الشعر

ليس من السهل وضع تعريف للشعر، وسنحاول تعريفه تعريفًا يتفق والاستعمال الشائع.

لاشك أن أول ميزة للشعر يعرفها الناس ما له من أوزان وقواف، وقد طغت فكرة الشكل هذه على كثير من الذين عرفوه، فقالوا في الأدب العربي: إنه الكلام الموزون المقفى، وقال بعض الإفرنج: أي كلام موزون يسمى شعرًا سواء كان جيدًا أو رديئًا، ولكن هذا وذاك من غير شك تعريف قاصر لا يتناول إلا الشكل، ولذلك قال ابن خلدون: «إنه لا يصلح إلا عند العروضيين ولا يصلح عند البلاغيين.» وعلى هذا التعريف كل العلوم المنظومة، وكل قول منظوم ولو كان سخيفًا شعر، وعرفه هو بقوله: «إن الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي المستقبل كل بيت منه بغرضه ومقصده عما قبله الجاري على أساليب مخصوصة.» وعيب هذا التعريف أنه لم يلتفت إلى أكبر مزية للشعر، وأحد أركانه، وهو إثارة الشعور، وعني بالشكل فقط من بنائه على الاستعارة والأوصاف وكان خيرًا منه أن يقول: إنه المبني على الخيال المثير للعاطفة. واستقلال كل بيت منه في غرضه ومقصده ليس من العناصر الأساسية فيه التي يصح أن تدخل في التعريف. وقد أكثر الإفرنج من تعريفه فبعضهم ضيقه جدًّا حتى لا يشمل الشعر كله. وبعضهم وسّعه حتى شمل الشعر المنثور، فقال مثلًا «رسكن»: «إنه هو إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال.» وهو تعريف يصح أن يكون للفن كله لا للشعر وحده. ويقول في موضع آخر: «الشعر فيضان من شعور قوي نبع من عواطف تجمعت في هدوء.»، ويقول «وردسووث»: «الشعر هو الحق ينقله الشعور حيًّا إلى القلب … إلخ».

وبعض الشعر يخاطب العقل لا المشاعر كبعض شعر المتنبي والمعري، وكل شعر الحِكَم وما يسميه العرب باب الأدب، ولكن أكثر الشعر لا نسميه شعرًا ما لم يحرك شعورنا ويولد فينا كثيرًا من الانفعال كالذي تولده الأغاني، وتكون المنزلة الأولى فيه للشعور لا للعقل، أما ما يخاطب العقل كالذي ذكرنا فهو شعر في المنزلة الثانية أو الثالثة، ولهذا قال ابن خلدون: «إن الكثير ممن لقيناهم من شيوخنا في هذه الصناعات الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب.» والحق أن ليس السبب أنهما لم يجريا على هذه الأساليب، ولكنهما سلكا مسلك نظم الحكم العقلية البعيدة عن إثارة الشعور.

فالشرطان اللذان يجب توافرهما في الشعر هما الوزن والقافية والاتصال بالشعور، فإذا وجدت نوعًا من الأدب يجمعهما كان شعرًا، أما إذا وجد الشرط الأول دون الثاني فنظم لا شعر، وإذا وجد الثاني دون الأول فنثر شعري، وهو الذي كان يكون شعرًا لولا أنه فقد الوزن، وهذان الشرطان يخرجان أنواعًا كبيرة مما اعتاد الناس أن يسموه شعرًا وليس بشعر، كألفية ابن مالك والمتون المنظومة، وأهم الفروق بين الشعر والنثر:

  • (١)

    ما ذكرناه من الوزن والقافية.

  • (٢)

    أن الشعر عادة أمعن في الخلق والإبداع بما ينشئه الشاعر من الصور الخيالية. ففي كثير من الناس رغبة قوية أن يخلقوا أو أن ينتجوا شيئًا يخلق ولم يعرف من قبل، قد يكون هذا العمل تمثالًا أو صورة، أو لحنًا موسيقيًّا أو هيكلًا وهو في الأدب يكون (كتابًا) وقد يكون هذا الكتاب نثرًا، ولكن الأدباء اتفقوا جميعًا على أن يصوغوا ما يخلفون شعرًا، وسبب هذا واضح وهو أن الخلق هو إعطاء الصورة للمادة المجردة، وجعل ما هو مشوش منظمًا، فكلما كان النظام أوضح كان الخلق أصدق. وكان الخالق أتم فهمًا لنفسه وإرضاء لها، وليس في الأدب نظام أتم وأوفى من نظام الوزن، ولذلك إذا أراد كاتب أن ينتج أو يخلق عملًا مبتكرًا وخالدًا فإنه بعد أن يختار موضوعه ينشئ قصيدة تكون قيودها وتقاليدها عاملًا يسهل له إعطاء الصورة الفنية والنظام الفني تفيض الفكر والشعور الذي يتدفق فيه موضوعه. ومن النادر أن يكون النثر موضوعًا للخلق والابتكار، اعتبرْ في ذلك بلزوميات أبي العلاء، فقد كان أبو العلاء ناثرًا وشاعرًا، فلما خلق وأبدع في اللزوميات وضعها في القالب الشعري بل التزم فيها ما لا يلزم.

  • (٣)

    وأن الشعر يستدعي الأنانية الأدبية، والنثر يستدعي الغيرية الأدبية ولا بد من شرح هذا. فللإنسان سواء في الشعر أو في النثر أغراض متنوعة، ولكن هناك قسمان كبيران لهذه الأغراض، فالناس يكتبون لكي يعبروا عن أنفسهم ويريحوا عواطفهم الجياشة، أو لكي يؤدوا خدمة ما، فالدافع الأول هو الدافع الأناني، والدافع الثاني هو الدافع المنفعي. وقد يجتمع الدافعان فيرغب الإنسان في أن يعبر عن نفسه وأن يؤدي منفعة للآخرين بتعبيره عن نفسه، وذلك بأن يكسبهم علمًا، أو ينشر بينهم آراء، أو يحسن الذوق الأدبي، أو يؤيد الفضائل العامة أو نحو ذلك، ولكن الدافعين يظلان متميزين، والفرق بينهما هو الفرق الأساسي بين النثر والشعر.

    الأديب الأناني يرى منظرًا في العالم فتثور نفسه بالعواطف والأفكار وتطلب التعبير لا لشيء إلا مجرد الخلاص العاطفي والفكري والتنفيس عن العاطفة والفكر. والأديب الغيري أو المنفعي قد يعاني نفس العواطف والأفكار، ولكنه حين يأخذ قلمه يكون قد وضع أمام عينيه غاية منفعية ولذلك يناقش ويشرح، وفي كل ذلك يؤدي منفعة ما إلى ذوق القراء وعقلهم. وأما كونه ينفس بهذا عن نفسه فمسألة ثانوية، ونجد الأديب الأناني يرى أن الشعر واسطة طبيعية مرضية له. وقد يبدو هذا غريبًا عند اللمحة الأولى، كيف أن الإنسان لمجرد التنفيس العاطفي والفكري يختار وسيلة مقيدة بأنواع القيود والحدود والالتزامات كالشعر؟ ولكن يجب أن نتذكر أن كثيرًا من أنواع الشعر بسيط يتعلم بسهولة، لكن هناك أسباب أعمق في هذا الباب تجعل الشعر ملائمًا للتعبير النفساني، ذلك أن النثر وإن بدأ أسهل من الشعر لكنه أصعب وأكثر قيودًا، فبرغم قوانين الوزن التي يجب أن يخضع لها الشعر، فإن الشعر هو الحرية بذاتها إذا قورن بالنثر لأن النثر له صفتان ليستا في الشعر، وهما تقيدان الناثر بأكثر من قيود الشعر وهو المنطق الدقيق والوضوح التام، فمهما يكن غرض النثر ساميًا فإنه يجب أن يكون فيه التسلسل الصحيح والوضوح التام للغة. أما الشعر فبالعكس: نعم، إن الشعر كالنثر في أنه لا يمكن أن يتحدى قواعد المنطق التي هي قواعد الفكر. ولكن الشعر يستطيع أن يخرج إلى حد كبير جدًّا عن ذلك التسلسل للأفكار وعن تعانق الفكرة بالفكرة، وعما يُعنى به المنطق كثيرًا من مناقشة وخطابة.

    فمثلًا قول شوقي في قصيدته المشهورة:

    مُضْناك جفاه مرقده
    وبكاه ورحّم عوده

    فهو في هذا البيت قد أماته وترحم عليه. وكان المنطق يقضي أن تكون وفاته والترحم آخر ما يقال. ولكنه قال بعد ذلك:

    يستهوى الورف تأوّهه
    ويذيب الصخر تنهده
    ويناجي النجم ويتبعه
    ويقيم الليل ويقعده

    وهذه من صفات الحي لا الميت، فكيف لمن مات وترحم عليه عوده أن يفعل ذلك، فهذا مثل من أمثلة عدم خضوع الشعر للمنطق. وقد نقد البحتري بأنه ليس منطقيًّا في شعره، فقال:

    كلفتمونا حدود منطقكم
    والشعر يغني عن صدقه كذبه
    ولم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق
    ما نوعه وما سببه
    والشعر لَمحٌ تكفي إشارته
    وليس بالهذر طوّلت خطبه

    وأجود الشعر عادة ما نجده مذبذبًا غير متسلسل، مفككًا حماسيًّا مندفعًا، وأيضًا إن الشعر كالنثر لا يستطيع أن يكون طلسمًا معقدًا أو أن تكون لغته مدعاة للتهويش الفكري.

    ولكن يباح في الشعر بعض الغموض والاكتفاء بالإيماء والرضا عن الرمز، ولا يباح للناثر إلا أن يكون واضح الدلالة سهل العبارة بين الإشارة، ومن أجل ذلك اختلف المفسرون للشعر اختلافًا كبيرًا، وذهب كل إلى معنى كالذي نجده في شروح شعر المتنبي، وشعر أبي تمام. فهم يختلفون في شرح المعنى المقصود اختلافًا كبيرًا، على حين أنك لا تجد هذه الخلافات في النثر.

    والشعر يثير المشاعر بما فيه من خصائص. فأولًا بأوزانه وقوافيه، ولذلك كان المعنى الواحد إذا قيل مرة شعرًا ومرة نثرًا كان في الشعر أكبر أثرًا بل ترى أن الشعر إذا حل إلى نثر لم يكن له ذلك الأثر الكبير، ولم يكن لهذا الاختلاف من سبب إلا ما في الشعر من موسيقى. وثانيًا ما للشعر من لغة خاصة غير لغة النثر، ولسنا نعني بلغة الشعر الكلمات العويصة أو أنواع البديع، أو نحو ذلك، فهذا كله لا يرفع من قيمة الشعر، وقد يكون الشعر جيدًا، وكلماته في منتهى السهولة، وهو كذلك خُلُوٌ من أنواع البديع كأكثر أشعار البهاء زهير. إنما الذي نريده أن للشاعر ملكة لا يمكننا أن نوضحها تمام الوضوح، بها يستطيع أن يتخير من ألفاظ اللغة ما يرى أنها أبعث على إثارة المشاعر، وكذلك يضعها في قوالب خاصة يتخيرها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة.

    وكان حافظ — رحمه الله — ذواقًا، ومعنى ذلك أنه كان يردد الكلمات ويغنيها أحيانًا ليختبر وقع الكلمة في السمع، ولينظر هل الكلمة شعرية تناسب الموضع الذي قيلت فيه أو لا تناسبه. وقد عابوا كثيرًا شعراء وقعوا في ألفاظ ليست هي ألفاظًا شعرية، وكان غيرها أولى بها، مثل قوله:

    ذهب الرقاد فما يحس رقاد
    مما شجاك ونامت العواد
    لما أتاني من عُيينةَ أنه
    أمست عليه بظاهرٍ أقيادُ

    فقالوا: إن كلمة (أقياد) ليست شعرية، وإنما الكلمة الشعرية (قيود)، وقد نقد سيف الدولة الحمداني أبا الطيب المتنبي في قوله:

    وقفت وما في الموت شكل لواقف
    كأنك في جفن الردى وهو نائم
    تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
    ووجهك وضاح وثغرك باسم

    وقال له: إن المنطق يقضي أن يكون نظم البيتين هكذا.

    كأني لم أركب جوادًا للذة
    ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
    ولم أسبق الزق الروى ولم أقل
    بحيلي كري كرة بعد إجفال

    وأن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله.

    والذي يجعل الشاعر شاعرًا هو تلك القدرة على التصوير فقد يكون عندنا شعور فياض كالذي عند الشاعر، ولكن ليس عندنا من المقدرة على التصوير ما عند الشاعر، ومن ثم كان من المستحيل ترجمة شعر من لغة إلى شعر في لغة أخرى كما قدمنا. إذ الترجمة تذهب بما للشاعر من قدرة فنية وطريقة أداء. وهذه الطريقة شخصية محضة تختفي عند ترجمة الشعر، والذي يمكن ترجمته فقط هو المعنى الذي حواه الشعر، وما فيه من تصوير وخيال، وما يحتويه من عواطف عامة. ويُعد المترجم أمينًا إذا هو استطاع أن ينقل ذلك كله، أما طريقة الأداء فلا يمكن ترجمتها. نعم، إن بعض الشعراء يقرأ القطعة من الشعر ويكون له قدرة فنية فيصوغ هو شعرًا مستمدًا من وحي ما قرأ، وقد يجري مع الأول في واد واحد ويكون له نفس العذوبة والجمال، ولكن هذه ليست ترجمة على الإطلاق كترجمة فيز جرولد لرباعيات الخيام إلى الإنجليزية، ونحن بذلك تخالف ما ذهب إليه وردسوورث من أن لغة الشعر لا تختلف عن لغة النثر، وقد أدرك هذا المعنى عبد القاهر الجرجاني إذ قال: إن هناك ألفاظًا لا يحسن وضعها في الشعر، وإذا أتت فيه كانت همجة مثل كلمة أيضًا، فإنها لم تأت في شعر إلا سمج ونحو ذلك إلا قول الشاعر:

    غير أني بالجوى أعرفها
    وهي أيضًا بالجوى تعرفني

    فإن أيضًا هنا عذبة لطيفة، وكما قال ابن خلدون: إن كلمة ما الفرق أشبه بلغة الفقهاء من لغة الشعراء، كقول القائل:

    لم أدر حين وقفت بالأطلال
    ما الفرق بين جديدها والبالي

    وهكذا.

  • (٤)
    أن الشعر يخاطب العواطف مباشرة، وذلك لما عند الشاعر من قوة إلهام لا تكتسب بتعلم، وللشاعر نوع غامض من لطف النظر، أو الإلهام، أو اللقانة، أو ما شئت فسمّه، ولهذا كان اليونان يسمون الشاعر خالقًا، وكان للعبريين كلمة واحدة تدل على الشاعر والنبي معًا، ولعل هذا هو الذي جعل شعراء العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانًا ينفث فيه الشعر، ويقول أحدهم: «شيطانه أنثى وشيطاني ذكر» ولأمر ما خلط العرب بين النبي والشاعر فسموا النبي شاعرًا أحيانًا، وكاهنًا أحيانًا، ويقول القرآن الكريم: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ.

    وللشاعر نظر باطن للحياة، ولهذا قال وردسوورث عن الشعر: «إنه روح المعرفة وحياتها، ونقد الحياة». والحق أننا نقرأ في شعر الشاعر معنى الحياة وشرحها. ذلك لأن الحياة محكومة بالمشاعر والبواعث على عملنا وليست خاضعة لعقولنا وحدها، ولا للحقائق المجردة، وإنما تصطبغ بمشاعرنا، وليست تخضع للمنطق وحده، إنما تخضع كذلك للعواطف، والشعر هو الذي يعبر عن هذه العواطف، أو العواطف ممزوجة بالعقل.

    وخير دليل على أن الشعر هو معنى الحياة، أن شعر كل عصر مرآة له. وقديمًا قالوا: «الشعر ديوان العرب». والحق أنه ديوان تُسجّل فيه حياتها، أعني تسجل أفكارها ومشاعرها، فالشاعر يعطيك صورة روحانية أكثر مما يعطيكها التاريخ، والشعراء عادة في مقدمة قومهم، أو في جبهتهم، وقد يسبقونهم قليلًا، وهم عادة إيذان بالفلسفة، وإرهاص لها، فهم يحدثوننا حديثًا فيه شيء من الإبهام عن حقائق الحياة. فكان هوميروس إرهاصًا لسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكان شعراء الجاهلية إرهاصًا للنبوة.

    حتى لقد حُكي أن النبي لما سمع قول لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»

    قال: إن هذا من كلام النبوة.

    وهذه الإرهاصات عادة تسبق طور الشرع والتدليل والتحليل الذي يقوم به الفيلسوف فالفرد يشعر بالشيء قبل أن يفكر فيه تفكيرًا دقيقًا، فنحن نشعر ونلهم قبل أن نخضع للمنطق.

الشعر والموسيقى

للوزن قيمة كبرى في الشعر — كما ذكرنا — حتى عُدّ أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يحلو بالموسيقى الجيدة، ويضعف شأنه إذا كانت موسيقاه غير جيدة. فنحن نفضل من غير شك: «حامل الهوى تعب» على قولهم:

إن بالشعب الذي دون سلْع
لقتيلا دمه ما يُطل

وهذا الوزن الموسيقي ذو حظ عظيم في أن يكسب الشعر الخلود، وقد ثار الجدل بين النقاد حول هل الشعر أكثر ارتباطًا بالنقش والتصوير أو هو أشد ارتباطًا بالموسيقى؟ قال قوم: إن التصوير شعر صامت، والشعر تصوير ناطق، ولكن الحق أن ارتباط الشعر بالموسيقى أكبر منه بالتصوير حتى كان الرومان يقولون: إن الشعراء ليسوا إلا مغنين يترنمون بأشعارهم ويغنون بها لأنفسهم، ولمن شاء أن يرددها بعدهم. ويجب أن نقرر أن ليست أنواع الشعر بدرجة واحدة من حيث الارتباط بالموسيقى، فهناك شعر غنائي يظهر فيه هذا الجانب الموسيقي، وشعر غير غنائي كالشعر التعليمي لا يظهر فيه هذا المعنى. ووجه الشبه بين الشعر والموسيقى يتجلى فيما يأتي: ذلك أن كلًّا من الموسيقى والأوزان الشعرية تتنوع أنواعًا أربعة، فالصوت يختلف عن الصوت بالطول والقصر، وأنه جهوري أو خافت، وأنه غليظ أو رقيق، وأنه مرتفع أو منخفض، وأنه يختلف باختلاف مصدر الصوت كعود، أو قانون، أو كمان، وكأوتار العود المختلفة. وهذه الاختلافات الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر، فمن النوع الأول اختلاف التفاعيل والبحور طولًا وقصرًا، والحركات والسكنات في متفاعلن أطول منها في مستفعلن. فالطويل أطول في التفاعيل من الهزج مثلًا، ولهذا الاختلاف تأثير كبير في الأذن الموسيقية، والغلظ والرقة ممكن أن نقابلهما بما في الشعر من حروف ضخمة، وتراكيب قوية، أو حروف لينة رخوة، وتراكيب ناعمة. فالشدة والقوة، مثل قول بشار:

إذا الملك الجبار صعّر خدّه
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

وقوله أيضًا:

إذا ما غضبنا عضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمًا

والرقة كقول الشاعر:

تخيره الله من أدمٍ
فما زال منحدرًا يرتقي

وقول الآخر:

بأبي غزال غازلته مُقلتي
بين الغوير وبين شطّي بارق
عاطيتُه والليل يسحب ذيله
صهباءَ كالمسك العتيق لناشق
وضممتُه ضم الكميّ لسيفه
وذؤابتاه حمائل في عاتقي
حتى إذا مالت به سِنة الكرى
زحزحته شيئًا وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه
كي لا ينام على وسادٍ خافق

وكذلك قول ديك الجن:

لما نظرت إليّ عن حدق المها
ونسجت عن متفتح النوَّار
وعقدت بين قضيب بان أهيفٍ
وكثيب رملٍ عقدة الزنار
عفّرت خدّي في الثرى لكِ طائعًا
وعزمتُ فيك على دخول النار

وقد قالوا في قول الشاعر:

ألا أيها النُّوَّام وَيْحَكُم هبُّوا
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب

إن الشطر الأول قوي شديد، والشطر الثاني رخو ناعم. ونرى في الشعر من جهة ثالثة ما يتناسب مع الهدوء والسكينة، ويناسبه إنشاده في هدوء ودقة كشعر الغزل ونحوه، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش كشعر الحماسة.

ومن ناحية رابعة نلاحظ في الموسيقى أن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمان ثم وقعت بنفسها على البيان كانت النغمتان مختلفتين، أو على الأقل لكل منهما طعم غير طعم الآخر، وهذا يقابله في الشعر القافية. فالقصيدتان قد تكونان في موضوع واحد ومن بحر واحد، ولكنهما تختلفان في القافية، فتختلفان في درجة التأثير.

وكذلك أنواع المحسنات البديعية، فنوع من البديع يكون ذا أثر أكثر من نوع آخر وهكذا.

وهناك مسألة هامة اختلف فيها علماء البلاغة في اللغة العربية وهي: هل الأهمية الأولى في الشعر للفظ أو للمعنى؟ وقد اختلفوا في ذلك اختلافًا كبيرًا، فذهب بعضهم إلى أن العبرة بالألفاظ. وممن ذهب هذا المذهب أبو هلال العسكري إذ قال: «وليس الشأن في إعداد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت».

وقال في موضع آخر: «إن الكلام إذا كان لفظه عذبًا وسلسًا سهلًا ومعناه وسطًا دخل في جملة الجيد وجرى مع الرائع النادر».

وممن ذهب هذا المذهب ابن خلدون إذ قال في مقدمته:

«اعلم أن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. والمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكرٍ منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلنا. وهو بمثابة القالب للمعاني، فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء، لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة نفسها».

وخالف في ذلك عبد القاهر الجرجاني فذهب إلى أن العبرة بالمعاني، فقال في أسرار البلاغة:

«إن محاسن الكلام ترجع إلى المعاني، وإذا استجدنا شعرًا ووصفنا ألفاظه بالحلاوة والرشاقة وغيرها من الأوصاف فإنها لا تنبئ عن أحوال ترجع إلى جرس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه المرء من زناده. وأما استحسان اللفظ من غير شرك المعاني فيه فلا يكاد يعدو نمطًا واحدًا، وهو أن يكون اللفظ مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا».

ويكاد ابن رشيق في العمدة يرى البلاغة فيهما معًا، فيقول: «اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للشعر وهجنة عليه، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه». ثم قال: «وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، ويذهب إلى أن اللفظ أغلى من المعنى ثمنًا وأعظم قيمة وأعز مطلبًا، فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة اللفظ وحسن السبك وصحة التأليف. ألا ترى لو أن رجلًا أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس. فإن لم يحسن تركب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة لم يكن للمعنى قدر».

ونحن نرى أن لكل منهما من الأهمية ما لا يقل عن الآخر، فلا بد في الكلام البليغ أن يكون ذا لفظ عذب ومعنى حلو، وليس بصحيح أن المعاني ملقاة في الطرق، فليس تشبيه الممدوح بالغيث أو السيل أو الأسد إلا شيئًا تافهًا مبتذلًا بجانب المعاني العميقة الرقيقة، وكما يفضل شاعر شاعرًا بجودة لفظه، يفضله بجودة معناه وغزارته. وليست كل المعاني في المدح هي التي ذكرت: وهناك من المعاني ما لا يصل إليه إلا الذهن الدقيق والعقل الذكي العميق.

غاية الأمر أن بعض الشعراء يتفوق في أحد الركنين ويقصر في الآخر، فقد يكون جيد اللفظ حسن السبك، ولكنه خفيف المعاني، فتعوض إجادة لفظه عن تقصيره في المعاني. والعكس كذلك فقد يكون جيد المعنى غزيره متوسط اللفظ والتركيب، فيتساهل حينئذ في الحكم عليها؛ لأن إجادته في أحدهما قد عوضت عن توسطه في الآخر. والجيد اللفظ السخيف المعنى لسنا نعده بليغًا، ولا الجيد المعنى الساقط اللفظ، بل لا بد لعده بليغًا أن يكون جيدًا في أحدهما غير ساقط في الآخر، والمثل الأعلى للبليغ من غير شك أن يكون جيدًا فيهما معًا. وربما كان تمجيد أبي هلال العسكري وابن خلدون للألفاظ دون المعاني هو السبب في أنهم عدوا أبا العلاء والمتنبي حكيمين لا شاعرين، وإنما الشاعر البحتري. وهذا خطأ؛ فأبو العلاء والمتنبي شاعران، غاية الأمر أنهما في المعاني أقوى منهما في الألفاظ، وأن البحتري بعكس ذلك، جيد في اللفظ والتركيب لا في المعنى، فكلهم شعراء مختلفو الميزان، أما عد البحتري وحده هو الشاعر فأظنه جريًا مع النظرية الخاطئة إلى آخرها. ولو اضطررت إلى التفضيل لفضلت أبا العلاء والمتنبي على البحتري لميلهما إلى المعاني أكثر من ميلهما إلى الألفاظ.

ولذلك نجد بعض غير المثقفين شعراء كالجزار، وفي عصرنا من هو خياط، ولكن إنما كانوا شعراء بالألفاظ لا بالمعاني. أما شعراء المعاني فلا بد أن يكونوا من المثقفين؛ لأن العلم وسعته هما اللذان يولدان المعاني، وفرق كبير بين نتاج مثقف ونتاج غير مثقف. ألا ترى أن شوقيًّابذوقه المرسل فيظل لما كان مثقفًا أكثر من حافظ كان أشعر؟ أولا ترى أن الشعراء العباسيين كبشار وأبي نواس وأبي تمام كانوا أشعر من الجاهلين؛ لثقافتهم ووجودهم في أوساط علمية لولا تعصب الناس للجاهلين وتقديسهم كل ما صدر عنهم؟ ولو سيرناهم لألغينا عقولنا وبعناهم أذواقنا. ولو سئلنا أيهم أعلم: آبن المقفع والجاحظ أم لبيد وطرفة؟ لقلنا من غير شك إنه ابن المقفع والجاحظ. فما بالنا نقول الحق في غير الشعر، ونعرض عنه في ميزان الشعر؟

كل ما نتطلبه في الشاعر ألا تطغى ثقافته العلمية على ذوقه الفني، كالذي لاحظه ابن خلدون في أنه لما تثقف ثقافة علمية ضعف في الأدب. وكالذي حكى عن فقيه أراد أن يشعر فقال:

لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين جديدها والبالي

فقيل: إنه تعبير سرى إليه من الفقه. أما إن احتفظ بذوقه واستخدم العلم فهو الشاعر العظيم.

ولذلك أرى أنه من الصعب أن تخرج الجامعة شاعرًا كشوقي وحافظ؛ لأن انغماس الجامعيين في البحوث يجعل ذوقهم أقرب إلى العلم منه إلى الأدب. وهذا لا يمنع أن يحتفظ الأديب بذوقه المرسل فيظل مع ازدياد ثقافته مطلعًا على الأدب منشئًا فيه فيهب العلم قوة. ألا ترى أن المثقف بأدب أجنبي مع ثقافته في أدبه يكون أكفأ وأحسن ممن اقتصر على أدبه القومي، بشرط أن يحتفظ بذوقهما الأدبي؟ فالمثقف بأدب أجنبي يكون أوسع أفقًا، وأقدر على اقتباس المعاني والألفاظ والأساليب والتراكيب ممن لم يثقف هذه الثقافة، وهذا ما جعل النابغين من الفرس في العصر العباسي كابن المقفع وبشار وأبي نواس، أوسع أفقًا وأدق معنى.

وهنا نتكلم كلمة قصيرة عن أقسام الشعر، فقد اعتاد العرب أن يقسموه من عهد أبي تمام في ديوان الحماسة إلى أبواب: من حماسة، وأدب، ورثاء إلخ وتبعه في ذلك من أتى بعده إلى البارودي في مختاراته، واعتاد الفرنجة أن يقسموه إلى شعر غنائي، وشعر ملاحم، وشعر تمثيلي، وشعر تعليمي، ويقصدون بالشعر الغنائي الشعر الذي يعبر فيه عن العاطفة، وسمي غنائيًّا لأن الشعراء كانوا يتغنون ببعضه على القيثارة، وعلى هذا كان أكثر الشعر العربي غنائيًّا بهذا المعنى. أما شعر الملاحم فيقصدون به الشعر الذي يحكي حوادث الأمة من عهد قديم في التاريخ. وهو عادة يكون ممزوجًا بالأساطير، وذلك كإلياذة هوميروس، وقصة الشاهنامة.

والشعر التمثيلي هو الذي يُمثل غالبًا على المسارح، أو يكون من صفاته ما يجعله صالحًا للتمثيل ولو لم يقصد الشاعر إلى تمثيل. والشعر التعليمي ما ينظم للتعليم وسهولة الحفظ كألفية ابن مالك والشعر الموجود في مجموعة المتون.

وكلا التقسيمين غير منطقي وغير دقيق. وقسمه بعضهم إلى قسمين: قسم يتحدث فيه الشاعر عن نفسيته ووجدانه ونزعاته، ونحو ذلك، وقسم يتحدث فيه الشاعر عن الموضوعات الخارجية، ولكل من هذين القسمين شروط وتفاصيل نجملها فيما يأتي:

فالشعر الذاتي هو ما يسمى بشيء من التساهل الشعر الغنائي، وهو وإن كان يشمل الملاحم فسنقصره هنا على الشعر الشخصي مقابلين في ذلك بينه وبين الشعر التمثيلي والقصصي.

والشعر الذاتي يلمس كل جوانب الحياة تقريبًا، ابتداء من تلك النواحي الذاتية الضيقة إلى النواحي الإنسانية الواسعة. فهناك شعر الغناء المرح الطروب كشعر أبي نواس، والغناء الحزين الباكي كشعر أبي العتاهية، والغناء الذي يتناول المسائل الحقيقية في الحياة، وغناء الحب بجميع أنواعه وآماله ورغباته وأفراحه وأحزانه، وشعر الوطن، وغناء العاطفة الدينية كشعر الصوفية إلى ما لا يحصى، وليس من الضروري محاولة سردها.

وهناك مبادئ أولية لتقدير الشعر الذاتي، وهي أننا يجب أولًا أن نبحث في طبيعة العاطفة التي توحيه والطريقة التي يعبر بها الشاعر عنها إذ الشعر الذاتي يجب أن يُمتِعنا بعاطفته الممتازة، ويجب أن يؤثر الشاعر فينا بإخلاصه التام في التعبير، بينما لغته وخياله يجب أن يتميزا بالجمال والحيوية، والتناسب والانسجام بين الموضوع والآذان، وهو كالغناء غرضه التعبير عن حالة ما، أو شعور واحد يزداد كثيرًا في قوته العاطفية بالإيجاز والتركيب لا بالإسهاب والتفصيل.

وعلى الرغم من أن أساس الشعر الذاتي هو الشخصية، فإنه يجب أن نتذكر أن أغلب الأشعار الذاتية العالمية العظيمة تدين بمكانتها في الأدب إلى حقيقة أنها تتضمن ما هو إنساني أكثر من شخصيته وفرديته، حتى ليجد كل قارئ لها تعبيرًا في التجارب والعواطف التي يستطيع أن يشارك فيها. وفي هذه الحالة لا نحتاج أن نضع أنفسنا مكان الشاعر، فالشاعر قد أراحنا بوضع نفسه مكاننا، والدراسات التي عنيت بالأدب في جميع عصوره دلتنا على أن الشعر الذاتي بدأ بالرغبة في التعبير عن العواطف القبَلية، أو الجماعية لا الفردية. فالشعر الجاهلي فيه (إنا) و(نحن) أكثر من (أنا) والشعر العبري كان من هذا النوع.

وقد حدثونا أن إلياذة هوميروس خالية تقريبًا من أنا. فالشعر على العموم في مدته كان أناني الجنس لا أناني الفرد، والذاتية الفردية إنما نمت في العصر الحديث تبعًا لازدياد العامل الشخصي واضمحلال العامل المجموعي، ولكن لا تزال العواطف الجماعية تنتج الشعر الوطني والأغاني الشعبية، وهناك حقيقة أخرى هامة، وهي أن في الأزمة التي يزداد فيها العنصر المجموعي كأيام الحرب، يزداد فيها الشعر المجموعي كالذي حدث أثناء الحرب الصليبية، وكالذي حدث أيام الثورة الفرنسية، فقد هز الشعر العالمي روح كل أوروبا، وشعر كل فرد بأمته.

والشعر الذاتي يتحول شيئًا فشيئًا بطرق غير محسوسة إلى الشعر التأملي الفلسفي، وقد تظل فيه صفات العاطفية والحيوية، وانسجام اللغة والتصوير، ولكن بالإضافة إلى ذلك يجب تقدير القيمة المادية للفكرة ومبلغ نجاح الشاعر في التعبير عنها تعبيرًا شعريًّا.

ومن الشعر الذاتي النشيد، ويعرف بأنه قصيدة غنائية تكون عادة في لهجة الخطاب، وتتخذ موضوعًا وعاطفة وأسلوبًا فيه فخامة وكبرياء.

ومن أهم أقسام الشعر الذاتي شعر الرثاء، وهو يقتضي الصدق والإخلاص في العاطفة والتعبير.

وفي تطور الأدب نجد أن القصيدة الرثائية تنوعت، فمنها ما كان تعبيرًا عن شعور الجماعة كالأغاني الرثائية الشعرية، ومنها ما كان رمزًا تذكاريًّا لعظيم من العظماء تضمن ما يشعر به الشاعر نحوه من إجلال، وأحيانًا تزداد عند الشاعر العناصر التأملية والفكرية فيتغلب على عنصر المتعة الشخصية.

أما الشعر الموضوعي فيقع في قسمين كبيرين: الشعر القصصي، والشعر التمثيلي، فالقصيدة القصصية، وهي أحيانًا قصيرة كبعض شعر عمر بن أبي ربيعة تبين مرحلة من مراحل الأدب المبكرة، وأحيانًا تكون قصة شعبية تنتمي إلى الأمة عامة وتنتشر في كل أفراد الشعب لأنها تخاطب نفسيتهم، وفي الغالب تكون مستمدة من العناصر الأولية في الحياة كالمخاطرات والحروب وأعمال الشجاعة، ولا بأس أن يكون فيها شيء من الأساطير والخرافات، والقوى غير الطبيعية، وأحيانًا تكون قصص حب أو بغض أو شفقة أو نحو ذلك من العناصر البسيطة، وهي في أسلوبها تتميز بالأسلوب المستقيم المباشر الصريح، وسرعة القص والسذاجة الطفولية والتفاهية، وشدة الانفعال والعصبية، وكثرة الثرثرة في المسائل التفصيلية، وفي نفس الوقت لا تعنى بالوصف أو بالدوافع والعوامل، ثم تطورت هذه القصة في العصر الحديث بامتيازها بحظ أكبر من التأنق والزخرفة والصنعة وتوسعها في تحليل الدوافع، ونوع آخر هو القصة الشعرية الطويلة الغرامية (الدراما) وسيأتي الكلام عليها.

أما القسم الأخير فهو الشعر التمثيلي، ولست أعني به ما يمثل فعلًا، ولكن نعني به ما هو أوسع حتى يشمل ما لم ينشأ بقصد تمثيله على المسرح، وكله مع ذلك تمثيلي في طبيعته، يغوص فيه الشاعر فيما يتناوله من الشخصيات فيحللها على لسانها هي دون أن يصفها هو وصفًا تامًّا، وهذا لا يوجد في الشعر الشخصي أو في الشعر القصصي العادي، وأحيانًا يتدخل الشاعر فيصف هو على لسانه الشخصيات.

وبعضهم قسم الشعر إلى شعر قصصي، وشعر تمثيلي، وشعر غنائي، وشعر تعليمي، وشعر الطبيعة، وشعر الإنسانية. وفي كل هذه الأقسام يجب أن تكون هناك ملاءمة بين الفكرة والتعبير، بين المادة والهيئة، أو كما يقول الفلاسفة بين الهيولي والصور.

القسم الأول: الشعر القصصي

فالشعر القصصي صنف عام، والملحمة نوع منه. فكل قصيدة تقص قصة يكون الغرض الظاهر منها حكاية هذه القصة تسمى شعرًا قصصيًّا، فإذا كانت القصيدة أو القصائد القصصية تتناول الرجال المشهورين، والأعمال المشهورة في التاريخ فتلك ملحمة.

والعنصر الأوّلي الضروري في الشعر القصصي هو حكاية قصة، وهو شعر موضوعي بالمعنى الذي شرحناه قبل، وهو نوع غريب تجتمع فيه الأنانية مع الموضوعية. فالشاعر يستطيع أن يعبر عن نفسه، وينفس عنها حين يؤلف شعرًا موضوعيًّا، فهو موضوعي من ناحية أن الشاعر لا يعبّر عن عاطفة شخصية من طريق مباشر، ولا يصرح بأن هذا هو شعوره وأفكاره، ولكن يستطيع أن ينفس عن نفسه أثناء حكاية قصته.

والأسلوب الذي يتفق مع هذا الشعر القصصي يكون ملائمًا له بشروط:

  • (١)

    أن يقص القصة دون أن يجعلها واضحة مفصلة كالقصة النثرية، بل يعتمد فيها على قوة الإيماء والتلميح حتى يرتفع العمل إلى المستوى الشعري، ويجب أن يجعل ما يحدث عنه من الحوادث والأشخاص مثلًا عليا، فيؤهله ذلك إلى أن يقبض على شعره سحرًا ناتجًا عن انتخابه الشخصي للأشياء.

  • (٢)

    يجب أن يعرض الشاعر موضوعه بحيث يبدو أن فيه حياة حقيقية وقوة حقيقية.

  • (٣)

    يجب أن يعرض قصته عرضًا لذيذًا يوحي بالجمال، ويقدم للسامع أو القارئ متعة جمالية، وتلذذًا فنيًّا.

وفي هذه القصيدة القصصية يقص الشاعر القصة، ويعرض الحوادث والأشخاص أمام القارئ مع تعليق أو بدون تعليق، مع إتقان تطور القصيدة، ولذلك يكون الأسلوب الملائم نوعًا مستمرًّا متدفقًا من النظام الوزني، فإن القاص ناثرًا أو شاعرًا، يجب أن يقصها باستمرار، وتدفق وجلال. وإذن يجب أن يتصف الشاعر الحقيقي بنوع من الجلال حتى ولو لم يكن موضوعه من موضوعات الملحمة، أعني ولو كان متعلقًا بأشخاص وحوادث.

ونجد أن من الشعر القصصي ما يدخله الغناء، ونوع الأناشيد، وهو نوع قصصي، قد صيغ صياغة غنائية جميلة، وليس بضروري في هذا النوع الاستمرار الوزني، بل يتغير الوزن ويتبدل كما يتغير وزن الشعر الغنائي في القصيدة الواحدة.

القسم الثاني: الشعر التمثيلي

وقد يتكون من شعر ونثر معًا، ولكن الشعر يكون الجزء الهام الأساسي فيه والنثر تابع له، وكثيرًا ما يكون النثر فيه شعرًا فقد وزنه، ولذلك إذا تكلمنا عن الملاءمة في الرواية التمثيلية، فإننا نعني ملاءمة الشعر لموضوعاته، وإذا كانت الرواية التمثيلية شعرًا ونثرًا، فالموقف حين يكون سريعًا مندفعًا فإن الذي يلائمه هو النثر، لأن الشعر بما فيه من قيود البحر والقافية يبدو أنه أبطأ من أن يلائم مثل هذه المواقف السريعة، كذلك حين يحتاج النظارة إلى بعض الشرح على حوادث في خلال الرواية بالتعرض لبيان أشخاص الرواية أو حوادثها، فهذا يجب أن يكون نثرًا لا شعرًا، وكل هذا يعتمد على لياقة المؤلف ومهارته في صناعته وما توحيه إليه عبقريته. والقاعدة العامة أن الشعر هو الجزء الأساسي، وأن النثر يجب أن يكون نثرًا شعريًّا. والخطاب في الشعر التمثيلي إما أن يكون خطابًا لأكثر من فرد واحد أو خطابًا من فرد إلى نفسه، والصعوبة كثيرًا ما تنشأ حين يكون الخطاب الذي يوجهه فرد إلى آخر طويلًا، وللتخلص من هذه الصعوبة يجب الاختصار ما أمكن حتى لا يكون طويلًا مملًّا، والمؤلف التمثيلي يجب أن يكون لديه قوة على رسم الشخصية ووصفها وتصويرها. وأسلوب الشعر التمثيلي يجب أن يكون متنوعًا متموجًا حتى يكون صالحًا لأن يعلو وينخفض تبعًا لمقتضى الموقف والموضوع والشخصية. ويجب أن يكون ملائمًا للفرح حين الفرح وللحزن حين الحزن وللخير والشر. ويجب على الشاعر التمثيلي أن يجعل شخصياته مثالية، وأن يجعل جو الرواية جوًّا حقيقيًّا واقعيًّا كأنه مقتطع من الحياة نفسها، لأن التمثيل هو تمثيل للحياة وعرضها وليس مجرد أحاديث عن الحياة.

القسم الثالث: الشعر الغنائي

ومعنى كلمة غنائي في الأصل شعر يغنّى به على الآلة الموسيقية، والشعر الغنائي هو الشعر الذي كان ينظم لكي ينشده الشاعر على هذه الآلة، ولكن الشعر والموسيقى تطورا واستقل أحدهما عن الآخر فتغير معنى كلمة غنائي، ولم يعد من الضروري أن يكون الشعر الغنائي مما يتغنى به على القيثارة، فاستعملت كلمة غنائي في كل شعر ليس قصصيًّا ولا تمثيليًّا، وأكثر ما يعبر عن خلجات النفس، ولكن إذا كان الشعر الغنائي قد استقل عن الآلة الموسيقية، فقد بقي فيه صلة بالموسيقى، فكل الأشعار الغنائية نجد فيها عنصرًا ضروريًّا من الموسيقى. والقصيدة الغنائية عادة قصيرة، وهي مع قصرها تامة كاملة، فقد لا تتجاوز بضعة أبيات، وهي مع ذلك تؤدي موضوعًا كاملًا. والقصيدة الغنائية لها سحر أتاها من الوزن، والشاعر الغنائي يجب أن يكون له براعة ممتازة في تنويع الوزن تنويعًا رائعًا ساحرًا جميلًا، تنويعًا يتفق والموضوع، فبحر الطويل مثلًا لا يناسب الرقص، ولأمر ما كان أكثر الأغاني البلدية المصرية من البحر البسيط، وهو موضوع لم يدرس بعد في اللغة العربية دراسة كافية، أعني العلاقة بين البحر والموضوع، فبعض البحور تناسب بعض الموضوعات دون الأخرى، فليس الذي يناسب الرقص كالذي يناسب الرثاء. وقد بدأ البستاني في مقدمة الإلياذة يبحث هذا الموضوع. غير أنه يحتاج إلى بحث أدق وإحصاء شامل.

وجزء عظيم من هذا الشعر الغنائي شعر شخصي صريح؛ أي إن الشاعر يعبر تعبيرًا صريحًا عن عواطف نفسه، وعن آماله ورغباته، وأحلامه، وحبه، وبغضه، ويأسه. والشعر الغنائي يميزه الإيماء والتلميح، والإيعاز، وهذه الصفات وإن كانت عامة في الشعر كله، فهي في الشعر الغنائي أوضح لأمرين: لموسيقيته ولذاتيته، فالموسيقى هي أكثر طرق التعبير إيماء ورمزًا، والشعر الغنائي يظل محتفظًا بصلة قوية بأصله الموسيقي، ولأنه ذاتي لا يعبر فيه الشاعر عن نفسه تعبيرًا واضحًا وافيًا صريحًا. والشاعر لا يحب أن يفتح كل قلبه أمام القراء، ولكنه يميل إلى أن يخرج لآلئ يبهرهم بها.

والشعر العربي أكثره غنائي، ولذلك كثر فيه الإيماء، واحتمل البيت الواحد عدة تفسيرات، كما نجد في شروح أبيات المعلقة.

  • (١)

    فموضوعاته الكثيرة إما مديح أو غزل، أو رثاء، أو نحو ذلك. وقليل منه ما كان غير غنائي. فبعض شعر عمر بن أبي ربيعة قصصي، وكملحمة عنترة وكبعض المقامات. وربما كانت الصحراء وحاجتها إلى الغناء، وحاجة الإبل إلى الحداء هي المسئولة عن الكثرة في شعر الغناء، ثم قلدهم من أتى بعدهم. يضاف إلى ذلك أن العرب لم يتذوقوا ترجمة الأدب اليوناني، كما تذوقوا ترجمة الفلسفة اليونانية، لأن الأدب ذوق، والذوق خاص، والفلسفة والعلوم عقل، والعقل مشترك، ولو تذوقوا الأدب اليوناني لترجموه، ولو ترجموه لحذوا حذوه في الشعر التمثيلي والملاحم، ثم كانت تقاليدهم في الحجاب أيام الترجمة لا تسمح بظهور امرأة سافرة على المسرح حتى إننا في العصور الحديثة عند بدء التمثيل كان الممثلون يختارون شبابًا ليوقفوهم في التمثيل موقف النساء.

  • (٢)

    والشعر الغنائي يمتاز بحرية الشاعر، وتتجلى هذه الحرية في الوزن، فوزن الشعر الغنائي متغير متبدل متنوع، وهو أيضًا مطلق إلى أقصى حد. فلكل شاعر غنائي أسلوبه الخاص به، ولكن مع هذا يجب أن لا يكون شاذًّا، فعليه أن يتجنب الأسلوب الغريب الشاذ غير المألوف كما أخذ على أبي تمام، وبعض أشعار المتنبي. ويجب أن يتجنب البحور المعقدة الخالية من الانسجام، وأن يتجنب الغموض القريب من الألغاز. ويجب أن يكون فنانًا لا متصنعًا، فالتصنع في الأدب يشعرنا بأن الشاعر في أسلوبه هو الذي أنشأه وتحكم فيه لا أن العواطف والأفكار هي التي تمليه، وكثير من التصنع في الشعر العربي أملاه التقيد بقافية واحدة، فهو قد يحوّر المعنى حتى تسلم له القافية، وهذا عيب في الشعر. فيجب أن تكون العاطفة هي التي توحي بالقافية، لا أن القافية توحي بالعاطفة. وبعض المبتدئين بالشعر يتصيدون الكلمات من المعاجم التي تساعد على القافية، ثم يصوغون المعاني وفق هذه الكلمات. فإذا شدا تبين له سخف هذا الموقف، وأن المعنى يجب أن يكون هو الذي يوحي بالقافية.

لذلك ترى الشعر الأول ثقيلًا مضطربًا، على حين تجد النوع الثاني سهلًا ممتعًا متمشيًا مع المعنى.

وحكى بعضهم أنه رأى في مذكرات شاعر مبتدئ كلمات انتزعها من المعاجم ليؤلف منها قافية واحدة، ويحشر لها معاني تناسبها، فنشأت عن ذلك الهوة السحيقة بين بيت وبيت.

القسم الرابع: الشعر التعليمي

والشعر التعليمي ليس شعرًا مثاليًّا؛ لأنه خلا تقريبًا من قوة العاطفة، وهو يجمع بين أوصاف الشعر وأوصاف النثر، ولذلك يجب أن يكون منطقيًّا، وأن يكون واضحًا، لأنه يعلم حقائق معينة، فيجب أن يكون صريحًا واضحًا قابلًا للفهم بسرعة، ومن الناحية الشعرية يجب أن لا يخلو من الجمال الفني وأن يشعر القارئ بشيء من اللذة والاستمتاع، ويجب أن يستجيب للمقتضيات الغنائية، وهو عادة لا يخلو من الرمز والإيماء والتلميح، فالمعنى عادة يعبر عنه تحت غطاء من الاستعارة، والأسلوب مليء بالتركيز واللمحات الخاطفة.

القسم الخامس: شعر الطبيعة

ونعني به الشعر الذي موضوعه عالم الطبيعة، فالطبيعة صالحة كل الصلاحية لأن تكون موضوعًا للشعر. وبعض الشعراء قد بنوا شهرتهم على تفنن في شعر الطبيعة كالصنوبري وبعض شعر البحتري، وبعض شعراء الأندلس. وشعراء الطبيعة يختلفون اختلافًا كبيرًا في طريقة التناول؛ فالطبيعة يمكن أن تُتَناوَل بالطريقة الواقعية فتوصف المناظر كما هي في الحياة — أو بالطريقة المثالية الكمالية، وهي تقتضي تكميل ما في الطبيعة بواسطة الخيال — والطريقة الفلسفية، وهي طريقة الذين يتفكرون في الطبيعة ويجعلونها ميدانًا لتأملاتهم، ويبينون أهميتها الباطنية ويعرضونها كتعبير عن النقل أو الروح أو كحجاب ظاهري تلوح من خلاله حقائق غير منظورة، كقصيدة ابن سينا في النفس:

هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاءَ ذات تعزُّز وتمنع

وكقصيدة ابن الشبل البغدادي:

بربك أيها الفلك المدار
أقصدٌ ذا المسير أم اضطرار

والشاعر في تناوله للطبيعة ليس ملزمًا بنوع شعري واحد، قد يتناولها في الشعر القصصي أو الشعر التمثيلي وقد يتناولها في الشعر الغنائي، فإن الطبيعة حين تجتذب انتباه الشاعر تثير فيه روحًا من التقدير يتحول إلى حب، ولذلك يتناولها في شعر غنائي لأنه هو الذي يعبر عن الحب.

والشاعر الغنائي عادة شاعر تلميح وإيماء بطبيعة صنعته، ولذلك يعيش شاعر الطبيعة في عالم من الإيماء والتلميح. وللطبيعة خاصة غريبة فهي تخاطب في لغة من الرموز والاستعارات والإيماءات، وما يتعلمه منها الشاعر ينقله إلى الآخرين بنفس اللغة، فهي لغة لا تكون وافية صريحة ولا كاملة مفصلة.

ومما يؤسف له أن شعراء الطبيعة في الأدب العربي عُنوا بالاستعارات والتشبيهات أكثر مما عنوا بروح الطبيعة. والطريقة المثلى في شعر الطبيعة أن يشربها الشاعر ثم يبرزها إلى الناس كما شربها أو أن يفنى فيها فيغني لها وبها، فخرج شعرهم فيها أشبه ما يكون بالألعاب البهلوانية. فمن النوع الجيد مثلًا وصف أبي تمام للربيع:

دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر

ومن النوع البهلواني:

فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت
وردًا وعضت على العناب بالبرد

وشعر الطبيعة إما أن يهمل الإنسان إهمالًا تامًّا ويتكلم في مناظر الطبيعة ذاتها، وإما أن يتناول الطبيعة كمسرح للأمور الإنسانية، فالأول هو شعر الطبيعة الخالص، والثاني هو شعر الطبيعة المركب، والشاعر الطبيعي الخالص إما أن يتناول الطبيعة تناولًا موضوعيًّا أو تناولًا ذاتيًّا. وفي التناول الموضوعي يجب أن يخفي الشاعر نفسه تمامًا ويدع الطبيعة تتكلم عن نفسها، فهي تتكلم عن نفسها وتخاطب الشاعر، ولذلك يجب أن يكون الأسلوب مزيجًا من العرض الصادق والوصف الصحيح، فإذا تناول الطبيعة تناولًا ذاتيًّا فإنه ينظر إلى مناظرها من صخور وسحب وأزهار وطيور، كما لو كانت تكون عالمًا خاصًّا، وهنا لا يلزم أن يخفي الشاعر شخصه، بل يصح أن يجعل هذه المخلوقات تابعة لأحوال مواسية له في آلامه كالذي قالوا في شجو الحمام، فإن كان الشاعر مثاليًّا فإنه يعرضها في ضوء وجو ليس لهما حقيقة في الخارج، بل هما مستمدان من ذاته، فإذا كان فيلسوفًا يمدها بلغة فلسفية رمزية لحقيقة خلفها، أما الشاعر الذي يتناول الطبيعة تناولًا ذاتيًّا فإنه يتحول بسهولة إلى الشعر الذي يتناولها كمسرح للإنسانية، فتكون الطبيعة خاضعة للإنسان وتابعة له، وتكون مصدرًا للتصوير والمقارنة والتشبيه، ولذلك يكون محيطه أضيق من شعر الطبيعة الخالص.

فمثلًا قول الشاعر:

وليلة من الليالي الغر
قابلت فيها بدرها ببدري
لم تك غير شفق وفجر
حتى نقضت وهي بكر الدهر

فهذا شعر في الطبيعة في وصف الليل، وهو شعر ذاتي عبر فيه الشاعر عن شعوره، وهو صادق التعبير.

وقول ابن المعتز:

يا رب ليل سحر كله
مفتضَح البدر عليل النسيم
تلتقط الأنفاس برد الندى
به فتهديه لحرّ الهموم
لبِستُ فيه بالتذاذ الهوى
ولذة الراح ثياب النعيم

شعر في قصر الليل أيضًا، ولكنه متكلف قد تصنع فيه أنواع البديع كمقابلة برد الندى بحر الهموم، وعُنِيَ فيه بالتشبيهات أكثر مما عُنِيَ بشعوره بالليل.

ويقول الشاعر في وصف الخيل:

وننكر يوم الروع ألوان خيلنا
من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
فليس بمعروف لنا أن نردها
صحاحًا ولا مستنكر أن تُعقّرا

وصف يدل على الصدق والتجربة الذاتية الحقّة.

وقول آخر في وصف الفرس: «حسن القد، أصيل الخد، يسبق الطرف ويستغرق الوصف».

يقرؤه القارئ فيشعر بأنه عُنِيَ بالوصف وسبك اللفظ أكثر مما عُنِيَ بشعوره، وكذلك قول رجل لبعض النخاسين: اشتر لي فرسًا جيد القميص، حسن الفصوص، وثيق القصب، نقي العصب يشير بأذنيه ويندس١ برجليه، كأنه موج في لجة، أو سيل في حدور، إن عطف جار، وإن أرسل طار، وإن كُلِّف المسير أمعن وسار، إن حبس صفن، وإن استوقف فطن … فهذا لعب بالألفاظ أكثر منه صدقًا في التعبير.

القسم السادس: شعر الإنسانية

والإنسانية واسعة غير محدودة ومتنوعة الجوانب إلى حد أن الشعر كله يصح أن يكون شعرًا إنسانيًّا إذا استثنينا شعر الطبيعة الخالص. وهذا الشعر الإنساني إما أن يكون مقدرًا لعظمة الإنسان مقرًّا بجلاله وسمو شأنه، وإما أن يكون شعرًا هجائيًّا ينظر للإنسان بالازدراء والانتقاص كشعر اللزميات.

فالنوع الأول يجب أن يكون أسلوبه مليئًا بالتقديس والإجلال، وأن يكون خاليًا من اليأس والهجاء، ويجب أن يكون معبرًا عن الصدق والحق ملتزمًا لهما، خاليًا من الصنعة البلاغية والتزويق الزائد، بعيدًا عن التكلف والغموض.

وأما نظرة الشاعر الهجائي فمختلفة تمامًا فهو يذم، ولا يكتفي الشاعر بذلك بل ينشد مثلًا عليا يصفها ويفضلها على ما يهجوه.

وعاطفة الهجاء إما أن تكون بغضًا أو عدم رضى أو احتقارًا، فالهجاء الذي يقتصر على عدم الرضى لا يرتفع إلى مستوى شعري عال … إلا بصعوبة، لأن عدم الرضا سهل بسيط، وقد يقود عدم الرضا إلى الاحتقار وهو المصدر الأساسي للهجاء. ويوجد الاحتقار حين يشعر الشاعر بسموه على المهجو وارتفاعه عنه وإذ ذاك ينتج الهجاء. وقد يكون احتقار الشاعر للمهجو ممزوجًا بالرثاء لحاله وعطفه عليه، وهذا الشعور ينتج السخرية. فإذا خلا الشاعر من هذا العطف وكان إحساسه بسموه الشخصي عظيمًا فإن هجاءه سيكون شديدًا واحتقاره يكون بالغًا، فلا تكفي إذن الفكاهة، بل لا بد من اللذع القاسي كالذي كان بين جرير والفرزدق. والشعر الهجائي الناتج عن البغض ينشأ عن الشعور بالكراهية للأفراد، وهم غالبًا المعاصرون، وبغضه لهم إما أن يكون ناشئًا عن عدم رضاه عن أخلاقهم أو احتقارًا لقدرهم.

والشعر الإنساني إما أن يكون واقعيًّا أو مثاليًّا. فالواقعي هو محاولة عرض الشخصيات والحوادث للرجال والنساء كما هي بالضبط بلا تحسين أو تبديل، والمثالي محاولة عرض هذه الأشياء بعد التحسين والتقبيح، ومحاولة الواقعي لا تكون ناجحة إلا إلى حد محدود، فإنه لا يستطيع أن يحرر نفسه ويخلص للعمل الفني من تنظيم الأشياء تنظيمًا كماليًّا. والشاعر الواقعي يرى أن الإنسان كما هو في الحياة الواقعية كاف لأن يكون موضوعًا للشعر، أما الشاعر المثالي فلا يرى أن الإنسان كما هو في الحياة الواقعة كاف لأن يكون موضوعًا للشعر، بل هو مجرد مادة فإنه يدخل عليها التحسين والتغيير والتبديل، وهو يفعل ذلك إما بالمبالغة أو بالتغيير أو بالإشعاع. فالمبالغة أن يجعل الشاعر الحسن أحسن والقبيح أقبح. ويجعل الجميل أجمل، وإذا وصف صعوبة بالغ فيها وبالغ في فضل الناس في التغلب عليها. وأما التغيير فنعني به تغيير الشاعر للنماذج التي ينظم فيها شعره حتى تصبح ملائمة لفكره — ونعني بالإشعاع أن يشع على الأشياء ضوءًا وسحرًا وجاذبية من نفسه ليست لها في الواقع — والمحيط التعبيري للشاعر المثالي أوسع من المحيط الذي للشاعر الواقعي، فهو يتمتع بحرية الخلق فيخلق الشخصيات ويخلق الذوق ويكون أسلوبه تبعًا لذلك حرًّا واسعًا غير محدود.

والشعر الإنساني. إما أن يكون شعرًا انتخابيًّا، أو شعرًا عالميًّا. فالانتخابي هو الذي يعتقد الشاعر فيه أن طبقات معينة من الناس والأعمال هي التي تستحق التناول الشعري، وفي تاريخ الأدب كان الشعر الانتخابي دائمًا هو شعر العصور الماضية، كالذي يروى عن المتنبي، إذ ترفع عن مدح الصاحب ابن عباد معتقدًا أن أقل من يصح أن يمدحه هو ابن العميد. فكيف بمن دونه كالصاحب ابن عباد؟

أما الشاعر العالمي: فهو الذي يرى أن الطبيعة الإنسانية في كل زمان، وفي كل مكان، ومن أي طبقة كانت تستحق أن يتناولها الشاعر، وفي التاريخ كان شعر الحركات الثورية هو الشعر المثالي، فهو يعارض العصور الماضية، ويروم هدم تقاليدها.

ويرى الشاعر المثالي أن الطبيعة الإنسانية تكاد تكون متقاربة بين الأفراد، والفروق التي بينهم فروق عرضية أكثر منها جوهرية. بل إنه يرى الإنسان الكبير في الصغير، والأمير في الحقير، ولذلك لا يترفع عن أن يحلل شخصية صغيرة لأنه يرى فيها «الإنسان» على أي حال كان. وشأن هذا شأن تاريخ مؤلفي الروايات، فقد كانوا في العصور الماضية لا يتكلمون إلا عن القصور ومن فيها، والعظماء والأشراف ومن يماثلهم، ولم يكونوا يعرضون للكوخ ومن يسكنه إلا لإضحاك العظماء أو السخرية بهم، ثم انتقلوا إلى فهم أن كل شيء يصح أن يكون موضوعًا للأدب، وموضوعًا للقصة، فالكوخ الحقير كالقصر الكبير، والفلاح الصغير يصح أن يكون موضوعًا للقصة كالأمير الكبير.

الصنعة الشعرية

تشمل الصنعة الشعرية الوزن والقافية، والأسلوب الشعري:

فالوزن في الشعر العربي: هو ما يسمى بالبحور، ونظام المقاطع وتتابعها. وترتيبها: هو ما يسمى بالتفاعيل. وللوزن — كما قلنا — علاقة كبيرة بالموضوع، فمن الموضوعات ما يناسبه البحر الطويل، ومنها ما يناسبه البحر الخفيف وهكذا.

أما القافية فعامل عظيم في الشعر: فهي تزيد في موسيقاه، ولذلك تزيد في المتعة منه.

وقد أفرط بعضهم في القيود في القافية، فكان من ذلك لزوم ما لا يلزم، كما فعل أبو العلاء في كتابه اللزوميات.

وقد مال العصريون تبعًا للغربيين إلى التحرر من القافية الواحدة؛ لتوسعهم في الشعر غير المقفى، أما الأسلوب الشعري، فهو الصفات الكلامية التي تجعله قويًّا، أو رقيقًا عاطفيًّا، أو جميلًا.

والفرق بين أسلوب الشعر وأسلوب النثر، أن في أسلوب الشعر قوة غامضة لبعض الكلمات وبعض التراكيب تنتج هذه القوة من اجتماعها أو جرسها فتسبب استثارة الخيال، وتنفذ إلى صميم القلب. ولأسلوب الشعر السحر الطبيعي الذي يرجع إلى الوحي الأسمى، وإلى قوة الصياغة التي تعبر بها اللغة عن معان وراء المعاني الاصطلاحية اللغوية. وبما أن أسلوب الشعر أسلوب رمز وإيماء فيجب مراعاتها، ويجب دراسة أصولها ودراسة قيمتها الجمالية.

وفي دراستنا للشعر قد نتناول ديوان شاعر منفرد فنحلل شعره. ونفحص مميزاته البارزة في لغته، وأن نتتبع العناصر التي يستمد منها فكره ونرد أسلوبه إلى مصادره، وأن ندرس علاقاته بروح عصره وحركاته، ثم بعد ذلك قد ننتقل منه إلى الشعراء الآخرين في عصره متخذين شعره أساسًا للمقارنة بينه وبينهم نقطة فنقطة.

وقد نقوم بدراسة تاريخية لمجموعة كبيرة من الشعر، كالشعر الجاهلي متتبعين مده وجزره، وتأثيره من عصر إلى عصر، وقيام المدارس والطرق والتقاليد وسقوطها، ملاحظين كل تغير هام في الموضوع والروح والأسلوب وباحثين عن شرح هذا التغير في القوة المبدئية لرجال معينين، وفي الظروف التي ساعدت على شهرتهم، أو عدمها، وفي الميول العظمى للحياة والفكر في العالم الخارجي. وقد نضيق دراستنا من ناحية، ونوسعها من ناحية أخرى. فنُعنى بتاريخ نوع شعري كبير واحد كالغزل والرثاء، وخلال ذلك ندرس مراحل الشعر في هذه الناحية، وتطوره وتغيره في الآداب المختلفة، والأزمنة المختلفة. وقد نختار موضوعًا معينًا مثل شعر الطبيعة، ونجعله أساسًا لدراسة تمتد وتتفرع إلى نواح مختلفة، وتتصل بنقط كثيرة مع دراسة تطور الأدب على العموم.

ولكن كيف نقدر الشعر؟ نبدأ بالتحذير من أنه مهما تعمقنا في دراستنا ومهما توسعنا ودققنا في معرفتنا بتطور الشعر وصنعته، ومهما انهمكنا في مشاكل التاريخ والنقد. فيجب أن لا ننسى أن غرضنا الرئيسي من الشعر يجب أن يكون الاستمتاع بالشعر كشعر، وبالشعر لأجل الشعر، وبعبارة أخرى نستمتع به كشيء من الجمال مليء بالمعاني ممن لهم قدرة يشعرون بها وقلب يفقهون به. ومن ثم فتنمية القدرة على التقدير الشعري أهم من كل الدراسات العلمية.

وأحسن ملحوظة يمكن أن تقال في هذا الأمر: إنه في تقديرنا للشعر يجب أن نتذكر دائمًا أن الشاعر يخاطب مباشرة المشاعر التي في نفوسنا، وأن استمتاعنا الحقيقي بالشعر يتوقف على حدة إدراكنا الخيالي، واستجابتنا للعاطفة الشعرية.

ومعنى هذا أن أية قصيدة لا يمكن أن نفهمها وأن نتملكها إلا بمران طويل من جانبنا للقوى التي سببت إنشاء القصيدة.

ومن العبث أن نتحدث إلى أولئك الذين ولدوا بدون حاسة شعرية، كما لا نأمل أن نمتع بالموسيقى الذين فقدوا الحاسة الموسيقية.

ونضيف إلى ذلك أننا في قراءتنا للشعر يجب أن لا تقتصر على قراءته سرًّا بل يجب أن نتلفظ به بحيث نسمعه، فإن قراءته سرًّا تضيع أغلب جماله وسحره اللذين يوجدان في الصوت وخاصة في موسيقى الوزن، لأن الشعر كلام موسيقي، ولذلك يدين بكثير من جماله وسحره وقدرته الغريبة على استثارة العواطف، لجمال اللفظ ولأنغامه المتنوعة في الوزن والقافية، ولذلك فقيمته الكاملة لا يمكن أن تقدر إلا إذا خاطبنا العواطف من خلال الأذن أيضًا فيجب أن نمرن الأذن بقراءة الشعر بصوت مرتفع.

١  أي يضرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤