الفصل السابع والعشرون

أصر جيمسون على أن يتناول المحقق معه الغداء في مقهى يُدعى «ذا فوري». وبينما كانا يجلسان لتناول طعامهما بعد ربع ساعة من تركهما لمان، ناقشا القضية معًا، واتفقا على أنه يبدو مؤكدًا الآن أن خيوطها ستتجلى في القريب العاجل.

قال جيمسون بعد أن طلب فنجانَي قهوة ومشروبًا كحوليًّا لديفينش: «ولكن ما يحيرني هو دافع ماندر لقتل تلك الفتاة. بالطبع، كان متورطًا معها. ولكن ما الأبعاد الأخرى لهذه الجريمة، ولماذا صعِد بها إلى هذا السطح اللعين المفتوح ليقتلها؟»

نظر إليه ديفينش متأملًا. ثم قال: «لست أفضل حالًا منك يا سيدي. الرجل تُوفي والفتاة كذلك، وكل ما يمكننا أن نأمُله هو إعادة ترتيب نظرية للأحداث التي وقعت في تلك الليلة داخل الشقة وفوقها. أنا متأكد تمامًا أننا صرنا نعرف ما حدث بالأسفل.»

«أتمنى لو أعدت ترتيبها من أجلي.»

ابتسم ديفينش. ثم قال: «حسنًا، لن نعرف مطلقًا بأي من الطريقتين المحتملتين لقيت الفتاة مصرعها، ولكن يمكننا الافتراض دون خوف أنه كانت ثمة طريقتان لا ثالث لهما؛ إما قتل عمد أو قتل بالخطأ.»

«قتل بالخطأ، يا إلهي! كيف توصلت إلى هذا الاستنتاج ذلك؟»

تطلَّع جيمسون إلى رفيقه في لهفة وقدم إليه سيجارًا في حين جاء النادل بطلبهما.

هزَّ ديفينش كتفَيه.

ثم قال: «أكاد أميل الآن إلى الاعتقاد بأن هذه هي النظرية الصحيحة، وأبني هذا الافتراض على ما نعرفه عن ماندر. ولولا وجود شيئين، لدعمتها على الفور.»

«وما هما هذان الشيئان؟»

«حقيقة أن السيدة هوو أوضحت أن الفتاة لم تكن تعرف شيئًا عن …» وسكت لبرهة، ثم أضاف قائلًا: «ولكنك لا تعرف شيئًا عن هذا. الحقيقة أن هناك سيدة، وهي إحدى صديقات الآنسة تيومر، كانت تبتزُّ ماندر. لكن تلك السيدة، التي ربما كان من السهل عليها ادعاء أن تيومر كانت متواطئة في تلك المؤامرة، أنكرت هذا الأمر قطعيًّا. ولكن، ما دمنا لا نملك دليلًا قاطعًا على أنها لم تتورط في عملية الابتزاز، فلا يمكننا القول إن ماندر لم يقتلها من أجل إسكاتها.»

«وهل تظن أنه فعل ذلك؟»

«كلا. أميل إلى الاعتقاد الثاني، كما أخبرتك. أولًا، نحن نعرف أن ماندر كان رجلًا ذكيًّا وماكرًا. إذا كان قد قتل تيومر متعمدًا، فبالتأكيد أنه قام ببعض الترتيبات للفرار بعد ذلك. ونعرف أنه اختلس مبلغًا كبيرًا من المال، وعرفنا من حيلة جواز السفر أنه كان ينوي الفرار في النهاية. غير أن الأموال كانت في حساب خاص، باسم شخص آخر لدى بنك لم يستخدمه بصفة رسمية مطلقًا.»

أومأ جيمسون. وقال: «فهمت.»

«لو كان ينوي قتلها، ما كان ليحتفظ بذلك المال في مكانٍ لا يمكنه الوصول إليه حتى يوم الإثنين على الأقل، وهو الوقت الذي ستكون جريمة القتل قد اكتُشفت بحلوله، وسيكون الوقت قصيرًا للغاية ليتمكن من الهروب.»

«هذا صحيح.»

«وأظن أنه لم يكن ليثق أيضًا في سلاح أخرق كالسكين. فالسكين هو ما أطلق عليه سلاح الاندفاع. فهو يتسبب في فوضى بالغة لدرجة أن من ينوي ارتكاب جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد لن يستخدمه. إنه من نوعية الأسلحة التي قد تستخدم في المشاجرات أو يستلها أحدهم في نوبة غضب. ولكن لا يمكن أن أتخيل ماندر يفعل ذلك. فلو كان قد عقد النية على قتل الفتاة، ما الذي سيكون أسهل من استخدام السم؟ كان بإمكانه أن يختلسه من قسم المنتجات الكيميائية في المتجر، إذا تردَّد في الذَّهاب إلى مكان آخر والتوقيع في سجل المشتريات الخاص بالسموم.»

قال جيمسون وهو ينفث دخان سيجاره: «هذا صحيح، وبالطبع لن تشكَّ الفتاة في إتيانه بمحاولة كهذه. وكان بإمكانه بكل سهولة أن يدسَّه في كأس النبيذ ويقدمه إليها.»

«بالضبط. ثمة نقطة أخرى. لو كان يُفكِّر في ارتكاب جريمة القتل، لعرَف أن أمامه فترة زمنية محدودة، لنقُلْ من الساعة العاشرة مساء يوم الأحد وحتى التاسعة على الأقل من صباح يوم الإثنين، ليهرب. ولكنه لم يقُمْ بأي استعدادات لحزم الأمتعة، ولم يُفلِح التفتيش الدقيق المكثف في إعطائنا أي دليل على حصوله على تذاكر سفر إلى الخارج. لعله كان يأمل في السفر إلى الخارج بالطائرة، ولكن من الصعب أن يستدعيَ ويبلي من أجل هذا الغرض، ولو أنه استأجر طائرة خاصة في الساعات الأولى من الصباح، كان هذا سيلفت الانتباه إلى اتجاه رحلته عند اكتشاف الجريمة. كل هذه الإغفالات أثناء الاستعداد لا يرتكبها رجل يتسم بالمكر والذكاء وبُعد النظر، بغض النظر عن مثالبه.»

علَّق رفيقه قائلًا: «لا أرى سوى مأخذ واحد ضد هذا الافتراض يا ديفينش. لماذا وضع جثتها في واجهة العرض لو أنه لم يكن ينوي الهروب؟»

هزَّ ديفينش كتفَيه. وأردف قائلًا: «أنا فقط أعرض الحُجَج الداحضة لفرضية القتل العمد. فلو أن وفاتها كانت إثر حادث عرَضي وقع بالخطأ، لكان سيظل عليه الهروب. وكان سيعرف أن الوقت ليس كافيًا لتنظيف الرمال الملطخة بالدماء الموجودة على السطح. وكان سيعرف أيضًا أنه حتى لو استطاع أن يطمس كل آثار الجريمة الموجودة على السطح والشقة، فإن حقيقة وجود الفتاة داخل البناية ستظل قائمة وبحاجة إلى تفسير. كما ترى، لقد شهد كيفيم بأنه أخذها في رحلة نهرية في عصر ذلك اليوم، ثم قام بتوصيلها إلى المنزل. وكان السائق سيشهد بأنه اعتاد التردد مع سيده على منزل الآنسة تيومر. بعبارة أخرى، كانت العَلاقة القوية التي جمعت بين ماندر وتيومر ستَفتضِح، وبما أن ماندر كان يعيش في البناية ويمكنه النزول إلى المتجر متى شاء، فإن الشكوك كانت ستحوم حوله.»

«بالتأكيد.»

«أما لو كانت وفاتها نتيجة حادث عرضي، أو حتى ضربة متهورة، مع غياب نية الترصد، لاختلف الأمر. كان لزامًا أن يكون الهروب في هذه الحالة متسرعًا ومرتجلًا، فبحسب معلوماتنا، أو بالأحرى قناعتنا، لم يكن لديه الوقت لترتيب أي شيء. وبعد أن سحب الجثة إلى واجهة العرض بالأسفل، أطلق عليه مان المذعور النار أثناء عودته. ولا نعرف ما الذي كان سيفعله لو لم يتدخل مان. ما نعرفه أن الأحداث أثبتت أنها إما جريمة قتل بالخطأ أو جريمة قتل طائشة في نوبة غضب.»

سأله جيمسون: «ولكن، حتى إن كان الأمر كذلك، فلماذا وضع جثتها في واجهة العرض؟»

سحب ديفينش نفَسًا من سيجاره، ثم وضعه في منفضة السجائر قبل أن يُجيب سؤاله. «ليس لديَّ أيُّ معرفة نظرية بآليات عمل العقل البشري، ولكن لديَّ معرفة عملية تتوافق مع عملي أيضًا. يقول بعض العلماء إن الحب مرض، وفي حالات معينة تظهر أعراض هذا المرض. لا أقول هذا من باب السخرية. هناك بعض الأشخاص يُظهرون ردة فعل حادة للغاية تجاه بعض العقاقير التي يُفترض أن تكون مفيدة طبيًّا إلى حدٍّ يجعل هذه العقاقير خطرًا داهمًا. بعض — أو بالأحرى أغلب — الأشخاص يقعون في الحب عادة، وتتحسن أحوالهم جراء ذلك. ولكن البعض الآخر، كما يمكنك أن تلاحظ في الصحف كل يوم، يقعون في الحب وتصيبهم غَيرة جنونية، ويتحولون في النهاية إلى قتَلة بسبب غَيرتهم هذه. ولكي أشرح لك ما أقصده في هذه الحالة، يجب أن أذكِّرك بأن ماندر كان مغرمًا حد الجنون بالآنسة تيومر؛ لقد منحها هذه الوظيفة ذات الأجر المجزي لأنه كان مفتونًا بها، وأخيرًا اقترح الهرب معها. وبما أنك تعرف الآن أنه منذ افتتاح هذا المتجر، كانت النساء يلاحقن ماندر وملايينه المفترضة؛ فتيات ينحدرن من عائلات محترمة، ينتمي أفرادها إلى أوساط فقيرة ولكنها أرستقراطية. بعبارة أخرى، كان بإمكانه أن يفوز بزيجة جيدة. وبدلًا من ذلك، اختار فتاة لا تملك شيئًا يزكيها سوى جمالها.»

قال جيمسون: «أعترف أنه كان مغرمًا بها حتمًا حد الجنون.»

أومأ ديفينش. «ها نحن نصل إلى الجانب الآخر من الستار. أعرف أن الفتاة في البداية كانت نوعًا ما فتاة انتهازية تبحث عن الثراء. خدعت ماندر، لكي تحظى منه ببعض الترف، ولكنها كانت تشعر بعاطفة تجاه كيفيم الذي كان يتودَّد إليها لفترة طويلة. ووفقًا لمعلوماتي، بدأت تيومر مؤخرًا تقع في حب كيفيم. وأظن أن لا شك في ذلك. لديَّ شعور بأنها لم تكن عشيقة لماندر أبدًا، ولكنها مجرد واحدة من الفتيات، الكثيرات في الوقت الحاضر، اللاتي يستنزفن الرجل مستغلات افتتانه بهن بكل ما أوتين من إغراءات؛ ليحصلن على الحلي والمجوهرات وما إلى ذلك، ويخرجن لتناول العشاء والذهاب إلى المسرح، وما إلى ذلك. غير أن تيومر سئمت اللعبة. وربما ازداد إلحاح ماندر؛ وربما أدركت من حقيقة أنها بدأت تحب كيفيم، الذي كان مخلصًا لها طَوال هذه الفترة، أنها كانت تلعب دَورًا ذميمًا.»

قال جيمسون: «أظن أنها كانت ستشعر بذلك إذا كانت قد وقعت في شَرَك الحب.»

«على أي حال، أعرف أنها بعد فترة من المماطلة والتردد، قبلت كيفيم بصفة رسمية. ولكنها أسرَّت لصديقة ما بأنها لا تودُّ إعلان خطبتها آنذاك، خشية التأثير المحتمل لذلك على مستقبل كيفيم؛ إذ كان من شأن ذلك أن يَحمِل ماندر على اضطهاد كيفيم.»

«وهو من نوعية الرجال الذين يستغلون هذا.»

«قطعًا. حسنًا، لإنهاء هذا الموقف، أخبرت الآنسة تيومر صديقتها في النهاية أنها قررت أن تفعل الصواب. عزمت على إخبار ماندر بخطبتها. فإذا فصل كيفيم من العمل، فإنها ستقف بجانبه. فقد خُيل إليها أن المتاجر الأخرى سترحب بالحصول على خدمات حبيبها. كانت بصدد خوض المخاطرة على أي حال.»

«مساء الأحد ذاك؟»

«في مساء الأحد ذاك. حسنًا، ودعت كيفيم حين وصَّلها إلى منزلها، ثم انطلقت إلى شقة ماندر في وقت لاحق. واستقبلها ماندر الذي لم يكن في أفضل حالاته حسبما أظن بسبب لقائه مع والدتك. فلا بد أن ذلك اللقاء أوضح له مدى خطورة موقفه. دخلت الشقة، وخلعت قبعتها ومعطفها، وهنا لا بد أن نفترض أنها دخلت في صُلب الموضوع مباشرةً. واعترافها لماندر بأنها لا تحبه ولن تهرب معه؛ وإنما تحب مدير متجره، كيفيم، وخُطبت إليه، يفترض أنه من باب التنظير والافتراض لا أكثر. ولكن أظن أن بإمكاني أن أفترض أن هذا التصريح الصاعق أدخل ماندر في نوبة من الجنون.»

«وهل يمكنك افتراض ذلك؟»

«أجل، يمكنني. وسواء أقتلها أم لم يقتلها، فهناك حقيقة أنه حتمًا استخدم معها قدرًا من العنف. فثمة علامات على أعلى ذراعيها تثبت أن أحدهم أمسك بها. وهذا الرأي متفق عليه من قِبل كلٍّ من الطبيب الشرعي الذي فحصها، والطبيب الذي قام بتشريح الجثة.»

«فهمت. تابع حديثك.»

زمَّ ديفينش شفتَيه. وأردف قائلًا: «الآن، نستطيع أن نفترض أنهما كانا في غرفة الاستقبال في ذلك الوقت، إذ كان ذلك هو المكان الذي عُثر فيه على السكين الشبيه بالخنجر. لو أن نوبة الجنون التي أصيب بها ماندر بدأت هناك، يمكننا القول إنها حاولت الهروب منه، وفي النهاية هُرعت إلى السطح، وطُعنت من الخلف بالأعلى، أثناء محاولتها تفاديه. وموضع الجرح يوحي بوجود مقاومة أثناء الهروب منه …»

«لكن أليس من المفترض أن تكون بصمات أصابعه على مقبض السكين؟»

«ما لم يكن قد بذل كل جهده لتنظيفه تمامًا. غير أنني أظن أنه لم يكن لديه الوقت لذلك، وأميل إلى الاعتقاد في نظرية الحادث العرضي. تلك رؤيتي لما حدث: دخلت تيومر معه إلى غرفة الاستقبال، في حالة من التوتر العصبي. كان لديها اعتراف بغيض تودُّ أن تخبره به، وكان بإمكانها أن تدرك طريقة استقباله للأمر. ودون تفكير خلعت مِعطفها وقبعتها، ورغبة منها في إنهاء كل شيء بدأت تُخبره بالوضع الراهن. وبدأت تخلع قفازها، وفي هذه الأثناء كانت تتحدث، أو تحاول الرد على اتهاماته الغاضبة. خلعت قفاز اليد اليسرى أولًا، كما يفعل الجميع، ثم حسبما أتخيل، فقدَ ماندر صوابَه وإما أنه حاول أن يأخذها بين ذراعيه أو حاول الهجوم عليها. انتفضت وتفادته. فلا بد أن غضبه وإحباطه كانا واضحَين تمامًا. لا يمكن لأحد أن يصدق أنها اقترحت الصعود إلى السطح في ليلة من ليالي نوفمبر، ولا هو أيضًا. لذا لا بد أن وجودها بالأعلى كان نتيجة خوف أو إكراه.»

«يبدو الخوف هو التفسير الأرجح.»

«وأنا أوافقك الرأي. حسنًا، كل شيء يشير إلى حقيقة أن ماندر قد انتابه غضب جنوني. كانت بمفردها معه بالأعلى، والمتجر بالأسفل كان مغلقًا؛ كانت تعرف، أو ربما كانت تعرف، أن مسكن الخدم معزول عن الجزء السكني من الشقة بجدران متينة وباب عازل للصوت. ليس من المحتمل أن تصمد فتاة في صراع مع رجلٍ معافًى قويِّ البنيان، وبالطبع ستمسك بشيء لتدافع به عن نفسها. أعتقد أنه في خضم محاولاتها للتملص من ماندر، رأت السكين والتقطته. من المفترض أنها قد أمسكت به بيدها اليمنى، التي كانت لا تزال ترتدي بها القفاز، ولكن ما إن أمسكت به، حتى ترددت في استخدامه كأي شخص طبيعي، والنساء لا يُحببن التعامل مع السكاكين. ستلاحظ ذلك إذا اطلعت على إحصاءات الجرائم النسائية.»

«هل كانت تريد تهديده به فقط؟»

«أجل. ولكنه رجل غيور حد الجنون. وقد سيطر عليه جنونه سيطرة تامة. فتجاهل تهديدها ومضى في طريقه. رأت أنها لا بد أن تطعنه أو تبذل محاولة أخرى للإفلات منه. وفي ظل هذا المأزق البائس، لا بد أنها فكرت في السلم المؤدي إلى السطح. واستطاعت أن تخرج من الغرفة ومنها إلى هذا السلم. يخيل إليَّ أن ماندر قد لحق بها على السلم وأمسكها من الخلف من ذراعَيها. وهنا لدينا دليل طبي آخر، ولكن هذه المرة بخصوص ماندر. فعند العثور عليه، وُجد أنه يعاني من كدمات جانبية على قصبتَي الساقين من الأمام. وبدا لي أنه ركض على السلم وراءها وتعثرت قدماه أثناء محاولة الإمساك بها، مما تسبب في اصطدام قصبتَي الساقين بإحدى درجات السُّلَّم، فأفلتت منه بصفةٍ مؤقتة.»

«ومِن ثَم هربَت وصعدَت إلى السطح، أليس كذلك؟»

«بالتأكيد. تحررت من قبضته وهُرعت إلى السطح المظلم. وتعافى هو من سقوطه وركض خلفها. ولحق بها عند الموضع الذي وضعت فيه كومة الرمال، لتسهيل هبوط الطائرة الجايروكوبتر. وهناك ربما صارت محاصرة، ويداها خلف ظهرها، ممسكةً بإحداهما السكين، أو لعله انقض عليها ودفعها إلى الخلف بقوة؛ فلم يكن سيستطيع تقدير المسافات في الظلام. ولكن سواء أكان بسبب المقاومة، أم أنها سقطت إلى الوراء فوق كومة الرمل غير الواضحة المعالم، فقد سقطت الآنسة تيومر على السكين، وتوفيت نتيجةً لجرح في العمود الفقري. هذه هي فرضيتي عن الواقعة، وأظن أن هذا ما حدث بالفعل.»

قال جيمسون في إعجاب: «يبدو أنك اقتربت كثيرًا من الحقيقة، ولكن هل نظرية عدم التعمُّد تتفق مع عرضه لجثتها في واجهة العرض أمام العيان، وفي زيٍّ تنكري أيضًا؟»

أومأ ديفينش. «في حالته غير الطبيعية هذه، أظن أنها تتفق. لقد أغدق الرجل بعواطفه وأمواله على امرأة كانت تخونه، وها هي الآن تعلن أنها ستتزوج مدير متجره. لم يكن بإمكانه أن يتركها في شقته، ودفعه كرهه لها في تلك اللحظة إلى السخرية منها. أتخيله وهو يقول في نفسه إنها استخدمته كوسيلة لتحصل على المال وتشتري الملابس الأنيقة وتبهر الآخرين بأناقتها. حسنًا، ينبغي لها أن تقتني الملابس الأنيقة وتلفت الأنظار قدرَ ما تتمنى! وثمة دافع ثانٍ. إذا كان قد كرهها لأنها خدعته، فمن شأنه أن يكره الرجل الذي فضَّلته عليه أضعافًا مضاعفة، أقصد كيفيم. كان كيفيم المدير. وكان سيُستدعى عند اكتشاف الجثة في واجهة العرض.»

«يا إلهي. أنت محق يا ديفينش.»

«لا بد أنه تخيَّل أن هذا سيكون انتقامًا سائغًا. سيُستدعى كيفيم، وأول شيء سيراه هو الفتاة الميتة التي وعدته بالزواج.»

أخذ جيمسون نفَسًا عميقًا. ثم قال: «صحيح. ستكون ضربة موجعة للرجل الآخر.»

«كان ماندر مُضطرًّا إلى الهروب بعد ذلك على أي حال. كانت طلقته الأخيرة قبل أن يغادر. وسواء أكان سيحقق مآربه من ذلك أم لا فهو أمر يخضع للتكهنات، ولسنا بحاجة للخوض في ذلك. ألبسَ الفتاة هذا الزي التنكري، ونزل بهدوء عندما كان مان يقوم بجولته، وقطع سلك الميكروفون. ثم صعِد وأحضر الجثة إلى أسفل مستخدمًا أحد المصاعد (مرتديًا قناعًا، تحسبًا لاحتمال أن يلمحه الحارس)، ووضع الجثة على كرسي في واجهة العرض. وأثناء صعوده ثانيةً، رآه صديقنا الحارس المفزوع وأطلق عليه النار قبل أن ينزل المصعد إلى مستوى الطابَق الذي كان يقف فيه الحارس. وأظن أننا نعرف البقية.»

أشار جيمسون إلى النادل وطلب الفاتورة. وقال بفضول: «هل يجب عليك حقًّا أن تحاكموا ذلك المسكين يا ديفينش؟»

أومأ ديفينش برأسه بالإيجاب. ثم قال: «أخشى أن الأمر سيَئول إلى محاكمة يا سيدي، ولكن من واقع معرفتي بالقضاة والمحلفين البريطانيين، فإنه لن يُحكم عليه. فهناك غياب كامل للدافع؛ فبما أن مان ارتكب جريمة قتل، فلا يوجد منطق في القضية على الإطلاق. ثم إن قدرًا كبيرًا من الأمر متوقف على طريقة توجيه وكيل المدعي العام وطريقة عرضه للقضية. ستكون كل ملاحظاتنا بين يديه وكذا أقوال مان الموقعة منه. يجب أن أعود الآن للحصول عليها بالمناسبة؛ بعبارة أخرى، النيابة لن تستعجل القضية، وسيخرج مان من القضية دون عقوبة، بعد عظة قصيرة من القاضي بخصوص خطورة حيازة الأسلحة النارية. لا أظن أنني كنت سأقلق بشأنه لو كنت مكانك.»

قاما من مكانَيهما، ودفع جيمسون الحساب. ثم قال: «حسنًا أيها المحقق، كان فضلًا كبيرًا منك أن أخبرتني بما يدور في ذهنك، وأشعر بارتياح كبير إزاء ذلك المسكين. وهذا ما زاد شعوري بالسعادة. بالمناسبة، تفضَّل بزيارتنا يومًا ما في بارستون كورت. فقط أعلمني قبلها، وسنسعد كثيرًا باستقبالك.»

رد ديفينش مبتسمًا: «يا له من لطف شديد منك أن تعرض ذلك يا سيدي، وسيسعدني المجيء عندما أحصل على إجازة. أوه، نسيت أن أقول لك إنه يمكنك إعادة فتح المتجر في أي يوم الآن. هلا تكرمت بإخبار السيدة بيدن-هايث بهذا الأمر؟»

حدَّق جيمسون إليه. ثم قال: «إعادة فتح المتجر! سأخجل منها إذا لم تبِع هذا المكان اللعين؛ سحقًا، بعد هذه الحادثة سأكره النظر إلى أي واجهة عرض يا رجل!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤