النواحي التاريخية من دراسة النقد كأدب

الطريقة المقارنة في دراسة النقد

في دراسة النقد كما في دراسة الأنواع الأخرى للأدب سننتقل إلى أن نوسع معرفتنا بالكاتب المفرد ونجعلها أكثر تحديدًا بواسطة المقارنة، فنضع عمله بجانب عمل النقاد الآخرين الذين تناولوا نفس الموضوعات، ونفس الكتب أو المؤلفين أو العصور أو الأنواع الأدبية، وبهذا نحاول أن نعرف قوة كل وضعفه أكثر مما لو درسناه على انفراد، وإذا نحن لم نعد نقتنع — كما كنا في القراءة غير الدقيقة نقتنع — بمجرد ملاحظة الاتفاق أو التخالف في الأحكام، فإننا سنختبر بدقة كل نقط التشابه والاختلاف في الأشياء التي تقع من وراء الأحكام، في الموقف الشخصي وفي الميول الشخصية، في منهج التناول، في النقط التي يبالغ في تأثيرها أو تهمل، في الطرق والمثل والنفسية والذوق. والنتائج التي يحصل عليها بمثل هذه الدراسة المقارنة لن تكون شائقة في حد ذاتها فحسب، ولكن يكون لها قيمتها الخاصة في مساعدتنا على إرجاع صفات عمل كل ناقد إلى مصادرها البعيدة في النفسية والثقافة والأغراض.

وكلما تعمقنا في ميدان هذه الدراسة المقارنة دهشنا للتنوع العظيم غير العادي في الآراء النقدية، ولإخفاق النقاد في أن يصلوا إلى اتفاق بينهم حتى عن الأمور الأساسية. وهذا هو ما كان سببًا في ما لقيه النقد كثيرًا من الازدراء والكراهية. وقد عزز هذه العقيدة عن تفاهة النقد ما يحدث من أن الأحكام المعاصرة على كتب جديدة تخفق في أن تعطي مقياسًا صادقًا لقيمة هذه الأعمال.

وفي كثير من الأحيان بالطبع تكون هذه الاختلافات في الرأي النقدي اختلافات شخصية فقط. فإذا كانت كذلك فإنها يجب أن تقل، وهي تكون حينئذ شائقة في حد ذاتها، ولكن سنجد أنه كثيرًا ما تكون الاختلافات والاتفاقات مجمعة في مجموعات، فنجد قدرًا من التطابق العام ومن اتفاق الرأي بين نقاد نفس العصر والمدرسة، وقدرًا من عدم التطابق ومن افتراق الرأي بين نقاد العصور المختلفة. وهكذا يمكن أن تدخل المميزات الفردية إلى حد ما في مميزات الطبقة التي ينتمي إليها كل ناقد. وليس هذا إلا النتيجة الحتمية لاعتماد الأدب على حياة العصر الذي ينتجه وقد شرحنا هذا فيما تقدم. فالنقد لا يقل عن أي نوع من أنواع الأدب في أنه بينما هو لا يتوقف لحظة عن أن يكون أداة للشخصية فهو في نفس الوقت تعبير عن روح العصر الذي جاء منه.

الدراسة التاريخية للنقد

ننتقل من دراسة النقاد المفردين إلى الدراسة التاريخية للنقد، وهو موضوع على غاية من التشويق، لأن تاريخ النقد يحتوي تاريخ التغيرات التي تطرأ من عصر إلى عصر على فهم الناس للأدب، لأغراضه ولمبادئه، لموضوعه ووسائله، للأشياء التي يجب أن يبحث عنها أو يتجنبها، وللمثل العليا التي ينقد بالنظر إليها.

تغير الآراء عن المؤلف الواحد

وهناك فكرة سهلة وهي أن نتتبع ونجمع التغيرات التي طرأت على الرأي النقدي تجاه أديب واحد. ومن أشد الأمثلة بروزًا تاريخ نقد شكسبير من عودة الملكية (سنة ١٦٦٠) إلى عهد كولردج أو بعد ذلك وهو مثال مشهور. وهناك مثال آخر ليس على هذه الشهرة ولكنه لا يقل فائدة. وهو عن Bunyan فالقرن الثامن عشر بنظرياته عن العظمة في الأدب، وبفهمه الضيق للفن، وبعدم صلاحيته لإدراك قيمة الطبيعة الصادقة والبساطة قد وجه انتباهًا ضئيلًا جدًّا إلى هذا المفكر. فإذا صادف أن التفت إليه ناقد في القرن الثامن عشر عده عاديا ومبتذلًا ومن الرعاع. ثم ننتقل إلى القرن التاسع عشر فنجد سوثي يطبع كتابه The Pilgrism’s Progress، ونجد ماكولي يثني على سوني لقيامه بطبع الكتاب النفيس، وينتهز الفرصة ليغمر الكتاب بالتقدير والإجلال واصفًا إياه بأنه كتاب رائع عجيب شائق لكل قارئ، وكذلك كان موقف كل النقاد الإنجليز من ذلك العصر إلى اليوم تجاه هذا الكتاب العظيم.

كيف نفسر هذه التغيرات

كيف نفسر هذا التغير في نظرات النقاد؟ لا يستمد التغير سببه من الميول الشخصية لهذا الناقد أو لذلك. وإنما يجب أن يبحث عنه في دراسة كل التأثيرات في الأدب التي اجتمعت في قرن ونصف قرن لكي تغير طرقه وروحه، ولكل القوى خارج الأدب التي عملت كثيرًا على أن تنتج هذه التأثيرات خلال التبدل العظيم الذي أحدثته في المثل الخلقية والدينية والنفسانية فإن ظواهر الأدب والحياة مترابطة إلى حد عظيم بحيث يستحيل أن نقص بالتمام قصة هذا الأديب الذي كان مهملًا ثم ارتفع إلى طبقة العظماء المعروفين.

تاريخ النقد كملحق لتاريخ الأدب

وهكذا يتسع تاريخ الرأي النقدي من كل جانب حتى يصبح ملحقًا لتاريخ الإنتاج الأدبي. ولهذا لا يمكننا أن ندرس مثلًا نقد القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر في علاقته مع الحركة الكلية للأدب من عصر الكلاسيكية إلى عصر الرومانتيكية، ويمكننا أن نتتبع هذا التطور في تعرف تغير الآراء تجاه پوب وهو أعظم شخصية في العصر الكلاسيكي.

وهكذا يتضح أن تاريخ النقد كتاريخ للآراء المتبدلة عن كل جانب وكل صفة من الأدب يعطينا ملحقًا لا غنى عنه بل يعطينا شرحًا قيمًا لتاريخ الإنتاج الأدبي. وإن تاريخ النقد في الحقيقة هو الذي يجب أن نرجع إليه إذا أردنا أن نستكشف أساس التغيرات التي نحتاج إلى تتبعها في دراستنا لتاريخ الأدب.

النقد والإنتاج

ويحسن أن نذكر هنا بعض ملاحظات على حظ من الأهمية. كان النقد دائمًا محافظًا، ظل يبحث عن المرشد في الماضي وقل أن شجع التجارب أو التطورات الجديدة، وكانت قوته في العادة تتخذ للتعطيل والتقييد. ففي كل مرحلة من مراحل التغير كان صراع يقوم بالضرورة بين قوى الإنتاج وقوى النقد، وليس هذا الصراع إلا ظاهرة واحدة للمعركة التي تظل قائمة إلى الأبد في كل ميادين الحياة والفكر بين الحرية والجمود، بين التجديد والتقليد، بين الذاتية والقواعد، بين الجديد والقديم. ففي الأدب كما في أي شيء آخر نجد أزمنة الجمود والسكون التي تتغلب فيها الروح النقدية، ولا يتحرك الرجال إلا في سبل مرسومة تمامًا، تتعارك مع أزمنة المخاطرة والاتساع التي تحرر فيها القوة الخالقة نفسها وتتقد العبقرية بلهفة ونفاد صبر إلى استكشاف «غابات جديدة ومراع جديدة». وفي الأدب كما في أي شيء آخر أيضًا بينما تميل الروح النقدية دائمًا إلى أن تجعل نظرياتها النقدية شديدة صلبة متزمتة متعنتة تجد الحالة تنقلب وتبدلها الثورات التي تظهر وتنتشر فيؤمن بها الجيل الجديد. ثم يبالغ في الإيمان بها حتى تعود هي الأخرى نظريات جامدة فتقوم ثورات جديدة ضدها وهكذا. وفي الأدب كما في أي شيء آخر إذا كان الجمود ينتهي إلى أن يكون ظلمًا واستبدادًا وسلطة مطلقة فإن الحرية كثيرًا جدًّا ما تصير فوضى وجموحًا وإباحية. حقًّا إن التاريخ كثيرًا ما أثبت أن الأدب قد بلغ أجوده حين تحدى الناقد وتحكماته، ولكن برغم ذلك يجب ألا ننتقص من تأثير النقد كقوة منظمة. حقًّا إنه لو أطاع الأدباء النقاد لما وجدت الدراما الشكسبيرية، أو الحركة الرومانتيكية.

ولكن من ناحية أخرى لن ينكر أحد أن بعض المبالغات البارزة الزائدة عن الحد التي تميزت بها الدراما الشكسبيرية والحركة الرومانتيكية كان يمكن أن توقف وتردع لو وجه انتباه أكثر إلى قواعد النقد.

ولكن يجب أن نتذكر أن النقد فيما خلا وسيلة التقييد والإرشاد لم يلعب إلا دورًا ضئيلًا في تقدم الأدب. فهو قل أن أوحى بشعور جديد أو استكشف أرضًا جديدة. حقًّا إن الحركة الجديدة قد يصاحبها أو حتى يتقدمها دعاية نقدية كما حدث في الحركة الرومانتيكية في فرنسا، ولكن العادة أن العبقرية الخالقة تتقدم في الطريق كقائد ويتبعها النقد، وحتى حينما يتغير هذا الترتيب فقل أن تكون النتائج مرضية تمامًا. إذ الأدب الذي ينشأ لكي يطابق قوانين موضوعة محددة لا بد أن يتميز بصبغة من الجمود والتقييد. وحتى حين يكون الشاعر ناقدًا جيدًا بقدر ما هو شاعر جيد فإنه يمكن أن يقرر كقاعدة عامة أنه يحسن أعظم الإحسان في عمله كشاعر حين يعمل متبعًا الوحي الطبيعي لعبقريته وبدون أن يحاول توضيح أية نظرية يعتنقها. ووردسورث وماتيو أرنولد مثلان لهذه الحقيقة.

مشكلة تقدير الأدب

درسنا حتى الآن بعض النقط الهامة التي يحتاج إلى بحثها في الدراسة المنظمة للنقد وبعض المسائل الرئيسية التي تلزم مناقشتها في خلال ذلك، وبقي علينا أن نتناول مشكلة تقدير الأدب من ناحيتها العملية.

هناك حقيقتان تبرزان بوضوح، فمن ناحية برغم كل النظريات الجديدة في إمكان نوع علمي خالص من النقد لا تبذل فيه أي محاولة للتقدم من التفسير إلى الحكم، فإن الحكم يجب أن يظل يعد في الحاضر كما كان في الماضي واحدًا من المهمات الحقة للنقد. ومن ناحية أخرى فإن النتائج التي حصل عليها من ممارسة الحكم كانت في مجموعها متغيرة وغير ثابتة وغير مقنعة إلى حد أنه بينما أحقيتها لا يمكن أن تنكر فإن فائدتها يمكن أن توضع موضع الشك والتساؤل. وبالنظر إلى هذه الحقائق يجب ألا نستغرب إذا وجدنا نظرية منتشرة جدًّا عن النقد تقول: إن كل ناقد له بالطبع الحق الكامل في أن يكون له فكرته الخاصة وأن يعمل ما في وسعه ليجتذب الآخرين إلى أن يوافقوه، ولكن أمام كل فكرة يمكن أن توجد فكرة أخرى معارضة في نفس الصفة والوجاهة، ولذلك فالنقد قد برهن على أنه في مجموعه مجرد عمل يبطل بعضه بعضًا أو لم يفعل شيئًا أو لم يفعل إلا قليلًا في سبيل أي بناء نهائي للقيم الأدبية. ومن الحسن أن نتكلم عن مقدرة الناقد على الحكم، ولكن قد يتساءل: هل الناقد حقًّا قاض؟ أليس هو أقرب إلى أن يكون في طبيعته محاميًا؟ وهل كل حكم شخصي بالضرورة؟

وهكذا نصل إلى المغزى التام للنزاع الذي كثيرًا ما يثار، فيقال: إن كل حكم في الأدب هو بالضرورة شخصي في مصدره وفي نوعه: فإذا عبرت عن رأي معين عن قيمة كتاب كنت أقرؤه فإن هذا رأيي وليس أزيد من ذلك. فإذا قال آخر رأيًا معارضًا لرأيي تمامًا فإنه حينئذ يكون لكل حكمه الفردي الخاص المعارض لحكم الآخر. فإذا دخل شخص ثالث في المناقشة ووافق على هذا أو الآخر فإنه إنما يزيد حكمًا فرديًّا آخر يزيد المشكلة تعقيدًا.

وليس من شخصين اثنين يقرآن نفس الكتاب إلا وكان لكل نظريته الخاصة، فكل واحد منهما إنما يتكلم عن الكتاب الذي قرأه هو. ليلبس الناقد رداء القاضي، وليستعمل لغة اصطلاحية، وليعرض كثيرًا من المبادئ والمثل والأحكام. ولكنه لما كان مستحيلًا أن يتخلص من نفسه فإن آراءه يمكن أن ترجع إلى مصدر شخصي تمامًا شأنها في ذلك شأن آراء ذلك الرجل الذي نجده في عربة القطار يثرثر بجهله وعقليته العامية. هلا يمكن النقد أبدًا أن ينفك مما يتصف به من اتباع الهوى والميل والرغبة الخاصة وعدم التقيد؟ وهلا يمكن أن يزيد على تدوين الأذواق والميول والنفور التي تنقلب بتغير نفسية الناقد وتعتمد على المزاج والعقل والثقافة والميل؟ كلا.

ولا يخلو النقاد أنفسهم من أولئك الذين يعتقدون أنه مهما وضع من المبادئ النقدية ومهما بذلت محاولات للحد من العامل الشخصي فإن النقد كله شخصي وانفعالي، وهكذا يقول أناتول فرانس: «إن الذي يلقي محاضرة عن الأدب إذا كان مخلصًا حقًّا فإنه بدل أن يقول: أيها السادة، سأتحدث إليكم اليوم عن بسكال أو راسين أو شكسبير، يجب أن يبدأ محاضرته قائلًا: أيها السادة، سأتحدث إليكم عن نفسي في علاقتها مع بسكال وراسين وشكسبير».

الاختلافات في القيمة بين الأحكام الشخصية

هنا بلا شك نواجه صعوبة حقيقية، ولكن يجب أن نلاحظ أنه حتى لو كان صحيحًا الرأي الذي عبر عنه الفرنسي العبقري أناتول فرانس هذا التعبير البارع، وحتى لو رفضنا معه التسليم بوجود أي مبادئ ليست مجرد نتاج للذوق الفردي حتى يمكن أن تنفع في ضبط النقد فإننا لا نكون بذلك قد أنكرنا النقد وألغيناه. فإذا نظرنا إلى الموضوع من أوسع نواحيه فإننا نلاحظ أنه في معظم الحالات يوجد اختلاف واضح في القيمة بين حكم وحكم لسبب بسيط هو أنه يوجد اختلاف واضح في القيمة بين قاض وقاض، وقد وضحنا ذلك من قبل، فقد يكون لكل إنسان الحق في أن تكون له آراؤه الخاصة عن مسائل الأدب كما له آراؤه الخاصة عن غيرها من المسائل، ولكن ليس هناك من موضوع يمكن أن يكون رأي شخص عنه في جودته رأي شخص آخر، فإذا وجد مثل هذا الموضوع فإنه بالتأكيد ليس أدبًا، فقد نقرأ لناقد كبير تعبيره عن ميله ونفوره تجاه الكتاب فتبدو لنا آراؤه معتمدة على مجرد الهوى والميل الذاتي، ولكنها دائمًا تستحق الاعتبار والتقدير أكثر مما تستحقه آراء رجل الشارع، ونحن نصغي إلى أناتول فرانس حينما يتحدث عن نفسه في علاقتها مع بسكال أو راسين أو شكسبير بانتباه أعظم مما نصغي به إلى مطلع آخر يتحدث عن نفسه في علاقتها مع نفس الموضوع؛ لأننا ونحن نعلم أناتول فرانس كما نعلمه، فإننا نتأكد من أنه مهما يكن ما سيقوله لنا شعورًا شخصيًا فإنه سيتميز بعمق النظرة والفطنة والذكاء غير العادية. كتب Lord Jeffrey في إحدى مقالاته عن سكوت: «لما كان غرض الشعر هو أن يعطي المتعة فقد يبدو أن أجود الشعر هو الذي يعطي أعظم المتعة إلى أعظم عدد من القراء». ثم يسترسل النقاد في بيان سخف هذا الرأي وخطئه. ولكن سخف هذا الرأي وخطأه لا يحتاجان إلى بيان، فليست تقاس جودة العلم بمقدار انتشاره بين الشعب أو إعجاب الناس به. وليس يقاس العمل الأدبي أو الصورة أو القطعة الموسيقية بمقدار اجتذابها للعامة غير المثقفة بدلًا من القليلين المثقفين. وإلا فها نحن نجد أنواعًا من الروايات الحديثة يقرؤها من يزيدون خمسين ضعفًا على قراء رواية راقية جيدة لمثل جورج مريديث. فهل يؤدي بنا ذلك إلى أن نشك في عبقرية مريديث لحظة واحدة وأن نفضل عليه أولئك الكتاب السوقيين؟ كلا، وإذن فأولئك الذين يلحون في بيان اختلاف الذوق تجاه المسائل الجمالية يجب أن يعترفوا بأن عنصر القيمة يدخل في الاختلاف، وأنه يجب أن يميز بين الذوق المهذب والذوق غير المهذب، بين الذوق الجيد والذوق الرديء.

إن ما قدمناه يساعد على تصحيح بعض الآراء الخاطئة الموجودة التي كثيرًا ما تقفز إلى الحديث عن مشكلة التقدير في الأدب، ولكنه لا يتناول المشكلة القديمة عن الاختلافات في الحكم بين الخبيرين أنفسهم. وسندرس هذا الآن ولكن يجب أولًا أن نذكر نقطة هامة عن موقفنا الشخصي الخاص تجاه الأدب.

المشكلة الحقيقية، الاستمتاع الشخصي

إذا عبرت عن رأي معين عن قيمة كتاب قرأته فإنه يقال أحيانًا إن هذا هو رأيي ولا يزيد عن هذا، وأن كل الأهمية التي له إنما يمتلكها باعتبار أنه ذكر لذوق فردي لأحد الأشخاص، ولكن هنا ينشأ تساؤل يلقي توًّا على حقيقة الذوق الفردي ضوءًا جديدًا. هل الرأي الذي كونته عن الكتاب بالضرورة نهائي، حتى بالنسبة لي، أهو رأي يجب عليّ أنا نفسي أن أقبله كرأي مرضي تمامًا، أقول: لقد استمتعت بهذا الكتاب، لقد أقنعني وأمتعني وأثار عاطفتي، ولكن هل المسألة تنتهي هنا؛ كلا بالتأكيد. فإن المسألة الحقة التي يجب أن تدرس هي، كما قال سنت بيف: ليست هل استمتعنا بعمل فني معين، وهل أقنعنا وأمتعنا وأثار عاطفتنا، لكن هل كنا محقين في الاستمتاع به وفي كونه أقنعنا وأمتعنا وأثار عاطفتنا. فمن وراء مسألة استمتاعنا بعمل أدبي معين توجد إذًا مسألة تالية هي معرفة صواب هذا الاستمتاع وقيمته. وميولنا ونفورنا، إذا حللت وجد أنها تتغلغل بجذورها إلى أعماق المزاج وتقترن اقترانًا شديدًا بالعناصر الفكرية والخلقية التي تكون شخصيتنا إلى حد أن ضبطها يبدو صعبًا واستئصالها يبدو مستحيلًا. ولكن من منا لا يدرك أن هناك عالمًا من الاختلاف بين الميل إلى الشيء والنفور عنه، ولا يقتنع بأننا يجب أن نميل إليه أو ننفر منه؟ معظم الناس لا يفكرون إلا تفكيرًا سطحيًّا عن علاقاتهم بصور الفن المتنوعة، ويسرعون إلى الاعتقاد بأن متعتهم السريعة الخاصة هي بالنسبة لهم آخر حكم لهم على القيمة، ولذلك لا يتوقفون لحظة لكي يفهموا المعنى الذي يتضمنه الاختلاف، ولكنهم إذا فهموا هذا المعنى مرة تكشف أمامهم دنيا جديدة من الحقائق. نحن نعلم جيدًا أنه حينما نقول حكمًا عن كتاب في تعبير لا يتضمن إلا مجرد ميلنا ونفورنا، ودون أن نبذل أي محاولة لأن نزيد على ذلك فإننا في الحقيقة لا نصدر حكمًا على الكتاب بقدر ما نحن نصدر حكمًا على أنفسنا، وفي هذه الحالة يكون رأي أناتول فرانس عن قيمة حكمنا صائبًا تمامًا.

ولكننا نعلم أيضًا — وإن يكن الاعتراف بذلك يحتاج إلى شجاعة — أننا في مثل هذا الحكم نعبر عن مواطن الضعف والقصور فينا. وهكذا قد ندرك وجود مميزات عظيمة في قطعة من الأدب حتى حينما لا نستطيع أن نستمتع بها. بل قد يحدث كثيرًا أن القطعة الأدبية بسبب ميزاتها العظيمة لا تنجح في أن تمتعنا وتستثيرنا بل قد نضيق بها ونبغضها؛ لأن الاستمتاع بالعظمة في الفن يحتاج إلى مجهود شاق لا تحاول بذله، أو قد لا نستطيع بذله بسبب التكاسل أو البلادة، أو ضعف الاستعداد، ولذلك نفضل أن نظل في الأشياء القليلة الأهمية لأنها تكلفنا عناء أقل في فهمها والاستمتاع بها.

بعض النواحي العملية لهذه المشكلة

ولكن إذا اعتقدنا عن الثقافة الأدبية أنها شيء ذو أهمية حقة في الحياة فإننا لن نظل قانعين بالبقاء عند هذه الأشياء التي تكلفنا أقل العناء، فإذا تدربنا على أن نعيد النظر فيما قرأناه مصممين على أن ننزع من أنفسنا الإحساسات التي كانت تستثار فينا وقت القراءة فإننا سنجد من الممكن أن نفحص هذه الإحساسات فحصًا نقديًّا وأن نزنها وأن نحكم هل نحن قد استمتعنا لأن سببًا جيدًا أثارنا، وهل المتعة التي صادفناها في الكتاب هي المتعة التي توجد في الأشياء الجيدة؟ ثم يوجد اختبار آخر وضعه أحد النقاد الأقدمين وهو لونجينوس، إذا كان الكتاب كلما أكثرنا قراءته قل تقديرنا له، وإذا كان تأثيره لا يزيد عن وقت تصفحه ومطالعته فإننا نتأكد من أنه برغم ما قد يكون استمتاعنا الأول به عظيمًا فإنه شيء ضئيل تافه. وهكذا نعرف هذه الحقيقة وهي أن متعتنا الشخصية شيء وتقديرنا لقيمة متعتنا الشخصية شيء آخر. قد يتفق الأمران وقد لا يتفقان، فإذا لم يتفقا فإنه من واجبنا أن نحاول محاولة قوية منظمة أن نحكم أحدهما بالآخر. فإذا ابتدأنا مقتنعين بأننا يجب أن نأخذ ميولنا ونفورنا كما نجدها وأن نسمح لها بأن تتحكم فينا دون أن نعارضها، فإننا بذلك نضيع كل فرصة في أن ننمي قوة النقد وعمق النظرة في تقديرنا، ففي مسائل الأدب كما في غيرها من المسائل، نحن محتاجون أشد الاحتياج إلى أن نتمرن على الاستمتاع. والآن يتضح أننا إلى حد ما مجبرون على أن نعترف بحقيقة بعض المقاييس عن القيمة بصرف النظر عن عواطفنا الشخصية الخاصة، ولذلك يجب أن يكون غرضنا الأعظم أن نقرأ، واضعين هذه المقاييس نصب أعيننا دائمًا، وأن نقدر بصراحة مواطن ضعفنا وتصورنا، وأن نخضع أنفسنا — بصبر وجلد وإخلاص — إلى نظام الأشياء التي تبدو لنا جديرة بانتباهنا مهما كانت تبدو أبعد مما نستطيع أن نصل إليه وبذلك نرفع أنفسنا شيئًا فشيئًا إلى مستواها ونربي أنفسنا في الحكم والذوق، ومثل هذه التربية الشخصية في الاستمتاع بالأدب ممكنة لأولئك الذين يملكون أنفسهم ويخضعونها لإرادتهم. ولن ينكر أحد من الذين قد عرفوا نتائج هذه التربية من ممارستهم لها أنها إذا كان العناء كثيرًا فالمكافأة أعظم.

هذا كاف في مناقشة هذه المسألة عن الأذواق والمقاييس من وجهة صلتها بنا مباشرة. ولكن يبقى علينا دراسة مسألة الاختلافات المستمرة المدهشة في الحكم بين النقاد المحترفين والمتذوقين الهواة.

هل النقد عمل يلغي بعضه بعضًا؟

حتى الآن قبلنا جدلًا الرأي الشائع على أنه صحيح ولا يحتاج إلى استفسار: إن النقد عمل يلغي نفسه aself-cancelling business. وإن تاريخه لا يزيد إلا قليلًا عن أن يكون سجلًا للمعارك والمعارضات، للتأكيدات والإنكارات، وللمثل التي تقام لكي تهدم ثانيًا. ولكن أهذا تقرير للحقائق الواقعة؟ هل النتائج التي يحصل عليها بممارسة الحكم في الأدب على هذا الحد من التنوع وعدم التأكد وعدم الإقناع كما يقال عنها، وكما قد تبدو هي للنظرة الأولى؟ الإجابة الحتمية هي: إنه برغم أن الرأي الشائع يحتوي على قدر كبير من الحق فإنه لا يحتوي على كل الحق بحال من الأحوال.

وليس أسهل من انتخاب جيد للأمثلة — وهي بالعشرات — لكي توجه عملة قوية ضد فائدة النقد، ولكن يجب ألا ننسى قط أنه بينما تاريخ النقد يعرض أغرب المعارضات في الذوق وأقوى التقلبات في الحكم حتى بالنسبة لموضوعات ذات أهمية أساسية، فإنه يعرض في نفس الوقت من زمن إلى زمن ميلًا بارزًا بين النقاد إلى الوصول إلى اتفاق عن النقط الضرورية، ويعرض إجماعًا باقيًا يكاد يكون تامًّا عن قيمة بعض القطع الأدبية العظيمة، فإذا كانت الاختلافات تجمع ويبالغ فيها فيجب ألا تهمل أيضًا الاتفاقات وإجماع الرأي كلما وجدت.

ولنحاول أن نفهم بالضبط كل ما يعنيه اتحاد الرأي النقدي في بعض الأحيان.

ما معنى اتفاق النقاد؟

لنفرض أنني أتوق إلى أن أدعم أو أصحح حكمًا كونته لنفسي عن كتاب معين، أو حين أجد من الصعب أن أكون أي حكم أشعر بحاجة إلى المساعدة فيه، لذلك أعطي الكتاب إلى ستة من الأصدقاء الواحد بعد الآخر سائلًا كلًّا أن يقول لي بإخلاص رأيه الخاص عنه، ولكي أجعل محاولتي على أوسع نطاق ممكن أجتهد في أن أنتخب أشخاصًا أعرف أن وجهات نظرهم مختلفة اختلافًا واسعًا جدًّا في المزاج والرغبات والأفكار عن الحياة والأدب والخبرة. والمنتظر أنني حينما تصل إليّ الإجابات الست فإنني سأجدها على اختلاف مؤسس إحداها عن الأخرى وأنه وإن كانت قد يكون بها لذة ومساعدة لي باعتبار أنها تعبيرات عن أذواق فردية فإنها لن يكون لها فائدة كبيرة في ناحية أخرى. ولكن لنفرض أنه من بين هؤلاء القراء الستة الذين قد درسوا الكتاب من وجهات نظر ست شديدة الاختلاف وأصدروا ستة أنواع شديدة الاختلاف من الاعتقاد عن الكتاب، من بين هؤلاء خمسة اتفقوا عمليًّا في فهمهم لقيمة الكتاب وأكدوا نفس الصفات التي له في الموضوع والتناول برغم ما قد يكون بين إجاباتهم من اختلاف كثير في التفاصيل. في هذه الحالة سأشعر وسأشعر بحق أن عنصر الشخصية المجردة والميل قد أُلْغِيَ بعض الشيء، وسيزداد هذا الشعور قوة كلما كان الاتفاق بين أناس على نصيب أكبر من الاختلافات في الذوق. وأما المنشق عن الخمسة فرغم أنني قد أعتبر رأيه يستحق من انتباهي ما يستحقه أي رأي خاص من آراء الخمسة، إلا أنني حين أجد إجماع الخمسة الآخرين ضده فغالبًا سأعتبره مجرد منشق، وربما حاولت أن أبحث عن أسباب عدم موافقته، وإذن فإنني هنا سأعمل على أساس من الإجماع العام في الرأي كان ينتظر بدله الاختلاف لا الاتفاق. وسواء أكان هذا الرأي منسجمًا مع رأيي الخاص أم لا، فإنني سأقبله كتقرير صادق عن الصفات الحقيقية للكتاب المذكور.

ما مغزى هذا الفرض؟ مغزاه واضح ولا يكاد يستدعي الشرح. المحاولة التي تصورت أنها تعمل على نطاق ضيق جدًّا قد عملت فعليًّا على نطاق عظيم، وقد وصل إلى اتفاق الرأي في حالات متنوعة بين أولئك الذين كان يظن أنهم يختلفون، وبعبارة أخرى فبالنسبة إلى قيمة مقدار معين من الأدب؛ لا نحن تُركنا أمام أحكام منفصلة لشخصيات فردية يتكلم كل عن نفسه فقط، ولا نحن وُوجهنا بمعارضات بين معتنقي العقائد المتنافسة، ولكننا وجدنا اتفاقًا عمليًّا بين نقاد ليسوا فقط على اختلاف عظيم في الشخصية والثقافة ولكنهم أيضًا من أمم مختلفة ومن عصور مختلفة ومدارس مختلفة. وأمام هذا الاتفاق العام لا يهم الاختلافات العرضية، فما هي النتيجة التي تستنبط من هذا؟ إن هذا المقدار من الأدب قد درس مرارًا، ودرس على أشد المقاييس اختلافًا وتنوعًا، وفي كل دراسة جديدة لم تستكشف إلا نواح جديدة غير منظورة من الجمال والقوة، قد احتفظ بمكانه بين أشد تقلبات الذوق اكتساحًا، وقد قامت دول النقد وسقطت وتركته لم تمسه، وإذن فصفاته ليست بحال من الأحوال أمورًا من الرأي الشخصي المجرد، وعظمته قد أثبتت بالبرهان، والسر في هذا الثبات والخلود في هذه الجاذبية العالمية الدائمة، يمكن أن يوجد في «العظمة»، في الحيوية السامية والقوة الرفيعة.

وإذن فيجب أن ندرك كإحدى الحقائق ذات الأهمية الرئيسية في تاريخ الأدب ما يسميه هيوم: «الإعجاب الثابت الذي صادفته هذه الأعمال التي قد بقيت خالدة على اختلافات الميول والتقاليد وعلى كل أخطاء الجهل والحسد». ويمكن أن يمثل لذلك بالحياة الخالدة للإلياذة والأودسة. قال هيوم: «إن نفس هومير الذي كان يمتع في أثينا وروما منذ ألفين من السنين لا يزال يستمتع به في باريس ولندن. وكل تغيرات المناخ والحكومة والدين واللغة لم تستطع أن تكسف بهاءه وروعته». وقد قال هيوم هذه الكلمات في سنة ١٧٤٢، ومنذ ذلك الوقت قد جدت تقلبات وتغيرات أخرى، ولكن لا تزال على الصدق الذي كانت عليه حين قالها هيوم. وإذن فلنقرأ الإلياذة والأودسة أو لننصرف عن قراءتها إلى الروايات الحديثة التي تشوقنا بجدتها وتناولها لأمور الساعة، ولكننا سوف ننساها بالضرورة غدًا، فإذا قرأناهما فلنستمتع بهما أو لا نستمتع؛ ولنستشر هذا الناقد أو غيره، ولنجد أقصى الاختلافات في تفاصيل الرأي عنهما، ولكن حقيقة واحدة تبقى بارزة: وهي أن اللذة الخالدة لهاتين القصيدتين تقوم دليلًا هائلًا على عظمتهما الحقة وتفوقهما الحقيقي. ولنا أدلة أخرى في العظمة الحقة والتفوق الحقيقي لأعمال أدبية أخرى، مثل الدراما الإغريقية، وروايات شكسبير، وأعمال دانتي وملتن. هذه الأعمال نسلم بأنها «كلاسيكيات Classics»، لأن الكلاسيكي يمكن أن يحدد ببساطة بأنه الكتاب الذي ثبت على اختبار الزمن والذي قد أعطى برهانًا لا يدحض على حياته الخالدة بثباته وبقائه وبتشويقه العالمي المستديم.١

مبدأ العالمية في الأدب

وهكذا يوضع مبدأ على أعظم أهمية في تقدير الأدب، وهو «مبدأ العالمية» أي أن يكون الأدب ممتعًا لكل الناس في كل الأزمان. قال لونجينوس: «يمكن بوجه عام أن نعتبر الكلمات التي تمتع الكل وتمتع دائمًا نبيلة وجليلة. فإذا كان الكتاب يصدر نفس التأثير على كل من يقرءونه مهما تكن الاختلافات في أغراضهم وطرق معيشتهم وميولهم وعصورهم ولغاتهم فإن هذا الانسجام بين الأضداد يقوم دليلًا على صدق الرأي الذي يعتقدونه».

ولا أحتاج إلى أن أنبه إلى عدم الخلط بين هذا المبدأ وبين المبدأ الخاطئ الذي أشرنا إليه سابقًا، والذي يقول: إن قيمة الأدب هي في رواجه بين طبقات معينة من الناس في زمن ما. ولكن هناك نقطة في هذا الصدد تحتاج إلى توضيح، وهي أن القوة التي تكتسب بها الأعمال الخالدة حياة الخلود تعتمد على صفات تختلف تمامًا عن تلك التي تسبب نجاحًا سريعًا عامًّا في الحال.

الصراع في سبيل البقاء، والخلود في الأدب

في كل دائرة الحياة ينتج الصراع لأجل الوجود بقاء الأصلح، واستمرار أي كائن في هذا الصراع لا يمكن إلا بواسطة صلاحيته لأن يلائم بيئته فإذا فشل كائن في أن يلائم بين نفسه وبين بيئة متبدلة فإنه يتهدم، وكلما كان الكائن أسمى كانت قوته أعظم على ملاءمة الظروف المحيطة الدائمة التغير والزائدة التعقد هذه حقائق بيولوجية معروفة، وأنا أشير إليها هنا لأهميتها في مسألة البقاء أي مسألة الملاءمة في الأدب. فالكتاب مثل أي كائن آخر ينجح في اللحظة الأولى بسبب اتفاقه مع ظروف، أي ينجح بسبب قوته على إمتاع المجموعة المعينة من القراء الذين يوجه إليهم. ونجاحه الفوري يقاس بمقدار اتساع الإمتاع الذي يثيره، فالكتاب الذي يمتع عامة كثيرين يفعل ذلك لأنه يصيب الوتر الحساس من الذوق العام، لأنه يلائم ويعبر عن تقليد الساعة ويتناول الأشياء التي يفكر فيها الناس ويتحدثون عنها. وبعبارة أخرى هو نوع الكتاب الذي يكون الشعب مستعدًّا له وعلى أعظم الشوق إلى قراءته ولكن الملاءمة التي يضمنها نجاحه الفوري قد لا تكون سوى ملاءمة لظروف محلية فانية، فإذا كان كذلك فإنه حين ينقضي الظرف وحين لا تعود هذه الأشياء التي كان الناس يفكرون فيها ويتحدثون عنها في ذلك الوقت، أقول لا تعود تشوقهم وتلذهم، حينئذ يفنى الكتاب، فلا يعودون يقرءونه. وكثيرًا جدًّا ما يتعجبون من ذلك التحمس الذي قوبل به أولًا، فأية قطعة من الأدب إذا كانت مجردة وقتية فإنها لا بد أن تفنى عاجلًا أو آجلًا بسبب وقتيتها، وإذا لم تكن تحتوي على شيء يزيد على الظروف التي نشأت منها فإنها لا بد أن تموت بموت هذه الظروف. وهكذا نجد نفس الأسباب التي أعطت ذيوعًا وقتيًّا تعمل ضد استمرار حياتها. وهذا هو تاريخ كثير من الكتب التي ذاعت في مدة ثم جهلها الجيل التالي.

لماذا تبقى بعض الكتب

ولكن هناك كتب أخرى تمتلك قوة البقاء على كل تغيرات التقاليد والذوق وحتى الحضارة، وهذا لأنها قادرة على الملاءمة المستمرة المتجددة للظروف الدائبة التطور لحياتنا الخلقية والفكرية، لها رسالة ومعنى إلينا أيضًا. ومثل هذه الكتب قد تكون — وهي في كثير من الحالات بلا شك قد كانت — وقتية في أضيق معاني الكلمة، ولكنها تبقى لا بفضل وقتيتها وإنما برغم وقتيتها، فإن كل ما تحمله معها مما ينتمي إلى مكان وزمان مولدها، فهو عقبة أمام بقائها وليس عونًا على هذا البقاء، وإن كان قد كان عونًا لها في نجاحها الأول. هي تبقى لأنها برغم ما قد تكون قد حملته أولًا من الملاءمة لمطالب لا بد بطبائع الأشياء أن تكون محلية فانية، إن فيها عناصر تظل تحتفظ بقوتها على الإمتاع والإثارة والإيحاء بعد أن فنيت تلك المطالب، وهنا ربما تفشل المشابهة بين ظواهر الأدب وظواهر البيولوجيا فشلًا جزئيًّا؛ لأن الأدب الذي يبقى على كل تغيرات العرف والذوق والحضارة يفعل ذلك لا لأنه يلائم بين نفسه وبين الظروف الجديدة في الحياة والفكر والقول، وإنما لأنه في إنشائه الأساسي قد كان منذ البدء ملائمًا لما هو أولى وبدائي ورئيسي في الطبيعة الإنسانية والتجربة الإنسانية، ولذلك فهو ملائم لشروط تبقى وتستمر مستقلة عن المكان والزمان، ومن المؤكد أن مثل هذا الأدب باستثناءات قليلة قد أنتجه أناس كان تفكيرهم محصورًا لا في الأجيال القادمة والأشياء الخالدة من الحياة بل في شعبهم الخاص وفي حقائق الساعة ومشاكلها، وإذن فمثل هذا الأدب قد احتوى في إنشائه على قدر كبير من المادة المحلية الوقتية الخالصة، ولكنها هي الميزة الغريبة للكتب التي توهب حياة الخلود أي أنه في هذه الكتب حتى الأشياء المحلية الوقتية تكون في كيفية تناولها وفي عمق نظرتها وفي بلاغة إدراكها وقوتها بحيث تشارك الأشياء العالمية والخالدة في قيمتها وماهيتها.

قيل عن هيرودوتس: إنه كانت لديه البراعة في أن يغرم بالأشياء التي ظل الناس يغرمون بها لمدة ٢٣٠ سنة، وهذه العبارة صادقة ليس فقط على أبي التاريخ بل هي صادقة على كل أولئك الذين كتبوا كتبًا خالدة، فإن خلودها سببه أنها تتناول بقدر لا يجارى من عمق النظرة والفهم والقوة والأشياء التي هي عالمية وباقية في جاذبيتها، مع التجارب والعوامل والعواطف والصراعات والأفراح والأحزان التي تنتمي إلى الأسس العادية للحياة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان. والشيء الذي يكون وقتيًّا وراجعًا إلى ظروف ومناسبات العصر والمجتمع الذي نشأ فيها الكتاب فإنه سيمتعنا كما تمتعنا هذه الأشياء في أي قطعة أدبية أخرى، ولكننا حين نتغلغل إلى أعماقه سنكتشف سر حيويته الباقية في ملائمته العجيبة لما هو أساسي وثابت في الحياة. ونستطيع أن نتبين مقدار ما تبتعد «الكوميديا الإلهية» و«الفردوس المفقود» وقصائد هومير وروايات شكسبير عنا في كل شيء إلا ما هو أساسي وثابت، وبذلك نفهم ما هو السر الذي جعل أروع أدب العالم فوق متناول التأثيرات الهدامة للزمن.

وفي ضوء هذا الشرح المطول نوعًا لمشكلة البقاء في الأدب Survival in literature يجب أن نفهم المعنى العام للعبارة القائلة: إن هناك قدرًا كبيرًا من الأدب يرتفع عن الرأي الشخصي وقد ثبتت عظمته. وسنرجع إلى هذه العبارة لأنها تمدنا بأساس ثابت وسط كل المسائل والمعارضات المتعلقة بالتقدير الأدبي.

تقرير الأدب المعاصر

الاختبار الرئيسي للعظمة في الأدب وهو اختبار قوتها على الخلود هي شيء يجب أن يترك للزمن أن يقوم به، ولكن مع ذلك ما العمل في الأدب الذي لم يختبره الزمن بعد هذا الاختبار؟ نحن لا نستطيع أن نجازف بالتنبؤ بما سيكون بعد مرور القرون، ولسنا نستطيع أن نقول بأقل نصيب من التأكد كيف سيكون هذا الكتاب الذي هو الآن مشهور بعد أن يمر عليه ثلاث مئة من السنين. ولكن في معظم الحالات نستطيع أن نميز بين المتعة الأساسية والمتعة العرضية، بين النجاح الذي هو مجرد وقتي وذلك الذي يبشر بالخلود.

ومن الصعب علينا أن ندرك أن ما يمتعنا أعظم الإمتاع ربما لا يتجاوز جيلنا، لأن ذلك الذي يبدو الآن حيويًّا جدًّا قل أن يفشل في أن يجعلنا نتأكد من أن فيه صفات العالمية والبقاء. وإذن فبالنسبة للأدب الذي لا يزال قريبًا إلينا وبنوع خاص للأدب المعاصر نترك بالضرورة إلى أنفسنا وإلى إرشاد نقادنا، ولكن لنؤكد أن مثل هذا الأدب — أعني الأدب الذي ينشأ من الحياة التي نعيش فيها بأنفسنا — يحتوي على كل التأثيرات التي تعمل في أوساطنا ويتناول الحقائق والمشاكل التي تهمنا مباشرة كمخلوقات لزمتنا ومكاننا الخاص، وهو لذلك يقدم إلينا بالضرورة متعة مختلفة تمامًا عن تلك التي يقدمها إلينا أعظم أدب الماضي؛ وليس من الطبيعي أن نطلب إلى الناس عدم قراءة الأدب المعاصر، فإنه يحمل لنا لذة ومتعة لاشك فيهما مهما كان وقتيًّا، ولكن نستطيع أن ننصح أنفسنا بأن نتناوله بحذر مجتهدين في أن نميز بين ما هو صادق وما هو زائف.

الكلاسيكيات كمقاييس للمقارنة

وهنا قد يكون من معرفة الكلاسيكيات فائدة لنا، فإننا إذا كنا قد عرفنا فيها أمثلة للعظمة الأدبية في متعدد الصور، وإذا كانت لذلك ثبتت مكانتها ودرجتها السامية، فإننا يجب علينا إذن أن نستعملها كمقاييس للمقارنة. لا أقصد بذلك أننا نستعملها بالطريقة الجامدة المتزمتة التي كانت للكلاسيكيات اليونانية واللاتينية تستعمل بها بواسطة النقاد المدرسيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أنني لا أحاول أن أقول بأننا يلزم أن نستنبط منها مبادئ وقوانين. وفوق كل شيء لا أحاول أن أجعلها تتخذ عقبات أمام التجديد والتجربة أو أجعلها تتحكم في وضع السبل التي يجب أن يتبعها أو يتجنبها أدب عصرنا. فإنني أكون معارضًا للروح التي كتبت بها كل هذا الفصل إذا قلت إنه حتى أعظم أعمال المادي يلزم أن تتخذ نماذج للحاضر والمستقبل. فالأدب الحقيقي ليس هو الأدب الذي يصنع من أدب آخر بل هو الذي يصنع من الحياة، وليس من نماذج يقنع بها أدب حي، فإذا كان من الواجب علينا من ناحية ألا نبالغ في قيمة الإنتاجات المعاصرة بسبب الرواج والدوي الذي تثيره في العامة أو في النقاد الصحافيين الحمقى، فإننا من ناحية أخرى يجب ألا نقع في الخطأ المقابل القائل بأن العمل الأعظم في الأدب قد عمل كله، وأنه من المستحيل أن يوجد نبي جديد في عصرنا ووطننا، وأن آيات الأدب للعصور المنصرمة قد بلغت النهاية. ما أعنيه ولا أعني غيره بقولي: إننا نستطيع أن نستخدم هذه الآيات الأدبية كمقاييس للمقارنة هو هذا: لما كانت صفاتها ليست أمرًا ظنيًّا بل هي صفات حقيقية، ولما كانت عظمتها قد أثبتت، فإننا نستطيع بتحليلها أن نستكشف شيئًا مما يكون أساس العظمة والقوة والجمال في الأدب، وأن نستخدم هذه المعرفة التي نستكشفها بطريقة عملية في اختبارنا لمزايا وعيوب قطع أدبية أخرى. وهكذا نعود ثانيًا إلى نقطة قلناها سابقًا: إن المعرفة الكاملة المتفهمة لأعظم أعمال العالم في الشعر والدراما والقصة يمكن أن يقال بصدق: إنها ضرورية لا بد منها لأي شخص يريد أن يقوم بالحكم على أي قصيدة أو رواية تمثيلية أو قصة. وفي هذا العمل من المقارنة لن نستطيع أن نتبع أي طرق محددة ولا هذا هو أمر لازم. فإن اهتمامنا بالروح وليس بالهيكل، ويكفي أن نعرف أن العلم بالأدب العظيم الجيد سوف يهبنا سرعة الشعور الغريزي بما هو عظيم وجيد كلما قابلناه وفي أي صور كان موضوعًا، فذوقنا سيكون أمهر وحكمنا سيكون أضبط ليس بتطبيق النظريات عن القوة والجمال، بل بأن نحيا إلى أقصى حد ممكن وبأعظم عطف ممكن مع أحسن ما يعطينا أدب العالم.

والآن مهما تكن مسألة تقدير الأدب صعبة، فإننا نستطيع أن نختم كلامنا عنها باستنتاجات يقينية كان الناقد الفرنسي نيزار من أكبر الدعاة إلى اصطناع المنهج المحدد في الفن، وقد رأى الفساد الذي جلبه إلى الأدب اعتماده على مجرد الانفعال، فقال إن المهمة الحقة للنقد هي أن يحرر الأدب من النظرية الخاطئة القائلة بأن الذوق يجب ألا يناقش فيه، ليس من أقل أمل في أن يتحقق ما أراده نيزار تحققًا كاملًا، فالنقد لا يمكن أن يجعل علمًا، ولا يمكن أن يجعل «نوعًا من علم النبات يطبق على أعمال الإنسان» نحن نتكلم مع أرنولد عن «رؤية الأشياء كما هي في الحقيقة». ولكن هذا في الحقيقة كلام مجازي، فإن رؤية الأشياء كما هي في الحقيقة أمر مستحيل، لأننا لا نستطيع أن نراها إلا في عقولنا، ولما كانت عقولنا قد صبغتها الميول فإننا لا نستطيع أن نرى الأشياء إلا خلال أمزجتنا وطبائعنا، نستطيع أن ننظف عقولنا من الفكرة السابقة، ونستطيع أن نجعلها على استعداد حسن للتقبل والعطف، ونستطيع أن نفعل كثيرًا في تصحيح الميل، ولكن هذا ليس كل شيء. الأدب ينتج من الشخصية، ويخاطب الشخصية وهو يتناول مسائل كثيرة في صور كثيرة، ومن ماهيته الأساسية أنه يثير العطف ويحرك الشعور ويبعث العاطفة، وهكذا يتعلق بعناصر متنوعة، ولذلك يجب أن استجابتنا له تكون متنوعة نفس التنوع، وليس من مفر من هذه النتيجة. نحن لا نستطيع أن نطرد العنصر الفردي من النقد، والاختلافات التي تنتج من عمل عقول كثيرة على الظواهر نفسها يجب أن تقبل كأمور واقعة لا بد منها، ولا أرى سببًا للامتعاض من ذلك، بل إنني يسرني أنه من المستحيل أن يوضع التقدير الأدبي في ثوب رسمي لا لون له، ولكن برغم أننا نعتمد على ذوقنا الخاص وحكمنا الخاص، فإنه تظل الحقيقة أن الذوق يمكن يمرن ويربي والحكم يضبط وينظم ويوجه، وهكذا بالنسبة لمسألة تقدير الأدب يكون أمامنا مبدأ هو الممارسة، منه نبدأ وإليه نرجع نقتبس الإثارة والإرشاد، إذا أردنا أن تكون دراستنا للأدب على أعظم قدر من الفائدة لنا كوسيلة إلى المتعة والحياة معًا.

١  لكلمة كلاسيكي مفهومان. أحدهما سيئ وهو الرجعي الممسك بالقديم، والثاني حسن وهو أجود الأعمال الأدبية: فشعر وردسورث الرومانتيكي على هذا المعنى يسمى كلاسيكيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤