها الأقصى ولسان حاله يقول: «إن الإله الذي عرفته هو غير إلهكم الذي صورته عقولكم العاجزة الضعيفة، ولذلك أرفضه!»

٩

لكن ما بال الأديان الأخرى لا تشطح؟ أعني صوفية الأديان الأخرى. يقول بدوي (ولعله ينقل عن جلسون في مؤلفه عن «اللاهوت الصوفي عند القديس برنار» باريس ١٩٤٧م، ص١٤٢ و١٥٦): … ولهذا لم نجد هذه الظاهرة — ظاهرة الشطح — في التصوف المسيحي مثلًا، لأن فكرة التوسط تلعب منذ البداية … دورها الخطير في التقريب بين الله والمخلوقات، والتجسد هو أظهر تعبير في هذا التوسط؛ بحيث كان من عقائد المسيحية الرسمية الجوهرية اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح؛ لهذا لم يكن للصوفي المسيحي أن يتطرف في جانب الاتحاد.٢٣
نقول: إن لقيمة القرب أو البطون في المسيحية، وتعبر عنه بالتجسيد، جحانًا على قيمة البُعد أو المفارقة، أو تساويها على الأقل. لكن هذه المساواة بين القيمتين التي تمثلت بالإنسان الإلهي، الذي هو من جانب إنسان ومن جانب آخر إله لم تكن كذلك منذ البداية، بل تعرضت إلى نوسات أو تأرجحات بين الأقصيَين على مدى القرون الأربعة أو الخمسة الأولى من المسيحية. فالسميصاتية قالت بالتبني المنبعث من إنكار اللاهوت في المسيح أصلًا بمعنى أن المسيح إنسان عادي بسيط، وُلد بطريقة فائقة الطبيعة من الروح القدس ومريم العذراء، وقد حباه الله يوم معموديته القوة الإلهية بنوع خاص وتبناه. وقالت الأريوسية: «إن الله واحد فرد غير مولود، ولا يشاركه شيء في ذاته تعالى. فكل ما كان خارجًا عن الله الأحد إنما هو مخلوق من لا شيء بإرادة الله ومشيئته» … «والكلمة» مخلوق، بل إنه مصنوع وإذا قيل إنه «مولود» فبمعنى أن الله تبناه … فهو دون الله مقامًا، ولو كان معجزة الأكوان «وذهب ثيودروس المصيصي إلى أن يسوع ليس ابن الله حقًّا وفعلًا. وإن أُطلقت عليه هذه التسمية؛ فبمعنى أنه أصبح أهلًا لها، بالنعمى فقط. والذي وُلد ومات ليس ابن الله بل هو ابن الإنسان داود.٢٤
لكن هذا الخلاف لا يمسُّ، في الحقيقة، قيمة القرب أو البطون بما هي كذلك، وإنما يتصل بحدودها ومداها وطبيعتها؛ فالقديس المسيحي الممتلئ بأقوال السيد المسيح التي اشتمل عليها إنجيل يوحنا خصوصًا،٢٥ ولا سيما المتعلق منها بوحدة الله والكلمة، لا يفاجأ بقيمة القرب عندما يتحقق في الله ذلك التحقق الذي أسماه ف. شيئون ﺑ «التحقق الميتافيزيقي»، ويعني به عندما يعي الإنسان ما لا ينقطع أبدًا عن الوجود، أي الاتحاد الجوهري للإنسان بالمبدأ الإلهي، الذي هو وحده الحقيقي.»٢٦ فإذا تحقق المسيحي بالخبرة؛ فإنه لا يتحقق بجديد عليه، بل بما كان يختزنه في وعيه قبل الخبرة؛ أي أن ما تلقنه بالإيمان يرتفع عنده إلى درجة اليقين؛ وما تعلمه بلا برهان أو دليل يصبح عنده يقينًا هو برهان نفسه. فإذا انتفى الشطح في المستطيقا المسيحية، أو كاد، فلانتفاء المفاجأة والدهشة اللتين هما الباعث الأساسي عند الصوفي المسلم على الشطح، حتى ليمكننا القول إن المريد الذي يتربَّى ويسلك على يد شيخ مرشد يلقنه قيمة القرب تلقينًا متدرجًا وعميقًا يصل به إلى حد الموازنة التامة بينها وبين قيمة المفارقة؛ إن هذا المريد لا يشطح عند الوصل؛ من هنا تكتسب التربية المريدية وسلوك الطريق على خُطا شيخ راسخ القدم في علوم القوم أهميتها ومشروعيتها. فالشطح في جانب منه، إشارة إلى أن الوعي الديني لم يكن مكتملًا عند الشاطح قبل ولوجه غمار تجربة الاتحاد أو المواحدة. وفي جانب آخر منه إيذان بأن النفس قد وضعت أولى خطاها على طريق التوازن.

١٠

لكن، هل يتحقق القديس المسيحي بقيمة القرب وحدها، أم له في قيمة البُعد نصيب؟ إني لأميل إلى الإجابة بالإيجاب. لعل الصوفي المسيحي إذ يتحقق بقيمة البعد يقع في الخيبة، بمقدار ما يقع الصوفي المسلم في الدهشة عندما يتحقق بالقرب وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنَّا الصليبي: «إن البون شاسع بين طبيعة الله القدسية وطبيعة البشر لا نهاية له. لا يستطيع الإنسان أن يدرك ولا الخيال أن يحيط في هذه الحياة باتحاد مع الله أو نحوه. فكل شيء أشد مفارقة لله وأبعد نسَبًا به تعالى.»٢٧ ويقول ديونيسيوس الأريوباغي: ليس بوسع العقل أن يرقى إليه ولا أن يسميه أو يعلمه … وليس يصحُّ عليه إثبات ولا نفي … فهو يسمو على كل إثبات بما هو العلة الكاملة والوحيدة لجميع الأشياء، وعلى كل نفي بتقدم طبيعته البسيطة والمطلقة الخالية من كل حد، ووراء كل حد.٢٨

هذا، ومع ذلك فقد نجد في المسيحية مثل هذه الشطحات:

«أنا الرب الإله القدير باديًا في صورة الإنسان.»

ومثل:

«ليس كملاك أو رسول جئتُ، ولكن كالرب الإله الآب.»

ومثل:

«أنا الآب والابن والبارقليط.»٢٩

١١

فيما يتعلق باليهودية وغياب ظاهرة الشطح عن صوفيتها رغم أن اليهودية، يقول بدوي، تتصور الفارق بين المخلوق والخالق على نفس النحو الذي يتصوره الإسلام؛٣٠ يقول صاحب شطحات الصوفية: «إن الجواب على هذا يسير، وهو أن فكرة اليهودية عن الله كانت من الإرهاب بحيث لم تعطِ الصوفي اليهودي الثقة بنفسه بحيث يتطلع إلى الاتحاد المطلق بالألوهية؛ لأن إله إسرائيل إله جبار منتقم يرسل الصواعق والطوفان؛ وبالنسبة إلى هذا الإله تنتفي معاني الأُنس والحب والقرب وما يطوف بها من معان هي وحدها التي تشجع المرء على الاقتراب من الحضرة.»٣١
نقول: إن الجواب ليس باليسير الذي يريدنا الدكتور بدوي أن نتصوَّره:
  • أولًا: لأن المبادرة في التجربة الصوفية تأتي من الله لا من الإنسان. وكلُّنا يعلم أن المريد مراد قبل أن يكون مريدًا، والمحب محبوب قبل أن يكون محبًّا، بل إن الذاكر مذكور قبل أن يكون ذاكرًا. في التجربة الصوفية، المبادرة دائمًا تأتي من الله تعالى، ولا خيار فيها للإنسان، والدكتور بدوي عندما يعلق الاتحاد المطلق بالألوهة على ثقة الصوفي بنفسه، يهوديًّا كان أم غير يهودي، فمن حيث إمكانية بلوغ هذا الاتحاد، يجعل الخبرة تابعة لإرادة الإنسان حتى ليستطيع كل مَن يتطلع إليها أن يختبرها. وهذا مجافٍ للحقيقة.
  • ثانيًا: لماذا غاب عن الدكتور بدوي أن اليهود يعتقدون بأنهم «شعب الله المختار»، وأن الله اختصهم من دون أمم العالم برعايته ومحبته. ويزعمون أنهم أَبنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (المائدة: ١٨) وأن الله كلَّم نبيهم موسى تكليمًا؟ هل هذا كله ما تنتفي معه معاني الأُنس والحب والقرب وما يطوف بها من معان هي وحدها التي تشجع المرء على الاقتراب من الحضرة؟ هذا على افتراض أن ثبوت هذه المعاني في النفس يشجِّع المرء على الاقتراب من الحضرة، وانتفاءها يثنيه عن الدنو منها.
  • ثالثًا: إن الدكتور بدوي — على ما يبدو — لا يفرِّق بين الشطح والاتحاد الصوفي، مما يترتب عليه، منطقيًّا، القول بأن مَن لا يشطح فهو غير واصل أو غير متحد، أو أن مَن يصل أو يتحد لا بد له من أن يشطح. وسوف نعالج في فقرات تاليات هذا التخبط الذي وقع فيه صاحب شطحات الصوفية.

١٢

لسنا نظن أن الحال يختلف عند الصوفي اليهودي عنه عند غيره من صوفية الأديان الأخرى، ما دامت التجربة الصوفية تجربة عالمية تتكرر في كل زمان ومكان. ففيما يتعلق بقيمة القرب والبطون يقول أحد صوفية اليهود: «الله يملأ الأثير كله، ويملأ كل شيء في العالم … كل شيء فهو فيه، وهو يرى كل شيء … لأن الله قادر على رؤية العالم في صميم وجوده هو.»٣٢ ويقول آخر: «الله أقرب إلى الكون وإلى روح الإنسان من الروح إلى الجسد.»٣٣ وفي المحبَّة نقرأ هذا القول: «الروح ممتلئة بحب الله ومقيدة بحبال المحبة جذلًا وغبطة … عندما تعرق الروح في خوف الله تتفجر فيها شعلة الحب التي يحسها القلب ويملأ القلب انتصار الجذل الأعمق … كل شيء فهو لا شيء بالنسبة إليه إلا أن يفعل مشيئة خالقه ويحسن إلى الآخرين ويسبح اسم الله … وكل تأملاته وأفكاره تحترق بنار حب الله.»٣٤
وعن تجربة الاتحاد يقول أحدهم: «الإنسان الذي يشعر باللمسة الإلهية، ويدرك طبيعتها، لا يعود منفصلًا عن ربه، يرى أنه في ربه وأن ربه فيه، إذ يتحد به اتحادًا وثيقًا حتى لا يستطيع أن ينفصل عنه بأي وسيلة.»٣٥

ما يلفتنا في الشواهد المتقدمة جنوح الطرفين: الخوف والمحبة، إلى التلاقي والانقلاب المضاد المتمثل في عبارة و«عندما تغرق الروح في خوف الله تتفجر فيها شعلة الحب.»

مما تقدَّم نخلص إلى القول بأن الشطح تعبير عن دهشة الصوفي؛ إذ يفاجأ بأن الألوهة أقرب إليه مما تعلمه من الفقهاء أو علماء الكلام الذين أعطوا قيمة المفارقة صفة الإطلاق استجابة لضرورة تاريخية ونفسية ناشئة عن مواجهة إسلام الصدر الأول للوثنية الجاهلية وما أعطته من إطلاق لصفة البطون. والشطح، من جهة دليل على حصول قلق في بنية الصوفي النفسية أوقعه فيها الغلو في قيمة المفارقة. وهو من جهة ثانية، إيذان بأن التوازن آخذ مجراه في هذه البنية — إن كُتب لصاحبها السلامة! نتيجة لتلاقي قيمة المفارقة بقيمة البطون، مما يخفف من غلوائها ويحُد من مطلقيتها، إذ يجعل منها قيمة نسبية.

وليس من الضروري أن يشترط في الشطح تجربة الاتحاد، كما ليس من الضروري أن يشترط فيه تبادل الأدوار؛ لأن هذَين الشرطَين قد يصدقان على نوع معين من الشطح، وهو الشطح الذي يتكلم فيه الحق على لسان الخلق، أو الخلق على لسان الحق، ومثاله شطحة أبي يزيد البسطامي عندما قال: «سبحاني ما أعظم شأني!»

أما قول الحلاج «أنا الحق؛» فمن المشكوك فيه أن يكون من الشطح؛ لأن هذا القول تضمنه كتابه «الطواسين» الذي أملاه شهيد الصوفية وهو في سجنه، ولم يرد هذا الكتاب، ولا هذه «الشطحة»، في «لائحة الاتهامات» التي جمعها ولفقها الوزير الفاسق حامد بن العباس.٣٦ زد على ذلك أن الحلاج لم يقُل قولته هذه مكتفيًا بالوقوف عندها، بل مضى يعللها بقوله: «إن لم تعرفوه (الله) فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت بالحق حقًّا، وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطِّعت يداي ورجلاي، ما رجعتُ عن دعواي.»٣٧

(٢) البحث الثاني

١

يربط الدكتور عبد الرحمن بدوي بين التوحيد في أعلى درجاته وبين ظاهرة الشطح، مؤكدًا أن مَن لم يبلغ هذا المقام لا يمكن أن تُنسب إليه ظاهرة الشطح، فما هو هذا التوحيد؟ يقول صاحبُ شطحات الصوفية:

إن التوحيد الذي يلقنه الصوفي في حال السُّكر هو شهود الحق في ذاته لذاته وفناء الذات الخاصة في ذات الألوهية، وأنه ما ثم إلا الله؛ فوجود العبد وجود الرب والعكس؛ ولهذا يمكن أن يُنسب إلى العبد ما يُنسب إلى الرب من صفات وأسماء. والصوفية الذين لا يرون هذا التوحيد لا يمكن أن تُنسب إليهم ظاهرة الشطح.٣٨
نقول إن هذا التوحيد هو توحيد الخاصة وهو أن يشهد الحقُّ لنفسه بنفسه بالوحدانية على لسان مَن شاء من خلقه، دون تدخل من الخلق. وهو، بمعنًى آخر، ذهاب ثنائية العبد والرب، وفناء العبد في الرب، بحيث لا يعود يرى شيئًا إلا الله تعالى. في هذه الحالة، إذا نطق العبد بشهادة التوحيد، يكون الله تعالى هو الموحد لنفسه على لسان عبده. والفرق بين توحيد العامة وتوحيد الخاصة أن توحيد العامة ينفي الألوهية عمَّا سوى الله — تعالى — بينما لا يتوقف توحيد الخاصة عند هذا الحد بل يتعداه إلى نفي «الوجود» عمَّا سواه تعالى. بعبارة أخرى، إن شهادة التوحيد تقتضي توحيد الشهادة، بحيث تنتفي معها ثنائية الشاهد والمشهود، فلا يشهد للحق إلا الحق. وإلى هذا المعنى ذهب ابنُ عطاء الأدمي بقوله: علامةُ حقيقة التوحيد نسيانُ التوحيد، وهو أن يكون القائم له واحدًا.٣٩ وبهذا المعنى قال الجنيد: التوحيد معنًى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم، ويكون الله — تعالى — كما لم يزل،٤٠ وقال أيضًا: «علم التوحيد مباين لوجوده، ووجوده مباين لعِلمه»،٤١ أي أن علمك بتوحيدك لله تعالى نفي للتوحيد، وقيام الحق تعالى بتوحيد نفسه بنفسه على لسانك نفي لعلمك بتوحيدك؛ لأن توحيد الحق يقتضي فناء الخلق!
يترتب على ذلك أن الصوفيَّ الذي يشطح في مقام التوحيد ينبغي أن تأتي شطحتُه من طبيعة هذا المقام الذي ارتقى إليه، أي أن تكون متعلقة بتوحيد الحق لنفسه بنفسه. لكن الدكتور بدوي لم يأتنا بشاهد على كلامه من شطحات الصوفية، مكتفيًا بالإشارة إلى هذا المقام إشارة عابرة ويمكننا أن نتصور الشطح في مقام التوحيد كأن يرِد على لسان الصوفي عبارة من مثل: «لا إله إلا أنا!»، أو «لا أنا إلا أنا!»٤٢ في هذه الحالة، يمكننا أن نقول، في تفسير هذا النوع من الشطح التوحيدي، أن الحق تعالى هو الذي نطق على لسان الصوفي، إذا نظرنا إلى الشطحة من الداخل؛ أو نقول إن الصوفيَّ هو الذي نطق على لسان الحق تعالى، إذا نظرنا إليها من الخارج. وفي الحالين يكون الصوفي محوًا في شهود العيان. بناءً على ذلك، يمكننا اعتبار قول بدوي «والصوفية الذين لا يرون هذا التوحيد لا يمكن أن تنسب إليهم ظاهرة الشطح» من قبيل عدم التدقيق؛ لأن الشطح الذي يصدر في مقام التوحيد ليس هو مطلق الشطح، أو أي شطح كان، بل لا بد أن يكون من طبيعة المقام الذي بلغه الصوفي، أي «شطح التوحيد» إن صح التعبير.

٢

ثم يقول صاحب «شطحات الصوفية» في تحديد صفة العارف: والصوفيُّ إذا بلغ هذه المرتبة لأول مرة يبدأ يأخذ صفة العارف؛ فإن العارف يكون بمشهد الحق، إذا بدا الشاهد وفني الشواهد وذهب الحواس (نقله عن الكلاباذي)؛ ثم يؤكد أن «المعرفة تصدر عن الشطح، والشطحات إنما تصدر من أهل المعرفة.»٤٣ ويقول «إن علامة العارف، أول دخوله في المعرفة، الشطح؛ ومن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصح أن يسلك في عداد العارفين بالمعنى الصحيح، وإن كان الناس … قد توسَّعوا في معنى العارف فلم يشترطوا فيه المرور بدور الشطح؛ ولكننا نحسب أن هذا التوسع هو من عدم التدقيق. ذلك أن المعرفة بالمعنى العالي الدقيق هي التوحيد والمرء لا يبلغ منزلة التوحيد إلا في حال السكر وما يتلوها.
إلا في حال السكر وما يتلوها، والسكر يقتضي بالضرورة الشطح؛ فالشطح إذَن مرحلة ضرورية في طريق التوحيد أعني في تحقيق المعرفة، وبالتالي في تكوين صفة العارف عند السالك.»٤٤

في كلام الدكتور بدوي شيء غير قليل من التناقض فضلًا عن قلَّة الدقة في تمييز العلة من المعلول. ويمكننا إجمال ما لنا عليه من ملاحظات في النقاط التالية:

  • أولًا: قوله إن المعرفة تصدر عن الشطح من شأنه أن يعلق معرفة العارف على صدور الشطح عنه. والصحيح أن كلًّا من المعرفة والشطح يصدر عن الخبرة (وهي خبرة مواحدة أو اتحاد أو توحيد). وقد يعرف العارف ولا يشطح، خصوصًا إذا تم إعداده على يد شيخ مرشد يلقنه قيمتي القرب والبُعد، أو البطون والمفارقة، على نحو متوازن. مثلًا لم يؤثر عن الجنيد، وهو شيخ الصوفية، أنه شطح!
  • ثانيًا: قوله والشطحات إنما تصدر من أهل المعرفة يتناقض مع قوله الأول من أن «المعرفة تصدر عن الشطح»، إلا أن يكون بين المعرفة والشطح علاقة سببية متبادلة، وهذا غير صحيح.
  • ثالثًا: قوله إن علامة العارف، أول دخوله في المعرفة، الشطح؛ ومَن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصح أن يُسلك في عداد العارفين بالمعنى الصحيح. هنا أيضًا يعلق المعرفة على الشطح؛ لا بل يجعل من الشطح مرتبة مَن لم يبلغها لا يصح أن يُسلك في عداد العارفين؛ فكأنما أصبح الشطح عنده مقامًا من المقامات التي ينبغي للصوفي أن يتدرج صعودًا كي يبلغه. مع أن الشطح، في حقيقة الأمر ليس كذلك. وكنا بيَّنا أن الشطح مرهون بعنصر «المفاجأة» الناتجة عن تحقيق الصوفي بأن الله تعالى هو غير ما تلقنه في أوساط الفقهاء وعلماء الكلام الذين ذهبوا بقيمة المفارقة إلى حدها الأقصى؛ الأمر الذي استوجب من قيمة البطون، وهي قيمة نفسية كامنة في الإنسان أن تعدل من رجحان كفَّة المفارقة تحقيقًا للتوازن النفسي. وهذا التعديل قد يجري بشكل مفاجئ عندئذٍ يكون الشطح، أو بشكل هادئ فلا يكون ثمة شطح. والتوازن الحاصل هو المطلوب في التجربة الصوفية؛ بحيث لا ترجح قيمة المفارقة ولا تشيل قيمة البطون. وفي الحالين يكون الصوفي عارفًا، لا يقدح في عرفانه عدم الشطح. يؤيد ما ذهبنا إليه قول الدكتور بدوي نفسه ناقلًا عن جلسون وهو في صدد تعليل ظاهرة الشطح، قوله إنها ناشئة عن تماس الأطراف، الناشئ بدوره عن الغلو في الفارق بين الخالق والمخلوق، الذي قابله غلوٌّ في التوحيد بين العابد والمعبود.٤٥

٣

ولكن، ما هو السكر المفضي إلى الشطح؟

يقول القشيري: السكر غيبة بوارد قوي. والسكر زيادة على الغيبة من وجه؛ وذلك أن صاحب السكر قد يكون مبسوطًا إذا لم يكن مستوفيًا في حال سكره، وقد يسقط إخطار الأشياء عن قلبه في حال سكره، وتلك حال المتساكر الذي لم يستوفه الوارد فيكون للإحساس فيه مساغ. وقد يقوى سكره حتى يزيد على الغيبة فربما يكون صاحب الغيبة أتم في الغيبة من صاحب السكر إذا كان متساكرًا غير مستوف. والغيبة قد تكون للعباد بما يغلب على قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة ومقتضيات الخوف والرجاء والسكر ولا يكون إلا لأصحاب المواجيد. فإذا كوشف العبد بنعت الجمال حصل السكر، وطاب الروح، وهام القلب … وإذا ظهر من سلطان الحقيقة علم فصفة العبد الثبور والقهر. قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، هذا مع رسالته وجلالة قدره خرَّ صعقًا، وهذا مع صلابة قوته صار دكًّا متكسِّرًا!٤٦
ويقول الكلاباذي: «السكر أن يغيب عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء، وهو ألا يميز بين مرافقه وملاذه وبين أضدادها في موافقة الحق؛ فإن غلبات وجود الحق تسقطه عن التمييز بين ما يؤلمه ويلذه.»٤٧
يمكننا أن نستخلص من كلام القشيري والكلاباذي النقاط التالية:
  • (١)

    السكر غيبة بوارد قوي.

  • (٢)

    السكر أشد من الغيبة.

  • (٣)

    الفرق بين السكر والغيبة أن هذه قد تكون للعباد من موجبات الرغبة والرهبة ومقتضيات الخوف والرجاء، بينما لا يكون السكر إلا لأصحاب المواجيد.

  • (٤)

    إنما يحصل السكر إذا كوشف الصوفي بنعت الجمال. أما إذا ظهر سلطان الحقيقة (= الجلال)؛ فصفة العبد الثبور والقهر.

  • (٥)

    في السكر يغيب الصوفي عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء.

النقطة الأخيرة هي التي تهمنا هنا، بما تدل عليه من ثنائية العبد والرب التي تنفي التوحيد، وبالتالي المعرفة، مع ثبوت السكر — والشطح احتمالًا. فالصوفي في حال السكر، يغيب عن تمييز الأشياء لكنه لا يغيب عن الأشياء، وعدم غيبته عنها يعني بقاءه معها. وفي هذه الحالة، لا يكون في منزلة التوحيد وإن سكر، ولا يبلغ مقام المعرفة وإن شطح. فها هنا سكر ولا توحيد، وشطح ولا معرفة — هذا إن كان السكر لا بدَّ مفضيًا إلى شطح!

نأتي هنا إلى وصف بدوي لحال السكر، يقول صاحب شطحات الصوفية: وهي حال يؤكدها الآخذون بمذهب الشطح … والمنكرون له: الأولون لأن المعاينة لا تتم في طريق السلوك إلا بعد ورود وارد قوي يغلب على السالك؛ فيغيب عن إحساسه، وهذا هو السكر … وهذا الوارد هو أن يكاشف بنعت الجمال، فتطرب روحه وينتشي فؤاده أقوى انتشاء … ويقول بها المنكرون حتى يتلمسوا لها المعاذير فيرفضوا هذه الشطحات.٤٨
ثم يقول: «إنما يقصد بالسكر هنا انتشاء الروح بمكاشفة الحق له بسرِّه وبأنه هو هي وهي هو، فتطرب أشد الطرب لاكتشاف هذه الحقيقة؛ فسكرها إذَن شدة غبطتها بمعرفة سر وجودها، وهو أن وجودها هو وجود الله أو أنها هي الله، أو أنه ليس ثم إلا الله.»٤٩

يُستدل من عبارتي وارد قوي والمكاشفة بنعت الجمال أن بدوي رجع إلى القشيري في وصف حالة السكر، لكنه لم يشر إلى ذلك، أما عبارة «وينتشي فؤاده أقوى انتشاء» التي لا تقول شيئًا؛ فهي من إنشاء الدكتور فقط!

نعود الآن إلى تعليق الدكتور بدوي المعرفة على الشطح، والشطح على السكر؛ فنقول إن المعرفة الحاصلة في السكر معرفة غير تامة؛ لأن الصوفي يكاشف فيه بنعت الجمال فقط، على حين أن المعرفة التامة تستوجب المكاشفة بنعت الجلال أيضًا، طبقًا لقول القشيري: «وإذا ظهر من سلطان الحقيقة علم فصفة العبد الثبور والقهر.» ويقول ابن عجيبة «ولا تكون المعرفة كاملة حتى يكون صاحبها يعرفه في الجلال والجمال، والمنع والعطاء، والقبض والبسط. وأما أن لا يعرفه إلا في الجمال، فهذه معرفة العوام الذين هم عبيد أنفسهم، فإن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطوا إذا هم يسخطون.»٥٠

أما العلاقة بين السكر والشطح فهي علاقة عموم وخصوص بحيث يمكننا القول إن كل شاطح فسكران، لكن ليس كل مَن يسكر يشطح بالضرورة. ويظل الشطح عندنا متوقفًا على عنصر المفاجأة؛ إذ يفاجأ فيها الشاطح بإله يختلف اختلافًا كليًّا عما تعلمه أو تلقنه قبل أن يلقاه!

٤

في الوقت الذي يعلِّق فيه بدوي بلوغ منزلة التوحيد على حالة السكر الذي يقتضي بالضرورة الشطح كما يقول، ويعتبر الشطح مرحلة ضرورية في طريق التوحيد — يريد بذلك تحقيق المعرفة وبالتالي في تكوين صفة العارف عند السالك؛ في هذا الوقت بالذات يفهم بدوي مصطلح السكر الوارد في موقف ابن تيمية من الشطح، يفهمه على أنه «سكر جسماني».٥١

وقد مرَّ معنا توًّا قول بدوي: «إنما يقصد بالسكر هنا انتشاء الروح بمكاشفة الحق لها بسرِّه وبأنه هو هي وهي هو؛ فتطرب أشد الطرب لاكتشافها هذه الحقيقة؛ فسكرها إذَن شدة غبطتها بمعرفة سر وجودها وهو أن وجودها هو وجود الله أو أنها هي الله أو أنه ليس ثم إلا الله.»

ينقل بدوي عن ابن تيمية ما جاء في الرسائل والمسائل (١، ص١٦٨) قوله «إن بعض ذوي الحال يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى –والسكر وجد بلا تمييز.» فقد يقول في تلك الحال: سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تُوثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء … يتابع ابن تيمية: «وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تُؤدَى.»٥٢ على هذه العبارة الأخيرة يعقِّب بدوي قائلًا: وعلى هذا فلا يؤخذ بها، وإذَن يجب رفضها، كما نرفض كلمات السكران بالطعام والشراب!٥٣

هذه الفقرة التي نقلها بدوي عن ابن تيمية الذي يبين فيها موقفه من ظاهرة الشطح حفلت — كما نرى — بالمصطلحات الصوفية ففيها «الحال» و«الفناء» و«الغيبة» و«السوى» و«الوجد» و«السكر»، فلماذا يفهم بدوي هذه الألفاظ جميعًا على ما أراده الصوفية منها، ويستثني منها لفظة السكر ويجعل مراد ابن تيمية منها «السكر الجسماني»؟

وعندما وصف بدوي حال السكر بقوله: «وهي حال يؤكدها الآخذون بمذهب الشطح … والمنكرون له … ويقول بها المنكرون حتى يتلمسوا المعاذير فيرفضوا هذه الشطحات٥٤ عندما وصف لنا بدوي ذلك لم يذكر لنا مَن هُم القائلون بمذهب الشطح، ولم يبين مواقفهم من الشطحات إن كانوا يأخذون بها على ظاهرها أم كانوا يتلمسون لها التأويلات كما فعل الجنيد في الكثير من شطحات أبي يزيد، مكتفيًا بذكر مواقف المنكرين لمذهب الشطح، جاعلًا على رأسهم ابن تيمية الذي يسميه بدوي عدو الصوفية اللدود!»٥٥

ثم لماذا غاب عن بدوي، وهو يروي عن ابن تيمية، أن هذا الأخير عدَّ البسطامي، وهو أكبر الشاطحين، من الأصحاء، ثم بعد ذلك نرمي شيخ الإسلام بأنَّه «عدو الصوفية اللدود»؟!

ثم، ماذا يريد بدوي من قوله: «وعلى هذا فلا يؤخذ بها (الشطحات)، وإذَن يجب رفضها»؟ ترى إذا أخذ بها، فهل يجب تضمينها في صلب الشريعة وجعلها عقيدة ظاهرية؟ ومَن ذا عساه أن يأخذ هذه المهمة على عاتقه، وليس في الإسلام هيئة مخولة مثل هذه الصلاحية؟ ثم، إذا أخذ بها، فعلى أي وجه؟ هنا تنهض أمامنا عدة احتمالات تأويلية:
  • إن أبا يزيد في قوله «سبحاني»! يدعو إلى نفسه بالألوهية، ويترتَّب على ذلك أن يقف الناس منه إما بالقبول أو الرفض، وما نحسب بدوي يختلف مع ابن تيمية في رفض دعوة أبي يزيد إلى نفسه!

  • إن أبا يزيد، وهو في حميا الاتحاد أو المواحدة بالله، نطق الله على لسانه فلا يكون أبو يزيد هو الناطق في هذه الحالة، وإنما هو الله تعالى. وهذا تأويل قد يقبله ابن تيمية؛ لأنه يَعُد مثل هذه الكلمات التي تصدر عن الصوفي إنما تصدر في حال «الفناء الناقص»! والفناء الناقص كما يراه شيخ الإسلام وغيره من أئمة السلفية هو أن يغيب العبد بالعبادة عن المعبود، أو بالمعبود عن العبادة، لأن مثل هذه العبادة عدم؛ فهي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل لا يعتد بها.٥٦
  • إن أبا يزيد، وقد كوشف بسر الألوهية، أعلن عن سرِّها تحت وطأة السكر، وما كان له أن يعلن عنه في غير هذه الحال؛ ولذلك يكون معفًى من المسئولية فلا يجب عليه حد أو قصاص والتماس بعض العذر له بالسكر؛ لكيلا يشجع العامة على الاقتداء به وتقليده في حال صحوهم، وفي هذا مصلحة للجماعة كما لا يخفى، ما دام مضمون مثل هذه الشطحات لا يمكن أن يصير «عقيدة ظاهرية»!

٥

حيال هذه الاحتمالات وإمكان اختلاط الأمر على عامة الناس، وحيال احتمال تشييد عقائد أو نِحل مضادة للإسلام، أليس الأسلم «أن تُطوى (هذه الشطحات) ولا تُروى ولا تُؤدى» سواءً أكنَّا من أنصار «مذهب الشطح» أم من خصومه؟ فابن تيمية، من ناحية، أفتى بعدم مسئولية الشاطح؛ ومن ناحية ثانية، بعدم تداول الشطحات، خوفًا على العامة من الفتنة.

٦

ثم ينقل بدوي عن عبد القادر الجيلاني، شيخ الطريقة المعروفة بالطريقة القادرية، الذي يرى أن الشطحات إن كانت صادرة عن الصوفية في حال الصحو فهي من الشيطان الذي لا حكم له؛ إذ لا يحكم إلا على ما تلفظ به في حال الصحو؛ وأما الغيبة فلا يقام عليها الحكم.٥٧
يقول بدوي تعقيبًا على ابن تيمية والجيلاني: «واضح أن رأي هؤلاء الخصوم … لا يمكن أن يقوم له وزن عند مَن يرى أن الشطح ظاهرة صوفية سليمة، وأن الكلمات الشطحية لا تقلُّ في صدقها عن الكلمات التي تصدر في حال الصحو … فلا دخل للصحو أو السكر في تحديد القيمة الذاتية لهذه الكلمات، وإلا أخطأنا فهم هذه الظاهرة الممتازة. وهؤلاء الخصوم — يقول بدوي — خلطوا عن قصد بين السكر الروحي والسكر الجسماني.»٥٨

٧

نقول: لقد أخطأ بدوي الفهم عندما لم يفرِّق بين حالَي الصحو والسكر في «تحديد القيمة الذاتية لهذه الكلمات». فالعبارة المستشنعة التي تصدر في حال الصحو لا يمكن اعتبارها من الشطح لما فيها من شُبهة التكلف وقلَّة الصدق. ثم لماذا نسي بدوي قوله: «والمرء لا يبلغ منزلة التوحيد إلا في حال السكر وما يتلوها والسكر يقتضي بالضرورة الشطح؛ فالشطح إذَن مرحلة ضرورية في طريق التوحيد … إلخ.»

من النقول التي أوردناها عن كتاب «شطحات الصوفية» لا يبدو أن ثمة خلطًا، لا عن قصد ولا عن غير قصد، بين السكر الجسماني والسكر الروحي، خصوصًا وأن اصطلاح «السكر» اصطلاح متداول ومعروف في أوساط الصوفية وغيرهم من أئمة الشريعة، كما يُعرِّفه الدكتور بدوي أكثر من مرة نقلًا عن القشيري أو عن ماسينيون، بل حتى عن ابن تيمية نفسه الذي يعرِّف السكر بأنه «وجد بلا تمييز». ومَن يعرِّف السكر على هذا النحو، فهل يحق لنا أن نتهمه بالخلط — عن قصد — بين السكر الروحي والسكر الجسماني؟

٨

هل أمسك الصوفيةُ عن الشطح بعد مصرع الحلاج إيثارًا منهم للسلامة، أم ظلُّوا يشطحون بلا خوف من السلطان ولا رهبة من علماء الظاهر؟ حيال هذه القضية، لا يقطع الدكتور بدوي برأي بإيراد تعريف الشطح للجرجاني، ثم يمضي في مناقضته — كما مرَّ معنا — معتبرًا تذييل الجرجاني لتعريفه بعبارة «من غير إذن إلهي» لا معنًى لها. ثم يحاول بيان السبب الذي حمل الجرجاني على تذييل تعريفه بهذه العبارة، فيقول: وفي هذه العبارة الأخيرة نشاهد الرأي الغالب عند متأخري الصوفية والكتَّاب عامة ممن لا ينكرون هذه الظاهرة في ذاتها، ولا يستشنعون الكلمات الشطحية، بل يرون أن الخطأ الوحيد فيه هو أن أصحابها يفصحون بها بدون إذن إلهي. وأصحاب هذا الرأي إنما يريدون التوفيق بين الاعتراف بصحة الشطحات وبين إنكار ما يدل عليه ظاهرها مما استشنعه أهل السنة وخصوم الصوفية. ولهذا جاء رأيهم غامضًا … إلخ.٥٩

لكن، ما الذي دعا أصحاب هذا الرأي إلى اللجوء إلى هذه الصيغة التوفيقية، كما يسميها الدكتور بدوي، بين أن تكون الشطحات مأذونًا بها وغير مأذون بها في نفس الوقت؟

يجيبنا صاحب «شطحات الصوفية» بما يلي:

ولعل السبب في هذا الدفاع على هذا النحو ما شاهده الصوفية أنفسهم من بَعدِ عهد الحلاج من خطر يتهددهم إذا أوغلوا في الشطح. فمن باب الأمن على أنفسهم آثروا أن يلتزموا الصمت في هذا الباب إذا وردت عليهم واردات من قبيل الشطحات. فمصير الحلاج إذَن كان أبلغ عبرة لهم في هذا الباب.٦٠

٩

لعل أوَّل انطباع نكوِّنه عن مثل هذا التعليل أن الصوفي قادر على كتمان ما يرِد على لسانه من شطح، وبهذا تنتفي عنه صفة الاضطرار والغلبة التي تحت وطأتها ينطق بما ينطق؛ أي إن للعامل الخارجي (وهو هنا السلطان) قوة مثل قوة العامل الداخل (الوارد القوي) على الأقل. أو إن للعامل الخارجي قوة أكبر من قوة وارده حتى يحول دونه وما يلهم بقوله من شطح. وعلى هذا يكون الصوفي الشاطح متكلفًا غير صادق فيما يصدر عنه؛ وبذلك لا يكون الشطح «ظاهرة صوفية سليمة»، ولا يكون الشطح «هذه الظاهرة الممتازة» كما يقول عنها الدكتور بدوي. أو أن الصوفية الذين جاءوا بعد الحلاج لم يكونوا «عارفين» بالمعنى الدقيق، ما دام الدكتور بدوي يعلق المعرفة على الشطح، ومَن لا يشطح فليس بعارف، على ما تقدم من أقواله.

ثم يورد الدكتور بدوي هذا البيت من الشِّعر:

بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تُباح
متبعًا إياه بقوله: وليس من المستبعَد أن يكون الشبليُّ هو أول من نبَّه الصوفية إلى وجوب عدم الإباحة بهذه الأسرار؛ لأنه — وقد كان صديق الحلاج الحميم، وشاهد مصيره فأثَّر في نفسه أبلغ تأثير وأعمقه — آثر، طمعًا في السلامة، أن يدخل هذه الفكرة ويدعو هذه الدعوة. ومن هنا يذكر المؤرخون عن الشبلي هذه الكلمات التي تعبر عن هذا المعنى تمام التعبير. قال الشبليُّ: أنا والحلاج شيء واحد، فخلَّصني جنوني وأهلكه عقله. وقال أيضًا: كنتُ أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمتُ.٦١
لكن بدوي لا يلبث أن يستدرك متراجعًا بقوله: على أن هذا كلَّه لا يدل مطلقًا على أن الصوفية كلهم قد أخذوا بدعوة الشبلي هذه. إنما كل ما نريد قولَه هو أنه لعل الشبليَّ هو أول مَن تنبَّه إلى وجوب عدم إذاعة هذه الكلمات. وإلا فالمتأخرون قد أوفوا على السابقين في هذا الباب، وإن اتسمت عباراتهم بالتصنُّع مما يدل على الرغبة في التقليد وعلى عدم الإخلاص في صدورها عنهم كما هي الحال بالنسبة إلى الجيلاني والرفاعي.٦٢
وبعد هذه الفقرة مباشرة — وبدون مقدمات — يعود الدكتور بدوي فينقضها بقوله: إنما كان الصوفية إلى ما قبل الحلاج ينطقون بالكلمات الصوفية من غير تحرُّج ولا تحرُّز؛ لأنه لم يكن للسلطان الخارجي بعدُ تأثير عليها. أما منذ قضية الحلاج فقد بدأ الصوفية يتبيَّنون ما سيترتب على أقوالهم من نتائج عملية لا بد لمَن يؤثر العافية منهم أن يحسب لها ألف حساب.٦٣

١٠

في محاولة للخروج من التناقض الذي أوقعنا فيه صاحب «شطحات الصوفية» نبين النقاط التالية:
  • أولًا: هذا الحشد الكبير من الشطحات المنسوبة إلى الصوفية، ولا سيما أبي يزيد البسطامي والحلاج والشبلي وغيرهم، ليس من الضروري أن تكون كلها صادرة عنهم تخصيصًا. بل نحن نذهب إلى أنها جاءت بفعل قانون «تلاقي الأطراف» الذي عبَّر عن نفسه من خلال آلية إسقاط جَرَت على ألسنة العامة ونسبتها إلى صوفية مشهود لهم برسوخ القَدم في ميدان التصوف. فالعامي لو أراد أن ينسب شطحًا لنفسه لقُوبل بالرفض والشجب؛ لكنه حين ينسبه إلى أبي يزيد مثلًا حري به أن يقابل بقبول. وقد مرَّ معنا أن الفقهاء وعلماء الكلام ذهبوا بصفة المفارقة الإلهية إلى حدها الأقصى، تقليدًا لمسلمي الصدر الأول، حتى أنهم جعلوا منها صفة مطلقة لا تقبل النقض والتعديل، ووصلوا — بالتالي — إلى نفي صفة القرب والبطون؛ هذا على الرغم من اشتمال الكتاب والسُّنة على هذه الصفة الأخيرة غير مكتفين بذلك، بل عمدوا إلى تأويل كل آية أو أثر فيه دلالة مريحة على صفة القرب أو البطون تأويلًا يتماشى مع صفة المفارقة. لقد كان من شأن هذا أن يُحدث اختلالًا في التوازن النفسي عند الجماعة المسلمة حملها على الذهاب بصفة القرب أو البطون إلى أقصاها التي عبرت عن نفسها من خلال الشطح، وكان الشطح هو التعويض الطبيعي عن هذا الخلل، من ناحية، وصولًا إلى موقف متوازن يجمع بين قيمتَي المفارقة والبطون، وبذلك يتحقق التوازن النفسي عند الجماعة والأفراد. هذا الدور التعويضي قامت به «الخافية الجامعة» التي راحت تُطلق على ألسنة العامة الشطحات المتوهمة؛ لتحلها في الواعية وتتناقلها في رائعة النهار منسوبة إلى هذا الصوفي أو ذاك، ملتمسة له العذر بالسكر تارة، أو مُئولة ما يمكن تأويله منها بما يتماشى مع ظاهر الشريعة تارة أخرى.
  • ثانيًا: كان لاستقرار صفة القرب أو البطون في النفس بتأثير الشطحيات الفعلية منها أو المفتعلة، أثر كبير في انتفاء عنصر «المفاجأة» انتفاء لم يَعُد معه الصوفي الواصف يواجه إلهًا لا عهد له به إلهًا بعيدًا كل البُعد، مفارقًا كل المفارقة، بل هو الآن أمام إله يعرفه، «إله أقرب إليه من حبل الوريد» لا يفاجأ بقربه، إله «هو عند حسن ظن عبده به، إن مشى (هذا) إليه ذراعًا مشى (الله) إليه باعًا …» إذَن بقدر ما يستقر مفهوم القرب ينتفي عنصر المفاجأة، وبمقدار ما ينتفي عنصر المفاجأة ينتفي الشطح.
  • ثالثًا: لقد عملت تربية المريدين والسالكين على أيدي مشايخ الطرق على تهيئة الأولين لتقبل صفة البطون أو القرب تدريجيًّا فكان ذلك وِقاءً لهم من عنصر المفاجأة التي قد تذهب بعقول مَن يتعرضون للألوهة بدون دليل مرشد يهديهم إلى سواء السبيل. وقد قلنا فيما تقدم إن غرس قيمة البطون في نفس السالك من شأنه أن يوازن بين القيمتَين فلا ترجح إحداهما على الأخرى.
  • رابعًا: كثير من الأقوال أو الأشعار التي تُنسب إلى الصوفية يمكن اعتبارها من الشطح، ومع ذلك ليست منه، من حيث إنها لم تصدر تحت تأثير «غيبة بوارد قوي»، على حد تعبير القشيري، مثال ذلك هذان البيتان لابن الفارض في تائيته الكبرى:
كلانا مُصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

أي أن الإنسان يصلي لنفسه من خلال صلاته لله، والله يصلي لنفسه من خلال صلاة الإنسان له. أو — إن شئتَ قلتَ — إن الإنسان يصلي لله وإن الله يصلي للإنسان في نفس الوقت، فالمصلِّي والمصلَّى له واحد. مثل هذا القول لا يمكن اعتباره من الشطح «الذي هو حديث عن التجربة في التجربة»، وإنما هو حديث عن التجربة خارج التجربة، أو هو — في اصطلاح الصوفية — حديث جرى في مقام الفرق عما جرى في مقام الجمع؛ وهو — بهذا الاعتبار— لا يُعَد من الشطح ويدخل في هذا الباب أكثر الأشعار المنسوبة إلى الحلاج وأكثر أشعار أصحاب مذهب وِحدة الوجود أو إحاطة الألوهة بالوجود وكتاباتهم كابن عربي والجيلي والصدر القونوي ومَن سواهم. بذلك تصبح «أنا الحق» الحلاجية نقطة في بحر شطحيات هؤلاء القوم هذا إن صحت تسميتنا لها أنها شطحيات.

(٣) البحث الثالث

١

فيما يُنسب إلى رابعة العدوية من شطح يقول الدكتور بدوي:

أمَّا رابعة فالكلمات التي وردت إلينا عنها مما يندرج في باب الشطح لا تُعد بعدُ من الشطح إلا في معناه؛ أما صورته — أعني التحدث عن الله بضمير المتكلم — فليس لدينا من نوعه شيء إنما أقوال ظاهرها مستشنع وباطنها مستقيم … وكلها تتعلق بالتوحيد والتجريد وزيادة المعنى الروحي أو وضعه مكان المعني المادي فيما ورد به الشرع … ولهذا هي أدخل في باب التجديفات منها في باب الشطحيات؛ وهي عند خصومها من مكر الله الخفي.٦٤
نقول: ليس من الضروري في الشطح، لكي يعتبر كذلك، أن يشترط فيه تحدث الشاطح عن الله بضمير المتكلم. فهذا الشرط ينطبق على نوع معين من الشطح، هو الشطح الحاصل في دروة الاتحاد أو حين تبادل الأدوار. هذا أبو حمزة الصوفي كان إذا سمع تغريد عصفور أو نباح كلب يقول «لبيك» فرماه الناس بالحلول، ولم يكن يتحدث عن الله، بل كان يلبي «دعوة خلق من خلق الله وأثر من آثاره تعالى!»٦٥

٢

لنرَ الآن ما في «تجديفات» رابعةَ من ظاهر مستشنع وباطن مستقيم. يقول صاحب «شطحات الصوفية»:

… فهي (أي رابعة) في سبيل تجريد الحج من معناه الحسي (…) قالت عن الكعبة لما حجَّت — ولعل ذلك لآخر مرة: «هذا الصنم المعبود في الأرض! فإنه ما ولجه الله ولا خلا منه.»٦٦

يذهب ابن تيمية إلى أن هذا القول كذب على رابعةَ. لكن بدوي يرد كلام ابن تيمية بقوله:

وتكذيب ابن تيمية لهذا القول على أساس أنه لرابعة لم يقم على أساس تاريخي، إنما على أساس عقلي هو استحالة نسبته إلى رابعة لأنها كانت عابدة مؤمنة، وهو قول دال على الكفر. يقول بدوي: ولهذا لا يُعتدُّ هنا بقوله إن هذا القول كذب على رابعة، ما دام لم يبنِ ذلك على أسباب من الأسانيد التاريخية؛ والسبب العقلي الذي ذَكره ينقضه ما ينسب إليها من أقوال أخرى — كما ترى — تستوجب من ابن تيمية التكفير أيضًا.٦٧

نقول: إن كان ابنُ تيمية ينفي هذا القول عن رابعةَ أن تكون فاهت به، ونفيه هذا غيرُ مبني على أساس من الأسانيد التاريخية بل على أساس عقلي هو استحالة نسبته إلى رابعة، وهي العابدة المؤمنة والقول المنسوب إليها يدل على الكفر؛ فإن إثبات الدكتور بدوي نسبة هذا القول إلى رابعة ليس مبنيًّا على غير الأساس الذي بنى عليه ابن تيمية نفي نسبته إليها. فالدكتور بدوي لم يقدِّم دليلًا واحدًا على صحة نسبة هذا القول أو غيره إلى رابعة أم تراه يكتفي بالرواية المنقولة ويعتبرها دليلًا كافيًا؟ الشيء الثابت الوحيد أن هذا القول قد قيل. أما مَن قاله، وكيف كانت روايته؟ ومَن هم رواته؟ وهل كانوا موثوقين أم غير موثوقين؟ فهذا ما لا سبيل للتحقق منه. وفي هذه الحالة يستوي الإثبات والنفي، أكانت رابعة قالته أم لم تقله!

٣

إذا سلَّمنا بأن ظاهر كلام رابعة وتجديفها على الحج هو ظاهر مستشنع؛ فإن من حقنا أن نبحث عن باطنه المستقيم الذي يسوغ لرابعة ولغيرها أن تقول ما تقول. الشيء الوحيد الذي قاله صاحب شطحيات الصوفية مما يمكن اعتباره من قبيل الباطن المستقيم، في نظر الدكتور بدوي قوله إن رابعةَ بهذا القول إنما تجرد الحج من معناه الحسي؛ الأمر الذي يشعر بأن للحج، في نظر الدكتور بدوي. معنيين: أحدهما حسي والآخر معنوي أو روحي. غير أن صاحب «شطحات الصوفية» لا يذكر لنا المعنى الروحي الذي تنطوي عليه مناسك الحج. ولقد كان حريًّا به أن يقول إن للحج ظاهرًا وباطنًا وأن رابعة أرادت بتجديفها المزعوم أن تخترق حجاب الظاهر لكي تنفذ منه إلى معناه الباطن؛ من محدودية الظاهر إلى لامحدودية الباطن!

ثم لماذا غاب عن الدكتور بدوي أن رمزية الحج تقوم على «سفر» من المحيط إلى المركز، ثم عودة من المركز إلى المحيط، وأن هذا الإيقاع من السفر والعودة هو نفس الإيقاع الكوني في الآفاق والإيقاع الداخلي متمثلًا في نبض القلب وتردد النفس؟ بل لماذا غاب عنه أن الكعبة هي المظهر الأرضي ﻟ «بيته» المعمور السماوي؟ أليس المركز في الكون كله، أرضه وسمائه، هو النقطة التي يتقاطع عندها الزمن والأزل، وبالتالي هذه النقطة هي هي الله كما يقول والتر ستيس؟٦٨ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يكون هذا المركز، أو هذه النقطة، المبدأ الخالق والكل الذي تتعلق به الأجزاء حتى إذا كان امتصاص للجزء في الكل بطل أن يكون الجزء جزءًا؟ أو ليس هذا هو الفناء الصوفي بعينه؟ وفي هذا الاعتبار، لا يكون الحج غير صورة خارجية لما يجري في داخل الإنسان. هذه الحركة الجدلية يقوم بها الحاج من المحيط إلى المركز، ومن المركز إلى المحيط؛ الباعث النفسي أو الروحي عليها هو ذلك النوع من «الحنين» إلى المصدر الأصلي الذي جاء منه الإنسان؛ يعود إليه لكي ينغمس فيه فيولد ولادة جديدة، خالصة من الذنوب، مبرَّأة من العيوب، معلنًا بقوله لبيك! وضح حياته كلها بين يدي بارئها؛ أي معلنًا «إسلامه» لله تعالى. يعلمنا يونغ أن حياة الإنسان الداخلية لا تكتمل وجودًا إلا أن توجد لنفسها ما يماثلها في العالم الخارجي، أن تتمثل قيمه ومثله العليا، وهي قيم ومُثل غير زمانية- مكانية، في عالم الزمان والمكان. هذا التوافق بين الظاهر والباطن هو المطلوب في التربية الدينية، بدونه يكون الإنسان منقسمًا على نفسه يكابد القلق ويقاسي العصاب.٦٩ ثم، ألا يذكِّرنا الطواف حول الكعبة بحركة الكواكب السيارة حول مركزها الشمس؟ هنا يتطابق ما يجري على الأرض مع ما يجري مثله في السماء، ويتحقق الإسلام بمعناه الكوني في أشمل معانيه؛ إذ تتواكب حركة الإنسان (العالم الأصغر) مع حركة الأفلاك (العالم الأكبر) في إيقاع واحد ونبض واحد: وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ. (آل عمران: ٨٣).
إذَن، أي معنًى حسي يريد الدكتور بدوي من رابعة أن تجرده من الحج أو تجرد الحج منه؟ ما ذكرناه توًّا ما هو إلا جانب من المعاني غير الحسية التي انطوت عليها المظاهر الحسية، وهي مظاهر قابلة للتفسير بلا حدود، شأنها في هذا شأن كل رمز أو طقس فيما ينطوي عليه من معان غير محدودة تعبر عنها لفظة أو صورة أو حركة محدودة، لكنها حسية رغم ذلك. ثم ما رأى الدكتور بدوي بالرقص الدوراني يؤديه دراويش المولوية؟ هل يريدنا الدكتور بدوي أن نجرده من معناه الحسي فيتوقف الدائرون عن الدوران؟٧٠ في مثل هذا الدوران يطوف الحجيج حول الكعبة المشرفة.

٤

لتوكيد المعنى المعنوي في رمزية الحج، نورد هنا نقلًا عن أبي العلا عفيفي، ما يقوله أبو يزيد البسطامي في هذا الصدد: حججت مرة فرأيت البيت، وحججت ثانية فرأيت البيت وصاحبه، وحججت ثالثة فلم أرَ البيت ولا صاحبه.٧١
يعقِّب الدكتور عفيفي على هذا الكلام بقوله: يفصل (أبو يزيد) في هذا مراحل معراجه الروحي الذي انتهى فيه إلى مقام الفناء التام أو الوحدة التامة. فالحج هنا رمز السَّفر الروحي وأول مراحله هو المرحلة الحسية التي رأى فيها «البيت» (العالم) وأدركه إدراكًا حسيًّا. وفي الحج الثاني، أدرك البيت وصاحب البيت: أي أدرك «الاثنينية» إدراكًا عقليًّا وفرق بين الله والعالم. وفي الحج الثالث أدرك بقلبه وشعوره «الكل» الذي لا يميز فيه بين البيت وصاحب البيت. فمراتب هذا الحج ثلاث: إدراك حسي، فإدراك عقلي، فشهود قلبي. أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحي فيها الكثرة العقلية والحسية. وهذه المرتبة الأخيرة هي مرتبة الفناء أو التوحيد الصوفي٧٢ وفي تفصيل المعاني الروحية التي ضمنها السراج الطوسي كتابه «اللمع» يذكر المؤلف أن أبا يزيد لم يحج سوى حجة واحدة.٧٣
فالحج، إذَن صورة خارجية من السَّفر الداخلي الذي ينطلق من الظاهر إلى الباطن، أو من المحيط إلى المركز، أو من الجزء إلى الكل، أو من بيت الله إلى الله. والحج، مثله كمثل كل طقس، من وظائفه أن يحرِّض مَن يؤديه على الدخول في الزمن البدئي المقدس الذي قام به سلف صالح أو وليٌّ أو صدِّيق أو بطل؛ فهو معاصرة للزمن الأولي من جهة، ومواحدة سحرية أو روحية من استنَّه لأول مرة، من جهة ثانية، كما يعلمنا مرسيا إلياد.٧٤ إنه أشبه بالشرارة التي تضرم النار الكامنة في الأشياء القابلة للاحتراق. أو هو أشبه بالمحرِّض اليدوي الذي كانت تدار به محركات السيارات عندما كانت صناعتها في البدايات الأولى.

٥

إن عروج الصوفي إلى الله تعالى يتم على مقامات كثيرة، كما هو معروف، بعضها أعلى من بعض. فمقام الورع أعلى من مقام التوبة، ومقام الصبر أعلى من مقام الزهد، وهكذا،٧٥ من دون أن يلغي المقام الأعلى المقام الأدنى، بل يضيف إليه ويعمقه. وإننا، إذ نرقى درج السلم، لا نكسر الدرجة الدنيا بعد ارتقائنا عنها إلى العليا، بل نفسح لغيرنا فرص الارتقاء منها كما ارتقينا. والحج طقس أو مناسك تؤدَّى فيها حركات وابتهالات وتلاوات، هي عند الصوفي مقام أول في المقامات؛ فإذ ارتقى عنه إلى مقامات أعلى لا يستهين بالمقامات الدنيا أو يدعو إلى نبذها ونحن لا نحسب أن رابعة قد ذهبت إلى هذا حين نُسب إليها قولها: هذا الصنم المعبود في الأرض … وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه!

لكن، متى تكون الكعبة صنمًا في نظر الصوفي؟ بل متى تكون العبادات أصنامًا؟ لا تكون العبادات كذلك إلا عندما تصبح حجابًا عن الحق تعالى، من ذلك إذا استشعر الصوفي فيها لذة روحية، وراح يدمن هذه العبادات طمعًا في مزيد من هذه «اللذة»! في هذه الحالة تصبح العبادات من «السوى» ومتى تصبح من السوى تكن من «الشرك الخفي». يقول ابن عباد الرندي:

… والحلاوة على الإطلاق إذا وجدها العامل (=العابد) في العمل (=العبادة) لا ينبغي له أن يقف معها ولا يفرح بها ولا يسكن إليها، وكذلك أيضًا لا ينبغي له أن يقصد بعمله إلى نيلها لما له فيها من اللذة والحظ؛ فإن ذلك ما يقدح في إخلاص عبادته وصدق إرادته وليكن اعتناؤه بحصولها لتكون ميزانًا لأعماله ومحكًّا لأحواله فقط. قال الواسطي رضي الله عنه: استحلاء الطاعات سموم قاتلة.٧٦ في هذا الضوء يمكننا فهم قول الحلاج بأن صلاة العارفين من الكفر.٧٧

٦

أما قول رابعة: «وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه؛» فقد يعني أن الله تعالى لم يكن خارج الكعبة، بل كان فيها دائمًا من حيث إن حركة الولوج تبدأ من الخارج وتنتهي في الداخل؛ فالذي يكون في الداخل أصلًا لا يقال إنه قام بفعل دخول يؤيد ذلك الطرف الثاني من المعادلة وهو قولها ولا خلا منه، مما يعني أنه مقيم فيه.

وربما يعني هذا القول مفارقة الألوهة للمخلوقات وبطونها فيها في نفس الوقت، وهي الحال التي يمكن أن نسميها بحال ما بين البينَين؛ فالألوهة مفارقة وباطنة في نفس الوقت، أو هي غير مفارقة ولا كامنة في نفس الوقت. وهكذا يكون الله تعالى ما ولج (بيته) ولا خلا منه. وإذا كان الحال كذلك، فلا ارتباط بين قولها المزعوم «هذا الصنم المعبود في الأرض»، وبين قولها اللاحق ما ولجه الله ولا خلا منه!

هذا، فضلًا عن أن هذه العبارة هي أدخل في باب علم الكلام منها في باب وصف أحوال الصوفية. ينقل ابنُ قيم الجوزية إلى «مدارج السالكين» طرفًا من أقوال المعطِّلة شديد الشبه بالقول المنسوب إلى رابعة. فقد غالى هؤلاء في تنزيه الألوهة غلوًّا شديدًا حين قالوا: «لا هو داخل العالم ولا هو خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا محايث له ولا مباين له، ولا هو فينا ولا هو خارج عنا.»٧٨ وذهب آخرون إلى «إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم، وإثبات خالق قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارج العالم، ولا فوق العالم ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا يمنته ولا يسرته» يعقب ابن القيم على هذا الكلام بقوله: «فقول خبئ. والعقول لا تتصوره حتى تصدِّق به. فإذا استحال في العقل تصوره، فاستحالةُ التصديق به أظهر وأظهر.»٧٩

٧

ولعل من المفيد هنا أن ننقل عن السيدة وداد السكاكيني جانبًا من الفصل الذي عقدته على حجات رابعة العدوية لما يلقيه من ضوء على مراد الصوفية العاشقة من قولها المنسوب إليها عن الكعبة المشرفة. تقول السيدة سكاكيني:

«وقد عدَّدت رابعة شيخة الزهاد سفراتها إلى أرض الكعبة ومنزل الوحي، فأدَّت فريضة الحج على شوق ولهفة، وحققت أمانيها فيه وكانت ترتحل مع القافلة في الصحراء، لا تبالي تعبًا ولا خطرًا، بل كانت تهزج وتناجي ربها والركب سادر فوق الرمال، فتقول: إلهي وعدت بجزاءين لأمرين: القيام بالحج والصبر على الشدائد؛ فإن لم يكن حجِّي صحيحًا مقبولًا عندك، فيا ويلتاه! أو ما أشد هذه المصيبة عندي!»٨٠
«وهذا الدعاء يشفُّ عن نفس رابعة في هذا الأوان الذي حجَّت فيه ولم يثبت التاريخ الذي بدأت تحج فيه، وأغلب الظن أن هذا الدعاء يدل على أنها قالته أول عهدها بالحج؛ فقد التمست فيه من الله أن تُتقبل حجها، وإن لم يتقبل فوا ضَيعةَ جهدها. لكن رابعة وقد هامت في العبادة ورضيت بها عزوفًا عن الدنيا وأهلها صار الحج عندها وسيلة من وسائل القربى إلى الله لا لتحظى بالثواب، بل إلحاحًا في معرفة الحق واستغراقًا في سر الوجود؛ فقد تقدَّمت في معرفتها وعبادتها أشواطًا حتى دخلت في نطاق جوًى لم ينقلها إليه جناحان، وإنما استهواها تواجد خالص، وتعمق لمعاني الذات الإلهية؛ فأطالت التأمل واصطنعت التعبير الرمزي في حديثها ودعائها وفي سلوك مذهبها مما اصطلح عليه فريق من إخوانها الزاهدين.»٨١

ثم تمضي السيدة سكاكيني في كلامها عن رابعة لكي تصل إلى ذِكر الكرامات المنسوبة إلى الصوفية العاشقة؛ حيث تقول:

وقد نُسبت إلى رابعة في هذا العهد (عهد النضج الروحي) حوادثُ وحكايات أشبه بالأساطير؛ فقد روت أكثر المصادر التاريخية أمورًا تجلَّت فيه كرامات رابعة وروعة مناماتها؛ منها أنها لما غدت إلى الحج في القافلة كان معها حمار يحمل متاعها، وفي أثناء الطريق نفق الحمار، فتوقفت رابعة وأبت أن ترافق القافلة، فقالت لأصحابها:

– ارحلوا وحدكم، ما كان اتكالي عليكم لما ارتحلت بل ثقتي بالله وحده … وجلست رابعة قرب حمارها تدعو ربها وترجو منه الرحمة قائلة: إلهي لقد دعوتني إلى زيارة بيتك، ولقد نفق حماري في الطريق وأنا بالفيافي وحيدة.

وما كادت تتم دعاءها — على رواية العطار — حتى ارتدت الحياة إلى حمارها؛ فألقت رابعة على ظهره متاعها، وانطلقت في الصحراء تريد اللحاق بالقافلة السابقة.٨٢
وفي رواية هي أقرب إلى الأسطورة والحكاية، نقلها أبو علي الفارمدي تلميذ القشيري وأستاذ الغزالي أبي حامد، أن رابعة مضت في الصحراء تريد الحج وبقيت سبعة أيام تتقلب على أضالعها حتى بلغت الكعبة.٨٣ تعقِّب السيدة سكاكيني على هذه الرواية قائلة:
ولعل الرواة نقلوا هذه الحكايات المتواترة؛ ليدلوا على افتتان الزهاد بأصناف العبادة، وفيه إيلام الجسم وإرهاق النفس عسرًا وكبتًا.٨٤

نظنُّ أن من حقنا أن نسأل الدكتور بدوي ماذا عساه أن يقول في هاتين الحكايتين المتقدمتين؟ هل كان يكذِّبهما أم يصدِّقهما؟ فإن كذَّب فإلى أي الأسانيد التاريخية كان يستند في تكذيبه؟ وإن صدَّق، فهل تراه كان يعتبر مجرد الرواية كافيًا للتصديق كشأنه عندما صدَّق ما رُوي عنها من تجديف على الكعبة؟

ثم تنقل السيدة سكاكيني من «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار حكاية ثانية تُضاف إلى كرامات رابعة، مؤداها أن الكعبة التي تقام حولها مراسيم الحج قد ذهبت بنفسها إلى لقاء رابعة.٨٥

هنا الكعبة تحجُّ إلى رابعة و«تسعى إليها». هكذا تنقلب الأدوار وتتبادل المواقع، ولعل هذا يشعرنا بنوع آخر من المواحدة في ذروة الفناء الصوفي حيث يصبح الإنسان إلهًا والإله إنسانًا، عبَّر فيه الرواة، إذ نسبوه إلى رابعة، عن حاجة الجماعة إلى الارتفاع بالأنثى إلى حظها من الألوهة بعد أن أفرط «المجتمع الأبوي» في الاقتصار على المبدأ المذكور وحده تعبدًا إليه وتقديسًا له.

٩

فيما يتعلق بالقول المنسوب إلى رابعة عن الكعبة أنها «صنم معبود» تمهِّد السيدة سكاكيني لذلك بالقول:
… تاريخ الفكر العربي سواءً في الدين أو الفلسفة قد احتوى حوادث عديدة وأخبارًا موزعة لأناس من العلماء والمفكرين وأهل الجدل، لحقتهم المؤاخذة والتهمة بكثير من أقوالهم وأفعالهم؛ لأنها فُهمت على ظاهرها فهمًا خاطئًا؛ فالقول المتواتر عن رابعة، في تطور حياتها الروحية، حين دنا موسم الحج: «لا أريد الكعبة بل رب الكعبة، أمَّا الكعبة فماذا أفعل بها؟ إنها الصنم المعبود في الأرض ما ولجه الله ولا خلا منه.» ربما كان منحولًا أو مدسوسًا عليها بالرغم من التواتر؛ إذ التواتر نفسه تسرَّب إلى حديث الرسول عليه السلام. بآلاف الأحاديث الموضوعة والمنحولة.٨٦
وفي محاولة منها لتفسير القول المنسوب إلى رابعة، تقول السيدة سكاكيني: على أن المفهوم من هذا القول إن صحَّت نسبته إلى رابعة أنها تريد وجه الله وحده بقلبها وبصيرتها، وما يتجلى لها في عبادتها وهو محض المراد من صوفيتها، وتجافيها عن الدنيا، فإيمانها الخالص العميق وتطور المعاني الإلهية في تفكيرها وتعبيرها جعلا نظرتها تترامى على إشراق روحي متكشف، ولم يبقَ همُّها مقصورًا على حج البيت، والأرض التي باركها الله بالوحي والتنزيل أسوة بأندادها الزهاد.٨٧
ثم تمضي السيدة سكاكيني في تحليلها قائلة:
«لقد صارت رابعة في حجاتها الأخيرة إلى تجرد لا يحتويه كيف، ولا يشتمل عليه حدود، أو تحيط به قيود؛ فتطرقت في حديثه عن الحج مع الزهاد العارفين إلى إيراد ألفاظ فهموا عنها مقاصدها، وفهمت عنهم مراميهم.»٨٨

١٠

ونحن نرى أن البحث في تاريخية مثل هذه الأقوال أو الأفعال منسوبة إلى رابعة أو غيرها، أمر لا طائل وراءه خصوصًا إذا كانت هذه الأقوال أو الأفعال تعبِّر عن تيار نفسي أطلقته «الخافية الجامعة» collective unconscious كما يعلمنا يونغ، سعيًا منها إلى إيجاد توازن في النفس أخلت به أحادية انتهت إلى نقيضها المضاد. وقد تمثلت هذه الأحادية في نظرنا، بالتعبد للمبدأ المذكَّر وحده وإغفال نظيره المؤنث مما حدا هذا الأخير أن يجد له مَن يمثِّله تاريخيًّا.
وهنا يجدر أن نشير إلى أن المبدأ المؤنث ملحوظ في الإسلام ميتافيزيقيًّا، وقد عبَّرت عنه مصطلحات من مثل «الذات» و«الحقيقة» و«أم الكتاب» و«الحضرة الأسمائية» وتمثل مبدأ الكثرة. وملحوظ باطنيًّا في اسمه تعالى الرحمن والرحيم الذي يتردد في كل بسملة. وملحوظ فنيًّا أو معماريًّا في شكل «المحراب» في المسجد، وفي الآية القرآنية المنقوشة في أعلاه: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا المِحرَابَ، إشارة إلى السيدة مريم العذراء، سيدة نساء العالمين التي واحد الشيعة بينها وبين السيدة فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين أيضًا و«أم أبيها»!٨٩
لكن الناس لم يكونوا كلهم بقادرين على الوقوف في وجه السلطة، الأموية ثم العباسية، والتعبير عن تعبدهم للمبدأ المؤنث متمثلًا في السيدة الزهراء، خشية مِن تُهمة التشيُّع؛ فحاولوا التعبير عنه متمثلًا في السيدة رابعة العدوية، بما هي الأقرب من بين بنات جنسها من نموذجها الأصلي archetype، بحسب المفهوم اليونغي، الذي تمثل تارة باسم عشتار وتارة أخرى باسم إزيس؛ طورًا باسم «مريم العذراء» وطورًا آخر باسم «فاطمة البتول». لكن، على هذه الأخيرة يقع «الفيتو» من جانب السلطة؛ ولذلك عمد مَن آثر منهم السلامة إلى اصطناع رابعة العدوية، بديلًا عن السيدة البتول.

ومن شيمة النموذج البدئي، وهو قيمة سيكولوجية أساسًا، أن يأخذ من التاريخ الدنيوي أقلَّه ومن الحقيقة النفسية أكثرها. وهذا سياق سيكولوجي يتخذ لنفسه مسارًا كثيرًا ما يتعارض مع الوقائع التاريخية المعروفة بما «يسقطه» على الشخص النموذج من ملامح وقسمات غير تاريخية بطبيعتها، وفي نفس الوقت ليس من طبيعة الأشياء أن تحدث في الواقع الدنيوي؛ لأن هذا السياق يبتغي من وراء إسقاط هذه الملامح والقسمات أن يرتفع بذلك الواقع إلى واقع قدسي لا يخضع لنواميس الزمان والمكان، وأن يبطل الشرط البشري.

في هذا الضوء ينبغي النظر في الكرامات المنسوبة إلى رابعة، والأقوال التي قيل إنها نطقت بها. فهذه الكرامات ليس من الضروري أن تكون جرت على يد رابعة، كذلك ليس من الضروري أن تكون نطقت بهذه الأقوال. وربما يقلل من شأن هذه الكرامات أو هذه الأقوال أن تكون رابعة قد اجترحتها أو فاهت بها، بما هي امرأة لا تمثل سوى نفسها أو حقيقتها الفردية، بما هي كذلك. إنما تمثِّل رابعة نموذجَ البدء القدسي، الجانب المؤنث منه، الذي أحدث إغفاله خللًا في التوازن النفسي عند الإنسان المسلم. وهذه الكرامات والشطحات أو التجديفات المنسوبة إلى رابعة منظورٌ إليها في هذا الضوء، لا مجال للارتياب في صحَّتها؛ بما هي تعبر عن مسعى النفس المسلمة إلى تحقيق التوازن. كذلك لا مجال هنا إلى التمحيص التاريخي ما دامت الحقيقة النفسية قائمة ماثلة. لذلك لا معنى لإثبات ما نُسب إلى رابعة من تجديف، كما لا معنًى لنفي ما نُسب إليها منه، من حيث إن المنهج الصحيح الذي يتفق مع درس الحقائق النفسية هو في نظرنا اعتبار رابعة معبرة عن جنوح الجماعة نحو التوازن بإعطاء المبدأ المؤنث حقه من القدسية.

فرابعة العدوية «بتول» إذ ترفض الجنس ولو زواجًا٩٠ وهي بما لها من دالة عند الله تعيد الحياة إلى «حمارها» الذي نفق وهي في الطريق إلى مكة. ثم إن رابعة تقوم «في نقطة المركز»، بل هي «نقطة المركز» عينها، يسعى إليها «البيت العتيق» ويحجُّ إليها، بدل أن تحجَّ إليه!

(٤) محاولة في شرح نماذج من شطحات الصوفية

يعتبر أبو يزيد البسطامي وأبو بكر الشبلي والحسين بن منصور الحلاج أكبر الشاطحين في تاريخ التصوف الإسلامي؛ لم يسبقهم من الصوفية مَن تقدمهم، ولم يلحق بهم مَن تأخر عنهم اللهمَّ إلا الشاطحين من أصحاب «وحدة الوجود» الذين يندرج شطحُهم فيما اصطلحنا على تسميته في غير مكان باسم «شطح الصحو» تمييزًا له من «شطح السكر»؛ وقد كان للحلاج من كليهما نصيب وافر.

وفي هذا البحث سوف نأتي على ذِكر أهم الشطحات التي صدرت عن هؤلاء مبينين ما ذهب إليه الشرَّاح في تأويلها بما يجعلها مقبولة من وجهة نظر الشريعة، وهم في تأويلهم هذا إنما يحاولون رأب ما انصدع من إطار يحرصون كل الحرص على أن يبقى سليمًا من شبهة العبث أو الدس أو التقول الذي قد يأتي من خارج دائرة الصوفية، بل ربما حتى من خارج دائرة الإسلام.

ولئن كان القدامى ذهبوا في تأويل شطحات الصوفية إلى وجوب مطابقتها مع الشريعة، لقد ذهبنا نحن في «تفسيرها» إلى وجوب مطابقتها مع طبيعة التجربة الصوفية، بما هي المعيار الوحيد الذي ينبغي الركون إليه، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الشطحات أو تلك تصح نسبتها إلى هذا الصوفي أو ذاك، وبصرف النظر عما إذا كانت تتفق مع ظاهر الشريعة أو تتناقض معه.

والشطحات التي نتناولها فيما يلي بالشرح والتحليل؛ هي إما بسطاميات أو شبليات أو حلاجيات تبعًا لنسبتها للبسطامي أو للشبلي أو للحلاج.

أولًا: بسطاميات

  • (١) «سبحاني ما أعظم شأني.»: رُوي عن أبي يزيد البسطامي أنه نطق بهذه العبارة.٩١ ويروون عنه أيضًا أنه لما سئل عن معناها قال في تفسيرها: قلتُ يومًا سبحان الله! فناداني الخالق في سرِّي: هل في عيب تنزِّهني عنه؟ قلتُ: لا يا رب فقال: فنفسك نزِّه عن ارتكاب الرذائل. فأقبلتُ على نفسي بالرياضة حتى تنزهت عن الرذائل، وتحلَّت بالفضائل، فصرت أقول: سبحاني ما أعظم شأني، من باب التحديث بالنعمة.٩٢
يقول الإمام أبو حامد العزالي في شرحه هذه العبارة: «وقول أبي يزيد إن صحَّ عنه «سبحاني ما أعظم شأني!» إما أن يكون جاريًا على لسانه في معرض الحكاية عن الله تعالى كما لو سُمع يقول لا إله إلا أنا فاعبدني، لكان يُحمل على الحكاية، وإما أن يكون قد شاهد كمالًا لاحظه في صفة القدس على ما ذكرنا في الترقي بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات وبالهمة عن الحظوظ والشهوات فأخبر عن قدس نفسه فقال سبحاني، ورأى من عِظم شأنه بالإضافة إلى عموم الخلق؛ فقال ما أعظم شأني! وهو يعلم أن قدسه وعِظم شأنه بالإضافة إلى عموم الخلق؛ فلا نسبة له إلى قدس الرب تعالى وعظم شأنه، ويكون قد جرى هذا اللفظ على لسانه في سكر وغلبة حال؛ فإن الرجوع إلى الصحو واعتدال الحال يوجب حفظ اللسان عن الألفاظ الموهمة، وحال السكر ربما لا يحتمل ذلك. فإن جاوزت هذين التأويلين فذلك محال قطعًا.»٩٣

ونحن نرى أن هذه التأويلات أشبه ما تكون بالحيل الفقهية المعروفة عند الحنفية الذين اشتهروا بإيجاد «المخارج الشرعية» بغية التسهيل على الناس. فهي، أي هذه التأويلات، لا تتصدى لطبيعة الخبرة الصوفية التي أفضت بالصوفي إلى قول ما قال، بل تحاول أن تجد لأقواله تأويلات بعيدة عن الخبرة، وفي نفس الوقت قريبة من الشريعة؛ بحيث تفهمها العامة وتسوغها لئلا تضل وتزل بها القَدم.

والخبرة، كما نراها، تقوم في نهاية المطاف على تحقق الإنسان في الألوهة، وتحقق الألوهة في الإنسان، بعد أن تكون قد سلكت طريق نفي الإنسان لإثبات الألوهة، ونفي الألوهة لإثبات الإنسان. وقد عبَّر عنها الصوفية بجدلية الفناء والبقاء؛ الفناء عن الخلق والبقاء في الحق. وهي أشبه ما تكون بجدلية الحياة والموت: موت عن حياة دنيا وانبعاث جديد في حياة ثانية والجنين إذ يخرج من رحم أمه إنما يموت عن الحياة الرحمية لكي ينبعث في حياته الرضيعية؛ حيث يعيش مستوًى آخر من الحياة أعلى وأرحب. والخبرة أيضًا أن يعرف الإنسان نفسه، ووسيلته إلى هذه المعرفة هتك الحجب عن «مصباح القلب». الحجب هي الجانب البشري الغريزي الجسداني من الإنسان، والمصباح هو الجانب الإلهي منه، بؤرة التجليات الأسمائية، وهي حقيقته، بل جوهره وماهيته! ومَن عاش ليالي «التعتيم» زمن الحرب يعرف كيف كنا نغلف المصابيح بالورق القاتم ونطلي زجاج النوافذ بالأزرق. الإنسان المحجوب عن الله تعالى، أو إن شئت قلتَ عن حقيقته الإلهية، بما هي بؤرة التجليات الأسمائية، حاله يشبه حال تلك المصابيح. فإذا امتدت إليه يد العناية تفك عن قلبه الأغلفة والقماطات (وهذا ما يعرف بالفناء في المصطلح الصوفي) كوشف بحقيقة الجمال، وخوطب بلغة الوحي، وفهِم عن الله تعالى قوله: فَكَشَفنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد (ق: ٢٢).

في هذه الحالة، أي حالة المكاشفة أو المواحدة، يندرج الجزء في الكل؛ فيشعر الجزء بأنه الكل وأنه لا شيء غير الكل. يترتب على ذلك أن قول أبي يزيد «سبحاني ما أعظم شأني!» يحتمل وجهين في وقت واحد: إما أن يكون الله تعالى هو الذي نطق على لسانه وأبو يزيد محو وهذا ما يميل إليه معظم الصوفية لما فيه من انسجام مع علم الكلام السائد الذي يذهب إلى نفي الإنسان من أجل إثبات الألوهة، وهو ما يعبر عنه الصوفية بالفناء عن الخلق أو الفناء بالحق. وإما أن يكون أبو يزيد هو الذي نطق نيابة عن الحق أو بتكليف منه، وهذه حال تبادل الأدوار كما يسميها ماسينيون،٩٤ أو تبادل الأشخاص كما يسميها آربري،٩٥ أو حال امتلاء الإنسان بالألوهة.

أو تقول: الذي قال «سبحاني ما أعظم شأني!» هو الله وأبو يزيد في نفس الوقت، وهو وقت تنعدم فيه ثنائية الحق والخلق؛ فإن نظرنا إلى الظاهر قلنا إن الذي نطق بهذه العبارة هو أبو يزيد، وإن نظرنا إلى الباطن قلنا إن الله تعالى هو الذي نطق بها سيكولوجيًّا، يمكننا القول إن أبا يزيد عندما قال: «سبحاني ما أعظم شأني!» كان في حال من انكفاء إسقاطات القداسة من الخارج إلى الداخل أو الامتلاء بالتجليات الأسمائية؛ وهي حال يمكن تسميتها بارتداد الموضوع إلى الذات التي نشأ عنها؛ من حيث إن الموضوع ذات جعلت لنفسها من نفسها موضوعًا في العالم الخارجي. أي أن الألوهة، من موقع إنساني، ما هي إلا الذات الإنسانية متموضعة، بفعل سياق الإسقاطات القدسية؛ فإذا ارتد الموضوع إلى الذات، تضخمت هذه وانتفخت وراحت تقتات من نرجسيتها. وهذه حال مرضية، من وجهة نظر الصحة النفسية. فالنفس التي لا تسقط قيمها القدسية على العالم الخارجي نفس معصوبة، لا تحلم ولا تتخيل؛ نفس فقدت توازنها لعطل طرأ على وظائفها التعويضية تنفق طاقة ولا تعوضها!

وقد قلنا، في غير مكان، إن الشطح بما هو ظاهرة نفسية يشعرنا، من جهة، بأن ثمة خللًا في التوازن النفسي يعاني منه الشاطح، ومن جهة ثانية هو إيذان بأن البنية النفسية قد وضعت أولى خطاها على طريق التوازن. فأبو يزيد، عندما قال «سبحاني ما أعظم شأني!» كان عكس وجهة إسقاطاته فصارت تأتيه من الخارج إلى الداخل فامتلأ بالألوهة، وأعني بها التجليات الأسمائية بعد إذ كان فارغًا منها!

ولعلنا نتساءل عن أسباب هذا الارتداد والانكفاء. أغلب الظن أنه يأتي من قبل الخافية (=اللاشعور)، وهي شأن غير تاريخي، لكي تعدل من الموقف الواعي الذي أفرط في اعتبار الألوهة مفارقة للإنسان. فأقصى البُعد يعوضه أدنى القرب. ومغالاة الواعية في التوجه إلى العالم الخارجي يستثير الخافية لكي تكبح جماح الواعية منبهة لها بأن ثمة عالمًا داخليًّا أخذه بالاعتبار!

وما أن يحصل توازن بين القرب والبُعد، أو المفارقة والبطون، حتى تعود النفس إلى إطلاق إسقاطاتها المقدسة بدءًا من الداخل من دون إغراق في البعد أو المفارقة وانكفاء من الخارج إلى الداخل بدون إغراق في القرب أو البطون، وهي الحال التي اصطلحنا على تسميتها بثبوت الألوهة في الإنسان وثبوت الإنسان في الألوهة، أو بقاء الحق في الخلق وبقاء الخلق في الحق.
  • (٢) «بطشي به أشد من بطشه بي.»: ويُروى أن أبا يزيد كان يسمع تلاوة الآية القرآنية إِنَّ بَطشَ رَبِّكَ لَشَدِيد، فقال أبو يزيد: و«حياته إن بطشي أشد من بطشه»٩٦ وقد ذهب ابن عربي في تأويل هذه الشطحة إلى القول: إن بطش العبد معرًّى من الرحمة؛ فليس عنده حال بطشه من الرحمة شيء. وبطش الحق بكل وجه فيه رحمة بالمبطوش به، فهو رحيم في بطشه. والله — سبحانه وتعالى — حينما قال: إن بطش ربك لشديد. أعقب ذلك بقوله إنه يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود. إنه سبحانه غفور ودود في بطشه، وحينما تحدث عن بطش الإنسان قال سبحانه وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فبطش الإنسان فيه جبروت، وبطش الله مشرب بالرحمة.٩٧
هذا التفسير الذي ذهب إليه ابن عربي ينطبق تمامًا على قول أبي يزيد: «إن بطشي أشدُّ من بطشه.» أما الرواية الأخرى، وهي قوله: «بطشي به أشد من بطشه بي.»٩٨ فلا ينطبق عليها هذا التفسير ولا من وجه.

إذَن، ما معنى «بطشي به أشد من بطشه بي»؟!

قلنا، في غير مكان، إن التجليات الأسمائية ينسخ اللاحق منها السابق؛ فتجلي اسمه الغفور، مثلًا، ينسخ تجلي اسم المنتقم، وتجلي اسمه الرحيم ينسخ تجلي اسمه الجبار بعبارة أخرى، إن الألوهة — بمقدار ما هي قيمة مركوزة في قلب الإنسان — تتداولها هي أيضًا جدلية الفناء والبقاء، تمامًا مثلما تتداول الصوفي تقلبات أحواله. فالفناء والبقاء كلاهما يعتوران الألوهة في تجلياتها الأسمائية كما يعتوران الصوفي، بمقدار ما هو انعكاس هذه التجليات. والمواحدة، أو تبادل الأدوار على حد تعبير ماسينيون، تقتضي الإفناء والإبقاء المتبادلين. يترتب على ذلك القول إنه في نفس اللحظة التي يفنى فيها الصوفي عن نفسه. تفنى الألوهة أيضًا عن نفسها. ونفس اللحظة هذه هي أيضًا نفس لحظة بقاء الصوفي في الألوهية، وبقاء الألوهة في الصوفي. وبما أن المبادرة في التجربة الصوفية تأتي دائمًا من الألوهة، كان حبُّ الألوهة للإنسان أعظم من حبِّ هذا الأخير لها. ولئن كان الحب ليس إلا موت المحب وانبعاثه في محبوبه في نفس اللحظة، كان معنى قول أبي يزيد «بطشي به أشد من بطشه بي» يحتمل أيضًا معنى «حبُّه لي أعظم من حبي له!» ولقد كان هذا الحب - القتل هو ما رمى إليه جران العود النميري في قوله:

كلانا يستميت إذا التقينا
وأبدى الحب خافية الضمير
فأقتلها وتقتلني ونحيا
ونخلط ما نموت بالنشور
  • (٣) طواف البيت والطواف حول البيت: يُروى عن أبي يزيد أنه قال كنت أطوف حول البيت فلما وصلت رأيت البيت يطوف حولي.٩٩ هذا القول المنسوب إلى أبي يزيد يشبه الكرامة المنسوبة إلى رابعة العدوية، وهي أن الكعبة التي تُقام حولها مراسيم الحج قد ذهبت إلى لقاء رابعة.١٠٠

الكعبة هي التمثيل الأرضي لبيته المعمور السماوي، وبيت الله على الأرض يناظر بيته في السماء؛ كلاهما في نقطة المركز. وكما أن الكائنات السماوية تطوف حول بيته المعمور في السماء، كذلك تطوف الكائنات الأرضية حول بيته العتيق على الأرض. وفي المواحدة الصوفية، ينتقل الصوفي من المحيط إلى المركز، وعند هذا الانتقال يصبح كل شيء — ما عداه هو — من السوى. وبالتالي كل شيء يطوف حوله، بما في ذلك البيت العتيق!

  • (٤) «كنتَ لي مرآة فصرتُ أنا المرآة.»: ١٠١ الأصل أن الله تعالى خلق الخلق لكي يعرفوه؛ إذ كان كنزًا مخفيًّا وأحبَّ أن يُعرف، كما جاء في حديثه القدسي. ولما خلق الله آدم، محل تجلياته الأسمائية، كان له كالمرآة كما يقول ابن عربي؛١٠٢ لأن المعرفة تحتاج إلى نقطة ارتكاز خارجية تتموضع فيها الذات بحيث تكون موضوعًا لرؤية ذاتها. وبذا تكون الذات ذاتًا وموضوعًا في نفس الوقت. إن آدم، في هذه الحالة، هو الذات الإلهية متموضعة خارج ذاتها، وعلى قدر جلاء المرآة ينعكس جلاء الرؤية، وتكون الرؤية أظهر وأبين. ولما أن عصى آدمُ ربَّه عرا صفحة المرآة «غبش»، ففقدت رواءها وجلاءها فتعيَّن عليها من بعدُ أن تجلو نفسها لكي تأتي جديرة بالناظر إليها والواقف أمامها.

في البداية، كان أبو يزيد يترسَّم خُطا ربه تعالى ويطهِّر نفسه ويزكيها، ولا يرى نفسه إلا من خلال مرآة الحق تعالى. فالحق مرآته يرى فيه نفسه، حتى إذا اكتمل التطهير، وتخلَّص من رقِّ عبوديته للأشياء، صار جديرًا بأن يرى الحق تعالى نفسه فيه؛ إذ تواحد أبو يزيد بآدم قبل المعصية.

  • (٥) «كما تنسلخ الحية من جلدها.»: يُروى عن أبي يزيد أنه قال: «انسلختُ من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ثم نظرتُ إلى نفسي؛ فإذا أنا هو.»١٠٣

هذه الصورة الحسية تختصر التجربة الصوفية: فالانسلاخ عن النفس (الشهوات) أو عن الأنية هو ما يعبر عنه الصوفية بالفناء عن الخلق وعندما فني عن نفسه وعن الخلق نظر إلى نفسه فرأى أنه هو، أي أنه هو الحق؛ وهو ما يعبر عنه الصوفية بالبقاء في الحق، أي تحققه في الألوهة.

والفناء الصوفي هو ما اصطلحنا على تسميته بفك القماطات عن المولود الإلهي الجديد، أي عن الجانب الإلهي من الإنسان، ونعني به بؤرة الإسقاطات الإلهية أو محل التجليات الأسمائية. وبذلك يكون في الإنسان جانبان: أحدهما بشري (ظاهر)، وثانيهما إلهي (باطن). وقدر البشري أن يخضع للإلهي، وهذا هو طريق الآلام، وإن شئتَ قلتَ: هذا هو طريق الإسلام.

  • (٦) «مَن رآني لا تحرقه النار»: يروي ابن عطاء السكندري في شرح لقصيدة «ولي الله أبي مدين» القصة التالية:
زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد — رضي الله عنه — وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد؟ فأُشير إلى شيخ كبير في السن كان حاضرًا هناك. فقال له: سمعتَ شيئًا من كلام أبي يزيد؟ فقال: نعم. سمعتُه قال: مَن رآني لا تحرقه النار. فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبي ، وتحرقه النار فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم يرَ النبي ، وإنما رأى يتيم أبي طالب، ولو رآه لم تحرقه النار. ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه … أي، أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة، واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار.١٠٤
  • (٧)«طاعة الرب وطاعة العبد.»: يُروى عن أبي يزيد قولُه: طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك.١٠٥ وفي تفسير هذا نقول:

كما أن المحبين يتبادلون أشخاصهم، كذلك يطيع بعضهم بعضًا؛ فإذا كان فناء الخلق في الحق ينطوي أيضًا على فناء الحق في الخلق، كذلك إن بقاء الخلق في الحق ينطوي على بقاء الحق في الخلق؛ مما ينجم عنه مواحدة الإرادتين؛ فما يريده الحق يريده الخلق، وما يريده الخلق يريده الحق. إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد!

وقوله: إن طاعة الرب أعظم من طاعة العبد معناه أن طاعة هذا الأخير مشوبة بمعصية، على حين أن طاعة الرب خالصة لا يشوبها غرض، يؤيد ذلك قول أبي يزيد «توبة المعصية واحدة، وتوبة الطاعة ألف توبة.»١٠٦ وقوله: «توبة الناس من ذنوبهم، وتوبتي من قولي «لا إله إلا الله» أني أقول بالآلة والحروف، والحق خارج عن الآلة والحروف.»١٠٧
  • (٨) «اللوح المحفوظ»: يُروى عن أبي يزيد، وقد سُئل عن اللوح المحفوظ، أنه قال: أنا اللوح المحفوظ.١٠٨ واللوح المحفوظ هو لوح القدر، وهو أم الكتاب (يُلاحظ هنا أنه يمثل المبدأ المؤنث السماوي!) وهو متحرك في ثابت. والله تعالى خلق العالم من أجل الإنسان، وخلق الإنسان من أجل نفسه، وجعله خليفته على الأرض. فإذا تجرد الإنسان من كدورة الغرائز، وارتفع إلى مستوى «مرآة الله» المجلوة، أحبَّه الله تعالى، فإذا أحبَّه كان «سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.» على ما جاء في الحديث القدسي المشهور. وكما أن الله — تعالى — يقول في كتابه العزيز: يَمحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ، كذلك إن الإنسان مؤهل ابتداءً لأن «يمحو ويثبت» في نفس اللحظة التي يمحو فيها الله ما يشاء ويثبت. فكل محو أو إثبات منه تعالى إنما غايته ونهايته الإنسان، وكل محو أو إثبات من الإنسان إنما غايته ونهايته الله تعالى.

ثانيًا: شبليات

  • (١) «أنا معكم حيثما كنتم.»: هذه العبارة جزء من كلام قاله الشبلي لأناس كانوا عنده في داره، فلما أرادوا الانصراف قال لهم: «مرُّوا، أنا معكم حيثما كنتم … أنتم في رعايتي وفي كلايتي.»١٠٩

في هذا الكلام إشارة صريحة إلى قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُم أَينَمَا كُنتُم وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير (الحديد: ٤). والذين يؤثرون الاعتذار عن الصوفي يعمدون إلى تأويله بالقول إن الصوفي في حال الفناء وإن الناطق على لسانه هو الله تعالى، وإن الصوفي لا دور له فيه، وفي هذه الحالة، لا ينسب الصوفي شيئًا لنفسه.

  • (٢) «لو التفت سري إلى العرش»: ذُكر أن الشبلي أخذ من يد إنسان كسرةَ خبز فأكلها، ثم قال: «إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق.»١١٠

في هذا الكلام وعي لثنائية الحق والخلق وتقدير واقعي لما ينطوي عليه الخلق من ضعف وعجز من جهة، ومعرفة بما ينطوي عليه الحق من قوة وجبروت، من جهة ثانية. غير أن هذه القوة هي قوة الإنسان أيضًا عندما يفنى الخلق عن نفسه ويصير بالحق حقًّا.

وفي هذا الكلام أيضًا ما يشير إلى تجمع التجليات الإلهية (=الإسقاطات الإلهية وهي حقيقة الإنسان) في بؤرة الذات الإنسانية التي ما تلبث أن تعيد إنتاج هذه الإسقاطات أو التجليات في ألوهة مفارقة؛ فهذه الإسقاطات الثانية لو اتجهت نحو الخلق (عرشًا كان أم كرسيًّا) لأحرقته.

وغنيٌّ عن البيان أن هذه الإسقاطات أو التجليات إن هي إلا التجليات الجلالية لا الجمالية، وقد كانت بمثابة تعويض عن العجز الذي يشعر به الشبلي عندما أحس بالجوع. والعجز والجوع من التجليات الجلالية التي لا قِبل للإنسان إلا بالاعتراف بها؛ الأمر الذي يجعله يعي مقام الاضطرار أو العبودية وما يستتبعه ذلك من وجوب التواضع والإذعان والتحلي بفضيلة الصبر والمجاهدة. قال تعالى: وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقص مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة: ١٥٥).

والسر، في المصطلح الصوفي، باطن العقل (أهو العقل الباطن؟!) وهو محل المشاهدة، كما أن الأرواح محل المحبة، والقلوب محل المعرفة.١١١
ويقال أيضًا: الأسرار معتقة عن رق الأغيار من الآثار والأطلال.١١٢

يُستفاد من ذلك أن في الإنسان يجتمع مقامَا العبودية والحرية: في العبودية يحتاج إلى كسرة خبز، وفي الحرية ينعتق من رق المكونات ويخضعها إلى سلطانه.

  • (٣) ذكرُ غير الله شرك: كان الشبلي، رحمه الله، يقول للحصري: «إن مرَّ بخاطرك ذِكر جبريل وميكائيل عليهما السلام أشركتَ.»١١٣

ليس هذا الكلام من قبيل الشطح، وإنما هو من قبيل توحيد الخاصة؛ وذلك حين يجري توحيد الحق لنفسه بنفسه على ما يشاء من خلقه، وهو لا يحصل إلا في حال الفناء عن السوى، وانعدام الاثنينية؛ فإن خطر ببال الصوفي، وهو في هذه الحال، خاطرٌ غير الحق، كان ذلك إثباتًا لوجود هذا «الغير».

وقد قلنا، في غير مكان، إن مقتضى شهادة التوحيد هو توحيد الشهادة، وهو ألا يشهد للحق غير الحق بالوحدانية. وكان الحلاج يقول: «إياك والتوحيد!»١١٤ وكان يقول لمَن ينطق بالشهادة: «أنت تثبت نفسك!»١١٥
  • (٤) «هل في الدارين غيري؟»: يُروى عن أبي بكر الشبلي قوله: «أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري؟»١١٦

قلنا إن الصوفي، وهو في حال الفناء، لا ينسب شيئًا لنفسه. وقد ذهب أكثر المتأوِّلة للشطح إلى أن الصوفية إنما نطقوا بما نطقوا به، وهم في حال الفناء عن النفس والعالم؛ فيكون الناطق بالتالي هو الحق حقيقة، والصوفي رسمًا ومجازًا. إن هذا أحد الأوجه الممكنة للتفسير. والوجه الممكن الآخر هو أن الصوفي في حال البقاء ينسب كل شيء لنفسه؛ وهو إنما يفعل ذلك إذا انكفأت إسقاطات الألوهة إلى الداخل، وعندئذٍ لا يكون بقاؤه في الحق وحسب، وإنما يكون بقاء الحق فيه أيضًا. هو ذا الشبلي ينسب إلى نفسه كل قول يصدر في العالم كما يسمع كل شيء فيه؛ هو المتكلم وهو المخاطب في نفس الوقت؛ لأنه هو الموجود الوحيد في العالم: «فهل في الدارين غيري؟!»

  • (٥) النقطة والباء: يُروى عن أبي بكر الشبلي قوله: «أنا النقطة تحت الباء!»١١٧ كثيرًا ما يرمز إلى الألوهة بالنقطة بما هي مركز الدائرة، ومنها ينداح الوجود دوائر إلى حيث لا نهاية والألوهة، عند والتر ستيس، هي النقطة التي يلتقي عندها الزمان بالأزل.١١٨
ويذهب عبد الكريم الجيلي إلى أن «الباء موجودة في كل سورة للزوم البسملة في جميع السور. فكل القرآن في الفاتحة، وهي في البسملة، وهي في الباء، وهي في النقطة. فكذلك الحق — سبحانه وتعالى — مع كل أحد بكماله لا يتجزأ ولا يتبعَّض؛ فالنقطة إشارة إلى ذات الله تعالى الغائب خلف سرادق كنزيته في ظهوره لخلقه. ألا تراك ترى النقطة ولا تحسن تقرأها البتَّة لصموتها وتنزهها عن التقيد بمخرج دون مخرج.١١٩ والباء في بسم الله الرحمن الرحيم من العارف بمنزلة كن من الله،١٢٠ والنقطة «من الحروف كالله — تعالى — من الخلق».»١٢١
وقول الشبلي: «أنا النقطة تحت الباء.» قول في درجة لا يصل إليها العبد إلا إذا وصل إلى حال الانمحاء التام (نقول: أو البقاء التام!) فالنقطة هي التي تعطي للحروف معانيها، وهي جوهر الحروف إذ تدخل في جميع الحروف من حيث التركيب دون أن يمس ذاتيتها شيء، وهي بالنسبة للباء والتاء والثاء وغيرها متصلة منفصلة: متصلة من حيث معانيها المميزة، ومنفصلة من حيث وجودها خارج الحرف؛ فوقه أو تحته. فإذا لم توجد على هذا النحو مثل الدال والعين فلا يظن أنها غائبة، بل هي داخلة في تركيبها والحرف مفتقر إليها على الدوام.١٢٢

ثالثًا: حلاجيات

أكثر الشطح المنسوب إلى الحسين بن منصور الحلَّاج يرتد إلى شطح الصحو دون شطح السكر؛ من حيث إن شطحه يعبر عن «عقيدة» شيدها الحلاج لنفسه ولأتباعه. وهي عقيدة مستمدة من خبرته الصوفية، ومن الأوجه الكثيرة التي تحتملها العقيدة الإسلامية في شمولها وكليتها وما انطوت عليه من مطلقات عامة تتصف بالمرونة وعدم تقيدها بظرف معين.

ثم إن العقيدة الحلاجية، بما هي مستمدة من خبرته الصوفية، لا تتعارض مع الإسلام في جوهره، وإن تعارضت مع فهم معين للكتاب والسُّنة أُريد له أن يسود حقبة طويلة بما لقيه من دعم السلطة وتأييدها وما استتبع ذلك من رفض أنواع الفهم الأخرى وملاحقة أصحابها واضطهادهم.

لن نتعرَّض الآن للعقيدة الحلاجية؛ فإن لذلك موضعًا آخر، وإنما نكتفي هنا بأن نورد منها ما تقتضيه طبيعة الشطحات التي سنتناولها فيما يلي:

  • (١) «أنا الحق»: أكثر الذين تناولوا هذه الشطحة ذهبوا إما إلى أن الحلاج قالها على الحكاية، كما لو سُمع وهو يتلو آية لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدنِي، أو أن الحق تعالى قالها على لسانه، والحلاج فانٍ عن نفسه مستهلك في شهوده.
على المذهب الأول لا تكون الكلمة من الشطح، ولا تكون معبرة — بالتالي — عن تجربة صوفية، ويكون بإمكان كل أحد أن ينطق بها على هذا النحو. وهذا ما ذهب إليه الغزالي الذي اعتاد الأخذ بالأحوط لئلا تضل العامة بأقواله وهو الإمام المقتدى.١٢٣
غير أن الغزالي يذهب مذهبًا آخر هو مذهب المجاز؛ ومذهبه هذا يبعده أيضًا عن التجربة الصوفية، ويجعل من هذه الشطحة ضربًا من التشبيه البليغ الذي يُحذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه. ﻓ «أنا الحق» تعني، في نظره، «كأني أنا الحق»، أو «كأني أنا هو»،١٢٤ بتدقيق العبارة.

لكن أقرب التفسيرات إلى التجربة الصوفية التفسير الذي يذهب إلى أن الحلاج كان — حينما نطق بهذا القول — فانيًا عن نفسه مستهلكًا في شهوده، وكان الحق — تعالى — هو الناطق بلسان الحلاج حقيقة والحلاج رسمًا. أي أنه لا دورَ للحلاج في هذا القول، وهو مجرد أداة ليس أكثر. ومستند هذا المذهب الحديث القدسي المشهور الذي جاء فيه: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.»

وقد ذهب هذا المذهب العز بن عبد السلام في كلمة بليغة رائعة هي إلى الشِّعر أقرب منها إلى النثر وقد جاء فيها قوله على لسان الحلاج:
يا قوم، لما أخذني مني، وسلبني عني، تلاشت أوصاف حدثي لما ظهر سلطان قدمه؛ فكان الحدث كأن لم يكن، وبقي القدم كأن لم يزل. ثم فنيت أنانيتي في أنانيته، وذهبت هويتي في هويته وتلاشت ناسوتيتي في لاهوتيته. ثم نظرت منه إليه فلم أرَ إلا هو، وسمعت منه به؛ فلم أسمع إلا هو، ونطقت به له؛ فلم أذكر إلا هو، فعلمت أن ليس هو إلا هو؛ فقلت: أنا هو. ولئن قلتُ «أنا الحق» فما عدلتُ عن الحق؛ لأني أنا الحق في محبته، وهو الحق في مملكته. ولئن كان سكري نمَّ على سري فقد عربد وجدي على وحدي، وجعل حدي محوَ حدي.١٢٥

إن هذا التأويل ينال رضا الفقهاء من أهل الظاهر؛ من حيث إنه ينفي عن الإنسان كل دور له، لا في الخبرة الصوفية وحسب، وإنما في كل ميدان من ميادين الحياة. لأن الصوفي — كما قلنا — لا ينسب شيئًا لنفسه وهو في حال الفناء، وينسب كل شيء إليها في حال البقاء. والصوفية يحتاطون بوصف هذه الحال بالقول إنها «بقاء بالحق». وقد قلنا أيضًا إن بقاء الخلق في الحق ينطوي أيضًا على بقاء الحق في الخلق نظرًا لانعدام الاثنينية الذي يتيح نسبة كل فعل أو قول إلى الخلق مثلما يمكن نسبته إلى الحق؛ فإن قلنا إن الذي قال أنا الحق هو الحلاج فقولنا صحيح، وإن قلنا إن الذي قالها هو الحق فقولنا صحيح أيضًا.

وقد جاءت قولة الحلاج هذه متضمنة في كتابه «الطواسين» الذي ألَّفه في السجن ولم يُكشف عنه النقاب إلا بعد استشهاده يقول الحلاج في هذا الكتاب:

إن لم تعرفوه (الله) فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلتُ أبدًا بالحق حقًّا. وإن قُتلتُ أو صُلبت أو قُطِّعَت يداي ورجلاي، ما رجعتُ عن دعواي.١٢٦

واضح من هذا التعليل الذي يقدمه الحلاج أنه يعتبر العلاقة بين المؤثر والأثر ذات طبيعة عضوية لا ميكانيكية؛ أي إن الأثر غير منفصل عن المؤثر من كل وجه، أو أن العلة مبطونة في المعلول؛ وبالتالي إن الأثر دليل على المؤثر الذي لا يعرف إلا بما ينتج عنه من آثار؛ حتى ليمكننا القول إن الأثر هو المؤثر، لكنه ليس به في نفس الوقت، مثلما يمكننا القول إن هذه اللوحة هي الفنان الذي أبدعها وليست به في نفس الوقت؛ فهي هو من حيث إنه ذاته وقد أصبحت موضوعًا في العالم الخارجي، وهي ليست به من حيث إن ذاته ظلت محتفظة بجوهرها بما هي ذات صرفة في معزل عن تجلياتها أو إسقاطاتها أو ابداعاتها.

ﻓ «أنا الحق» الحلاجية ليست مطلقة من كل وجه، بل هي مطلقة من جانب ونسبية من جانب آخر؛ مطلقة بما هي تمثل «الذات الإلهية في تجلياتها الأسمائية»، ونسبية بما هي «محل هذه التجليات». فهي «مطلقة نسبيًّا»، على حد تعبير ف. شيئون.١٢٧ إذ لو كانت مطلقة من كل وجه لكانت حلولًا بما هو امتصاص للمبدأ في تجلياته.
  • (٢) عين الجمع: ينقل ابنُ الجوزي، صاحب «تلبيس إبليس»، أن ابن عطاء (وهو أحمد بن عطاء الأدمي تلميذ الحسين بن منصور الحلاج) قُتل لأنه قال بمقالة الحلاج. قال أبو بكر بن ممشاد:

حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها لا بالليل ولا بالنهار؛ ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابًا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان. فوجه إلى بغداد؛ فأحضر «الحلاج» وعرض عليه «الكتاب»؛ فقال: هذا خطي وأنا كتبته. فقالوا: كنتَ تدَّعي النبوة فصرتَ تدَّعي الربوبية؟ فقال: ما أدَّعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله تعالى واليد فيه آلة؟! فقيل له: هل معك أحد؟ فقال: نعم، ابن عطاء، وأبو محمد الجريري، وأبو بكر الشبلي. وأبو محمد الجريري يتستَّر، والشبلي يتستَّر؛ فإن كان فابن عطاء. فأُحضِر الجريري وسُئل فقال: قائل هذا كافر … يُقتل مَن يقول هذا!

وسُئل الشبلي فقال: من يقول هذا يُمنع.

وسئل ابن عطاء عن مقالة الحلاج؛ فقال مقالته وكان سبب قتله.١٢٨
وبعدُ، فما هو عين الجمع الذي استند إليه الحلاج ولم ينصره؟ يقول أبو القاسم القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول: أنشد قوال بين يدي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي: جعلت تنزهي نظري إليك، وكان أبو القاسم النصر آباذي — رحمه الله — حاضرًا؛ فقال الأستاذ أبو سهل: جعلت بنصب التاء، وقال النصر آباذي: بل جعلت بضم التاء. فقال الأستاذ أبو سهل: أليس عين الجمع أتم؟ فسكت النصر آباذي.١٢٩
قلنا إن الصوفي في حال الفناء لا ينسب شيئًا لنفسه، بل ينسب كل فعل منه أو قول إلى الله تعالى؛ لكنه في حال البقاء ينسب كل شيء لنفسه. في الفناء تثبت الألوهة، وفي البقاء يثبت الإنسان. وعلى هذا يصدق قول الحلاج بأن الكاتب هو الله تعالى واليد فيه آلة محمولًا على الفناء. وهو في رأينا نصف الحقيقة لإمكان حمل قوله على البقاء. فقول مَن قال للحلاج: كنتَ تدعي النبوة فصرتَ تدَّعي الربوبية (يشعرنا بذلك). فالكاتب في حقيقة الأمر، هو الحلاج وهو الله في نفس الوقت؛ فإن نظرنا إلى الظاهر قلنا: الحلاج، وإن نظرنا إلى الباطن قلنا: الله!١٣٠
  • (٣) اللاهوت والناسوت: يُروى عن الحلاج قوله هذه الأبيات الثلاثة:
سبحان مَن أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهرًا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب الحاجب

يقول أبو العلا عفيفي إن هذه الأبيات تضمن الحلول بالمعنى المسيحي، وفيها إشارة إلى ثنائية الطبيعة الإنسانية:

اللاهوت والناسوت، وهما اصطلاحان أخذهما الحلاج عن المسيحيين السريان الذين استعملوهما للدلالة على طبيعة المسيح.١٣١

نقول: إن الحلاج لم يأخذ هذين الاصطلاحين عن المسيحيين السريان بالمفهوم المسيحي؛ لأنه يتعذر تركيبهما أو تنزيلهما في المنظور الإسلامي الذي ينطلق منها الحلاج في تجربته الصوفية.

فاللاهوت والناسوت، بالمفهوم المسيحي، يعبران عن الطبيعتين الإلهية والبشرية في المسيح، وهما طبيعتان متحدتان دون امتزاج، وبدون أن تلغي إحداهما الأخرى، مما يعني امتناع الفناء الصوفي.١٣٢ بينما يعبر اللاهوت والناسوت، عند الحلاج، عن حقيقة واحدة ذات مظهرين: باطن وظاهر. فاللاهوت باطن الناسوت، والناسوت ظاهر اللاهوت، مع إمكانية فناء الناسوت في اللاهوت، مراعاة للعلاقة بين النسبي والمطلق.
ثم إن القول بالحلول يتوقف على نظرتنا للإنسان في علاقته بالألوهة. فإن كان الإنسان محدثًا من كل وجه، كان القول بألوهيته حلولًا، أما إن كان قديمًا، في علم الله الأزلي؛ فالقول بقدم حقيقته لا يكون حلولًا. ونحن نذهب إلى أن الإنسان محدث في قديم، نسبي في مطلق: المحدث فيه لا ينفي القديم، والنسبي فيه يتبع المطلق تبعية الجزء للكل (= الإسلام!) بما أن الحلول هو امتصاص للمبدأ في تجلياته على نحو ينفي عنه صفة الإطلاق والمفارقة، فليس الحلاج، ولا غيره من الصوفية، حلوليًّا، خصوصًا وأنه يذهب إلى القول بأن الناسوت مستهلك في اللاهوت.١٣٣

الأبيات الثلاثة تستحضر قول الله تعالى: وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِن صَلصَال مِن حَمَإ مَسنُون. فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: ٢٨-٢٩) وعلى هذا يكون معنى الأبيات:

سبحان الله الذي أبدى ظاهره (ناسوته) أو آدم من حيث هو مجتمع تجلياته الأسمائية أو إن شئتَ قلتَ بؤرة إسقاطاته الأسمائية حقيقة باطن ألوهيته (حقيقة أنوار تجلياته الأسمائية وهو ما عبر عنه باللاهوت) التي كانت محجوبة عن خلقه من الملائكة. أي أن ظاهر الإله (آدم أو الناسوت أو محل تجلياته الأسمائية) أبدى عن باطنه الإلهي (مصدر التجليات أو الإسقاطات الأسمائية، أو اللاهوت الذي تمثل بالنفخة في قوله: وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي)، وفي البيت الثاني إشارة إلى ظهور الألوهة في صورة الإنسان (من حيث هو مجتمع تجلياته أو إسقاطاته الأسمائية) الذي يأكل ويشرب إشارة إلى قوله تعالى: يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنهَا رَغَدًا حَيثُ شِئتُمَا (البقرة: ٣٥). ويشير البيت الثالث إلى أن الملائكة رأوا الله تعالى رؤية العين؛ لكن تحت حجاب الناسوت بما أن طبيعتهم لا تؤهلهم للاتحاد الصوفي؛ فيرونه باطنًا لا ظاهرًا، أو يرونه باطنًا وظاهرًا.

  • (٤) «أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا»: ينسب إلى الحلاج قوله هذَين البيتَين:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدَنَا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
يقول أبو العلا عفيفي إن هذَين البيتَين يتضمنان معنى الاتحاد.١٣٤ فما الاتحاد؟

يقول العلامة نيكلسون في دائرة المعارف الإسلامية:

يميز علماء المسلمين بين نوعين من الاتحاد: حقيقي ومجازي. وينقسم الاتحاد الحقيقي قسمين، تبعًا لاستعمال اللفظ، للدلالة على:

  • (أ)

    صيرورة الذاتَين شيئًا واحدًا كأن يصير عمرو زيدًا أو زيد عمرًا.

  • (ب)

    صيرورة شيءٍ ما شيئًا آخر غيره لم يكن موجودًا من قبلُ، كأن يصير زيد شخصًا آخر لم يكن موجودًا من قبل.

والاتحاد بهذا المعنى الحقيقي بالضرورة مستحيل.

وينقسم الاتحاد المجازي إلى ثلاثة أقسام:

  • (أ)

    أن يتحول شيء إلى شيء آخر دفعة واحدة أو بالتدريج، كتحول الماء إلى هواء مثلًا (في هذا المثال تفسد طبيعة الماء بأن ترتفع صورته النوعية عن هيولاه وتحل محلها الصورة النوعية للهواء) أو كتحول السواد بياضًا (في هذا المثال يرتفع عرض من أعراض موضوع ما ويحل محله عرض آخر).

  • (ب)

    أن يصير شيء شيئًا آخر بطريق التركيب، فينتج عن ذلك شيء ثالث، كأن يصير التراب طينًا، بعد خلطه بالماء.

وهذه الأقسام الثلاثة من الاتحاد المجازي تقع بالفعل.

ومعنى الاتحاد، في اصطلاح المتصوفة، هو اتحاد المخلوق بالخالق، أو النظرية التي تذهب إلى أن هذا الاتحاد أمر ممكن.

ويعتبر المتصوفة بوجه عام كلًّا من تصور امتزاج الاثنين في كائن واحد ومذهب الحلول، أي تجسد الخلق في المخلوق، من الآراء الضالة بحجة أنها تتضمن مجانسة بين الوجودين، وهذا يناقض عقيدة «التوحيد» الحقيقي التي لا تعترف بأي وجود حقيقي غير وجود الله. والاتحاد بهذا المعنى يتضمن كائنَين يصيران شيئًا واحدًا، بينما الفرد في عُرف المتصوفة المتمسكين بأهداب الدين ليس إلا ظاهرة تفنى في الحق الواحد الأبدي. وهم يعبرون عن ذلك بقولهم: «الفناء في الحق.»

ويُستعمل لفظ «اتحاد» في بعض الأحيان كاللفظَين الصوفيَين الآخرَين «وحدة» أو «توحيد» للدلالة على المذهب الذي يقول إن جميع الكائنات لا توجد بذاتها، بل تستمد وجودها من الله؛ وبهذا المعنى تكون هي والله شيئًا واحدًا (عبد الله الكاشي اصطلاحات الصوفية، طبعة شبرنجر، ص٥). ويقول علي بن وفاء (الشعراني: اليواقيت والجواهر، بولاق ١٢٧٧، ص٨٠، س١٨-١٩): إن معنى اتحاد في لغة المتصوفة: «فناء مراد العبد في مراد الحق تعالى.»١٣٥
ويذهب الإمام أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» إلى أن «أصل الاتحاد باطل»، وحيث يطلق الاتحاد ويقال «هو هو» لا يكون إلا بطريق التوسع والتجوز اللائق بعادة الصوفية والشعراء؛ فإنهم لأجل تحسين موقع الكلام من الأفهام يسلكون سبيل الاستعارة كما يقول الشاعر: «أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا» (يلاحظ هنا أن الإمام الغزالي يتجاهل أو يجهل نسبة هذا القول إلى الحلاج!) وذلك مُئول عند الشاعر؛ فإنه لا يعين أنه «هو» تحقيقًا، بل «كأنه هو»؛ فإنه مستغرق الهم به، كما يكون هو مستغرق الهم بنفسه؛ فيعبر عن هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز.١٣٦ يتبين مما تقدَّم أن الإمام أبا حامد يقرُّ أن الأصل هو ثنائية العبد والرب، وأن هذه الثنائية لها صفة الإطلاق؛ الأمر الذي يترتب عليه استحالة الاتحاد. ولذلك لم يكن أمامه بُد إلا أن يحمل قول القائل «أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا.» على سبيل المجاز اللغوي، وفي معزل عن التجربة الصوفية. ونحن، من جانبنا، نرى أن التشبيه، وهو المجاز اللغوي في أدنى درجاته، يتضمن مواحدة سيكولوجية خفية بين طرفي التشبيه على نحو تجعل منه أسلوب حقيقة على صعيدها الخاص. فالأسدية في قولنا «علي أسد» هي حقيقة قائمة، وإن كانت حقيقة ذاتية كما تبدو للوهلة الأولى، من حيث كونها العنصر المشترك بين طرفي التشبيه وهما علي والأسد، وإلا فبماذا نفسر تشبيه الرجل الشجاع بالأسد في كثير من لغات العالم. وقل مثل هذا في تشبيهاتنا الأخرى. ثمة حقيقة سيكولوجية وراء هذه التشبيهات لا تقلُّ في قيمتها عن الحقيقة التي يعبر عنها ما يعرف بأسلوب الحقيقة. وإن ما يُسمى بأسلوب المجاز هو أسلوب حقيقة على صعيده الخاص، بل ربما كانت هذه الحقيقة من درجة أعلى، بما تلحظه من وحدة جوهرية بين المشبه والمشبه به.

فالشجاعة، في مثالنا، هي الجوهر الواحد الذي يتمثل في المظاهر الكثيرة. إن الكون ينظمه سلك واحد موحد كما ينظم الخيط حبات المسبحة. والميل إلى رؤية العالم موحدًا ميل مشروع وحقيقي بمقدار ما هو مشروع وحقيقي الميل إلى رؤيته مجزءًا ومتفرقًا.

ثم إن التمييز بين نوعين من الاتحاد حقيقي ومجازي، والقول بأن أولهما مستحيل والثاني ممكن لا معنًى له ما دام الاتحاد المجازي اتحادًا حقيقًا على صعيده الخاص. فالاتحاد بمعنى التحول حقيقي ما دام التحول حتى في الأشياء الحسية أمرًا ممكنًا. فكما تتحول دودة القز؛ إذ تخترق الشرنقة إلى فراشة، كذلك تتهتك الحجب عن حقيقة الإنسان، وتنفك القماطات عن المولود الجديد ويتكشف جوهره المجانس للسلك الواحد الموحد الذي ينظم مسبحة الكون في كل أقطاره.

والقول باستحالة الاتحاد الصوفي قياسًا على استحالة الاتحاد الحقيقي في الأشياء الحسية قول مردود؛ لأن تجربة الاتحاد الصوفية لا تستمد مقوماتها من عالم الزمان والمكان المحكوم بنواميس صارمة؛ فهي، بحكم طبيعتها، تجاوز أو خرق لهذه النواميس وبعد فماذا يعني قول الحلاج:

أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدَنَا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا

من دون أن نتقيد بالكلمات الاصطلاحية والقول بأن هذَين البيتَين يعبران عن الناتج التركيبي بين المتمثل في ثبوت الألوهة في الإنسان وثبوت الإنسان في الألوهة. فالمحب (= الإنسان) هو المحبوب (= الله)، والمحبوب (= الله) هو المحب (= الإنسان). أو تقول إن المحبَّ هو الله والمحبوب هو الإنسان، ولا فرقَ في العبارتين ما دامت الاثنينية معدومة.

نحن هنا بإزاء وحدة وجودية تحب نفسها بنفسها. نرجسية؟ أغلب الظن أن الأمر كذلك. وهذه حال ارتداد إسقاطات الألوهية الصادرة عن الإنسان إلى ذاته بعد أن كانت موضوعًا خارج الذات. وإذ تنكفئ الإسقاطات تتضخم الذات وتغدو الأنية أكثر من مجرد أنية بسيطة، أو أكثر من أنية واحدة (الأنية + الإسقاطات المنكفئة)؛ ولذلك قال في الشطر الثاني من البيت الأول «نحن» بينما كان قال في الشطر الأول «أنا»!

قوله: «نحن روحان حللنا بدَنَا» قد يعني الحلول لمَن يفصل فصلًا حادًّا أو مطلقًا بين الروح والمادة، ونحن نرى أن هذا الفصل من مبتدعات العقل البشري اقتضتها أو فرضتها طبيعة الوظائف العقلية التي لا تستطيع فهم الظاهرات إلا مجزأة. ولذلك ينتفي القول بالحلول حين نعلم أن المادة روح كثيفة والروح مادة لطيفة، وأن العلاقة بين المبدأ وتجلياته هي علاقة الكل بأجزائه، وأن الجزء غير منفصل عن الكل، وأن الجزء يتبع الكل (= إسلام!).

والبيت الثاني مؤداه أنك إذا نفذت ببصرك أو بصيرتك إلى ما وراء حجاب الناسوت (الظاهر) وأبصرت حقيقتي اللاهوتية (الباطن)؛ فتكون قد أبصرت الحق تعالى، وإذا أبصرته فتكون قد أبصرتني وأبصرته في نفس الوقت؛ من حيث إننا مظهران لحقيقة واحدة، إن نظرت إليها من الخارج قلتَ ناسوت، وإن نظرتَ إليها من الداخل قلتَ لاهوت.

١  أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمد وطه عبد الباقي سرور، مصر ١٣٨٠ﻫ/١٩٦٠م، ص٤٢٢.
٢  نفس المرجع السابق، ص٤٥٣.
٣  نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة.
٤  نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة.
٥  نفس المرجع، ص٤٥٣-٤٥٤.
٦  نفس المرجع، ص٤٥٤.
٧  نفس المرجع، ص٣٨٥.
٨  عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، الكويت ١٩٧٦م، ج١ ص١٣.
٩  نفس المرجع، ونفس الصفحة.
١٠  أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق الدكتور بعد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، القاهرة، بلا تاريخ، ج١، ص٢٤٨.
١١  نفس المرجع السابق، ص٢٥٠.
١٢  في أسفل الصفحة ١٠ من كتاب شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي إشارة إلى كتاب لماسينيون بعنوان «بحث في أصول المصطلح الفني للصوفية المسلمين» (باريس سنة ١٩٢٢م، ص٩٩).
١٣  بدوي، شطحات الصوفية، ج١، ص١٠.
١٤  نفس المرجع السابق، ص١١.
١٥  بدوي، شطحات، ج١، ص١٧-١٨.
١٦  نفس المرجع السابق، ص٢٢.
١٧  نفس المرجع، ص٢٣.
١٨  نفس المرجع، ص١٠.
١٩  السراج الطوسي، اللمع، ص٤٢٩ وما بعدها.
٢٠  بدوي، شطحات، ج١، ص١٦-١٧.
٢١  نفس المرجع السابق، ص١٨-١٩.
٢٢  عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى ١٩٧١م، الجزء الأول، ص١٤٩؛ حيث يقول: «إن المعتزلة كانوا حريصين كلَّ الحرص على أن ينفوا عن الله أن له صفاتٍ قائمة بذاته قديمة مع ذاته، حتى يكون واحدًا أحدًا بسيطًا، لا يشاركه في القدم شيء، حتى ولا صفاته.» انظر أيضًا ص٢٠٨؛ حيث جاء فيها أن النظام يرى أن صفات الله هي إثبات لذاته وفي الوقت نفسه نفي لمسلوبات هذه الصفات، فمعنى قوله «عالم» إثبات ذاته ونفي الجهل عنه إلخ … بينما قالت الصفاتية من الأشعرية إن الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، بصير ببصر، مريد بإرادة، متكلم بكلام، باقٍ ببقاء وهذه الصفات زائدة على ذاته، وهي صفات موجودة أزلية، ومعان قائمة بذاته (انظر أيضًا مذاهب الإسلاميين، ص١٨٠-١٨١).
٢٣  نقله بدوي إلى شطحاته، ج١، ص١٩.
٢٤  غرديه وقنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة الدكتور الشيخ صبحي صالح والأب الدكتور فريد جبر، بيروت ١٩٦٧م، ج٢، ص٢٨٤، ٢٨٧، ٣٠٣، ٣٥٠، ٤٢٨.
٢٥  جاء في الفصل الأول من إنجيل يوحنَّا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. كل به كون وبغيره لم يكون شيء مما كون. فيه كان الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه» (الأعداد ١–٥). يرجع أيضًا إلى الفصل الرابع عشر حيث جاء فيه: من رآني فقد رأى الأب … أما تؤمن أني أنا في الآب وأن الآب فيِّ … (العددان ٩ و١٠). وشبيه بهذا ما ينسب إلى الحلاج وهو قوله:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحانِ حللنا بدنًا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وما ينسب إلى أبي يزيد البسطامي أنه قال: «مَن زارني (والصحيح: مَن رآني) لا تحرقه النار … (عبد الحليم محمود، سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي، مصر بلا تاريخ، ص١٥٤).»
٢٦  F. Schuon, De L’unité transcendante des religions, ed. du Seuil, Paris 1979.
٢٧  نقله إبراهيم شكر الله عن «صعود جبل الكرمل» إلى مقال له في مجلة «أدب»، العدد (٥) بيروت، شتاء ١٩٦٣م، بعنوان مصارع العشاق: التناقض بين المطلق والمحدود.
٢٨  S. Spencer, Mysticism in World Religions, U. K. 1963, p. 223.
٢٩  إبراهيم شكر الله، مجلة أدب، بيروت، العدد (٥)، شتاء ١٩٦٣م. والجدير بالذِّكر أن الشطحات التي نقلها كاتب المقال ترجع إلى القرن الثاني للميلاد مما يؤيد ما ذهبنا إليه من أن قيمة القرب في المسيحية لما تكن مكتملة بعد بالشكل الذي نعرفه اليوم.
٣٠  بدوي، شطحات الصوفية، ج١، ص١٩، ٢٠.
٣١  نفسه، ص١٩.
٣٢  S. Spencer, op. cit., p. 183.
٣٣  نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
٣٤  نفس المرجع، ص١٨٥.
٣٥  نفس المرجع، ص١٨٨.
٣٦  انظر تفاصيل محاكمة الحلاج في «المنحنى الشخصي لحياة الحلاج»، وهو فصل ترجمه عبد الرحمن بدوي عن ماسينيون ونقله إلى «شخصيات قلقة في الإسلام»، مصر ١٩٦٤م، وانظر أيضًا مقدمة مصطفى كامل الشيبي على «شرح ديوان الحلاج»، بغداد/بيروت، ١٣٩٤ﻫ/١٩٧٤م.
٣٧  كتاب «أخبار الحلاج ومعه الطواسين» تقديم وتعليق وتصحيح عبد الحفيظ بن محمد مدني هاشم، مصر ١٩٧٠م، ص١٠٠.
٣٨  الدكتور عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، الكويت، ط٢، أيار ١٩٧٦م، ج١، ص٢.
٣٩  أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمد بن الشريف، القاهرة، بلا تاريخ، ج٢، ص٥٨٨.
٤٠  نفس المرجع السابق، ص٥٨٣.
٤١  نفس المرجع، ص٥٨٦.
٤٢  إبراهيم شكر الله، مجلة «أدب»، العدد ٥، بيروت، شتاء ١٩٦٣م (انظر مقالات بعنوان مصارع العشاق: التناقض بين المطلق والمحدود) ومن شطحات أبي يزيد البسطامي في هذا المعنى قوله: «أنا لا أنا أنا؛ لأن أنا هو أنا، أنا هو هو» (شطحات الصوفية، ج٢، ص١٤٣، وانظر أيضًا ١٥٧ من نفس المرجع وما بعدها).
٤٣  دون أن يشير إلى المصدر!
٤٤  بدوي، شطحات الصوفية، ج١، ص٢١-٢٢.
٤٥  نفس المرجع السابق، ص١٨-١٩.
٤٦  الرسالة القشيرية، ج١، ص٢٦٨-٢٦٩.
٤٧  الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، تحقيق محمود أمين النواوي ط١، مصر، ١٣٨٩ﻫ/١٩٦٩م، ص١٣٨.
٤٨  بدوي، شطحات، ص١٧.
٤٩  نفس المرجع السابق، ص١٧-١٨.
٥٠  ابن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ط٢، مصر ١٣٩٢ﻫ/١٩٧٢م، ص١٨٣.
٥١  بدوي، شطحات، ص٢١-٢٢.
٥٢  نفس المرجع السابق، ص١٧.
٥٣  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٥٤  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٥٥  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٥٦  ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، بيروت ١٣٩٢ﻫ/١٩٧٢م، ص١٥٠-١٥١.
٥٧  بدوي، شطحات، ص١٧.
٥٨  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٥٩  بدوي، شطحات، ص٢٣.
٦٠  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٦١  نفس المرجع ص٢٣-٢٤، نقله بدوي عن ماسينيون من «مجموع نصوص لم تُنشر خاصة بالصوفية المسلمين»، باريس ١٩٢٩م، ص٧٩.
٦٢  بدوي، شطحات، ص٢٤.
٦٣  نفس المرجع ونفس الصفحة.
٦٤  بدوي، شطحات الصوفية، ص٢٦.
٦٥  السراج الطوسي، اللمع، ص٤٩٥.
٦٦  بدوي، شطحات الصوفية، ص٢٦.
٦٧  نفس المرجع السابق، ص٢٦-٢٧.
٦٨  والتر ستيس، الزمان والأزل، ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم، منشورات مؤسسة فرانكلين، بيروت، نيويورك، ص١٧٦.
٦٩  ك. غ. يونغ، علم النفس التحليلي، ترجمة نهاد خياطة، دمشق ١٩٨٥م، ص٢٤٢؛ حيث يقول إمام المدرسة التحليلية: كلما اعتمدنا صيغة خارجية، طقسية أو روحية، نستطيع التعبير بواسطتها تعبيرًا مكافئًا عن جميع تطلعات الروح وآمالها — على نحو ما تجده في بعض الديانات الحية — أمكننا القول إن النفس موجودة في الخارج، ولا وجود لمشكلة روحية، بالمعنى الدقيق للكلمة.
٧٠  يرجع إلى فراس السواح، لغز عشتار، قبرص ١٩٨٥م، ص١٧٣؛ حيث أشار المؤلف إلى رمزية الطواف حول الكعبة وإلى دراويش المولوية.
٧١  أبو العلا العفيفي، التصوف … الثورة الروحية في الإسلام، بيروت، بلا تاريخ، ص١٦٧.
٧٢  نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
٧٣  أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمد وطه عبد الباقي سرور، مصر ١٣٨٠ﻫ/١٩٦٠م، ص٢٢٢، ٢٣٠.
٧٤  مرسيا إلياد، أسطورة العود الأبدي، ترجمة نهاد خياطة، دمشق ١٩٨٧م، منشورات دار طلاس، ص١٠٣ وما بعدها.
٧٥  السراج الطوسي، اللمع، «كتاب الأحوال والمقامات»، ص٦٥–١٠٢.
٧٦  ابن عباد الرندي، شرح حكم ابن عطاء السكندري، مصر ١٣٥٨ﻫ/١٩٣٩م، ج١، ص٦٤.
٧٧  يرجع إلى الدكتور كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج، ص١٦٩، ١٩٧، ١٩٨، وإلى أخبار الحلاج تحقيق ل. ماسينون وب. كرواس، باريس ١٩٣٦م، ص٦٦.
٧٨  ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت ١٩٧٢م/١٣٩٢ﻫ، ج١، ص١٦٤-١٦٥.
٧٩  نفس المرجع السابق، ص٦١-٦٢.
٨٠  وداد السكاكيني، الصوفية العاشقة، سلسلة كتب اقرأ، رقم ١٥١، دار المعارف بمصر، بلا تاريخ، ص٦٣.
٨١  نفس المرجع السابق، ص٦٣-٦٤.
٨٢  نفس المرجع ص٦٥.
٨٣  نفس المرجع ص٦٥.
٨٤  نفس المرجع ص٦٦.
٨٥  نفس المرجع ص٦٦.
٨٦  نفس المرجع ص٦٧.
٨٧  نفس المرجع ص٦٧.
٨٨  نفس المرجع، ص٦٧-٦٨.
٨٩  يذهب ف. شيئون إلى أن «اللوح المحفوظ» يمثل المبدأ المؤنث والقلم المبدأ المذكَّر في الكوزمولوجيا الإسلامية.
٩٠  نفس المرجع، ص٣٢، ٣٣، ٣٤.
٩١  السهنجي، النور من كلمات طيفور، ص١٠١ (وهو كتاب حققه ونشره الدكتور عبد الرحمن بدوي، وضمنه كتاب شطحات الصوفية، الطبعة الثانية، الكويت، أيار ١٩٧٦م).
٩٢  الدكتور عبد الحليم محمود، سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي، مصر بلا تاريخ ص٥٥-٥٦.
٩٣  أبو حامد الغزالي، المقصد الأسنى، نقله محمد الصادق عرجون إلى التصوف في الإسلام، منابعه وأطواره، مصر ١٩٦٧م، ص١٢١.
٩٤  ماسينيون، بحث في أصول المصطلح الفني للصوفية المسلمين، ص٩٩، باريس سنة ١٩٢٢م، نقله الدكتور بدوي إلى شطحات الصوفية، ص١٠.
٩٥  آرثر آبري، شرح المواقف والمخاطبات للنفري، القسم الإنكليزي ص٢١٩، في شرحه للموقف ٢٦، بعنوان «كدت لا أواخذه»، الفقرة ١٥، حيث جاء فيها: «انتقب بي كما انتقبت بك تسري إلى كل عين فلا ترى عندي سواك وتسري إليك؛ فإذا سرت فلا ترى عندك سواي.» يقول آربري ما ترجمته: «إن هذا هو تبادل الأشخاص الذي يحدث في تمام الاتحاد الوصفي.»
٩٦  النور من كلمات طيفور، ص١٤٣.
٩٧  سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي ص٥٥.
٩٨  بدوي، شطحات الصوفية، ص٣٨.
٩٩  النور من كلمات طيفور، ص١٠٠.
١٠٠  وداد سكاكيني، العاشقة المتصوفة، سلسلة كتب «اقرأ» رقم ١٥١، دار المعارف، مصر بلا تاريخ ص٦٦، نقلته عن تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار.
١٠١  النور من كلمات طيفور، ص١٠١.
١٠٢  محيي الدين بن العربي، فصوص الحكم، شرح أبو العلا عفيفي بيروت بلا تاريخ، في حكمة إلهية من كلمة آدمية ص٤٨.
١٠٣  النور من كلمات طيفور، ص١٠٠.
١٠٤  سلطان العارفين أبو يزيد، ص١٥٤-١٥٥.
١٠٥  بدوي، شطحات الصوفية، ص٣٠.
١٠٦  النور من كلمات طيفور، ص١٠٤.
١٠٧  نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
١٠٨  نفس المرجع، ص١٠٣.
١٠٩  بدوي، شطحات الصوفية، ص٤١.
١١٠  نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.
١١١  لسان الدين ابن الخطيب، روضة التعريف بالحب الشريف، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، ص١١٤.
١١٢  أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، القاهرة، بلا تاريخ، ج١، ص٣٠٩.
١١٣  بدوي، شطحات الصوفية، ص٤١.
١١٤  أخبار الحلاج، تحقيق لويس ماسينيون وبول كراوس، باريس سنة ١٩٣٦م، ص٦٣.
١١٥  نفس المرجع السابق، ص٩٣.
١١٦  بدوي، شطحات الصوفية، ص٤٣.
١١٧  نفس المرجع السابق، ص٤٧.
١١٨  والتر ستيس، الزمان والأزل، ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم ومراجعة الدكتور فؤاد الأهواني، بيروت ١٩٦٧م، ص١٧٣ و١٨٨-١٨٩-١٩٠-١٩١.
١١٩  الدكتور إبراهيم بسيوني، البسملة بين أهل العبارة وأهل الإشارة، مصر ١٩٧٢م، ص١١٢. نقله عن «الكهف والرَّقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم»، لعبد الكريم الجيلي.
١٢٠  نفس المرجع السابق، ص١١٠.
١٢١  نفس المرجع ونفس الصفحة.
١٢٢  نفس المرجع ونفس الصفحة.
١٢٣  أبو حامد الغزالي، المقصد الأسنى، نقله محمد الصادق عرجون إلى التصوف في الإسلام، منابعه وتطوره، مصر ١٩٦٧م، ص١١٩-١٢٠-١٢١.
١٢٤  نفس المرجع السابق ونفس الصفحات.
١٢٥  العز بن عبد السلام، حل الرموز، المكتبة الإسلامية بطنطا، بلا تاريخ ص٧٧.
١٢٦  كتاب «أخبار الحلاج ومعه الطواسين»، تقديم وتعليق وتصحيح عبد الحفيظ بن محمد مدني هاشم، الطبعة الثانية، مصر ١٣٩٠ﻫ/١٩٧٠م، ص١٠٠.
١٢٧  F. Schuon, De L’unité transcendante des religions, ed. du Seuil, Paris.
١٢٨  ابن الجوزي، تلبيس إبليس، مصر ١٣٦٨، دار الكتب العالمية، بيروت، بلا تاريخ، ص١٧١.
١٢٩  الرسالة القشيرية، ج١، ص٢٥٥-٢٥٦.
١٣٠  نفس المرجع السابق، ص٢٥٦.
١٣١  أبو العلا عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، دار الشعب ببيروت، بلا تاريخ، ص٧٨.
١٣٢  غرديه وقنواتي، فلسفة الفكر الديني، الجزء الثاني، نقله إلى العربية الشيخ الدكتور صبحي الصالح والأب الدكتور فريد جبر، الطبعة الأولى، بيروت ١٩٦٧م، ص٣٢٠ حيث جاء فيها: إنا نعلم أن المسيح، ابن الله الوحيد، هو رب واحد في طبيعتين بدون امتزاج ولا تغير وبدون تقسيم وتفريق ودون أن يلغي هذا الاتحاد تمايز الطبيعتين، ومع بقاء خواص كل من الطبيعتين على حالها.
١٣٣  أخبار الحلاج، تحقيق لويس ماسينيون وبول كراوس، ص٨.
١٣٤  أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية، ص٧٩.
١٣٥  نيكلسون، دائرة المعارف الإسلامية، المجلد الأول، مادة «اتحاد»، ص٤٢٤-٤٢٥.
١٣٦  محمد الصادق عرجون، التصوف في الإسلام، ص١١٨-١١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤