الفصل الثالث

الذات/الآخر

(١) الشيء الذي هو أنت

الورم هو الشيء الذي هو أنت.

مع أنَّ الأورام تُستأصل عند أول إشارة بسيطة إلى وجود مشكلة ما، وكأنها أشياء غريبة لا تنتمي إلى الجسم، فإنها جزء من الجسم، ومصنوعة منه. الأورام هي الجسم.

يصنع الجسم الخلايا السرطانية بنفس طريقة صنعه الخلايا السليمة. «ففي حالة الخلية العادية، تُنظِّم دارات جينية مُسيطِرةٌ عمليةَ انقسام الخلايا وموتها. أمَّا في حالة الخلية السرطانية، فتختل هذه الدارات، مُطلِقةً بذلك العِنان لخلية لا تتوقَّف عن النمو.»1 وسواء أكانت خلايا الورم حميدةً أم خبيثة؛ فإنها تَنتُج من نفس العملية التي تَنتُج منها أي خلية أخرى. وكما لاحظ العالِم رودولف فيرخوف في القرن التاسع عشر، فالمصدر الوحيد لأي خلية هو خلية أخرى. ففي عملية الانقسام الميتوزي، تنتج من خلية واحدة خليتان متماثلتان لكل منهما مجموعة متماثلة من الكروموسومات. عملية انقسام الخلايا مهمة لنمو الجسم وإصلاح ذاته. ونمو الخلايا عملية طبيعية؛ فالخلايا تنمو في أجسامنا طوال الوقت.
fig4
شكل ٣-١: خلايا طبيعية وخلايا سرطانية جنبًا إلى جنب، ومُحدَّدٌ فيها خصائص الخلايا الطبيعية والخلايا السرطانية. المصدر: المعهد الوطني للسرطان.

نمو الخلايا عملية مفيدة وضرورية لا يمكننا الحياة بدونها. فالجنين لا يمكن أن يتحوَّل إلى إنسان كامل التكوين بدون الانقسام السريع للخلايا. ويُحِل جسم الشخص البالغ خلايا جديدةً محل مليارات من خلاياه القديمة كل يوم. وفي حين أن خلايا الدماغ تدوم طوال العمر تقريبًا، لا يتجاوز عمر خلايا القولون أيامًا قليلة. وعادةً ما تنمو العضلات أو الدهون بزيادة حجم الخلايا، ليس بزيادة عدد الخلايا وتراكمها فوق بعضها، بل بزيادة حجم الخلايا الموجودة بالفعل. أمَّا الأعضاء، فعادةً ما يزداد حجمها عَبر عملية فرطِ التنسُّج، التي يزداد فيها عدد الخلايا. ولزيادة عدد الخلايا، تنقسم الخلايا الموجودة مرارًا. وكل خلايا الجسم البشري يرجع أصلها إلى البويضة والحيوان المنوي الأوليَّين.

ونظرًا إلى أن عمليتَي النضج والتضخُّم الطبيعيتَين هاتَين تَحدثان بنا وفينا، فاحتمالية نشوء الأورام — بمعنى الزوائد الغريبة أو المفرطة — قائمة بنا وفينا أيضًا. فحتى الديناصورات في القِدم أصابتها الأورام، أي إنَّ هذه التورُّمات ليست قاصرةً على البشر، ولا على زماننا هذا دون غيره، ولكنها نَصيبٌ قد يُصيب أي كائن حي في مسار حياته مع مرور الأيام والأعوام. كتب جورج جونسون في معرض تناوله التاريخ الطويل للسرطان: «مما يبعث الطمأنينة في النفس معرفتُنا أنَّ السرطان كان له وجود على مر الزمان، وأنه ليس خطأً منا، وأنَّ المرء قد يحتاط منه بكل السبل، ومع ذلك يجنح جزء من التكوين الجيني.»2 فحياة المرء — أي نمو جسمه وإصلاحه لذاته — تصاحبها احتمالية نشوء الورم.
يُبقينا نمو الخلايا على قيد الحياة. إلا إذا كان مفرطًا. ففي هذه الحالة يُعَد النمو مَرَضيًّا. والكلمة الإنجليزية Pathology؛ أي «علم الأمراض»، أصلها لاتيني يعني «دراسة المعاناة». والمعاناة في هذه الحالة يُقصَد بها وجود قدر مبالغ فيه من شيء جيد. قد يُنظر إلى الخلية الواحدة الزائدة أو الغريبة كما يُنظر إلى كذبة تافهة لا تضرُّ بصدق صاحبها، أو تعليق لا يُضمِر صاحبه شرًّا، بل قد تكون نيته سليمةً تمامًا. فبالنظر إلى وجود ٣٧٫٢ تريليون خلية في الجسم البشري،3 لا عجب أن يحدث بين وقت وآخر أن تُخالف إحداها الصواب، أو تحيد عن المسار الطبيعي، أو تحمل طفرةً مُؤثِّرةً مُهمَّةً في أحد جيناتها عشوائيًّا. فأي شيءٍ آخر في حياتك أتقنتَ فعله ٣٧٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ مرة؟ ما الضرر الذي قد يسبِّبه خطأ واحد بين كل هذه الخلايا؟ لكن الإفراط في الكذب مرض. إذ يبدأ السرطان بكذبةٍ واحدةٍ تخدع بها إحدى الخلايا الجسم نفسه. والورم تراكم من الأكاذيب التي تتكرَّر مرات ومرات؛ إذ يتعلَّق النسيج بهذه الأكاذيب الخلوية التي كان من المفترض أن يرفضَها أو يتجاهلَها.
اهتم الباحثان بيرت فوجلشتاين وكريستيان توماسيتي اهتمامًا خاصًّا بتفسير سبب زيادة احتمال إصابة بعض أنواع الأنسجة بالأورام مقارنةً بغيرها، حتى بعد استبعاد تأثير العوامل البيئية والطفرات الجينية. واستنتجا أنه كلما زاد عدد مرات انقسام الخلايا الجذعية في نوع من الأنسجة، زاد احتمال نشوء السرطان فيه نسبيًّا. ونسبَا ذلك إلى «سوء الحظ» والعشوائية في عملية انقسام الخلايا، وقالا إنَّ «العوامل البيئية أو نزعات الاستعداد الوراثي لا تُمثِّل إلا ثلث أسباب التباين في خطر الإصابة بالسرطان.»4 العوامل البيئية هي الأشياء التي يمكن للبشر تغييرها، مثل الإقلاع عن التدخين، أو دَهن واقي الشمس، أو الحصول على لقاح الالتهاب الكبدي الوبائي «ب»، ولقاح فيروس الورم الحليمي البشري، أو تجنُّب السِّمنة. أمَّا نزعات الاستعداد الوراثي، فلا يمكن تغييرها، كل ما يمكن فعله حيالها هو الخضوع لفحوص للكشف عن بعض الطفرات المعروفة عندما يستدعي التاريخ الطبي للشخص أو تاريخ عائلته إجراء هذه الفحوص. وهذه الدراسة قلَّلت من شأن هاتَين الفئتَين الكبيرتَين من المخاطر — البيئية والوراثية — التي يمكن للأشخاص السيطرة عليها بعض الشيء أو يحملون بعض الدراية بها.
وأقل السرطانات التي دَرَسها فولجشتاين وتوماسيتي عُرضةً للنمو والانتشار كانت أنواعًا عديدةً من الأورام الغرنية العظمية، التي تشهد أقل عدد من انقسامات الخلايا الجذعية كذلك؛ وأمَّا أكثر السرطانات التي درساها عُرضةً للنمو والانتشار، فكانت متلازمة لينش المسبِّبة لسرطان القولون والمستقيم، وداء السلائل الورمي الغدي العائلي، وسرطان الخلايا القاعدية، التي تشهد أكبر عدد من انقسامات الخلايا الجذعية.5 واستنتج الباحثان أنَّه في السرطانات التي درساها — التي لم يكن من بينها سرطان الثدي على سبيل المثال — يُعزى ثلثا «الاختلاف» في القابلية للنمو والانتشار «بين» سرطان عظام الحوض وسرطان الخلايا القاعدية، على سبيل المثال، إلى التباين في عدد انقسامات الخلايا القاعدية، ونزعة النسيج إلى الإبقاء على الطفرات، وبالتبعية فهذان الثلثان لا يرجعان إلى عوامل الخطر البيئية أو الوراثية.

لم يقولا أو يقصدا أنَّ ثلثَي السرطانات كافةً يُعزيان إلى الحظ العَاثِر. لكن هذا هو ما فهمه الناس.

في يوم رأس سنة ٢٠١٥، انفردت جينيفر كوزين-فرانكل بهذا السَّبق عن أسس السرطان الخلوية في مجلة «ساينس»، الذي قالت فيه: «خذ عدد الخلايا في أي عضو، وحدِّد نسبة الخلايا الجذعية الطويلة العمر من بينها، وحدِّد عدد مرات انقسام الخلايا الجذعية. ففي كل انقسام، يكمن خطر نشوء طفرة مسبِّبة للسرطان في إحدى الخلايا الوليدة.»6 وهذا تلخيص منطقي لعملية انقسام الخلايا التي لا غنى عنها. ولكنها حاولت أن تُقدِّم للقارئ غير المتخصِّص قصةً واضحةً موجزة، فمضت تسرد استنتاجات أخرى كانت بمثابة إفراط في التبسيط أدَّى إلى مبالغات؛ إذ كتبت: «هذه النظرية تُفسِّر ثلثَي السرطانات كلها».7 فانتقد صحفيون آخَرون هذا التبسيط. وصحيح أنَّ تفسير السرطان بهذه الطريقة محَبَّب للنفس؛ لأنه يُبرِّئ ساحة المرضى من أي ذنب أدَّى إلى إصابتهم بالمرض؛ إذ لا يمكن لوم شخص على انقسام خلايا جسمه. لكنه يقوِّض حقيقة أن العديد من السرطانات يمكن منعها، وأن تقليل معدَّل الإصابة بالسرطان ممكن.

الأهم في تفسير هذه الدراسة بالذات هو أن هذا الادعاء لا ينظر إلى البحث باعتباره «مقارنةً» بين إحصاءات معدَّلات السرطان، بل باعتباره تفسيرًا لنشوء السرطان نفسه، سواءٌ بوجه عام أم في أنواع معيَّنة من السرطان. غير أنَّ الفارق الذي أغفلته المقالة الأولى والمقالات التالية هو التمييز بين احتمال الإصابة النسبي والمطلق. إذ تبلغ نسبة احتمال إصابة أي رجل بالسرطان في المُطلق واحدًا إلى اثنَين، لكن هذه المعلومة لا تنطبق مباشرةً على المجموعات الصغيرة، ولا تشير إلى احتماليَّة إصابة زوجي بالسرطان. فيما يستكشف احتمال الإصابة النسبي الأسباب التي قد تجعل بعض الناس أكثر عرضةً من غيرهم للإصابة بالسرطان، وتجعل بعض أنواع السرطانات أكثر شيوعًا في فئة سُكَّانية من أنواع أخرى. الشيء المطلق متحرِّر من أي شروط محدَّدة، أمَّا الشيء النسبي — وفقًا للجذر اللاتيني للكلمة الإنجليزية — فهو مرتبط بشيء آخر، ومرهون به، وتفسير لاحتمالية الإصابة.

تبلغ نسبة احتمالية الإصابة بسرطان القولون والمستقيم (تضمَّنته دراسة فولجشتاين وتوماسيتي) طوال العمر في المُطلق ٤٫٥ في المائة،8 فيما تبلغ نسبة احتمالية الإصابة بسرطان الدماغ أو الجهاز العصبي (كان الورم الأرومي الدبقي نوعًا من سرطان الدماغ وَرَد في الدراسة) في المطلق ٠٫٦ في المائة، وهي نسبة أقل بكثير.9 بعبارة أخرى، تبلغ احتمالية الإصابة بسرطان القولون والمستقيم ٧٫٥ أمثال احتمالية الإصابة بالورم الأرومي الدبقي. (الغريب أنَّ كِبَر العدد المُعبِّر عن احتمال الإصابة النسبي قد يجعل احتمال الإصابة بسرطان القولون والمستقيم يبدو أعلى من المتوقَّع.) تحاول هذه الدراسة المعنيَّة تفسير الاختلاف الكبير بين احتمالية حدوث هذَين النوعَين من السرطان (وأنواع أخرى)، وليس الهدف منها تفسير سبب إصابة أي شخص بالسرطان. لذا، فبعد ذلك بأقل من أسبوعَين، بذلَت كوزين فرانكل مجهودًا جديرًا بالإعجاب في محاولة فهم الأخطاء التي وقعت فيها، وصحَّحتها قائلة: «بعض الأنسجة يجتاحها السرطان بسهولة أكبر من غيرها، والطفرات التي تحدث في الخلايا الجذعية تُفسِّر ثلثَي هذا التباين».10
يصون نمو الخلايا أجسامنا ويسمح لها بالنمو. إلا إذا نما عدد زائد من الخلايا في الوقت نفسه، كما يحدث في فرط التنسُّج المَرَضي. إذ تتراكم الخلايا واحدةً فوق ثانية فوق ثالثة، وتأخذ نمطًا ملحوظًا، وتتحوَّل إلى شيءٍ منفرد بذاته، إلى ورم. أو في حالة اللوكيميا إلى سرطان في حالة سائلة مائعة.11 وبينما يمكن التحكُّم في العوامل البيئية لتقليل احتمالية الإصابة، ومع أنه من الممكن استخدام الفحوص الجينية لتوجيه الفحوص والتدخُّلات الطبية الوقائية، فإنَّ الجسم البشري يظل رهينًا للاحتمالات. فالأنسجة التي تنقسم الخلايا الجذعية فيها بعددٍ أكبر خلال حياة الشخص، تُعَد أكثر قابليةً للإصابة بفرط التنسُّج الذي يُمثِّل ورَمًا.

نمو الخلايا عملية مفيدة وضرورية. إلا عندما يلتبس الأمر على إحدى الخلايا وتظن نفسها خليةً أخرى، أو عندما يُحبط الجسم نفسه ويخدعها ويخذلها، أو عندما يُخطئ في أداء وظائفه بسبب دخان السجائر أو التعرُّض للأسبستوس أو الإشعاع المؤين أو أشعة الشمس. فالسرطان عثرة الجسم ولحظة ضعفه.

أو ربما يكون هذا هو التفسير الذي نودُّ إقناع أنفسنا به. وقد كَتَب موخيرجي: «تنمو خلايا السرطان بوتيرةٍ أسرع، وتتكيَّف بدرجة أفضل». وأضاف: «أي إنها نُسَخ من ذواتنا تفوقها اكتمالًا.»12 تظل الخلايا على دأبها فيما تفعله، وتتفوَّق عليها خلايا السرطان في ذلك. فالسرطان إذن ليس نسخةً منك فحسب، بل الأغرب أنه نسختك الأكثر تفوُّقًا.

(٢) نُسَخ منك

من بين الأنواع المختلفة من الأورام، يُعَد الورم المسخي على وجه التحديد نسخةً منا، ولا يمكن تمييزه عنا؛ فقط لأنه النسيج الصحيح في المكان الخاطئ. إذ يتكوَّن الورم من نسيج عادي يختلف عن النسيج العادي الآخر الذي ينشأ فيه. وما دام حميدًا، لا يُظهر أيًّا من سمات السرطان المعتادة، ولا يمثِّل تهديدًا إلا بسبب حجمه وموقعه.

الأورام المسخية التي تنمو من الخلايا النسيلية — أي الخلايا التي تتحوَّل إلى بويضة أو حيوان منوي — تتكوَّن في المبيضَين والخصيتَين، في حين أن الأورام المسخية التي تنمو من الخلايا الجنينية قد توجد في أماكن أخرى، منها الدماغ أو اللسان. ويُعَد الورم المسخي الذي ينشأ في قاعدة العمود الفقري (العَجُز) أكثر أنواع الأورام المسخية شيوعًا بين حديثي الولادة. ففي الحلقة التي حملت عنوان «بطاطا صغيرة» من مسلسل «ذا إكس فايلز»،13 ربما كان من السهل تفسيرُ مولد أطفالٍ لهم ذيول بأن هذه الذيول أورام مسخية عجزية عُصعصية.

يُعتقد أن هذه الزوائد الحميدة (إذ إنَّ الزوائد الخبيثة النادرة هي التي تُعَد سرطانًا) تنشأ أثناء تكوُّن الجنين خليةً تلو خلية، وعضوًا بعد عضو. فقد يحدث على سبيل الخطأ أن تنفصل كتلة صغيرة من النسيج داخل جنين في طور التكوين فيكون مصيرها أن تُغلَّف في مكان غير مكانها، مكان آخر ما زال هو أيضًا في طور التكوين. ولو أنَّها ظلت في المكان الذي كان من المفترض أن تبقى فيه، لتمايَزَت متحوِّلةً إلى الخلايا والأنسجة المناسبة تمامًا لمكانها. أمَّا في المكان الخاطئ، فلا تُجدي نفعًا، لكنها تواصل النمو على أي حال، وتتمايز متحوِّلةً إلى أفضل نسخة ممكنة من الجنين الذي تستطيع أن تتحوَّل إليه وحدها. أي إنَّ الورم المسخي يُمثِّل جزءًا من نسخةٍ من الجسم قبل أن يكتمل تكوينه، ويتحوَّل إلى أقرب صورة ممكنة من الجسم. فهو جسم جزئي — عضلة ودهن وعظم — في مكان خاطئ.

والورم المسخي ليس مختلفًا عن الجزء المحيط به فحسب، بل غالبًا ما يكون هو نفسه خليطًا غير متجانس من الأنسجة. فقد يحتوي الورم المسخي المبيضي على شعر وأسنان، بل وقد يخرج منه أحد الأطراف، كما لو كان الورم أجزاءً زائدةً أو أصليةً من جسم شخص داخل شخص آخر. قد يحمل الجنين ما يبدو أنه توءم طفيلي. ففي ٢٠٠٣، استأصل جرَّاحون من جسم امرأة يابانية أشبه الأورام المسخية بالبشر؛ فقد كان له دماغ، وأطراف، وأمعاء، وعين، وأذن.14 كلمة Teratoma، «الورم المسخي»، أصلها يوناني يعني «الورم الوحشي».

يمكن استئصال معظم الأورام المسخية جراحيًّا عند اكتشافها؛ لأنها لا تغزو الأنسجة المحيطة. فكأن هذا الورم لا يَعتبِر نفسه جزءًا من الجسم، بل جسم منفرد بذاته. ليس جزءًا منَّا، بل كِيان منفرد بذاته. وإذا كان الورم المسخي خبيثًا أو تعذَّر استئصاله جراحيًّا، كما قد يحدث إذا نشأ في الدماغ، يُستخدم العلاج الكيميائي.

هذه الزوائد هي أغرب ما في الأورام؛ فهي تشبهنا جدًّا — إذ يكون لها شعر وأسنان — إلى حد أنَّ تخيُّل ذلك يبث في نفوسنا الرعب. التفكير في الورم المسخي كالتفكير فيما يُكوِّن الجسم البشري. والنتيجة التي يمكن الخروج بها هي أن المرء إنسان لأنه مكتمل التكوين. ولكن كم عدد الأجزاء اللازمة ليكون الشخص إنسانًا كاملًا من الناحية الجسمانية والوظيفية؟ كم من جسمي يمكن أن يُستأصَل — أو أفقده — وأبقى شخصًا سليمًا كما أنا؟ الواضح أن الورم المسخي ليس شخصًا، ولكن ما المقدار الذي يفصله عن أن يكون كذلك؟

(٣) الورم ليس أنت

منذ عدة عقود، كان من النادر نطق كلمة «سرطان» أو سماعها. وعندما فاجأ جون واين حاضري مؤتمر صحفي عام ١٩٦٤ بأن كشف عن أنه خضع لاستئصال إحدى رئتَيه لعلاج السرطان الذي نتج على الأرجح عن عادته تدخين ست عُلَب من السجائر يوميًّا، وربما من تعرُّضه لغبار متساقط من أسلحة نووية أثناء تصوير فيلم «ذا كونكرر»، قال بالتعبيرات الدارجة آنذاك: «لعقتُ حرف C الكبير» [يُقصَد بحرف C السرطان، لأنه الحرف الأول من الكلمة في اللغة الإنجليزية].15 وبعد ذلك بخمسين عامًا، أكَّدت مقالة افتتاحية في دورية «ذا لانسيت» بكل ابتهاج أنَّ «السرطان لم يَعُد حرف C الكبير.»16 وقد انقضى وقت طويل قبل أن يبدأ التصريح بذكر المرض أمام الأطفال.
وفي هذا الصدد، كتبت نجمة الكوميديا جيلدا رادنر عن مرض أبيها في عام ١٩٥٨، قائلة: «لم يذكر أحد قط كلمة «السرطان».»17 وبعد ذلك بسنوات، في عام ١٩٨٦، اكتُشف لديها ورم خبيث في المبيض، وجرى تحضيرها للجراحة خلال ثمانٍ وأربعين ساعة. وتقول عن ذلك: «أتذكَّر (حتى في ذلك الحين) أنَّه لا أحد نطق كلمة «السرطان»».18 تعكس اللغة المستخدمة في الحديث عن السرطان الموقف الاجتماعي من المرض. عندما أصيبت رادنر بالمرض، لم يكُن قد مضى سوى ثلاثين عامًا منذ أن أصبح العلاج الكيميائي من أساسيات العلاج، ولم يكُن قد مضى سوى عَقدٍ واحدٍ تقريبًا على ظهور تطوُّرات مهمَّة عديدة في العلاج الكيميائي، بما في ذلك علاج سرطان المبيض. فلماذا إذن قد يجهر المرء بذكر مرض كان حينذاك يُعَد حكمًا بالإعدام؟
تتشابه كلمة ورم بالإنجليزية tumor مع مقابلها الفرنسي tumeur، وقد أوضح لي جرانت روزنبرج في المكتبة الأمريكية في باريس أن هذه الكلمة الفرنسية لو قُسِّمت إلى نصفَين فأصبحت tu meurs؛ لصارت تعني: «أنت تموت».
ورغم أن أحدًا لا يُحب نُطْق كلمتَي السرطان والورم؛ فهما جزء من الحوار الاجتماعي عن هُويتنا. فلغتنا تتأقلم مع تغيُّر السياقَين الطبي والاجتماعي للمرض. إذ جاء في دورية «ذا لانست»: «يتطلَّب العالَم الذي أصبحت فيه بعض السرطانات أمراضًا مزمنةً تدوم طوال العمر تحوُّلًا في مفهومنا عن المرض والنجاة منه.»19 كان تعبير «حرف C الكبير» كنايةً يُهمس بها تلطُّفًا عند ذكر السرطان، لكنَّ التعبير نفسه أصبح الآن يعني المسلسل الكوميدي الدرامي «ذا بيج سي»، الذي يُعرض على شبكة «شوتايم»، وتؤدِّي لورا ليني فيه دور شخصيةٍ شُخصَت إصابتها بالمرحلة الرابعة من الميلانوما (أحد سرطانات الجلد). لقد أصبح السرطان مادةً ووسيلةً لسرد القصص بين عامة الناس على نحو لم يكن ممكنًا منذ عقود. بل إنَّ سوزان جوبار تتخطَّى ذلك الحد بكثير في كتابها «القراءة عن السرطان والكتابة عنه»، قائلة: «نعيش وسط عصر تطوُّر مؤلَّفات السرطان المُعتَمَدة.»20 وتمضي في الحديث عن ظهور مؤلَّفات عن السرطان نتيجةً لتمكين المرضى، وزيادة توفُّر المعلومات الطبية، والإلزام بالإفصاح عن التشخيص وخيارات العلاج، وذوبان الفواصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة.21

كثيرًا ما تُغفِل اللغة التي نستعملها حقيقةً بيولوجيةً هي أن الورم جزء من جسم الشخص ومخلوق منه، وبدلًا من ذلك، فإنها تضع الجسم في معركة مع ذاته، أو تضع الذات في معركة مع الجسم، كما لو كان السرطان عدوًّا اعتدى على الجسم من خارجه. يتحوَّل الورم إلى غازٍ، أو إلى عدو لا بد من قهره. فيُذكر في النعي تلو الآخر أن شخصًا مات بعد «معركة مع السرطان»، وربما يُكتب «بعد معركة طويلة مريرة»، أو يُمدح ما تحلَّى به الشخص من شجاعة أو بسالة في هذه المعركة.

الكلمة الإنجليزية Battle؛ أي «معركة/يقاتل»، أصلها لاتيني يعني «يضرب»، وقد طُوِّعت منذ وقت طويل لتُشير بوجه عام إلى القتال الذي يخوضه الجنود المدرَّبون، ثُم إلى القتال الفردي أو مواجهة محدَّدة تجري في حرب أوسع نطاقًا. وهذا التشبيه العسكري يستخدمه الأطباء والمرضى وهم يقاتلون أمراض السرطان معًا، ويستخدمه صُنَّاع السياسات والإعلام عند مناقشة الجهود البحثية الشاملة التي تهدف إلى فهم السرطان والقضاء عليه في الحرب الأوسع نطاقًا.
عندما وقَّع الرئيس ريتشارد نيكسون القانون الوطني للسرطان لعام ١٩٧١، الذي دعَّم المعهد الوطني للسرطان ونَشَر مراكز الأبحاث الإكلينيكية في أنحاء البلاد، سُميت تلك الجهود السياسية والبحثية الهادفة للقضاء على السرطان — أو على الأقل تقليل عدد الوفَيَات الناتجة عنه تقليلًا كبيرًا — باسم الحرب على السرطان. وفي خطوة أحدث عهدًا، أدرج الرئيس أوباما — الذي ماتت أمه بسبب سرطان المبيض في الثالثة والخمسين من عمرها بعد أقل من عام من تشخيص المرض لديها — تمويل جهود مكافحة السرطان في حزمة تنشيط الاقتصاد لعام ٢٠٠٩. وقد اقتُبست عنه تصريحات إعلامية استخدم فيها تشبيه الحرب الواسعة الانتشار؛ فقد قال: «لقد حان الوقت لشن حرب على السرطان لا تقل ضراوةً عن الحرب التي يشنها السرطان علينا.»22 السرطان هو العدو، وهو الذي هاجمنا، وعلينا أن نصد الهجوم بكل ما أوتينا من قوة.
وتستخدم رادنر كلمة «معركة/يقاتل» عدة مرات في مذكراتها عن الحياة مع سرطان المبيض، وترى نفسها مقاتلةً بالفطرة ساعدتها مهاراتها فور أن شُخصت إصابتها به. وناقشت حاجة المريض — أو ربما حاجة المجتمع من المريض — إلى «أن يشارك في قتال السرطان». وتشرح قصدها بالتحديد، قائلة: «وإذا تخيَّلت خلايا السرطان ورأيتها شريرة، وتصوَّرتها وهي تُستأصل من الجسم، فأنت بذلك تساعد العملية الفعلية»؛ أي عملية التداوي بالعلاج الكيميائي.23 فإذا لم ينظر المريض إلى السرطان باعتباره شريرًا، فهل يعطِّل بذلك الشفاء ويمنح السرطان أفضليةً ما؟ هل يُعَد الإحجام عن القتال أو عدم القدرة عليه بمثابة اتفاق مع الشيطان؟
لاحظ كريستوفر هيتشنز الاستخدام الواسع النطاق لتشبيه المعركة عندما أصابه سرطان المريء، وأزعجته هذه اللغة. إذ قال: «لا يقال إن الشخص مصاب بالسرطان، بل يُذكَر أنه يحارب السرطان. لا أحد ممَّن يتمنَّون الشفاء لغيرهم يُغفل استخدام هذا التشبيه القتالي، فيقول للمصاب: تستطيع أن تقهره.»24 ولاحَظ ببصيرة نافذة انتشار هذه اللغة في نعايا المتوفَّين بسبب السرطان تحديدًا دون نعايا المتوفَّين بسبب أمراض القلب. أي إننا لا نحارب أي سبب للموت أيًّا كان وحسب، بل نحارب السرطان تحديدًا كما لو كانت فرصة محاربته سانحةً على الدوام. وفي حقيقة الأمر، يتحدَّث هيتشنز عن تجرِبة العلاج الكيميائي قائلًا: «آخر صورة قد تتخيَّلها هي صورة الجندي أو الثائر الهُمام. إذ ستغمرك السلبية والعجز، وتشعر كأنك تذوب في عجزك كما يذوب مكعَّب السكر في الماء.»25

ومع أنه لم يربط بين الصورتَين؛ فقد يتبادر إلى الذهن مشهد تفتُّت الساحرة الشريرة عندما ألقت عليها دوروثي دلو الماء في فيلم «ذا ويزارد أوف أوز». ربما كان الشيء الأجدر بأن يُشبِّهه هيتشنز بمكعب السكر هو الورم وهو يتبدَّد بفعل العلاج الكيميائي والإشعاعي، حيث يأخذ في التفكُّك كما لو كان سيتبخَّر في الهواء. وصحيحٌ أنَّ تبديل التشبيه هكذا مناسب. لكن أي تشبيه سيجرُّ معه مشكلة؛ لأنَّ الورم هو الجسم. لم يشعر هيتشنز بأن الورم يذوب بقدر ما كان يشعر بأن كِيانه بالكامل يتداعى، ويضعف، ويتفكَّك إلى أجزاء صغيرة.

وفي قصة ساخرة مختلقَة عن شخصية خيالية باسم «راس كونكل» في صحيفة «ذي أونيون»، تُقدِّم لنا الصحيفة دليلًا على الحد البعيد الذي بلغه الأمريكيون في استخدام تشبيه المعركة. ففي نعي تهكُّمي لكونكل، ذُكر أنه «مات بعد معركة قصيرة جبانة مع سرطان المعدة.»26 وتستذكر زوجة كونكل الخيالية أنَّ معظم من يواجهون السرطان يستجمعون شجاعتهم، لكنَّ راس استسلم له، وطفق يبكي بلا انقطاع، وطلب منها أن تُكرِم ذكراه بألَّا تمضي بحياتها قُدمًا بعد موته. ويتحدَّث الأصدقاء الخياليون لضحية السرطان الجبان هذا عن توقُّعاته المتشائمة، ويصرخون ويبكون ويلعنون مِيتته الظالمة، مُلبِّين بذلك آخر طلباته بشأن ما يريد منهم أن يفعلوه في جنازته. لا يسع المرء عند قراءة هذا النعي إلا أن يشعر بعدم الارتياح؛ لأن رد فعل الرجل لمعرفته بقرب وفاته بسبب السرطان بدا مخالفًا تمامًا لِمَا يتوقَّعه بعضنا من بعض، وفي الوقت نفسه بدا معقولًا تمامًا في ظل الظروف المحيطة. فإذا شُخص السرطان لدى شخص ما، ألَا يكون اليأس والخوف والسخط رد فعل مناسبًا ومعقولًا؟ كونكل هو مكعَّب الثلج الذائب في الماء الذي كشف هيتشنز عنه معتبرًا أنه يمثل السيناريو الحقيقي لحياته. (ومع ذلك، فكتابة هيتشنز ليست فعلًا قد يصدُر من شخص ذاب.) لكن مريض السرطان السلبي الضعيف الناقم على مصيره المحتوم أقل جاذبيةً بكثير لأنْ يراه الناس (أو يزوروه) من الشخص الشجاع المتفائل بالتحسُّن الذي يساعد مَن حوله في التعامل مع الموقف بشجاعة ودفء.
وفي نعي حقيقي، وليس تهكُّميًّا، كتبته المتوفاة بنفسها قبل أن يوافيها الأجل، كتبت إيميلي فيليبس: «يؤلمني الاعتراف بذلك، لكن يبدو أني قد مِتُّ، قال لي الجميع إن هذا سيحدث يومًا ما، لكني نفرتُ من الاستماع لهذا الكلام، وكنت أشد نفورًا من أن أتعرَّض له بالفعل.»27 كانت فيليبس مصابةً بسرطان البنكرياس، وأغلب الظن أنها علمت باحتماليات نجاتها، ولم تتفاءل بها. صحيح أنَّ معرفة الأخبار السيئة قد لا تؤدِّي إلى اليأس التام، لكن ذلك لا يعني أنها قد تؤدِّي إلى تقبُّلها، وفيليبس تُقر بأنها تفاجأت بالأمر ورفضت تقبُّله أيضًا. كتبت نعيها بنفسها في دار رعاية المحتضرين، وماتت بعد تشخيص إصابتها بتسعة وعشرين يومًا فقط؛ أي لم يكن لديها متسع من الوقت للتقبُّل أو إعداد العُدة لخوض معركتها مع سرطانها المميت. فعندما استوعبت الخبر، ربما لم يكن الوقت المتاح لديها كافيًا إلا لمناوشة أو اشتباك عابر فقط. وفي كتابتها، بعد اجترار ذكريات حياتها التي كان بعضها مؤثِّرًا، تُلخِّص حياتها بعبارة: «وُلدت، ثم طرفت عيني، وإذا كل شيءٍ قد انتهى.»28 لا تتحدَّث عن أي معركة. وفي إشارة إلى المقولة التي غالبًا ما تُنسب إلى الدكتور سوس أو جابرييل جارسيا ماركيز، تطلب من حاضري جنازتها ألَّا يبكوا لأنها رحلت، بل يبتسموا لأنها وُجِدت على قيد الحياة أصلًا. يا للرقة! رقة بالغة. إذن فهي تخفِّف من وطأة هذا التأثُّر العاطفي بِحثِّهم على البكاء قليلًا؛ لأنها في نهاية المطاف قد ماتت.
يمكن تخيُّل صعوبة الكتابة عن المرض من منظور اعتباره معركة خاسرة. فالناس لا يُحبون الخسارة ولا يختارونها ولا يتوقَّعونها بوجه عام. حتى فيليبس، التي كابدت تقبُّل حتمية موتها الوشيك، افتتحت نعيها لنفسها بالتعبير عن عدم تصديقها أن ما حدث قد حدث. ولأننا لا نستطيع تصوُّر الموت — أو كما قالت الشاعرة إيميلي ديكينسون، لا نستطيع إقناع أنفسنا بالوقوف لنستقل عربة الموت —29 يصعب علينا إدراك إمكانية خسارة معركتنا معه. ومع ذلك، فعلى الرغم من عجزنا عن استيعاب حقيقة الموت أو الوقوف لنستقل عربته، يأتي الموت إلى مقربة منَّا ويُقِلُّنا بنفسه في عربته. علاوةً على ذلك، تشير القصة الساخرة التي نُشرت في «ذي أونيون» إلى إحدى مشكلات تشبيه السرطان بالمعركة، وهي الإيحاء بأن عجز راس عن القتال ببسالة، بل واستعداده لقَبول الموت، أسهما في ميتته السريعة. أي إنه إذا انهزم أحد في معركته مع السرطان يوصم بالفشل.
وكذلك تتطرَّق سوزان جوبار — التي قرأتُ نقدها الأدبي النسوي الرائد لأول مرة وأنا طالبة في مرحلة الدراسات العليا منذ خمسة وعشرين عامًا — إلى فكرة المعركة والمأزق الذي تُسبِّبه عند الحديث من منظورها عن العجز عن القتال أو رفضه؛ إذ كتبت: «يرفض مرضى السرطان الذين ينذرون أنفسهم لنضالٍ ملحميٍّ مع مرضهم أيَّ «استسلام» للمرض؛ إذ يعتبرون الاستسلام «تآمرًا» معه.»30 أي إنَّ من يموت ليس خاسرًا فحسب، بل متآمرًا أيضًا مع العدو كان بإحجامه عن القتال بضراوة كافية كمن قاتل في صف السرطان؛ أي إن عدم القتال يكافئ القتال ضد الذات، مع أن الورم نفسه هو الذات. وتقترح جوبار بديلًا لذلك، قائلة: «إنَّ أي قدر من القتال لن يعيد إليك حياتك، وإن العيش على أمل أن السرطان لن يعود أبدًا كذبة؛ لذا من الضروري العثور على طريقة للتخلُّص من الفكرة القائلة بأنَّ المرء إذا لم يخض معركته مع السرطان متسلِّحًا بالأمل، يكون بذلك كالواقف في صفه.»31 الشيطان يكمن في التفاصيل، ولا يوجد اتفاق معه.
ألَا توجد طريقة لتجنُّب تشبيه السرطان بالمعركة إذن؟ كتب هيتشنز قائلًا: «لا أقاتل السرطان، بل السرطان هو الذي يقاتلني.»32 إذن، فحتى إذا لم يقاتل المريض، تستمر المعركة. السرطان هو المعتدي، الغازي، العدو. فأن يخدش المرء عدوه بسكين زُبدٍ يلوِّح به بعنف مهتاجًا حتى وهو يرتعد من الخوف، خيرٌ له من ألَّا يرفع سلاحًا محاولًا قتله. التظاهر بالموت لا يفلح في إبعاد هذا المفترس، حتى إذا شعرت بقرب أجلك أثناء إحدى جولات العلاج الكيميائي. وكما يقول شعار اليانصيب، لا يمكنك الفوز إذا لم تلعب. أمَّا ما لا يُعلَن في اليانصيب مع أننا جميعًا نعرفه على أي حال هو أن بعض الناس يفوزون، لكن اللعب لا يضمن الفوز.
تَنسب إيف إنسلر، أول مَن كتبت حلقات مسرحيةً «ذا فاجاينا مونولوجز» التي لاقت رواجًا كبيرًا وعُرضت في عدة مسارح بعد ذلك، الفضل إلى صديقتها المُعالجة، التي ساعدتها بعد العلاج، في طريقة تبديد مخاوفها من سُم العلاج الكيميائي، وفي «إعادة صياغة تجرِبة العلاج الكيميائي كلها» بحيث تكون «مهمتك أن ترحِّبي بالعلاج الكيميائي معتبرةً إياه مقاتلًا مُتفهِّمًا جاء لإنقاذ براءتك بقتل المعتدي الذي تسلَّل إلى داخلك. لديك عدة أجسام، وستولد أجسام جديدة في خِضم هذه الفترة الفارقة التي يعمها الحب والرعاية.»33 وهذه النقلة تبدو أقرب ما يمكن إلى التحوُّل من تشبيه المعركة إلى تشبيه الشفاء، ربما باعتبارها رحلةً إلى ذات جديدة تنشأ بمرور الوقت، بدون التخلي عن الفكرة الأساسية الممثَّلة في وجود مواجهة بين الذات والعدو الذي ألحق بها الأذى.

الرحلة تعني السفر، كما تعني — مجازيًّا — التحوُّل من حالة إلى أخرى، وهو ما ينطبق على السرطان بكل تأكيد. إذا كانت الحياة رحلةً كما نسمع كثيرًا، فهل يكون السرطان حقيبةً ملأى بالصخور — مجازًا عن الأورام — مُعلَّقةً على ظهر المريض، يحاول التخلُّص ممَّا فيها من صخور واحدةً تلو الأخرى لتخفيف الحِمل عنه، أو تفتيتها واحدةً تلو الأخرى في الرمال التي تذروها الرياح؟ وإذا ثَقُل الحِمل، وزاد عدد الصخور بعملية تُشبه انتشار السرطان ونشوء أورام ثانوية منه، فهل يتوقَّف المريض لالتقاط أنفاسه ويبذل جهدًا في تقوية ساقَيه لمواصلة المشي خطوةً بعد خطوة؟

تَوقُّع تطوُّر المرض هو وصف للمسار المحتمل أن يسلكه المرض. وكلمة course؛ أي «المسار»، تُذكِّرنا بفعل لاتيني يعني الجري، يُقال إن المرض يجري في مساره. والجسم أيضًا يمضي قدمًا مع مرور الوقت. وكلمة journey؛ أي «رحلة»، معناها في اللاتينية «يوميًّا»، وهذا يدفع مريضة السرطان للتفكير في مرضها على هذا النحو: ما يحمله هذا اليوم معه، وما عليها أن تفكِّر فيه وتحمله يومًا بعد يوم مثل الحصى المستخدمة في العد.

(٤) الألوان الحقيقية

الفعل «يبقى» يعني «مواصلة العيش بعد شخص أو بعد شيء»؛ أي مواصلة العيش عمرًا أطول من الآخرين، أو مواصلة العيش بتجاوز السرطان — والبقاء قد يكون سباقًا بطيئًا. فمثل ماراثون الرقص الذي كان يُنظَّم في الثلاثينيات، حيث كان كل رفيقَين يرقصان حتى يغلبهما النوم، تكون الجائزة من نصيب آخر رفيقَين يصمدان ويواصلان الرقص بعد نوم البقية. وفي مسابقات إبقاء راحة اليد على السيارات، فالشخص الذي لا يستسلم ولا يرفع يده عن المعدِن من تحت يده يفوز بالجائزة. الجندي يبقى حيًّا بعد معركة. والبقاء مقياس الجَلَد تحت وطأة الإكراه الجسدي.

كثيرًا ما يُفترض، في تكرار ممسوخ قائم على نظرية التطوُّر التي وضعها تشارلز داروين، أن البقاء دليل على الصلاحية يُدرَك متأخِّرًا. وأتذكَّر هنا نكتةً عن شخصَين يتمشَّيان في الغابة في يوم سبت مُنعِش، ويتناقشان حول احتمالية مصادفتهما دبًّا. إذ يقول أحدهما للآخر: «ماذا نفعل إذا هجم علينا دب؟ لا يستطيع أيٌّ منا أن يسبق دبًّا.» فيرد الآخر: «لن يصيبني مكروه. فكل ما عليَّ هو أن أسبقك.» القوة نسبية، لكن أي شخص قد يتعرَّض لالتواء في الكاحل أثناء هروبه من دب.

بالطبع، تقضي الحكمة الشائعة بعدم الفرار من دب أسود، بل بمواجهته بدلًا من ذلك، والتلويح بالذراعَين وإصدار ضجيج صاخب. لا تبدُ كفريسة. لا تهرُب ممَّا لا يمكنك أن تسبقه. ومع ذلك، قد تترك الدبة الرمادية الأم أي شخص وشأنه إذا تظاهر بالموت ولم يمثِّل خطرًا على دياسمها.34 الصلاحية لا تتعلَّق بالخير الكامن في الشخص أو قوته أو تنافسيته بقدر ما تتعلَّق بالقدرة على التكيُّف مع المواقف المختلفة. وبقاء الأصلح لا علاقة له بأشخاص منفردين، لكنه وثيق الصلة بالتنوُّع الجيني فيما بيننا. البقاء، شأنه شأن السرطان، يمكن فهمه باعتباره رهينًا للاحتمالات.

ليبقى المرء على قيد الحياة؛ فالمهم أن يمضي في حياته رغم المخاطر أو الأخطار أو المِحن، وليس أن يتحلَّى بالقوة. ومع أنَّه يُمكن القول إنَّ الشخص قد نجا من هجوم دب، لا يُقال إنه قد نجا من تمشيةٍ ممتعةٍ في الغابة وبقيَ حيًّا بعدها. إذ لا يمكن أن تُعَد النجاة نجاةً إلا إذا كان هناك مِحك يقاس به مواصلته العيش. النضال يكشف ألواننا الحقيقية، وهي فكرة يُعتقد أن من طرحها هو أبقراط، المناصر الإغريقي القديم للطب الإكلينيكي، الذي اعتقد أن كل شخص له أربعة أخلاط. يمكن للمرء تحمُّل الفظاعات والنجاة منها. وأحيانًا، يُمكن أن يكون السرطان مقياسًا لقدرة الشخص على البقاء حيًّا.

بأكثر المعاني سموًّا، فالضحية — وهو عَكس الناجي من الفظاعات في هذه الحالة — يُعتبر تضحية، أو قربانًا. الضحية يتعرَّض للضرر أو القتل على يد شخص آخر أو شيء آخر، ليس برغبته ولا لمصلحته. الضحية يُجرَّد من قوته ويُغَش ويُخدع. فمن الذي سينجو من السرطان؟ ومن الذي سيكون ضحيةً للسرطان؟

من التقليد التاريخي المتمثِّل في ربط شرائط صفراء حول أشجار البلوط القديمة، لترمز إلى الإخلاصِ للأحبَّاء الذين سُجنوا أو شاركوا في المعارك والأملِ في عودتهم، جاء استخدام الشريط الملوَّن في التعبير عن المثابرة والأمل وتخليد ذكرى الناجين والضحايا على حد سواء. يستوحي فيلم «ذات الشريط الأصفر»، الذي صدر عام ١٩٤٩ وأدَّى دور البطولة فيه جون واين أيام صحته وإفراطه في التدخين، اسمه من أغنية صدرت عام ١٩١٧ بالاسم ذاته، ترتدي فيها المرأة ذات الشريط المُزيِّن تكريمًا لجندي فرَّقت بينها وبينه المسافات، وتُمنِّي النفس بأن ينجو ويعود إليها سالمًا. وعندما عاد الرهائن من إيران عام ١٩٧٩، استُقبلوا في وطنهم بشرائط صفراء رُبطت حول أشجار حتى قبل أن يُطلق سراحهم، بعد أكثر من أربعمائة يومٍ في الأسر. وقد وصف الرئيس جيمي كارتر الرهائن آنذاك بأنهم: ««ضحايا» الإرهاب والأناركية»،35 لكنهم نجوا من محنتهم. وبحلول عام ١٩٩٠، اتخذت جهود التوعية بمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) من الشريط الأصفر رمزًا لمن يحاربون المرض الذي كان جديدًا إلى حد ما، وكان يَصِم المصابين به، ويقتل الكثير منهم. وقد أصبح الشريط الأصفر الآن رمزًا لمنع الانتحار ولمرض الانتباذ الرحمي البطاني أيضًا.

في حقيقة الأمر، أصبح لكل سرطان شريط. الأزرق الغامق؟ سرطان القولون. البرتقالي؟ سرطان الكُلى. الأخضر؟ سرطان الكبد. القرمزي؟ سرطان البنكرياس. الأسود؟ الميلانوما، وهو سرطان الجلد الذي كانت الشخصية التي ظهرت في مسلسل «ذا بيج سي» مصابةً به. خطوط بيضاء وسوداء؟ الأورام السرطاوية. ولكل نوعٍ من الأنواع الأساسية للسرطان شهرٌ للتوعية به. سبتمبر: سرطان الأطفال، وسرطان الجهاز التناسلي الأُنثوي، واللوكيميا، وسرطان الغدد الليمفاوية، وسرطان المبيض، وسرطان الغدة الدرقية، وسرطان البروستاتا. نوفمبر: سرطان البنكرياس، وسرطان الرئة، وسرطان المعدة، والأورام السرطاوية، فضلًا عن أنَّه شهر مقدمي الرعاية. وإذا كان يوجد سرطان أقل انتشارًا بحاجة إلى المزيد من التوعية بشأنه؛ فشهر أغسطس في الانتظار.

وقد فاقت جهود التوعية بسرطان الثدي كل الجهود التوعوية بالسرطانات الأخرى نجاحًا في الترويج لشريطه ولونه وشهره. أكتوبر وردي. أكتوبر شهر التوعية بسرطان الثدي. ويوم الجمعة الثالث من الشهر هو اليوم الوطني للتصوير الشعاعي للثدي، بل إن بعض مراكز التصوير الشعاعي للثدي تخفض أسعار خدمات الفحص طوال الشهر، وهذا جزء مهم من حملة التوعية.

كانت الدورة الأولى من «السباق إلى العلاج» — وهو فعالية توعوية وهادفة إلى جمع التبرُّعات بدأتها مؤسَّسة سوزان جي كومِن — قد انعقدت في دالاس، في أكتوبر ١٩٨٣. أمَّا الآن، فينعقد أكثر من مائةٍ من هذه الفعاليات طوال العام في أماكن عديدة، وترعاها شركاتٌ وطنيةٌ ومحلية. في العام المالي ٢٠١٥، جمع مشروع «السباق إلى العلاج» وحده ٨٦٫٤ مليونًا، وخُصص ٨١ في المائة من إجمالي إنفاق المؤسَّسة للتعليم والأبحاث والفحوصات والعلاج.36 ولاستعراض مدى نجاح مؤسسة «كومِن»، التي تُعَد مجرَّد منظمة واحدة تدعم جهود التوعية والأبحاث المتعلِّقة بسرطان الثدي؛ فهذا المبلغ يعادل أربعة أمثال ما جمعته منظمة «بانكرياتك كانسر أكشن نتورك» في كل جهود جمع التبرُّعات التي بذلتها،37 ويعادل ١٧٠ مِثلًا لِمَا جمعته مؤسَّسة «ناشيونال بانكرياتك كانسر فاونديشن» عام ٢٠١٥.38
غير أنَّ حصول جهود التوعية والأبحاث والفحوص والعلاج المتعلِّقة بسرطان الثدي على تبرُّعات أكثر من تلك الجهود المتعلِّقة بسرطان البنكرياس لم يأتِ من فراغ؛ فمعدل انتشار سرطان الثدي أعلى من معدَّلات انتشار أنواع السرطان الأخرى. ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى تزايد أعداد المصابات بسرطان الثدي، وكذلك أعداد المتوفَّيَات بسببه في الولايات المتحدة أكبر من أعداد المتوفَّيَات بسبب كل السرطانات الأخرى، باستثناء سرطان الرئة.39 لذا من المرجَّح أن تعود التطوُّرات في فحوص سرطان الثدي وعلاجه بالفائدة على عدد أكبر من الناس. وعلى الجانب الآخر؛ فالسرطانات ذات معدَّلات الوفَيَات الأعلى — مثل سرطان البنكرياس — قد تتطلَّب اهتمامًا وتمويلًا أكبر؛ لمواجهة المواقف الأصعب أو العمل على تقليل معدَّلات الوفَيَات عبر جميع أنواع السرطان. والتطوُّرات في فحوص الكشف عن السرطانات الأكثر فتكًا قد تُنقذ حياة الكثيرين. والحقيقة أن التطوُّرات في فحوص سرطان الثدي — بما فيها التصوير الشعاعي الثلاثي الأبعاد — والتغيُّرات في العلاج، تُشكِّل جزءًا من كيفية انخفاض معدَّلات الوفَيَات عند الكشف المبكِّر عن السرطانات والتمكُّن من استئصالها جراحيًّا قبل انتشارها. وفي الوقت الراهن، لا وجود لتقنيات فحص كهذه للكشف عن سرطان البنكرياس أو الكبد عندما يكون الورم صغير الحجم.
من الطُّرق الأخرى للتفكير في الطريقة المثلى لتوزيع التمويل وفق الحاجة، النظر إلى التفاوتات بين المجموعات الديموغرافية بدلًا من التركيز على نوع السرطان وحده. فالأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية، على سبيل المثال، يفوقون البِيض في معدَّل الوفاة بسبب سرطانات الثدي والبروستاتا والمعدة وعنق الرحم والرئة.40 وهذا المجال من البحث تَدخُل فيه أُسس بيولوجية وبِنًى فرعية مجتمعية تؤدِّي إلى التفاوتات في التشخيص وإدارة الألم وتفتُّح المجال لافتراضات خاطئة عن الجسم. فمن المرجَّح أنَّ ثقة الأطباء الزائدة وسلطتهم تجعلان عامِلَي الانحياز الثقافي والاعتماد على المغالطات المنطقية في اتخاذ القرار مهمَّين جدًّا للحاجة إلى استقصاء التفاوتات في معدَّلات الإصابة بالأمراض والوفَيَات بين المجموعات الديموغرافية.
ومع ذلك، فحتى التمويل الفيدرالي الذي يُقدِّمه المعهد الوطني للسرطان لا يوزَّع بالضرورة وفقًا لهذه الأسئلة العامة الشاملة عمَّا يعود بأكبر نفع على أكبر عدد من الناس، ولا ينُم عن الوعي بأهمية التوازن الصعب بين عدد الحيوات وجَودة حياة الفرد الواحد. بل تُقيَّم مقترحات مِنح المعهد الوطني للسرطان وفقًا لاستحقاقها من الناحية العلمية بقرارٍ من علماء، وهو ما يبدو مباشرًا، لكنه أيضًا قصير النظر من دون مراعاة واضحة صريحة لأيٍّ من الأبحاث قد تكون فرصته أفضل من غيره في التطبيق الإكلينيكي وإنقاذ حياة المرضى، البحث الذي قد يحمل أكبر فرصة للتحوُّل من النظرية إلى التطبيق. ومن المعايير الأخرى التي ينبغي مراعاتها التقلُّبات في إجمالي التمويل المتاح من المعهد الوطني للسرطان، وفي إجمالي عدد المقترحات ومدى توفُّر مصادر أخرى لتمويل بحثٍ بعينه، وما إذا كان البحث في بدايته أم في مرحلة لاحقة ولا يزال مستمرًّا. في بعض الأحيان، تُشجَّع البحوث التي تتناول أنواعًا بعينها من الأسئلة، منها كيفية التنبُّؤ بتحوُّل الآفات السابقة للسرطان إلى ورم خبيث في المستقبل، أو كيفية التنبُّؤ بتكرار المرض. وكل المقترحات التي تشمل بيانات عن أهداف البحث وأهميته وأصليته والنُّهُج المتبعة فيه وميزانيته تقيم بناءً على هذه المحتويات.41
ومع أنَّ وكالة معاهد الصحة الوطنية (التي يُعَد المعهد الوطني للسرطان واحدًا منها) تُثبِّط ما يسمَّى بالأبحاث المُقلِّدة، وحتى عندما يأخذ مراجعو الأبحاث في حسبانهم احتمالية توصُّل الأبحاث الدقيقة المُبتكرة إلى نتائج وتطبيقات مفيدة، يبدو أن الأموال تتبع الأموال. ففي العام المالي ٢٠١٣، فاق تمويل أبحاث سرطان الثدي التي أجراها المعهد الوطني للسرطان تمويل كل أنواع السرطانات الأخرى؛ إذ بلغ ٥٥٩٫٢ مليون دولار. وحلَّت أبحاث سرطان الرئة في المرتبة الثانية في قائمة الأبحاث التي نالت نصيبًا من تمويل المعهد الوطني للسرطان؛ إذ بلغ تمويلها ٢٨٥٫٩ مليون دولار، في حين تلقَّت أبحاث سرطان البنكرياس تمويلًا يعادل أقل من خُمس مقدار تمويل سرطان الثدي.42 ومع أنَّ إجمالي التمويل الذي تقدِّمه الجمعية الأمريكية للسرطان أقل بكثير، تُقسَّم مخصَّصاته على نحو مماثل؛ إذ تحصل أبحاث سرطان الثدي على أكبر قدر من التمويل، يتبعها سرطان الرئة، ويُموَّل سرطان البنكرياس بمبلغ يعادل أقل من سُبع تمويل سرطان الثدي.43
وكذلك يُحَث المتقدمون للعمل في معاهد الصحة الوطنية على ألَّا «يخجلوا» من التفاخر بالإنجازات، وأن يحرصوا على أن أهدافهم البحثية «تُطرِب وتتناغم».44 الحاجة إلى الإطراب والتناغُم تعني أن الأسلوب والشخصية مهمَّان في اتخاذ قرارات التمويل. وإذا كان التمويل هو الذي يحدِّد مستوى التقدُّم في التعامل مع المرض؛ فيبدو أن سرطان الثدي في الصدارة بفارق كبير. لا شك أن له أفضل أسلوب وشخصية في حملة العلاقات العامة — أو بالأحرى التوعية العامة — المتعلِّقة به.
هذا وقد ركبت شركات تجارة التجزئة، بجانب الباحثين، موجة احتفالات أكتوبر الوردية التي تجمع التبرُّعات. صحيح أنَّ جمهرة النساء اللاتي تعدَّين الخامسة والثلاثين لا ترتدي فساتين الأميرات، لكنَّ التوعية بسرطان الثدي تُقدِّم أفضل صيحات الموضة النسائية القادمة مع تقدُّم السيدات في العمر؛ من قمصان وردية وحقائب وردية إلى منامات وملابس داخلية وردية. وتصل الكاتبة باربرا إيرنرايش في كتابتها إلى حد وصف مَن عايشن سرطان الثدي أثناء نشأتهن بأنهن «طائفة دينية، أو حتى — نظرًا إلى أن أكثر من مليونَي امرأة ينتمين إليها هن وأسرهن وأصدقاؤهن — دين كامل.»45 وتُشبِّه المنتجات الوردية بالطلاسم، والسباقات بالحج، والسرديات الشخصية بالطقس الكَنَسي الذي يروي المرء فيه شهادات عن تجرِبته مع الأزمة والمعاناة والخَلاص. والحقيقة أنه مهما كان ما تحمله هذه الحملات من خير، لا يخلو الجو الوردي من رائحة نفاق. فعلى الرغم من كل الضجة الهادفة إلى الاحتفال بالناجين وتخليد ذكرى الضحايا، نجد أن «نوردستروم» واحد من متاجر التجزئة الوطنية القليلة التي تواظب على توفير حمَّالات صدر للسيدات اللاتي خضعن لاستئصال الثدي أو الكتل الورمية أثناء علاجهن من سرطان الثدي.46
وفي السياق نفسه، تقدِّم شركة «كيتشن إيد» خلَّاطات كهربائيةً ثابتةً ضمن برنامج «الطهي من أجل العلاج» لاستخدامها في المطابخ. وتفتخر شركة «ديكس سبورتنج جودز» بتقديم قفازات وأحذية رياضية وردية اللون للاعبي الاستقبال في كرة القدم الأمريكية. وكذلك يقدِّم الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية عددًا من الملابس والحلي المخصَّصة للتوعية. وبحلول عام ٢٠١٤، كان كلٌّ من مجلة «ميس ماجازين»، ومنظمة «بريست كانسر أكشن» وحملتها «ثينك بيفور يو بينك» قد أطلقتا على شهر أكتوبر «شهر الصناعات المتعلِّقة بسرطان الثدي».47 ووفقًا للمقالة المذكورة: «٨ في المائة فقط من الأموال التي تُنفَق على منتجات الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية يُخصَّص لأبحاث السرطان، ممَّا يوضِّح أن حملة الكشف المبكِّر «كروشال كاتش» تهدف إلى تملُّق الجماهير وتحسين صورة الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية بين المشاهِدات، أكثر من التركيز على العثور على علاج.»48 وبينما تُعَد هذه النسبة البالغة ٨٪ أفضل من عدمها، تشير شبكة «بريست كانسر أكشن» وجِهَات أخرى إلى ما تمارسه بعض الشركات من نفاق، بوضعِ اللون الوردي على منتجات من المعروف عنها أنها تسبِّب السرطان أو تُنتَج من خلال عمليات تلوُّث البيئة بالمواد المسرطنة. فمع أن معاقرة الكحول قد تكون من عوامل الخطر التي تزيد العرضة للإصابة بسرطان الثدي، تصنع بعض مصانع الخمر نبيذًا وردي اللون، أو تجمع تبرُّعات من أجل القضية. قد يبدو اللون الوردي أقل إثارةً للتفاؤل في السنوات الأخيرة، لكنه يظل استراتيجيةً فعالةً لإذكاء الوعي وجمع التبرُّعات، ومن أسباب ذلك أنه أصبح كذلك وسيلةً لممارسة التجارة العادية.

ثارت في الآونة الأخيرة شكاوى من الاكتفاء بصبغ القضايا الحقيقية باللون الوردي من أجل الترويج لمنتجات أو خدمات استهلاكية معيَّنة، وذلك عندما اعتُمدت عبارة «أنقذوا النهود» شعارًا للتوعية بسرطان الثدي. فبينما قد يُصاب الرجال أيضًا بسرطان الثدي، فإنَّ كلمة النهود؛ أي الأثداء، ترمز إلى النساء فقط. أي إن الشعار يختزل المرأة إلى ثديَيها، ويعتبرهما جزءًا يمثِّل الكل، ويصوِّرهما كشيء تتعلَّق به أعين الرجال ذوي الميول الجنسية السوية وتعبث به أياديهم. الجنس يحقِّق رواجًا أكثر من السرطان؛ لذا يقدِّم سرطان الثدي فرصةً فريدةً لحملات التوعية وللرواج التجاري. إذ لا يضع أحدٌ شعارات من قبيل «فكوا اشتباك الأمعاء» أو «أنقذوا المعدة» على القمصان، مع أن الجهاز الهضمي أهم بكثير لعيش حياة صحية من الثديَين.

وفي عام ٢٠١٥، عَرَض موقع إباحي بالفعل إعلان خدمة عامة مثيرًا جنسيًّا عن شهر التوعية بسرطان الخصيتَين، لكنَّ جملة «أنقذوا الخصيتَين» لم تلقَ رواجًا كشعار لحملة توعية بالسرطان، مع أنَّ تسبُّب السرطان في فُقدان الرجل لخصيتَيه له أثر أكبر بكثير على رغبة الرجل وقدرته الجنسية من تأثير استئصال الثديين على رغبة المرأة وقدرتها الجنسية، ومع أن المنظَّمات الرياضية الوطنية كانت تستطيع بكل سهولة أن تستخدمه كَتَوْرِية؛ فكلمة balls الإنجليزية المستخدمة في الشعار تعني «الكرات» أيضًا. وعند البحث على الإنترنت عن هذا الشعار الجذَّاب، تظهر نتائج لأخبار عن الممثِّلة الإباحية تشارلوت ستوكلي، التي ظهرت في إعلان الخدمة العام، وهي تشجِّع على انتهاج نهج لفحص سرطان الخصيتَين باستخدام الأيدي. ويقود البحث أيضًا إلى موقع إلكتروني به أكثر من سبعمائة مقطع فيديو إباحي لا علاقة له بفحوص السرطان من قريب أو بعيد.

شعار «أنقذوا النهود» أخَّاذ. ومثير جنسيًّا. بل ومسلٍّ. لكن سرطان الثدي أبعد ما يكون عن التسلية بالتأكيد. فماذا إذا كان العلاج هو جراحة استئصال الثدي؟ ماذا عن المرأة التي تفقد ثديَيها لتفوز في معركتها ضد السرطان؟ هل تكون قد أهدرت شيئًا ثمينًا حقًّا؟

عندما ينظر المرء إلى صور مشروع «ذا سكار بروجكت»، فإنَّه بذلك يَشهد سيدات في عدة مراحل من علاجهن من سرطان الثدي وتعافيهن منه، ويُقِرُّ بوجودهن. فهذه المجموعة من صور الوجوه والأجسام التي التقطها المصوِّر ديفيد جاي تُصوِّر فقدان الثدي باعتباره تصرُّفًا إنسانيًّا محمودًا، وليس فشلًا أو نقصًا. فما استؤصل هو الورم. وليذهب غير مأسوف عليه. أمَّا الهدف الأقصى فهو — أو ينبغي أن يكون — إنقاذ حياة المرأة. وعلى الرغم من التطوُّرات الكبيرة، يظل سرطان الثدي في المرتبة الثانية بين السرطانات القاتلة للسيدات في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة.

(٥) الهُويات

المجاز المرسل الجزئي أسلوب كلامي يُستخدَم فيه الجزء للتعبير عن الكل. إذ يُشار (في الإنجليزية) إلى الجنود «بالأحذية» في تعبير boots on the ground الذي يعني حرفيًّا «أحذية على الأرض». والتعبير عن الكل بالجزء مماثل للكيفية التي يُعيد بها السرطان تشكيل هُوية المريض، ويصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها. الجنود جنود لأنهم منتمون إلى الجيوش؛ أي إنهم انضموا إلى مجموعة. إذ جُلبوا إلى المجموعة أو جُندوا فيها وكيَّفوا زيَّهم وطباعهم وسلوكهم لتلائم ما يتوقَّعه بعضهم من بعض. وبينما تتلاشى هُوياتهم الأخرى أو تنطمس، يصبح الشخص جنديًّا، والجندي يصبح شخصًا. وبالمثل يصبح من يُشخَّص لديه ورم خبيث مريضًا بالسرطان.
شُخصت إصابة لوسي جريلي، في طفولتها، بورم ساركوما إيوينج، وهو نوع نادر من سرطان العظام. وعلى إثر ذلك استؤصل جزء من فكها، وخضعت للعلاج الكيميائي وللعديد من الجراحات الترميمية، وترك ذلك كله وجهها مشوَّهًا. فصار بمقدور الناس ملاحظة أن شيئًا قد جرى لها، ولم يستطيعوا مَنْع أنفسهم من ملاحظة الاختلاف بين وجهها ومعظم الوجوه الأخرى — ففي بعض الأحيان، كان وجهها يحمل قضيبًا معدِنيًّا بارزًا منه — ولا بد أن كل ذلك ألقى بظلاله على كل تعاملاتها الشخصية. كان من الممكن أن يقتلها السرطان، لكنه غيَّر شكلها بدلًا من ذلك؛ ومن ثم فقد غير هُويتها ونظرة العالم لها. إذ كتبت عن ذلك قائلة: «لم أكن إلَّا وجهي، لم أكن إلَّا قبيحة، ومع أن وَحدة المعنى (بين وجهها والقبح) كانت تفوق التحمُّل أحيانًا؛ فقد سمحت لي بالهرب … كان كل شيء يؤدِّي إليها، وينحسر متراجعًا عنها، كان وجهي هو النقطة التي أختفي عندها.»49 لم يَعُد إليها السرطان قط، لكن الدليل على زيارته السابقة لها كان ماثلًا أمام أبصار الجميع.
العديد من السرطانات، بالطبع، لا تظهر على السطح. إذ لا يمكننا رؤية رئات الآخرين أو أدمغتهم، لكننا قد نلمح نُدبةً خلَّفتها جراحة تحت قميص شخص ما أو قبعته. ولا يعرف الواحد منا بنكرياسه جيدًا، ولكن إذا استُؤصل جزء منه لتخليص أنفسنا من ورم، فسنرى الندبة التي سيخلِّفها ذلك، وسنشعر بآثار غياب ذلك الجزء، مثل عسر الهضم ونقص الإنسولين. فالتغيُّر الجسماني يُحدِث تحوُّلًا في ذواتنا من جوانب أخرى. إذ كتبت جوبار بعد جراحة سرطان المبيض: «فإذا كان التخفُّف يعني أي شيء؛ فإنه يعني التخلُّص من كل هذه الاهتمامات [التي كانت تُثقل حياة المرء قبل السرطان]، بعد أن طغى على ذهن المرء الهوس الكاسح الشديد بهشاشته الجسمانية.»50 يُغيِّر المرض والعلاج جسم المرء؛ فلا يظل نفس الشخص، ولا نفس الكِيان المادي في هذا العالم، كما كان من قبل. علاوةً على ذلك، يتكوَّن لدى مريضة السرطان وعي جديد بجسمها وهشاشتها الجسمانية. يتضاءل الاهتمام بالعمل والأصدقاء والهوايات عندما يصعب على المرء الحفاظ على صحة جسمه وحيويته.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، طرح هنري تاجفيل وجون تيرنر نظرية الهُوية الاجتماعية، ثم نظرية تصنيف الذات؛ ليفسِّرا كيفية تنظيم الناس لأنفسهم في مجموعات، وكيفية تفاعل هذه المجموعات مع بعضها، وكيف أن إحساس المرء بذاته ينبع من المجموعات الاجتماعية التي يعتبر نفسه جزءًا منها.51 فجوبار، مثلًا، كانت تَعُد نفسها واحدةً من أساتذة الجامعة، وهو ما يفسِّر بعض قيمها وسلوكياتها ومنابع تقديرها لذاتها. لا شك أنها كانت تُقدِّر التدريس وإسهامها في الثقافة والفكر، وتسعد بهما، وكان الآخرون يقدِّرونها أو ينتقدونها استنادًا إلى هذه الأسباب أيضًا. اختارت أن تَعُد نفسها جزءًا من مجتمع أساتذة الجامعة، بقدر ما اختار مجتمعُهم ضمَّها إليه. ولم تختَر جوبار الانضمام إلى جماعة مرضى السرطان، لكنها وجدت نفسها فردًا فيها على أي حال. اعتبرت نفسها من جماعة مرضى السرطان، واعتبرها الآخرون — مرضى وأصحاء — من الجماعة نفسها كذلك.

وهذا الشعور بالانتماء بين مرضى السرطان يجلب معه ارتياحًا وشعورًا بالأُلفة داخل الجماعة، شعورًا «بأنني أيضًا كهؤلاء وأنتمي إليهم» رغم الهشاشة المتصوَّرة عن المريض. فالأشرطة الزرقاء المخضَرة، وحملة التوعية في شهر سبتمبر، والمسيرات الهادفة إلى كسر الصمت وجمع التبرُّعات للأبحاث، واجتماعات الجمعيات الفرعية المحلية، وشعار «بالعمل يولد الأمل»، هي جميعًا مظاهر للألفة والانتماء إلى المجموعة بين مريضات سرطان المبيض.

ولكن الشعور بالانتماء إلى جماعة مرضى السرطان يعني عدم الانتماء إلى جماعة غير المصابين به، مع أن المريض ربما كان منتميًا إلى تلك الجماعة الأخيرة طوال عقود سابقة. علاوةً على ذلك، فقد ينأى غير المصابين بالسرطان بأنفسهم عن المصابين، في سلوك اجتماعي يرفع شعار «لست أنا». وفي كتابها «المرض تشبيهًا»، وصفت سوزان زونتاج المرض، قائلةً: «إنه انتماء يحمل في طيَّاته عبئًا أكبر. كل من يولد يحمل انتماءين: واحدًا لمملكة الأَصِحَّاء، والآخر لمملكة المرضى».52 وتحدَّث كريستوفر هيتشنز أيضًا عن دور السرطان في الهُوية الاجتماعية وتصنيف الذات، وذلك بتشبيه جغرافي؛ إذ قال: «الأرض الجديدة مُرحِّبة جدًّا على طريقتها … البلد له لغة خاصة — لغة مشتركة تستطيع الجمع في آنٍ واحد بين الملل والصعوبة، وتتضمَّن أسماءً مثل أوندانسترون؛ للتعبير عن الدواء المضاد للغثيان — فضلًا عن بعض الإيماءات المقلِقة التي تتطلَّب بعض التعوُّد.»53 في هذه الجماعة الاجتماعية الجديدة التي يسمِّيها هيتشنز «مملكة المرضى»،54 أو «بلدة الأورام»،55 تستلزم الهُوية الجديدة تعلُّم لغة جديدة، وتلقي الكثير من النصائح (بدون طلب في الغالب)، وتعديلًا في السلوكيات، وربما التقيُّؤ خلسةً في بعض الأحيان بين الواجبات الوظيفية.
وتتحدَّث جوبار أيضًا عن التحوُّل السريع من الشخص الذي كانت عليه إلى امرأة متخفِّفة من الأعباء بسبب السرطان وعلاجه؛ إذ تقول: «كيف لها أن تكون هي نفس المرأة المهنية النشطة التي كانت تظن نفسها إياها منذ أيام قليلة ماضية، عندما كانت توازِن ببراعة بين التدريس وإجراء الأبحاث وشراء البقالة والطهو والسفر وتقديم المحاضرات والتوجيه وترؤس اللِّجان الإدارية؟ لقد زايلتها هذه الأدوار كلها وأصبحت من أطلال الماضي.»56 وتحوَّلت هُويتاها باعتبارها أستاذةً جامعيةً وزوجة؛ إذ أصبحت نسخةً مختلفةً من الأستاذة الجامعية، ونسخةً مختلفةً من الزوجة. فأصبحت فجأةً رئيسةً سابقةً لإحدى اللِّجان، وأُمًّا مصابةً بالسرطان. غلف وسم السرطان، الذي غالبًا ما يكون غير مُعلَن صراحة، طريقة تعريفها بنفسها وطريقة تعريف الآخرين بها بِناءً على المجموعات الرسمية وغير الرسمية التي كانت تنتمي إليها — كالجامعة والحي والعائلة — وعلاقاتها ضِمن هذه السياقات الاجتماعية.
في مقدمة أحدث كتبها «القراءة عن السرطان والكتابة عنه»، تشرح جوبار قائلةً: «قد تتسبَّب الجراحة والعلاج الإشعاعي والكيميائي في شعور المرضى بأنهم يتعرَّضون لاجتياح شديد وقصف شديد وتغلغل شديد، إلى حد أنهم يفقدون الإحساس بفاعليتهم، وذاتيتهم، بل ولغتهم.»57 وقد بدأت تكتب عن تجرِبتها لتتمكَّن من «إعادة تكوين ذاتها، التي في الغالب لن تكون نفس الذات التي كانت قبل التشخيص، لكنها ستكون ذاتًا أصليةً أخرى لها صوت. وسواء أكان هذا الصوت الجديد غاضبًا أم حزينًا، متحديًا أم مستسلمًا، شجاعًا أم خائفًا؛ فهو يساعدنا على فَهْم الهُوية التي نتحوَّل إليها.»58 وحتى بدون علاج طبي فعلي، ما من طريقة لتجنُّب تحوُّل المرء إلى مريض بالسرطان بعد التشخيص، كل ما هنالك هو طرق لفهم تحوُّل الذات منفردةً وبين الآخرين.
فسؤال «كيف حالك؟» — على سبيل المثال — يتغيَّر وَقْعه على النفس إلى الأبد، ويميل مريض السرطان إلى متابعة إجاباته عنه طوال الوقت، حتى بعد أن يزايله وقع التشخيص الأول. في كتاب «مكان في المنتصف»، توضِّح كيلي كوريجان — التي كتبت عن تشخيص إصابتها بسرطان الثدي وعلاجها الناجح منه الذي تزامن مع علاج أبيها من السرطان — أن السرطان لا يصبح مجرَّد إلهاء في حياة المرء اليومية أو عنها، لكنه يصبح فكرةً لا تفارق ذهن المريض في أعماله اليومية، ولا عند تأزُّم حالته الصحية. وعلى غرار جوبار، تعتبر كوريجان نفسها باحثةً عن المعلومات من قَبل تشخيص سرطانها بكثير، وتستخدم هذه السمة الشخصية في محاولة فهم التحوُّل الذي تشهده ذاتها، فضلًا عن الجوانب العملية للقرارات التي يتحتَّم عليها اتخاذها بشأن علاجها، والتي على أبيها أيضًا أن يتخذها، والتي تختلف أحيانًا. وذات مساء، عندما لجأت إلى الكمبيوتر للتحقُّق من مزيد من المعلومات عن السرطان على الإنترنت، علَّق زوجها قائلًا: «في الآونة الأخيرة، أصبح السرطان مهيمنًا على كل شيء، طوال الوقت وفي أرجاء المكان». وهي لا تُنكر ذلك، بل تعترف به لنفسها؛ إذ كتبت: «كل ما يريده هو أن أتوقَّف، الجميع يريدون مني أن أتوقَّف، حتى أنا نفسي.»59 لكنها لا تستطيع التوقُّف. لا تريد أن تُفوِّت أي شاردة أو واردة من معلومات مفيدة قد تُغيِّر مسار علاجها أو تُحسِّن احتمال نجاح علاج والدها. ومع أنها لا تصرِّح بذلك مباشرة؛ فهي أيضًا تُناضل لفهم شخصيتها الجديدة، والإمكانات التي يحملها المستقبل لهذه الشخصية والصوت الجديدَين. لقد أصبح السرطان — لديها ولدَى والدها — حجابًا مرشِّحًا تعيش حياتها من خلاله، ولا تستطيع أن تنال كفايتها منها. ومع أن حياتها تشمل الكثير من الجوانب الأخرى، باتت حياتها هي السرطان، والسرطان هو حياتها. وتختتم قائلةً عن زواجها: «نحن معًا، لكن كلانا وحيد.»60 ومهما كانت السمات والهُويات المتداخلة ذات التأثير المتبادل بين كوريجان والمحيطين بها، يتطلَّب التشخيص بالسرطان وعلاجه اللاحق منهم كلهم أن يتكيَّفوا معه أيضًا.
وبينما ترعى ميجان أورورك أمها، التي شُخصت إصابتها بسرطان القولون والمستقيم النقيلي في منتصف الحلقة السادسة من عمرها، تحاول جاهدةً التأقلم مع ما أحدثه المرض والعلاج من تحوُّلات في جسم أمها، بل ومع ما غيَّراه في تعاملاتها وعلاقاتها. إذ تقول أورورك: «عندما كان الغضب والإحباط يتملَّكان منها، كنت أتذكَّرها أيام سعادتها، وأتذكَّر صوتها عندما قالت ذات ليلة: «سأحبك حتى الموت»، وتساءلتُ أي النسختَين تمثِّل شخصيتها الحقيقية. وارتأيت أن الشخصية الأخرى هي الحقيقية. لكن غضبها كان واضحًا لدرجةٍ سهَّلت تصديق أن الحقيقة العارية هي أنها كانت تُحتضَر، وأنها كانت تكرهنا.»61 ربما قد يَظل مريض السرطان حاملًا كلًّا من الصوت الأصلي القديم والصوت الجديد، الذي يُعَد أصليًّا أيضًا. فالاستجابات العاطفية قد تتغيَّر من يوم إلى آخر، ومن دقيقة إلى أخرى؛ لذا تواصل الذات التنقُّل بحثًا عن موطئها الجديد. وكثيرًا ما يتطلَّب السرطان من المريضة وممن حولها من الأهل ومقدِّمي الرعاية والأصدقاء والزملاء أن يؤمنوا بفكرتَين متضاربتَين: الغضب والامتنان، أو الحزن والأمل، أو الحياة والموت.

تدفع الأفكار المتناقضة المرءَ إلى اختيار أيها تكون الحقيقة، الحقيقة الفعلية التي لا يشوبها زيف، كما لو أنه من المستحيل أن يصح احتمالان متناقضان في الوقت نفسه. فهل كانت المصابة بالسرطان على هذا النحو منذ البداية؟ أم إن السرطان حوَّلها إلى شخص آخر؟ يوضِّح السرطان التزعزع الكامن داخل ذواتنا الحقيقية، وكيف أن السياقات والظروف التي نعيش فيها تشكِّل هُوياتنا بقدر ما يُشكِّلها تصوُّرنا عن أصل ذواتنا أو جوهرها. كلا النسختَين — أي الشخص قبل التشخيص وبعده — أصلية وصادقة وحقيقية.

كتبت إس لوتشلان جين أيضًا عن هذا التحوُّل السريع في الأدوار الاجتماعية عندما شُخصت إصابتها بالسرطان. إذ قالت: «لم أكن أعلم أي شيء عن دوري الجديد. كان بإمكاني — ببراعة متفاوتة — أن أتقمَّص دور الباحثة الفضولية، أو الخليلة المحبة، أو المدرِّسة الصارمة، أو الجدة الرءوم، أو الأخت الكبرى التي يُعتمَد عليها، أو الابنة المتأزِّمة ماليًّا، أو الصديقة المحبة للمرح، أو الضيفة المهذَّبة المدعوَّة إلى العشاء، أو طالبة العلم الكفء، أو عضوة الفريق النشطة … أمَّا عن المريضة السقيمة؟ فليس ممَّا في جعبتي.»62 وبينما يرسم الجسم نفسه الدور الجديد، يوضِّح السياق الاجتماعي المتمثِّل في المستشفيات وغرف العلاج بالحَقن للشخص كيف يتقمَّص دور المريض السقيم، ويقدِّمان له الزي الذي سيرتديه، والنص الذي سيجسِّده. يمتد ما يستطيع المرء أداءه من أدوار ليشمل دور المريض السقيم، وكثيرًا ما يتعذَّر على المرء بعد التشخيص أداء الأدوار التي اعتادها طوال سنوات بنفس الطريقة.
لا يحتاج أي شخص إلى السرطان ولا يريده، لكن السرطان هو الذي يحتاج إلى الشخص. إذ كتب هيتشنز: «يحتاج السرطان إلى كائن حي ليبقى، لكنه لا يستطيع أبدًا أن يصبح كائنًا حيًّا بنفسه. كل خبثه — ها أنا ذا أكرِّر — يكمن في أن «أفضل» ما يمكنه هو أن يموت مع مضيفه.»63 ومع أن الشخص لا يتحوَّل إلى السرطان ولا يتحوَّل السرطان إلى شخص بالمعنى الحرفي، فالعيش بورم خبيث يعني أنَّ الشخص مريض بالسرطان ويُنْظر إليه على هذا الأساس. الشخص المصاب بالسرطان ناجٍ وضحية. والمحارِبون والمقاتِلون والمسافرون عبر بلدة الأورام، ومواطنو مملكة المرضى، والموتى الأحياء … كل هؤلاء أعضاء في نفس النادي. أو كما قالت رادنر: «ما إن تصاب بهذا المرض حتى يبقى معك طوال العمر.»64
يبلغ احتمال الإصابة بالسرطان طوال العمر — أي معدَّل الانتشار — واحدًا من كل رجلَين، وواحدة من كل ثلاث نسوة. أمَّا احتمال الموت بسبب السرطان — أي معدَّل الوفَيَات — فهو نصف تلك النسبة تقريبًا. والمعدَّلات الكلية للنجاة من السرطان أفضل بكثير ممَّا كانت عليه منذ عقدَين. هذه أخبار سارة. وعلاوةً على ذلك، فمع أن احتمال الإصابة بالسرطان يزيد مع التقدُّم في العمر؛ لن يُشخَّص أي سرطان لدى معظمنا أبدًا. إذا شُخص السرطان لدى شخصٍ ما، يعتمد الكثير من الأمور على نوع السرطان ومرحلته وصحة الشخص. ومع ذلك، يموت نصف من تُشخَّص إصابتهم بالسرطان نتيجة سبب آخر غير إمبراطور الأمراض كافةً هذا. ففي الواقع، ووفقًا لوكالة مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، تتسبَّب أمراض القلب في وفَيَات أكثر من وفَيَات السرطان في الولايات المتحدة (مع أن السرطان يفوق أمراض القلب في معدَّل الوفَيَات في المملكة المتحدة).65 والملايين من الناس يعيشون بسرطانٍ أو يعيشون بعده؛ أي إنهم يظلون حاملين التشخيص، وحاملين المرض في بعض الأحيان، طوال ما يتبقَّى من حياتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤