الفصل السادس عشر

البحث عن الحياة في المجموعة الشمسية

أوجدت إمكانية وجود حياة خارج كوكب الأرض ألقابًا وظيفية جديدة، تنطبق فقط على عدد قليل من الأفراد لكنها قابلة للنمو بصورة مفاجئة. فالمتخصصون في «علم الأحياء الفلكية» أو «علم الفلك الأحيائي» يتعاملون مع القضايا المتعلقة بفكرة وجود حياة خارج كوكب الأرض، بصرف النظر عن الشكل الذي عليه تلك الحياة. وفي الوقت الحالي ليس بوسع علماء الأحياء الفلكية سوى التخمين بشأن الحياة خارج الأرض أو محاكاة الظروف الموجودة خارج الأرض، ثم إما تعريض أشكال الحياة الأرضية لها، واختبار كيف تستطيع تحمل هذه المواقف القاسية غير المألوفة، أو تعريض مزيج من الجزيئات غير الحية لها، على نحو شبيه بما حدث في تجربة ميلر-يوري الكلاسيكية أو أبحاث فاخترشاوسر. وقد أوصلنا هذا المزيج من التخمين والتجريب إلى عدد من النتائج المقبولة بشكل عام، التي — إلى الحد الذي تصف به الكون الفعلي — لها تداعيات مهمة للغاية. والآن يؤمن علماء الأحياء الفلكية أن وجود الحياة في أرجاء الكون يتطلب:
  • (١)

    مصدرًا للطاقة.

  • (٢)

    نوعًا من الذرات يسمح بوجود بُنى معقدة.

  • (٣)

    محلولًا سائلًا تستطيع الجزيئات أن تطفو فيه ويتفاعل بعضها مع بعض.

  • (٤)

    وقتًا كافيًا كي تنشأ الحياة وتتطور.

في هذه القائمة القصيرة يعد المتطلبان الأول والرابع أيسر الموانع في طريق نشوء الحياة. فكل نجم في الكون يوفر مصدرًا للطاقة، وجميع النجوم، عدا أضخمها، التي لا تتجاوز نسبتها الواحد بالمائة، تعيش مئات ملايين — وربما مليارات — الأعوام. فشمسنا، على سبيل المثال، أمدت الأرض بإمداد ثابت من الحرارة والضوء على مر الخمسة مليارات عام الماضية، وستستمر في عمل هذا خمسة مليارات عام قادمة. إضافة إلى ذلك ندرك الآن أن الحياة يمكنها التواجد بشكل كلي دون الحاجة لضوء الشمس، وذلك بأن تحصل على الطاقة من الحرارة المنبعثة من باطن الأرض والتفاعلات الكيميائية. إن الحرارة المنبعثة من باطن الأرض تنشأ في جزء منها بسبب النشاط الإشعاعي لنظائر عناصر مثل البوتاسيوم والثورميوم واليورانيوم، التي تتحلل على مدى فترات زمنية تقدر بمليارات الأعوام، وهو مدى زمني يقارب عمر النجوم الشبيهة بشمسنا.

•••

على الأرض، تفي الأرض بالمتطلب الثاني، الخاص بالحاجة لذرة تسمح بوجود بُنى معقدة، وذلك من خلال عنصر الكربون. فذرات الكربون يمكنها الارتباط بذرة أو ذرتين أو ثلاث أو أربع ذرات أخرى، وهو ما يجعلها العنصر الجوهري في بنية جميع صور الحياة التي نعرفها. وعلى النقيض من ذلك ليس بوسع ذرة الهيدروجين الارتباط إلا بذرة أخرى وحيدة، بينما لا يرتبط الأكسجين إلا بذرة واحدة أو اثنتين. ولأن ذرات الكربون قادرة على الارتباط بما يصل إلى أربع ذرات أخرى، فهي تشكل «العمود الفقري» لجميع الجزيئات، عدا البسيطة، الموجودة داخل الكائنات الحية، كالبروتينات والسكريات.

إن قدرة الكربون على تكوين جزيئات معقدة جعلت منه أحد العناصر الأربعة الأكثر وفرة في جميع أشكال الحياة على الأرض، إلى جانب الهيدروجين والأكسجين والنيتروجين. وقد رأينا أنه على الرغم من أن العناصر الأربعة الأكثر وفرة في القشرة الأرضية لا تشترك مع هذه العناصر إلا في عنصر وحيد، فإن العناصر الستة الأكثر وفرة في الكون تتضمن العناصر الأربعة الأكثر وفرة في الحياة الأرضية، إلى جانب الغازين الخاملين الهيليوم والنيون. هذه الحقيقة تدعم الفرضية القائلة إن الحياة على الأرض بدأت داخل النجوم، أو في أجسام تشبه تركيبتها تركيبة النجوم. وعلى أي حال، تشهد حقيقة أن الكربون يشكل نسبة بسيطة من سطح الأرض، وفي الوقت نفسه يشكل حصة كبيرة من أي كائن حي، على الدور المحوري للكربون في إضفاء البنية على الحياة.

هل الكربون عنصر أساسي للحياة في أرجاء الكون؟ ماذا عن عنصر السليكون، الذي كثيرًا ما يظهر في روايات الخيال العلمي كذرة بنيوية أساسية لأشكال الحياة العجيبة؟ ترتبط ذرات السليكون — مثل ذرات الكربون — بما يصل إلى أربع ذرات أخرى، لكن طبيعة هذه الروابط تضعف فرصة السليكون في أن يوفر الأساس البنيوي للجزيئات المعقدة. فالكربون يرتبط بروابط ضعيفة نوعًا ما مع العناصر الأخرى، وبهذا تتكسر الروابط بين الكربون والأكسجين، والكربون والهيدروجين، والكربون والكربون، مثلًا، بسهولة نسبية. يمكن هذا الجزيئات القائمة على الكربون من تكوين أنواع جديدة بينما تتصادم وتتفاعل بعضها مع بعض، وهو جزء أساسي من نشاط الأيض الخاص بأي شكل من أشكال الحياة. وعلى العكس، يرتبط السليكون بقوة مع أنوع عديدة من الذرات الأخرى، وبالأخص الأكسجين. إن القشرة الأرضية تتكون في أغلبها من صخور السليكات، المكونة بالأساس من ذرات السليكون والأكسجين، والمترابطة بقوة كافية للاستمرار ملايين الأعوام، ومن ثم هي غير قادرة على المشاركة في تكوين أنواع جديدة من الجزيئات.

إن اختلاف الطريقة التي ترتبط بها ذرات الكربون والسليكون مع الذرات الأخرى يدعم بقوة توقعنا بأن تكون أغلب أشكال الحياة خارج الأرض — إن لم يكن جميعها — معتمدة على الكربون لا السليكون. وخلاف الكربون والسليكون، لا يوجد سوى أنواع غريبة نسبيًّا من الذرات قادرة على الارتباط بما يصل إلى أربع ذرات أخرى، وهي أندر بكثير على مستوى الكون من الكربون والسليكون. ومن الناحية الحسابية، من المستبعد للغاية أن تقوم الحياة على ذرات كالجيرمانيوم بالصورة ذاتها التي تستخدم بها الحياة الأرضية الكربون.

•••

المتطلب الثالث ينص على أن جميع أشكال الحياة تحتاج إلى محلول سائل تستطيع الجزيئات الطفو فيه والتفاعل بعضها مع بعض. هذا يعني أن «السائل» يمكن من الطفو والتفاعل، من خلال ما يطلق عليه الكيميائيون اسم «المحلول». فالسوائل تسمح بوجود تركيزات عالية نسبيًّا من الجزيئات، بيد أنها لا تفرض قيودًا على حركتها. وعلى النقيض تحبس المواد الصلبة الذرات والجزيئات في أماكنها. في الواقع، يظل بإمكانها الاصطدام والتفاعل بعضها مع بعض، لكن هذا يحدث على نحو أبطأ بكثير عن السوائل. أما في الغازات، فستتحرك الجزيئات بحرية أكبر عن السوائل، وبمقدورها الاصطدام دون موانع، لكن عمليات الاصطدام والتفاعل تحدث بتواتر أقل بكثير عما هو الحال في السوائل؛ لأن كثافة السائل تفوق كثافة الغاز بألف ضعف أو أكثر. وكما كتب أندرو مارفل: «لو أتيح لنا الوقت والمكان الكافيان»، فقد نجد أن الحياة تنشأ في الغازات بدلًا من السوائل. في الكون الحقيقي، البالغ من العمر ١٤ مليار عام فقط، لا يتوقع علماء الأحياء الفلكية أن يجدوا حياة بدأت في الغاز. بل على العكس هم يتوقعون أن تتكون جميع أشكال الحياة غير الأرضية في جيوب من السوائل، تحدث داخلها عمليات كيميائية معقدة بينما تتصادم الأنواع المتباينة من الجزيئات لتكون أنواعًا جديدة.

هل يجب أن يكون ذلك السائل هو الماء؟ نحن نعيش على كوكب مائي، تغطي محيطاته قرابة ثلاثة أرباع سطحه. هذا يجعلنا متفردين داخل المجموعة الشمسية، بل قد يندر أن يوجد كوكب مثل كوكبنا في أي مكان بمجرة درب التبانة. إن الماء، الذي يتكون من جزيئات اثنين من أكثر العناصر وفرة في الكون، يظهر على الأقل بكميات متواضعة في المذنبات والنيازك وأغلب كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها. من ناحية أخرى، لا يوجد الماء السائل في أي مكان بالمجموعة الشمسية إلا على كوكب الأرض، وتحت السطح الجليدي لأكبر أقمار المشتري يوروبا، في المحيط الذي يغطي القمر بأسره والذي يعد وجوده إلى الآن أمرًا مفترضًا لم يتم التحقق منه بعد. هل يمكن لمركبات أخرى أن توفر فرصًا أفضل للبحار أو البحيرات السائلة، يمكن داخلها أن تجد الجزيئات سبيلها إلى الحياة؟ أكثر ثلاثة مركبات من حيث الوفرة يمكنها الاحتفاظ بحالتها السائلة في نطاق من درجات الحرارة هي النشادر والإيثان والكحول الميثيلي. يتكون كل جزيء للنشادر من ثلاث ذرات هيدروجين وذرة نيتروجين، ويتكون الإيثان من ذرتي كربون وست ذرات هيدروجين، بينما يتكون الكحول الميثيلي من أربع ذرات هيدروجين وذرة كربون وذرة أكسجين. عند تدبر احتمالات ظهور الحياة خارج كوكب الأرض، من المنطقي التفكير في كائنات تستخدم النشادر أو الإيثان أو الكحول الميثيلي بالطريقة عينها التي تستخدم بها الأرض الماء، بوصفه السائل الأساسي الذي نشأت الحياة داخله على الأرجح، والذي يوفر الوسط الذي تستطيع الجزيئات أن تطفو فيه حتى تحقق هدفها الأسمى. تملك كواكب الشمس الأربعة الكبرى كميات مهولة من النشادر، بجانب كميات أصغر من الكحول الميثيلي والإيثان، كما أن أكبر أقمار زحل، تايتان، قد يملك بحيرات من الإيثان السائل على سطحه البارد.

إن اختيار نوع بعينه من الجزيئات بوصفه السائل الأساسي للحياة يعني على الفور وجود متطلب آخر للحياة: أن تظل هذه المادة في الحالة السائلة. فليس بوسعنا توقع ظهور الحياة في الغطاء الجليدي للقطب الجنوبي، أو في السحب الغنية ببخار الماء؛ لأننا بحاجة إلى السوائل كي تمكن الجزيئات من التفاعل بكثرة. تحت ضغوط الغلاف الجوي المماثلة لتلك الموجودة على سطح الأرض، يظل الماء بحالته السائلة بين درجتي الصفر والمائة درجة مئوية (أي ما بين ٣٢ و٢١٢ درجة فهرنهايتية). البدائل الثلاثة الأخرى تظل في حالة سائلة في درجات أقل بكثير من درجة الماء. فالنشادر — على سبيل المثال — يتجمد عند درجة −٧٨ مئوية ويتبخر عند درجة −٣٣. وهذا يمنع النشادر من أن يكون المحلول السائل الذي يستضيف الحياة على الأرض، لكن في عالم تقل درجة حرارته ﺑ ٧٥ درجة عن عالمنا، حيث لا يصلح الماء لأن يكون المحلول المستضيف للحياة، قد يكون النشادر هو الحل السحري.

•••

إن الملمح الأكثر أهمية وتمييزًا للماء لا يتمثل في سمعته المستحقة بوصفه «السائل الكوني»، التي عرفناها من دروس الكيمياء المدرسية، ولا في نطاق درجات الحرارة العريض الذي يحتفظ فيه بسيولته. بل تكمن الخاصية الأكثر لفتًا للنظر في حقيقة أنه بينما كل الأشياء — ومن بينها الماء — تنكمش وتصير أعلى كثافة مع البرودة، فإنه حين تهبط درجة حرارة الماء لما دون ٤ درجات مئوية فهو يتمدد، ويصير أقل كثافة بشكل مطرد كلما هبطت الحرارة نحو الصفر. وبعد ذلك، حين يتجمد الماء عند درجة الصفر المئوي، يتحول إلى مادة أقل كثافة من الماء السائل. فالجليد يطفو على السطح، وهو أمر مفيد للغاية للأسماك. وفي الشتاء، حين تهبط درجة حرارة الهواء الخارجي لما دون درجة التجمد، يغوص الماء البالغ حرارته ٤ درجات إلى القاع ويظل هناك؛ لأنه أعلى كثافة من الماء الأبرد بالأعلى، بينما تتكون طبقة طافية من الجليد ببطء شديد على السطح، لتعزل الماء الأدفأ بالأدنى.

دون هذا الانعكاس في الكثافة تحت مستوى الأربع درجات مئوية، كانت البحيرات والبرك ستتجمد من أسفل إلى أعلى، لا من أعلى لأسفل. فكلما هبطت حرارة الهواء الخارجي دون درجة التجمد، كان السطح الأعلى للبحيرة سيبرد ويغوص للقاع، بينما ترتفع المياه الأدفأ من الأسفل. وستتسبب عملية الحمل الحراري هذه في الهبوط سريعًا بدرجة حرارة الماء إلى الصفر المئوي بينما يبدأ السطح في التجمد. بعد ذلك سيغوص الثلج الصلب الأعلى كثافة إلى القاع. وحتى إذا لم يتجمد الماء الموجود كله من الأسفل للأعلى في موسم واحد، فسيؤدي تراكم الجليد في الأعماق إلى تجمد البحيرة بالكامل على مدار عدة أعوام. وفي عالم كهذا، ستأتي رياضة صيد السمك عبر فتحات الجليد بحصيلة أقل مما تأتي به الآن؛ لأن كل الأسماك ستكون ميتة؛ أسماك مجمدة. وسيجد صيادو السمك عبر فتحات الجليد أنفسهم على طبقة من الجليد إما مغمورة تحت الجزء المتبقي من الماء السائل أو على قمة جسم متجمد بالكامل من المياه. ولن نكون بحاجة إلى كاسحات الجليد لاجتياز مياه القطب الشمالي المتجمدة؛ فالمحيط القطبي بأكمله إما سيكون متجمدًا صلبًا، أو ستكون الأجزاء المتجمدة فيه قد غرقت للقاع وسيمكنك الإبحار بسفينتك دون عوائق. وستتمكن من التزلج على أسطح البحيرات المتجمدة دون خوف من الوقوع عبر فتحات الجليد. وفي هذا العالم المختلف ستغرق مكعبات وجبال الجليد في الأعماق، وبهذا في أبريل من عام ١٩١٢، كانت السفينة تايتانيك — غير القابلة للغرق كما قيل عنها — ستتمكن من الإبحار بسلام نحو مرفأ مدينة نيويورك.

من ناحية أخرى، ربما نكون منحازين قليلًا في تحليلنا هذا. فأغلب محيطات الأرض ليست في خطر التجمد، سواء من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى. وإذا غاص الجليد فقد يصير المحيط المتجمد الشمالي صلبًا، وقد يحدث الأمر عينه للبحيرات العظمى وبحر البلطيق. كان من شأن هذا التأثير أن يجعل من البرازيل والهند القوتين العالميتين العظميين، على حساب أوروبا والولايات المتحدة، لكن الحياة على الأرض كانت ستستمر وتزدهر بشكل طبيعي.

دعونا، في الوقت الحالي، نتبنى الفرضية القائلة إن للماء مزية كبيرة على منافسيه الأساسيين؛ النشادر والكحول الميثيلي، حتى إن أغلب الكائنات غير الأرضية، إن لم يكن جميعها، عليها الاعتماد على نفس السائل الذي تعتمد عليه الحياة الأرضية. لنأخذ جولة بين جيراننا، مسلحين بهذا الافتراض، إلى جانب الوفرة العامة للمواد الخام للحياة، ووفرة ذرات الكربون، إضافة إلى المدد الزمنية الطويلة المتاحة للحياة كي تنشأ وتتطور، ونلقي السؤال السرمدي: أين توجد الحياة؟ وبطريقة أخرى معاصرة هي: أين يوجد الماء؟

•••

إذا طُلب منا الحكم على الأمور من واقع المظهر الجافِّ غير الودود لكواكب مجموعتنا الشمسية، فقد نخلص إلى أن الماء، مع وفرته على الأرض، يعد سلعة نادرة في بقية أرجاء المجرة. لكن من بين جميع الجزيئات التي يمكن تكوينها من ثلاث ذرات، يعد الماء الأكثر وفرة بمراحل، وهو ما يرجع في الأساس إلى أن العنصرين اللذين يتكون منهما الماء، الهيدروجين والأكسجين، يشغلان المركزين الأول والثالث على قائمة العناصر الأكثر وفرة. يعني هذا أنه بدلًا من التساؤل عن سبب وجود الماء على بعض الكواكب، علينا التساؤل عن سبب عدم امتلاكها جميعًا لمقادير كبيرة من هذا الجزيء البسيط.

كيف اكتسبت الأرض محيطات الماء الموجودة بها؟ ينبئنا التاريخ القديم نسبيًّا للقمر بأن أجسامًا عديدة اصطدمت بالقمر على مدار تاريخه. ومن المنطقي أن نتوقع مرور الأرض باصطدامات مشابهة. بل في الواقع، يؤكد حجم الأرض الكبير وجاذبيتها القوية أنها تعرضت لاصطدامات أكثر بكثير — ومن قبل أجسام أكبر — من القمر. وهكذا استمر الحال، منذ مولد الأرض وحتى وقتنا الحالي. فعلى أي حال، لم تظهر الأرض بغتة من الفراغ النجمي، أو ظهرت للوجود ككرة تامة الاستدارة. إنما نما كوكبنا داخل السحابة الغازية المتكثفة التي كونت الشمس والكواكب الأخرى. خلال هذه العملية نمت الأرض من خلال التحام عدد مهول من الجسيمات الصلبة الصغيرة، وفي النهاية، من خلال الاصطدامات المتوالية للكويكبات الغنية بالمعادن والمذنبات الغنية بالماء بها. كم بلغ معدل هذه الاصطدامات؟ قد يكون معدل الاصطدامات المبكرة كبيرًا حتى إنه أتى إلينا بالماء الموجود في جميع المحيطات. يحيط عدم اليقين (والخلاف) بهذه الفرضية. فالماء الذي رصدناه في المذنب هالي يحوي نسبة من الديوتيريوم، وهو نظير للهيدروجين تحمل نواته نيوترونًا إضافيًّا، أعلى من تلك التي يحويها الماء الموجود على الأرض. وإذا جاءت محيطات الأرض من المذنبات، فلا بد أن المذنبات التي اصطدمت بالأرض بعد تكوُّن المجموعة الشمسية بقليل كان لها تركيب كيميائي مختلف بشكل ملحوظ عن المذنبات اليوم، أو على الأقل مختلف عن طبقة المذنبات التي ينتمي المذنب هالي إليها.

على أي حال، حين نضيف إسهامات المذنبات إلى بخار الماء المنبعث في الغلاف الجوي بفعل الثورات البركانية، لن يكون لدينا نقص في السبل التي استطاعت الأرض اكتساب مخزونها من مياه السطح من خلالها.

•••

إذا أردت زيارة مكان خالٍ من الماء والهواء، فلن تحتاج إلى النظر أبعد من القمر. فالضغط الجوي للقمر المقارب للصفر، إضافة إلى أيامه التي يصل طولها إلى أسبوعين أرضيين وتتجاوز الحرارة فيها مائتي درجة فهرنهايتية، تسبب تبخر أي مياه بسرعة. وخلال الليالي القمرية التي يصل طول إحداها إلى أسبوعين أرضيين، تنخفض درجة الحرارة لما دون المائتين وخمسين درجة تحت الصفر، وهو ما يكفي لتجميد أي شيء. ولهذا أخذ رواد أبوللو الذين زاروا القمر معهم كل الماء والهواء (ونظم تكييف الهواء) التي احتاجوها في رحلتهم من وإلى القمر.

لكن من المستغرب أن تكتسب الأرض كل هذا القدر العظيم من الماء، بينما القمر القريب منها لا يحمل أي مياه. أحد التفسيرات المحتملة، المؤكد صحته جزئيًّا على الأقل، هو أن الماء تبخر من سطح القمر أسرع بكثير عن الأرض؛ لأن للقمر جاذبية أقل بكثير. وهناك إمكانية أخرى تقترح أن البعثات المرسلة إلى القمر لن تحتاج في نهاية المطاف إلى أن تجلب معها الماء أو أيًّا من المنتجات المتنوعة المشتقة منه. فمشاهدات السفينة المدارية القمرية كليمنتين، التي حملت أداة لرصد النيوترونات المنتجة حين تصطدم الجسيمات النجمية المتحركة بسرعة بذرات الهيدروجين، تدعم القناعة المعتنقة لوقت طويل القائلة باحتمال وجود ترسبات جليدية عميقة أسفل الفوهات الموجودة قرب القطبين الشمالي والجنوبي للقمر. وما دام القمر يستقبل عددًا طبيعيًّا من الاصطدامات كل عام من الحطام الكوكبي، فمن المفترض أن يشمل مزيج الاصطدامات هذا — من حين لآخر — مذنبات ضخمة غنية بالماء، كالتي تضرب الأرض. لأي حجم يمكن أن تصل هذه المذنبات؟ تحتوي المجموعة الشمسية على عدد وفير من المذنبات التي يمكن أن تذوب إلى بركة في حجم بحيرة إيري.

ومع أننا لا نستطيع أن نتوقع من البحيرة المتكونة حديثًا أن تصمد لعدة أيام قمرية ملتهبة في درجة حرارة قدرها ٢٠٠ درجة، فإن أي مذنب يتصادف هبوطه في قاع فوهة عميقة قرب أي من قطبي القمر (أو يسبب هو الفوهة نفسها) سيظل محاطًا بالظلام؛ لأن الفوهات العميقة قرب القطبين هي الأماكن الوحيدة على القمر التي لا ترى ضوء الشمس. (إذا اعتقدت أن للقمر جانبًا مظلمًا على الدوام فهذا يعني أنك ضُللت من جهات عدة، من ضمنها ألبوم بينك فلويد «الجانب المظلم للقمر» الصادر عام ١٩٧٣.) وكما يعرف قاطنو القطبين على الأرض، المحرومون من ضوء الشمس، فالشمس في تلك المناطق لا ترتفع عاليًا في السماء في أي وقت من اليوم أو أي فصل من فصول العام. الآن تخيل أنك تعيش في قاع فوهة ترتفع حافتها لأعلى من أعلى ارتفاع يمكن لضوء الشمس الوصول إليه. وفي ظل عدم وجود هواء ينشر ضوء الشمس نحو الظلال، ستعيش في ظلام أبدي.

لكن حتى في الظلام البارد يتبخر الجليد ببطء. فقط انظر لمكعبات الثلج في درج المجمد بعد عودتك من إجازة طويلة: ستجد أن حجمها صار أصغر بشكل ملحوظ عما تركتها عليه. ومع ذلك، إذا كان الجليد مختلطًا بجسيمات صلبة جيدًا (كما هو الحال في المذنبات)، يستطيع البقاء آلاف وملايين الأعوام في قيعان الفوهات القطبية القمرية. وأي مركز قد ننشئه على القمر سيستفيد من الوجود قرب هذه البحيرة. وبجانب المزية الأساسية المتمثلة في إذابة الجليد ثم ترشيحه ثم شرب الماء، نستطيع أيضًا الاستفادة من فصل الهيدروجين الموجود في الماء عن الأكسجين. وبإمكاننا استخدام الهيدروجين، إلى جانب بعض من الأكسجين، كمكونات نشطة لوقود الصواريخ، مع الاحتفاظ بالقدر المتبقي من الأكسجين للتنفس. وفي وقت الفراغ بين البعثات الفضائية ربما نختار ممارسة التزلج على الجليد.

•••

مع أن كوكب الزهرة يماثل الأرض في الحجم والكتلة، فإن هناك عدة سمات تميز هذا الكوكب الشقيق لكوكبنا عن بقية كواكب المجموعة الشمسية، أبرزها غلافه الجوي الكثيف السميك العاكس المؤلف من ثاني أكسيد الكربون، الذي يجعل الضغط الجوي على سطح الكوكب أضعاف الضغط على الأرض. وفيما عدا المخلوقات البحرية التي تقطن الأعماق وتستطيع العيش في ضغوط مشابهة فإن جميع المخلوقات الأرضية ستنسحق وتموت لو عاشت على سطح الزهرة. إلا أن أغرب الملامح المميزة للزهرة تتمثل في الفوهات الحديثة نسبيًّا الموزعة على نحو متناسق على سطحه. هذا الوصف البريء من الظاهر يعني أن الكوكب تعرض منذ وقت قريب لكارثة شاملة أعادت ضبط تاريخ الفوهات — ومن ثم تمنعنا من تحديد عمر السطح من خلال الفوهات الموجودة على سطحه — وذلك بمحو جميع الأدلة على الاصطدامات السابقة. ربما تكون ظاهرة جوية كاسحة كبيرة، على غرار فيضان شمل سطح الكوكب بأسره، هي التي تسببت في هذا. لكن أيضًا يمكن لنشاط جيولوجي شامل، على غرار تدفق للحمم البركانية، أن يحول سطح الكوكب بالكامل إلى حلم لشركات السيارات الأمريكية؛ كوكب ممهد بالكامل. وبصرف النظر عن طبيعة الحدث الذي أعاد ضبط تاريخ الفوهات فمن المؤكد أنه توقف بغتة. لكن ثمة أسئلة مهمة، تحديدًا بشأن مياه الكوكب، تظل دون إجابة. فإذا حدث فيضان غمر كوكب الزهرة بأكمله، أين ذهب كل هذا الماء؟ هل غاص أسفل السطح؟ هل تبخر في الغلاف الجوي؟ أم هل تكون هذا الفيضان من مادة أخرى غير الماء؟ وحتى لو لم يحدث فيضان، فمن المفترض أن كوكب الزهرة حصل على مقدار مساوٍ من الماء كشقيقه كوكب الأرض، فما الذي حدث لهذا الماء؟

الإجابة المحتملة هي أن كوكب الزهرة فقد ماءه بسبب حرارته الشديدة، وهي النتيجة التي يمكن عزوها إلى غلافه الجوي. فمع أن جزيئات ثاني أكسيد الكربون تسمح للضوء المرئي بالمرور، فإنها تحبس الأشعة تحت الحمراء بفعالية شديدة. وعلى هذا يستطيع ضوء الشمس اختراق الغلاف الجوي للزهرة، حتى لو قلل انعكاس الغلاف الجوي من مقدار الضوء الذي يصل إلى سطح الكوكب. يتسبب ضوء الشمس في تسخين سطح الكوكب، الذي يشع أشعة تحت الحمراء تعجز عن الإفلات. فجزيئات ثاني أكسيد الكربون تحبس الأشعة تحت الحمراء بينما تستمر هذه الأشعة في تسخين الطبقة الدنيا من الغلاف الجوي وسطح الكوكب أدناها. يطلق العلماء على الاحتباس الحراري للأشعة تحت الحمراء «تأثير الصوبة»، حيث يشبهون الغلاف الجوي بالنوافذ الزجاجية التي تسمح للضوء المرئي بالعبور لكنها تمنع جزءًا من الأشعة تحت الحمراء. شأن كوكب الزهرة وغلافه الجوي، تشهد الأرض هذا الاحتباس الحراري، الضروري لأشكال عديدة من الحياة، الذي يسبب ارتفاع درجة الحرارة بخمس وعشرين درجة فهرنهايتية عما لو لم يكن الغلاف الجوي موجودًا. يحدث القدر الأعظم من الاحتباس الحراري بسبب التأثير المزدوج لجزيئات الماء وثاني أكسيد الكربون. وبما أن الغلاف الجوي للأرض به واحد على عشرة آلاف من جزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجودة في الغلاف الجوي للزهرة، يعد الاحتباس الحراري هنا شيئًا لا يذكر مقارنة بالوضع هناك. لكننا مع ذلك نستمر في إضافة المزيد من ثاني أكسيد الكربون لغلافنا الجوي من خلال حرق الوقود الحفري، مما يزيد من تأثير الاحتباس الحراري، وبهذا نجري دون قصد تجربة كوكبية نرى من خلالها التأثيرات الضارة الناتجة عن احتباس المزيد من الحرارة. على كوكب الزهرة، تسبب الاحتباس الحراري للغلاف الجوي، والناتج بالكامل عن جزيئات ثاني أكسيد الكربون، في رفع درجة الحرارة بمئات الدرجات، وهو ما جعل سطح كوكب الزهرة يصل إلى درجة حرارة متقدة تقارب الخمسمائة درجة مئوية (٩٠٠ درجة فهرنهايتية)، وبهذا يكون أشد كواكب المجموعة الشمسية حرارة.

كيف وصل الزهرة لهذه الحالة المؤسفة؟ يستخدم العلماء المصطلح الملائم «الاحتباس الحراري المتزايد» لوصف ما حدث حين رفعت الأشعة تحت الحمراء المحتبسة بفعل الغلاف الجوي للزهرة من درجة الحرارة وشجعت الماء السائل على التبخر. أدى الماء المتبخر في الغلاف الجوي إلى حبس المزيد من الأشعة تحت الحمراء بفعالية أكبر، وهو ما عزز من عملية الاحتباس الحراري، وأدى بدوره إلى دخول المزيد من الماء للغلاف الجوي، الذي عزز تأثير الاحتباس الحراري أكثر. قرب قمة الغلاف الجوي للزهرة تحطم الأشعة فوق البنفسجية الآتية من الشمس جزيئات الماء إلى ذرات هيدروجين وأكسجين. وبسبب الحرارة العالية تتمكن ذرات الهيدروجين من الإفلات، بينما تتحد ذرات الأكسجين الأثقل بذرات أخرى، ولا تعود لتكون الماء ثانية. وبمرور الوقت تبخر كل الماء الذي كان موجودًا على — أو بالقرب من — سطح الزهرة ولم يعد إلى الكوكب ثانية.

تحدث عمليات مشابهة على الأرض، لكن بمعدلات أقل بكثير؛ لأن حرارة الغلاف الجوي لدينا أقل بكثير. تشغل محيطاتنا الضخمة السواد الأعظم من سطح الأرض، مع أن عمقها المتواضع يمكنها فقط من أن تمثل واحدًا على خمسة آلاف من الكتلة الإجمالية للأرض. لكن حتى هذه النسبة اليسيرة تمكن المحيطات من أن تزن ١٫٥ كوينتيليون (مليون التريليون) طن، ٢ بالمائة منها متجمدة. وإذا مرت الأرض بعملية احتباس حراري كتلك التي حدثت في الزهرة، فسيحبس غلافنا الجوي مقدارًا أكبر من الطاقة الشمسية، وهو ما سيرفع حرارة الهواء ويجعل المحيطات تتبخر بسرعة في الغلاف الجوي بينما تغلي بشكل مستمر. سيكون هذا سيئًا. فبالإضافة إلى السبل البديهية التي يمكن أن تفنى بها الحياة النباتية والحيوانية على الأرض، سيكون أحد مسببات هذا الهلاك هو زيادة ثقل الغلاف الجوي للأرض بثلاثمائة ضعف بفضل بخار الماء الذي يحويه؛ أي إننا سننسحق ونُشوى بواسطة الهواء الذي نتنفسه.

•••

إن ولعنا بالكواكب — وجهلنا بها — لا يقتصر على كوكب الزهرة وحده. فمن المؤكد أن المريخ، بمجاري أنهاره الطويلة الجافة المتعرجة المحفوظة لوقتنا هذا وسهول فيضاناته ودلتا أنهاره وشبكات روافده وأخاديده التي حفرتها الأنهار، كان فيما مضى جنة بدائية عامرة بالمياه الجارية. وإذا كان لأي مكان آخر في المجموعة الشمسية خلاف الأرض أن يتفاخر بموارد مياهه المزدهرة، فلا بد أن هذا المكان هو المريخ. لكن لأسباب غير معروفة للمريخ اليوم سطح جافٌّ تمامًا. إن الفحص الدقيق للزهرة والمريخ، أقرب كوكبين لنا، يجبرنا على النظر إلى الأرض بمنظور جديد، والتعجب من مدى قابلية مخزون المياه السطحية لدينا للزوال سريعًا.

في بدايات القرن العشرين افترض الفلكي الأمريكي المرموق برسيفال لويل، بفضل مشاهداته الميالة للخيال لسطح المريخ، أن مستعمرات من المريخيين واسعي الحيلة بنت شبكة معقدة من القنوات بهدف إعادة توزيع المياه من الأغطية الجليدية للقطبين إلى المناطق الوسطى العامرة بالسكان. ولتفسير ما ظن أنه رآه تخيل لويل أن هناك حضارة محتضرة استنفدت مخزونها من المياه، كأن تكتشف مدينة فينيكس أن نهر كولورادو محدود. وفي دراسته الوافية والبعيدة عن الحقيقة بشكل عجيب بعنوان «المريخ كلبنة للحياة»، والمنشورة عام ١٩٠٩، رثى لويل النهاية الوشيكة لحضارة المريخيين التي تخيل أنه رآها.

في الواقع، يبدو المريخ في طريقه للجفاف لدرجة يستحيل معها أن يدعم سطحه أي حياة على الإطلاق. فببطء لكن بثقة، سيمحو الزمن أي حياة من على سطحه، إن لم يكن هذا قد حدث بالفعل. وحين تخبو آخر جذوة للحياة سيهيم الكوكب في الفضاء كعالَم ميت، انتهى تاريخه التطوري إلى الأبد.

بيد أن لويل أصاب في شيء وحيد؛ إذا كان لدى المريخ حضارة (أو أي شكل من أشكال الحياة) احتاجت وجود الماء على السطح، فمن المؤكد أنها واجهت كارثة ما؛ لأنه في وقت ما غير معلوم من تاريخ المريخ ولأسباب غير معروفة، جفَّ الماء الموجود على السطح تمامًا، مؤديًا إلى مصير الحياة ذاته الذي وصفه لويل، مع أن هذا حدث في الماضي، لا الحاضر. ويظل ما حدث للماء الذي تدفق بغزارة على سطح المريخ منذ مليارات الأعوام لغزًا بارزًا يحير علماء جيولوجيا الكواكب. فالمريخ يملك فعلًا بعض الجليد في قممه القطبية، يتكون في الأساس من ثاني أكسيد الكربون المجمد (ما يسمى ﺑ «الثلج الجاف»)، ومقدار ضئيل من بخار الماء في غلافه الجوي. ومع أن القمم القطبية هي الوحيدة التي تحتوي على كميات الماء المعروف وجودها على المريخ، فإن محتوى الجليد الإجمالي يقل بكثير عن القدر المطلوب لتفسير الآثار العتيقة لتدفق الماء على سطح المريخ.

إذا لم يكن السواد الأعظم من الماء الموجود قديمًا على المريخ قد تبخر في الفضاء، فمن المرجح أنه يختفي تحت السطح، تحت الطبقة الجوفية المتجمدة على الدوام للكوكب. ما الدليل على ذلك؟ الفوهات الكبرى على سطح المريخ تظهر — أكثر من الفوهات الصغيرة — بقايا من الطين الجاف تتناثر حول حوافها. إذا كانت الطبقة المتجمدة تقع على أعماق جوفية كبيرة، فسيتطلب الوصول إليها اصطدامًا كبيرًا. وسيتسبب مقدار الطاقة الناجم عن مثل هذا الاصطدام في إذابة الجليد الجوفي، متسببًا في تناثره للخارج. الفوهات ذات البقايا الطينية أكثر شيوعًا في المناطق القطبية الباردة، وهو المكان الذي نتوقع أن تكون فيه الطبقات الجليدية الجوفية قريبة من سطح المريخ. وفق التقديرات المتفائلة لمحتوى الطبقات المتجمدة المريخية، فإن إذابة طبقات المريخ الجليدية الجوفية سيحرر من الماء ما يكفي لغمر المريخ بأسره بمحيط عمقه عشرات الأمتار. وعلى أي بحث عن الحياة المعاصرة (أو الحفرية) على المريخ أن يتضمن خطة للبحث في مواضع عديدة، خاصة أسفل سطح المريخ. ومن منظور العثور على حياة على المريخ، يكون السؤال الأهم الذي علينا إجابته هو: هل يوجد ماء سائل في أي مكان على المريخ الآن؟

جزء من الإجابة يأتينا من معرفتنا بالفيزياء. فمن المحال وجود ماء سائل على سطح المريخ؛ لأن الضغط الجوي هناك، البالغ أقل من واحد بالمائة من نظيره على الأرض، لا يسمح بذلك. وكما يعرف متسلقو الجبال المتحمِّسون فإن الماء يتبخر عند درجات حرارة أقل كلما قل الضغط الجوي. فعلى قمة جبل ويتني، حيث يقل الضغط الجوي إلى نصف قيمته عند مستوى سطح البحر، لا يغلي الماء عند درجة حرارة ١٠٠ درجة مئوية، بل ٧٥ درجة. أما على قمة جبل إفرست، حيث يبلغ ضغط الهواء ربع قيمته عند مستوى سطح البحر، يغلي الماء عند درجة ٥٠ مئوية. وعلى ارتفاع عشرين ميلًا، حيث يعادل الضغط الجوي واحدًا بالمائة من الضغط الذي تشعر به عند السير على أحد أرصفة شوارع نيويورك، يغلي الماء عند درجة حرارة ٥ درجات مئوية. وإذا ارتفعت عدة أميال، فستجد أن الماء السائل «يغلي» عند درجة حرارة الصفر المئوي، بمعنى أنه سيتبخر لحظة تعرضه للهواء. يستخدم العلماء كلمة «التسامي» لوصف مرور المادة من الحالة الصلبة إلى الغازية دون المرور بالحالة السائلة. كلنا نعرف ظاهرة التسامي من صغرنا، حين كان بائع المثلجات يفتح الباب السحري ليكشف ليس فقط عن المثلجات الشهية، بل عن قطع من الثلج «الجاف» الذي يحافظ على برودتها. يمد الثلج الجاف بائع المثلجات بمزية عظيمة عن الثلج العادي؛ إذ إنه يتسامى من الحالة الصلبة إلى الغازية دون أن يخلف وراءه ماءً سائلًا يحتاج للتنظيف. وهناك قصة بوليسية قديمة ورد بها لغز عن رجل شنق نفسه من خلال الوقوف على قالب من الثلج الجاف، إلى أن تبخر الثلج وتدلى الرجل من حبل المشنقة، ولم يعرف المحققون كيف تمكن الرجل من فعل هذا (إلا إذا حللوا الهواء الموجود بالغرفة بحرص).

ما يحدث لثاني أكسيد الكربون على سطح الأرض يحدث للماء على سطح المريخ. فمن المحال أن يوجد الماء السائل هناك، حتى وإن ارتفعت الحرارة في أيام الصيف المريخية الدافئة لما فوق الصفر المئوي. يبدو أن هذا يقلل بشدة من إمكانية وجود الحياة، إلى أن ندرك أن الماء السائل يمكنه أن يوجد أسفل السطح. إن البعثات المستقبلية للمريخ التي ستبحث إمكانية العثور على حياة عتيقة، أو حتى حديثة، على الكوكب الأحمر، ستوجه نفسها صوب المناطق التي يمكنها فيها حفر سطح المريخ بحثًا عن إكسير الحياة المتدفق.

لكن الماء، مع أنه يبدو بالفعل إكسير الحياة، قد يعد في نظر من يجهلون الكيمياء مادة قاتلة يجب تجنبها بأي ثمن. ففي عام ١٩٩٧ أجرى ناثان زونر، الطالب بمدرسة إيجل روك الإعدادية بإيداهو البالغ من العمر أربعة عشر عامًا، تجربة شهيرة في الوقت الحالي (بين مبسطي العلوم) في معرض للعلوم لاختبار المشاعر المعادية للتكنولوجيا وما يرتبط بها من رهاب للكيمياء. دعا زونر الناس للتوقيع على عريضة تطالب إما بفرض شروط صارمة على مركب ثنائي الهيدروجين أحادي الأكسجين أو حظره تمامًا. وقد أورد بعض السمات الكريهة لهذه المادة عديمة اللون والرائحة:
  • أنها مكون رئيسي للمطر الحمضي.

  • أنها تذيب أي شيء يتصل بها.

  • أنها قد تسبب الوفاة لو استنشقت عرضًا.

  • أنها قد تسبب حروقًا خطيرة في حالتها الغازية.

  • أنها موجودة في أورام مرضى السرطان الميئوس من شفائهم.

من الخمسين شخصًا الذين طلب زونر منهم التوقيع على العريضة وقع بالفعل ثلاثة وأربعين شخصًا، بينما لم يحسم ستة أمرهم، وواحد فقط هو الذي أظهر تأييده للجزيء ورفض التوقيع. نعم، ٨٦ بالمائة من المارة صوَّتوا لحظر ثنائي الهيدروجين أحادي الأكسجين (الماء) من البيئة.

ربما هذا ما حدث بالفعل للماء على المريخ.

•••

تمدنا الزهرة والأرض والمريخ بقصة مفيدة عن مساوئ ومزايا التركيز على الماء (أو أي سائل آخر) بوصفه أساس الحياة. فحين فكر الفلكيون في الأماكن التي يمكن العثور فيها على الماء السائل، ركزوا في البداية على الكواكب التي تدور على مسافات مناسبة من شموسها بحيث تستطيع الاحتفاظ بالماء في حالة سائلة؛ أي لا تكون أقرب أو أبعد مما يجب. وهذا يأخذنا إلى قصة ذات الضفائر الذهبية «جولديلوكس».

في وقت ما من الماضي — يزيد على أربعة مليارات عام — كانت المجموعة الشمسية قد شارفت على الاكتمال. تكوَّن كوكب الزهرة على مسافة قريبة من الشمس بحيث تسببت طاقة الشمس الشديدة في تبخير مخزون الماء الذي كان من الممكن أن يحمله. تكون المريخ على مسافة بعيدة عن الشمس، بحيث تجمد ما يحمله من ماء. فقط كوكب وحيد، الأرض، هو الذي كان على المسافة «المناسبة تمامًا» كي يظل الماء في حالته السائلة، ومن ثم يمكن لسطحه أن يستضيف الحياة. وقد صارت المنطقة المحيطة بالشمس التي يمكن أن يظل الماء فيها سائلًا تُعرف بالمنطقة الصالحة للسكنى.

كانت جولديلوكس تحب أن تكون الأشياء «مناسبة تمامًا». فأحد آنية العصيدة في كوخ الدببة الثلاثة كان ساخنًا أكثر مما ينبغي، والثاني كان باردًا أكثر مما ينبغي، أما الثالث فكان مناسبًا تمامًا؛ لذا تناولته. وفي الدور العلوي كان أحد الأسرَّة صلبًا أكثر مما ينبغي، والآخر لينًا أكثر مما ينبغي، أما الثالث فكان مناسبًا تمامًا؛ لذا نامت جولديلوكس عليه. وحين عادت الدببة الثلاثة إلى الكوخ اكتشفوا ليس فقط أن العصيدة قد أُكلت، بل إن جولديلوكس كانت نائمة في سريرهم. (لا أذكر نهاية القصة، لكن ما يظل لغزًا هو لماذا لم تأكل الدببة الثلاثة جولديلوكس، مع أنها من آكلات اللحوم وتحتل قمة السلسلة الغذائية.)

إن الصلاحية النسبية للسكنى لكل من الزهرة والمريخ ستثير اهتمام جولديلوكس، مع أن التاريخ الفعلي لهذين الكوكبين أكثر تعقيدًا من كونه مجرد طبق من العصيدة. فمنذ أربعة مليارات عام كانت المذنبات الغنية بالماء والكويكبات الغنية بالمعادن لا تزال تضرب أسطح الكواكب، وإن كان بمعدل أقل مما سبق. وخلال لعبة البلياردو الكونية هذه تحركت بعض الكواكب إلى الداخل عن مواضع تكوُّنها، بينما تحركت أخرى نحو مدارات أكبر. ومن بين عشرات الكواكب التي تكونت تحرك البعض في مدارات غير مستقرة وارتطم بالشمس أو المشتري، بينما طُرد البعض خارج المجموعة الشمسية تمامًا. وفي النهاية تبقَّت كواكب معدودة لها مدارات «مناسبة تمامًا» للبقاء لمليارات الأعوام.

استقرت الأرض في مدار يبعد حوالي ٩٣ مليون ميل عن الشمس. وعلى هذه المسافة تتعرض الأرض لمقدار طفيف للغاية من الطاقة يبلغ اثنين على المليار من الطاقة الإجمالية التي تشعها الشمس. وإذا فرضنا أن الأرض تمتص كل الطاقة التي تتلقاها من الشمس، فسيكون متوسط حرارة كوكبنا حوالي ٢٨٠ درجة كلفينية (٤٥ درجة فهرنهايتية)، وهو رقم متوسط بين درجتي حرارة الشتاء والصيف. وفي الضغط الجوي الطبيعي يتجمد الماء عند درجة حرارة ٢٧٣ كلفينية ويغلي عند ٣٧٣ درجة كلفينية، وبهذا نحن في موقع مناسب للغاية من الشمس بحيث يظل كل الماء الموجود على الأرض في الحالة السائلة.

لكن ليس بهذه السرعة. ففي العلم أحيانًا ما نحصل على الإجابة السليمة لأسباب خاطئة. ففي الواقع لا تمتصُّ الأرض سوى ثلثي مقدار الطاقة الذي يصلها من الشمس. أما الباقي فينعكس إلى الفضاء بواسطة سطح الأرض (خاصة المحيطات) وبواسطة السحب. وإذا وضعنا نسبة الانعكاس في المعادلة، يهبط متوسط الحرارة الذي يصل إلى الأرض إلى حوالي ٢٥٥ درجة كلفينية؛ أي أقل من درجة تجمد الماء. لا بد أن هناك عاملًا ما يرفع متوسط درجة الحرارة إلى مستوى أكثر ملاءمة إذن.

لكن لنتمهل ثانية، فكل نظريات التطور النجمي تخبرنا بأنه منذ أربعة مليارات عام، حين كانت الحياة تكون من الحساء البدائي على الأرض، كانت الشمس أقل سطوعًا بمقدار الثلث عما هي عليه اليوم، وهو ما تسبب في هبوط حرارة الأرض أكثر وأكثر تحت درجة التجمد. ربما كانت الأرض في الماضي البعيد أقرب إلى الشمس. ومع ذلك، ففور انتهاء فترة القصف المبكرة لا توجد آلية معروفة لتغيير المدارات المستقرة جيئة وذهابًا داخل المجموعة الشمسية. ربما كان تأثير الاحتباس الحراري للغلاف الجوي للأرض أقوى فيما مضى، لكننا لا نعلم ذلك يقينًا. لكن ما نعرفه هو أن المناطق الصالحة للسكنى — كما تصورناها في الأساس — لها دور هامشي وحسب في وجود الحياة على أي كوكب داخلها من عدمه. وقد صار هذا جليًّا من حقيقة أننا عاجزون عن تفسير تاريخ الأرض على أساس نموذج المنطقة الصالحة للسكنى البسيط، كما تجلى أكثر من إدراكنا أن الماء أو غيره من السوائل لم يعتمد على حرارة الشمس للاحتفاظ بحالته السائلة.

تحوي المجموعة الشمسية مثالين بارزين يذكراننا دومًا بأن تبني «مقاربة المنطقة الصالحة للسكنى» عند البحث عن الحياة له مواطن قصور خطيرة. أحد المثالين موجود خارج النطاق الذي تستطيع الشمس فيه الحفاظ على الحالة السائلة للماء، ومع ذلك فهو يتمتع بمحيط غامر من المياه. أما الثاني، البارد للغاية لدرجة تمنعه من الاحتفاظ بالماء السائل، فيوفر إمكانية وجود سائل آخر، وهو سائل سام للبشر لكن قد تعتمد أشكال أخرى من الحياة عليه. ومن المفترض أن نحظى قبل مرور وقت طويل بفرصة استكشاف هذين المكانين عن قرب بمساعدة مركبات استكشافية آلية. دعونا الآن نراجع ما نعرفه عن القمرين يوروبا وتايتان.

•••

تظهر على سطح القمر يوروبا — أحد أقمار المشتري الذي يصل حجمه إلى حجم قمرنا — شقوق متقاطعة تتغير بمعدل زمني قدره أسابيع أو شهور. من وجهة نظر خبراء الجيولوجيا وعلماء الكواكب، يعني هذا أن القمر يوروبا له سطح مكون بالكامل تقريبًا من الجليد، أشبه بغطاء قطبي جليدي عملاق، يطوق القمر بأسره. ويقودنا تغير شكل الصدوع والجداول على هذا السطح إلى نتيجة مذهلة: أن هذا الجليد يطفو فيما يبدو على محيط يشمل القمر بأسره. وفقط من خلال افتراض وجود سائل أسفل السطح الجليدي يستطيع العلماء أن يفسروا على نحو مُرضٍ ما تم رصده، وذلك بفضل النجاحات المدوية لمركبتي الفضاء فوياجر وجاليليو. وبما أننا نرصد التغيرات في جميع أنحاء سطح القمر يوروبا، بوسعنا أن نخلص إلى وجود محيط سائل يشمل القمر بأسره أسفل هذا السطح.

أي سائل يمكن أن يكون هذا؟ ولماذا يظل في حالة سائلة؟ من المثير للإعجاب أن علماء الكواكب توصلوا إلى نتيجتين إضافيتين راسختين، وهما: أن هذا السائل هو الماء، وأنه يظل سائلًا بفضل تأثيرات المد التي يمارسها كوكب المشتري العملاق على القمر يوروبا. فلأن جزيئات الماء أكثر وفرة من النشادر أو الإيثان أو الكحول الميثيلي، من المرجح أن يكون الماء هو السائل الكامن أسفل السطح الجليدي للقمر يوروبا، كما أن وجود هذا الماء المجمد يعني بالمثل أن هناك المزيد من الماء موجود بالقرب. لكن كيف يمكن أن يظل الماء سائلًا، مع أن درجة الحرارة الآتية من الطاقة الشمسية في منطقة كوكب المشتري لا تتجاوز ١٢٠ كلفينية (−١٥٠ درجة مئوية)؟ تظل درجة حرارة الأجزاء الداخلية من القمر يوروبا مرتفعة نسبيًّا؛ لأن قوى المد الخاصة بكل من المشتري والقمرين الكبيرين المجاورين — القمر أيو والقمر جانيميد — تحرك الصخور الموجودة داخل القمر يوروبا على نحو متصل كلما تغير موضعه بالنسبة لجيرانه. وفي جميع الأوقات تستشعر جوانب القمرين أيو ويوروبا المواجهة للمشتري جاذبيةَ هذا الكوكب العملاق بشكل أقوى من الجوانب الأخرى البعيدة عنه. هذه التفاوتات في القوى تسبب استطالة الأقمار الصلبة بشكل طفيف في الاتجاه المواجه للمشتري. لكن مع تغير المسافة بين الأقمار والمشتري خلال مداراتها تتغير تأثيرات المد الخاصة بالمشتري — أي فارق القوى المبذول على الجانب القريب والجانب البعيد — بالمثل، وهو ما يؤدي إلى حدوث تغيرات صغيرة في أشكالها المحرفة بالفعل. هذا التحريف المتغير يرفع حرارة الأجزاء الداخلية للأقمار. ومثل كرة الإسكواش أو التنس التي تتعرض للانبعاج بفعل الضرب المتواصل، فإن أي نظام يمر بضغوط هيكلية متواصلة ترتفع درجة حرارة أجزائه الداخلية.

إن القمر أيو — البعيد عن الشمس بمسافة تضمن له في ظروف أخرى أن يكون متجمدًا بالكامل — يستحق بفضل مستوى الضغوط الذي يمر به لقب أكثر مناطق المجموعة الشمسية نشاطًا من الناحية الجيولوجية؛ إذ يتسم بالبراكين العنيفة والصدوع التي تملأ سطحه وحركة صفائحه التكتونية. شبه البعض القمر أيو في وقتنا الحالي بكوكب الأرض في بدايته، حين كان متقدًا نتيجة عملية تكوُّنه. وداخل القمر أيو ترتفع درجة الحرارة إلى الدرجة التي تدفع البراكين لإطلاق مركبات الكبريت والصوديوم خبيثة الرائحة لارتفاع أميال عن سطح القمر بشكل متواصل. في حقيقة الأمر، يتسم القمر أيو بدرجة حرارة أعلى مما يسمح بوجود الماء السائل، لكن يوروبا، الذي يمر بقدر أقل من التقلب عن أيو لأنه أبعد عن المشتري، يسخن بقدر أكثر تواضعًا، وإن كان مهمًّا. بالإضافة لذلك، يضع الغطاء الجليدي الذي يغطي القمر يوروبا بالكامل قدرًا من الضغط على السائل الموجود أسفله، وهو ما يمنع الماء من التبخر ويمكِّنه من الوجود لمليارات الأعوام دون أن يتجمد. وعلى حد علمنا، فقد ولد القمر يوروبا بمياهه وطبقته الجليدية، وحافظ على هذا المحيط، في درجة حرارة أعلى قليلًا من درجة التجمد، على مدار أربعة مليارات ونصف المليار عام من تاريخ الكون.

لهذا ينظر علماء الأحياء الفلكية إلى المحيط الذي يغطي القمر يوروبا كهدف أساسي للبحث. لا يعلم أحد سُمك الغطاء الجليدي، الذي قد يتراوح من عشرات الياردات إلى نصف الميل أو أكثر. وفي ضوء خصوبة الحياة داخل محيطات الأرض، يظل يوروبا أكثر أماكن المجموعة الشمسية التي تَعِدُ بوجود حياة خارج الأرض. تخيل الذهاب لصيد الأسماك عبر الفتحات الجليدية هناك. في الواقع، بدأ المهندسون والعلماء في مختبر الدفع النفاث بكاليفورنيا في وضع تصوراتهم لمسبار فضائي يهبط على هذا القمر، ثم يجذُّ (أو يقطع) فتحة في الجليد، ثم يسقط كاميرا تصوير للأعماق لاختلاس النظر إلى أشكال الحياة البدائية التي قد تسبح أو تزحف هناك.

إن كلمة «بدائية» تلخص توقعاتنا إلى حدٍّ بعيد؛ لأن أي شكل مفترض من أشكال الحياة هناك لن يتاح له إلا قدر محدود من الطاقة. ومع ذلك، فاكتشاف كميات ضخمة من الكائنات على عمق الميل أو يزيد تحت الصخور البازلتية لولاية واشنطن، تعيش بالأساس على الحرارة المنبعثة من باطن الأرض، يعني أننا قد نجد في يوم ما أن محيطات القمر يوروبا عامرة بكائنات تختلف عن أي كائنات على الأرض. لكن يظل السؤال الملح هنا هو: هل سنسمي هذه الكائنات بالكائنات اليوروبية أم الأوروبية؟

•••

يمثل المريخ والقمر يوروبا الهدفين الأول والثاني عند البحث عن حياة خارج كوكب الأرض وضمن المجموعة الشمسية. أما الهدف الثالث البارز فيقبع على بعد ضعف المسافة التي بين الشمس والمشتري وأقماره. لزحل قمر واحد عملاق، اسمه تايتان، وهو يشترك مع قمر المشتري جانيميد في كونهما أكبر أقمار المجموعة الشمسية قاطبة. يملك تايتان — بحجمه الذي يبلغ حجم قمرنا مرة ونصف المرة — غلافًا جويًّا سميكًا، وهي السمة التي لا يضاهيه فيها أي قمر آخر (أو حتى كوكب عطارد، الذي لا يزيد في الحجم كثيرًا عن القمر تايتان، لكنه أقرب بكثير من الشمس، حتى إن حرارة الشمس تبخر أي غازات على سطحه). وعلى العكس من الغلاف الجوي للمريخ والزهرة، يتكون الغلاف الجوي لتايتان — الأكثر سمكًا من الغلاف الجوي للمريخ بعشرات المرات — بالأساس من جزيئات النيتروجين، كما هو الحال مع الأرض. داخل غاز النيتروجين الشفاف يطفو عدد مهول من جسيمات الهباء الجوي، وهي مزيج دائم من جزيئات الضباب والدخان، تحجب سطح القمر عن أنظارنا طوال الوقت. نتيجة لهذا افترض البعض إمكانية وجود حياة على تايتان. لقد قسنا درجة حرارة القمر من خلال موجات الراديو (القادرة على اختراق الغازات والهباء الجوي) المرتدة عن السطح. تقارب درجة حرارة سطح القمر تايتان ٩٤ درجة كلفينية (−١٧٩ درجة مئوية)؛ أي أقل بكثير من الدرجة التي تسمح بوجود ماء سائل، لكنها تعد درجة حرارة مثالية للإيثان السائل، وهو مركب من الهيدروجين والكربون معروف لمن يعملون في تكرير منتجات البترول. وعلى مدار عقود تخيَّل علماء الأحياء الفلكية وجود بحيرات من الإيثان على القمر تايتان عامرة بالكائنات التي تطفو وتقتات وتتقابل وتتناسل.

والآن، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حل الاستكشاف محل التخمين. غادرت مهمة كاسيني-هويجنز إلى زحل — وهي نتاج التعاون بين ناسا وإيسا — الأرض في أكتوبر من عام ١٩٩٧. وبعدها بحوالي سبع سنوات، بعد تلقي دفعات جذبوية من الزهرة (مرتين) والأرض (مرة واحدة) والمشتري (مرة واحدة)، وصلت المركبة الفضائية إلى كوكب زحل، حيث أشعلت صواريخها كي تدور حول الكوكب ذي الحلقات.

جهز العلماء الذين صمَّموا المهمة المسبارَ هويجنز بحيث يفصل نفسه عن مركبة الفضاء كاسيني في أواخر عام ٢٠٠٤، بحيث يخترق للمرة الأولى السحب المعتمة المحيطة بالقمر تايتان ويصل إلى السطح، بالاستعانة بدرع حراري لتجنب حرارة الاحتكاك الناجمة عن المرور السريع من طبقات الغلاف الجوي العليا، وسلسلة من مظلات الهبوط للإبطاء من سرعة المسبار في طبقات الغلاف الجوي الدنيا. بُنيت ست أدوات داخل المسبار هويجنز لقياس حرارة الغلاف الجوي لتايتان وكثافته وتركيبه الكيميائي، ولإرسال الصور إلى الأرض عبر مركبة الفضاء كاسيني. وقت كتابة هذه السطور لا يسعنا سوى انتظار وصول هذه البيانات والصور لمعرفة ما تخبرنا به عن اللغز القابع تحت سحب تايتان. ليس من المرجح أن نرى الحياة نفسها، إن كان لها وجود بأي صورة على هذا القمر القصي، لكننا نتوقع أن نحدد هل الظروف عليه مواتية لظهور الحياة من خلال توفير بحيرات وبرك يمكن أن تنشأ بها الحياة وتزدهر. وعلى أقل تقدير، قد نتوقع أن نعرف أنواع الجزيئات المختلفة الموجودة على سطح تايتان أو بالقرب من سطحه، وهو ما قد يلقي الضوء على الكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض وفي أرجاء المجموعة الشمسية.

•••

إذا كان الماء ضروريًّا للحياة، فهل علينا أن نقتصر في بحثنا على الكواكب والأقمار التي يمكن للماء أن يتراكم على سطحها الصلب بكميات وفيرة وحسب؟ على الإطلاق. فجزيئات الماء — إلى جانب عدد كبير من المواد الكيميائية المألوفة الأخرى، كالنشادر والإيثان والكحول الإيثيلي — تظهر بشكل روتيني في السحب الغازية النجمية الباردة. وتحت ظروف خاصة من الحرارة المنخفضة والكثافة المرتفعة، يمكن حث مجموعة من جزيئات الماء على أن تحول الطاقة وتنقلها من نجم قريب إلى شعاع من الموجات الميكرونية المكثفة عالية الشدة. الفيزياء الذرية لهذه الظاهرة تشبه ما تفعله أشعة الليزر بالضوء العادي. لكن في هذه الحالة يكون الاسم الذي يطلق على هذه العملية هو أشعة الميزر، بمعنى التضخيم الميكروني بفعل انبعاثات الإشعاع المستحثة. إن الماء ليس موجودًا وحسب في كل مكان بالكون، لكنه يشع علينا في بعض الأحيان أيضًا. والمشكلة الكبرى التي ستواجهها أي حياة محتملة في السحب النجمية لن تتمثل في نقص المواد الخام للحياة، بل في الكثافة المنخفضة للغاية للمادة، التي تقلل بشكل هائل من المعدل الذي تصطدم به الجزيئات ويتفاعل بعضها مع بعض. وإذا كانت الحياة احتاجت ملايين الأعوام كي تنشأ على كوكب كالأرض، فقد تحتاج إلى تريليونات الأعوام كي تنشأ في الكثافات الأقل بكثير، وهو وقت أكبر بكثير من عمر الكون حتى الآن.

•••

باستكمال بحثنا عن الحياة في المجموعة الشمسية، قد يبدو أننا انتهينا من جولتنا خلال الأسئلة الجوهرية المرتبطة بأصولنا الكونية. ومع ذلك، لا يسعنا ترك هذا الميدان دون أن نلقي نظرة على قضية البدايات العظيمة التي تنتظرنا في المستقبل؛ بداية تواصلنا مع الحضارات الأخرى. لا يأسر موضوع فلكي آخر خيال العامة أكثر من هذا، ولا يقدم أي موضوع آخر فرصة أفضل لجمع كل ما تعلمناه عن الكون في كل متكامل. والآن وقد صرنا نعرف القليل عن الكيفية التي قد تبدأ بها الحياة في العوالم الأخرى، لنتدارس فرص إرضاء تلك الرغبة الإنسانية التي لا تقل عن سواها؛ الرغبة في العثور على كائنات أخرى في الكون قد نستطيع التحاور معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤