الكتاب الثالث: أواخر القرن التاسع عشر

خلفاء سنت بيف

وإنما أسمينا هؤلاء النقاد الفرنسيين الذين تلوا سنت بيف خلفاء له — مع أن هذه التسمية ليست صحيحة على إطلاقها — باعتبار ذلك التأثير العظيم الذي تركه سنت بيف على النقد الفرنسي، فلقد كانت الأحاديث منبعًا لتيار نقدي هادئ لين، ولكنه قوي فياض، وكان تين أكبر شخصية نقدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، والحق أن تين ليس إلا سنت بيف زائدًا طريقة أكثر تحديدًا وانضباطًا.

تين Taine

كان سنت بيف يبذل أكبر عنايته في نقده إلى شخصيات الأدباء والشعراء أنفسهم، فهو يرى أن أعمالهم ليست إلا قطعًا من نفوسهم وأخلاقهم، فدراسة هذه النفسيات تعيننا على فهم أعمال الأدباء وتقديرهم ونقدهم. جاء تين فعني أيضًا بشخصيات الشعراء، فهو قد بدأ نظريته مع سنت بيف، ولكنه اتجه اتجاهًا آخر مختلفًا كل الاختلاف بحيث انتهى إلى نتيجة متباينة تمامًا مع فكرة سنت بيف. فهو لا يقتصر على دراسة شخصية الأديب، بل يرى أن هذه الشخصية لم توجد بنفسها، وإنما خلقتها مؤثرات اضطرارية صبتها في القالب الذي هي عليه، هذه المؤثرات هي الجنس، والزمان، والمكان، فدراسة هذه الشخصية ليست إلا دراسة هذه العوامل التي كونتها وخلقتها؛ فأما الجنس فهو تلك الصفات والمقومات النفسية التي ورثها الشخص من شعبه، وأما المكان فهو البيئة الجغرافية التي تحيط بالفرد من أرض مزروعة أو صحراوية في مناخ حار أو بارد إلخ … وأما الزمان فهو ما يحيط بالإنسان من أحداث السياسة وأحوال العمران وأطوار المجتمع، كل هذه المؤثرات الجنسية والزمانية والمكانية تتعاون على خلق شخصية الأديب والشاعر فتفرغها في قالب معين، ثم تنتج هذه الشخصية أعمالها الأدبية، فدراسة هذه الأعمال لا تتحقق إلا بدراسة هذه الشخصية ودراسة هذه الشخصية ليست إلا دراسة العوامل الموروثة والمحيطة التي اجتمعت على تكوين الفرد، ثم اختار تين الأدب الإنجليزي موضوعًا لتطبيق نظريته، فألف كتابه الشهير عن تاريخ الأدب الإنجليزي، وفيه يدرس الجنس الإنجليزي ويكون لنفسه فكرة عنه، ثم يدرس في كل أديب وشاعر الظروف الزمانية والمكانية التي أحاطت به ليثبت أن هذا الأديب ليس إلا هذه المؤثرات ممثلة في شخص.

كان تين ناقدًا، ولكنه سلك في نقده طريقة خاطئة، كان دارسًا جماليًّا كبيرًا، وكان مؤرخًا أدبيًّا موهوبًا، ومعنى ذلك أنه كانت به المؤهلات لأن يكون ناقدًا كبيرًا، فكان يستطيع أن يحكم الحكم العادل على من ينقده، ولكنه لم يسلك سبيل النقد الأدبي الخالص.

لم يكن لدى تين الموهبة الأدبية الصافية، فلم يكن يستطيع أن يتفهم الجليل والرائع في الأدب، ولم يكن يستطيع أن يفهم أن سر الأدب إنما يختبئ في الكلمات المتلألئة المضيئة، أو هو كانت لديه نواة هذا الفهم، ولكنه لم ينمها ولم يفسح لها المجال للظهور بما اتبع من نظرية صارمة في نقده.

فتين هو أكبر مثال للأضرار التي يؤدي إليها ما يسمى بالفلسفة في النقد، ولو أن تين قاوم ميله هذا وأعد نفسه لأن يتلقى الحقائق في بساطة ثم يقارن بينها، إذن لربما كان أحد أعاظم النقاد في العالم.

ولا شك أن تين كان لديه استعداد لذلك، وهذا الاستعداد ظاهر من أكبر عمل ألفه في حياته وهو Origines de la France Contemporaine.
بدأ تين وهو شاب — ولكن في سن عدم النضوج — بدراسته الشهيرة عن لافونتين و livy. وفيها يركز النظرية التي اخترعها سنت بيف، وهي البحث فيما للأديب من الظروف، والأجداد، والقطر، والأمور المحيطة، والدين، والأذواق، والأصدقاء، والمهنة، والعمل، والقطر، والأمور المحيطة، والدين، والأذواق، والأصدقاء، والمهنة، والعمل، ولكن سنت بيف حين كان يتبع نظرية لم يكن يؤدي بها إلى الجفاف والجمود، بل كان دائمًا يحتفظ بها بسيولة ومرونة، أما تين فجاء فركز هذه النظرية وبلورها، ولكن تحت ضغط فكرة فلسفية جازمة، فاستحالت إلى بحث عن الأصل الجنسي، والعصر الزمني، والبيئة أو الـ Milieu العامة التي تحيط بالفرد، ثم البحث في المدرسة الأدبية للأديب وفي أدبه كما لا بد أن يكونا تحت تأثير كل تلك المؤثرات الظاهرة الاضطرارية. فالأديب سواء أكان شكسبير أم فولتير، دانتي أم سرفانتيز، ليس إلا مجرد قطعة خلقت خلقًا وصنعت صنعًا.

ثم أي مجال اختاره تين ليطبق نظريته؟ الأدب الإنجليزي، ولو أن تين كان حكيمًا واختار أدبه القومي الفرنسي لكانت النتيجة أقل سوءًا، فقد كان يساعده على عمله أنه كان يستطيع أن يقدر ويحكم تقديرًا مباشرًا، كان لا بد بالطبع أن يكون في عمله أخطاء ونقائص وشذوذات، ولكنه كان يكوّن تاريخًا قيمًا نفيسًا للأدب الفرنسي.

أما كتابه الشهير (تاريخ الأدب الإنجليزي Histoire de la Litterature Angiaise) فحقًّا إنه من أبرع الكتب، ومن أكثرها تشويقًا وطلاوة، وحقًّا إنه هو تاريخ الأدب الذي يكون في ذاته مادة أدبية عظيمة، ولكن كل ميزاته التي يمتاز بها ليست مما يتصل بموضوعه، أما فيما يتعلق بموضوع ككتاب في تاريخ الأدب فالكتاب لا قيمة له تقريبًا.
أما الذي يقرأ هذا الكتاب وهو يعرف تاريخ الأدب الإنجليزي، ويعرف الشعراء والأدباء الذين ذكرهم والذين لم يذكرهم تين، فإنه واجد في الكتاب لذة وتشويقًا وإن لم يجد فيه زيادة معرفة، وأما من لا يعرف الكتاب والشعراء المذكورين والمتروكين فإنه سوف يخرج منه تائهًا ضالًّا، فإن تين أولًا لم يكن لديه المعرفة الكافية — وإن كانت لديه المعرفة الكثيرة — ولم يكن تام الانكباب على تأليف كتابه، بل كانت له عوائق من المشاغل والمهام فلم يقبل عليه بهذه الحماسة الملتهبة التي أبداها فيما بعد حين ألف الـ Origines. وتين يترك فترات بأكملها من عصور الأدب الإنجليزي، وخاصة حين تكون اللغة أو اللهجة مثار صعوبات، يتركها ويثب إلى ما بعدها دون اهتمام أو مبالاة، ولسوء الحظ لا يتركها صامتًا. وأولئك الكتاب الصغار الذين يعطون مفتاحًا لأسرار الأدب أعظم بغير شك مما يعطيه كبار الكتاب لا يتلقون منه إلا انتباهًا قليلًا جدًّا، والكتاب فاقد بالضرورة لتلك العواطف القومية الغريزية المهمة التي تهدي الإنسان إلى كثير من الحق والصواب. ولا شيء يتدخل لينقذ الناقد من تأثير نظريته، فقد كوَّن لنفسه تحت تأثير هذه النظرية إنجليزيًّا نموذجيًّا ضخم الأقدام — محترمًا للسلطات والرؤساء — ما دام الأولاد الإنجليز يدعون أباهم حاكمًا: governer — بروتستانتيًّا، هادئًا كئيبًا وكثيرًا غيرها من الصفات. هذا الإنجليزي المثالي ينحته ويعجنه ويصوره الجنس والزمن والبيئة فيصبح شوسر، وشكسبير، وبوب، وبيرون، ثم إن أدب بيرون وبوب وشكسبير وشوسر يجب أن يصدر في تسلسل اضطراري! وليس من الضروري أن نزيد شيئًا على ما قاله سنت بيف و Scherer من الأسى والتأسف لهذه المحاولة، وكلاهما فرنسي خالص، وكلاهما متقن للأدب الإنجليزي كأكمل ما كان عليه فرنسيون قلائل، وأحدهما في الذروة من الموهبة النقدية والثاني في مرتبة عالية منها، وإنما يكفي أن نقول إن تاريخ الأدب الإنجليزي لتين على عظم الكتاب وعظم الكاتب ليس فقط من وجهة النظر النقدية خاطئًا، بل هو بكل تأكيد لا قيمة له، فهو لا يعطي الإنجليزي صورًا مفيدة مستقلة عن الأدباء كما يراهم غيره، وأما للأجنبي فإنه يعطي سخافات خاطئة وضارة.
ولنعط أمثلة على ما تقول، وإلا عد منا هذا الكلام ضد كاتب عظيم وكتاب عظيم هراء، فقارن مثلًا بين ما كتبه عن دريدن وما كتبه عن Switt. فأما ما كتبه عن دريدن فلا أتردد في هذا القول بأنه من أسوأ النقد التي كتبها كاتب كبير، وأما ما كتبه عن سويفت فمن أحسن هذه النقديات، ولكن لماذا؟ لأن سويفت على كونه أديبًا كبيرًا هو قطعة، فيستطيع تين أن يضمه إلى نظريته، وأما دريدن فليس قطعة بحال، إلا في النواحي الأدبية الخالصة التي يستحيل عن الأجنبي أن يقدرها حق التقدير. فدردين متفرق متناقض متبدل فإذا ما اتخذت نظرية عامة عنه أو حاولت أن تطبق عليه نظرية عامة اصطدمت توًّا بالصعوبات.

وأما كيتس، وهو حقًّا شخصية عظيمة، فإن كلام تين عنه فاسد باطل، وأما عن شلي، فكلامه سخيف مضحك، وهو لا يزيد على الإشارة إلى بروننج وأغلب أعماله الجيدة كان قد صدر حين كتب تين تاريخه.

وأحيانًا يتساءل الإنسان حين يقرأ ما كتبه تين عن أديب: أفرأى تين هذا الأدب حقًّا؟ وفي كل الأحوال يؤدي إهماله للشخصيات الصغيرة إلى أن تكون كتاباته عن الشخصيات الكبيرة خاطئة ناقصة.

أما أن تين قد ابتدأ مع سنت بيف فهذا ما لا شك فيه، ولكنه ينتهي إلى نقطة معارضة كل المعارضة لفكرة سنت بيف، فهو يتكلم عما لم يره.

بين كولردج وآرنولد أو النقد الإنجليزي بين ١٨٣٠–١٨٦٠

ماكولي Macaulay

ماكولي أحد كبار الكتاب والنقاد الإنجليز، وكان يعد في عصره أكبر كتاب النثر في ذلك العصر، أما الآن فتاريخ الأدب الإنجليزي يقدم عليه كارليل ورسكن. ولد توماس ماكولي في سنة ١٨٠٠ — وكان طالبًا ممتازًا في جامعة أكسفورد— ثم افتتح حياة عملية ناجحة إلى أقصى حد يصل إليه النجاح بمقالة عن ملتن نشرت في مجلة إدنبره Edinpurgh Review في أغسطس ١٨٢٥. ثم شارك في السياسة وأصبح عضوًا في مجلس العموم واشتهر كخطيب وسياسي، ولكنه في كل هذه المدة كان يكتب بانتظام في مجلة إدنبره، ثم دخل إلى الهند في منصب سياسي من سنة ١٨٣٤ إلى ١٨٣٨، وحين رجع إلى إنجلترا عاد إلى الحياة السياسية، وبعد جهاد سياسي عنيف رفع إلى مرتبة الأشراف وأعطي لقبًا رفيعًا، وأكبر عمل أدبي لماكولي هو كتابه: تاريخ إنجلترا منذ جلوس جيمس الثاني. وقد طبع المجلدان الأولان منه في سنة ١٨٤٨ فلقيا من الرواج العظيم ما لم يلقه أي كتاب تاريخي قبلهما، وقد ظل رغم انهيار صحته مكبًّا على إتمام هذا الكتاب، فأصدر المجلدين الثالث والرابع في سنة ١٨٥٥، وصدر المجلد الخامس بعد وفاته الفجائية في سنة ١٨٥٩ (أي عاش ٥٩ سنة).

وأهم ما يلاحظ في حياة ماكولي ذلك الرواج العظيم الذي لقيه من أغلب طبقات الجمهور، حتى قيل إن مقالاته الأدبية الخالصة كان يقرؤها عدد كبير ممن لا يفكر عادة في النقد، ويرجع ذلك إلى أنه اجتمعت له صفات: منها ما يتصل بالكفايات العظيمة التي توفرت له ومنها أسباب أخرى لا تتصل بكفاية أو موهبة، فقد كانت لديه مقدرة عجيبة على أن يجعل كل ما يلمسه شائقًا ممتعًا، فمهما كان موضوع كتابته، فإن كلامه يفيض بالحيوية واللذة، وندر أن يكتب صفحة مملة بليدة، وكان في قدرته على قص القصص واسع الخيال، حي التصوير، متعدد الصور، وكان ماكولي من خير المعبرين عن الروح الإنجليزية والنفسية الإنجليزية فلقيت كتاباته رواجًا لدى الرجل العادي لأنه يحسن التعبير عن مشاعره وإحساساته دون أن يصادمها أو يتحداها، وكان ماكولي رجلًا عمليًّا واقعيًّا يواجه الحياة كما هي ويعترف بها، ويكره الأوهام والمبهمات، ويوافق النزعة الواقعية التي سادت إنجلترا في عصره، بينما كان كاريل ورسكن يحملان عليها ويناديان بالويل والثبور ويتخذان موقف المتحسر على الأخلاق والعوالم المثالية، فكانا بذلك يصادمان اطمئنان الإنجليزي إلى هذه الحياة الجديدة العملية، ولذلك وجد الإنجليزي في ماكولي متنفسًا أوسع مما وجد في معاصريه، ثم إن ذيوع كتابات ماكولي في عصره ترجع أيضًا إلى سطحيته فهو ضحل سطحي في كتاباته عن التاريخ والشخصيات فكان أقرب إلى الفهم العام، ثم أسلوبه؛ فقد كان أسلوبه خلابًا فياضًا بالحيوية والإمتاع والفكاهة. لم يكن ماكولي مفكرًا كبيرًا، ولم يكن ناقدًا أدبيًّا كبيرًا، ولم يكن كبيرًا في التاريخ أو السير، وكان كثيرًا ما ينساق إلى المبالغة بحبه للتأكيدات الجازمة وللمبالغة الشديدة البعد عن المعقول، ولكنه كان رغم ذلك ممتازًا، وإليه أكثر من غيره يرجع الفضل في ذيوع ذوق للأدب بمقالاته، بينما يظل كتابه التاريخي عن تاريخ إنجلترا منذ جلوس جيمس الثاني أمتع الكتب التاريخية في اللغة الإنجليزية.

كان ماكولي وكارليل أكبر شخصيتين في النقد الإنجليزي من ١٨٣٠ إلى ١٨٦٠ فأما ماكولي فهو مثال آخر لمن يوهب استعدادًا كاملًا لأن يكون من أعاظم النقاد ثم لا يصل إلى المرتبة العليا من النقد، فحين تقرأ مقالاته الأولى النقدية التي كتبها في سن الرابعة والعشرين تدهشنا تلك الدائرة الواسعة من المعارف التي تهيأت له في هذه السن، والتي لم نشهد نظيرًا لها في مثل هذه السن إلا عند سوني، فهو قد أتقن الآداب الكلاسيكية (أي اليونان والرومان) وهو قد أجاد الأدب الإنجليزي المتأخر إجادة فائقة، وكانت له معرفة تامة تقريبًا بالإيطالية، ثم هو لا يجهل الفرنسية وإن لم يستلذ أدبها في أي فترة من فترات حياته، ثم هو قد أضاف أخيرًا إلى هذه المعارف الإسبانية والألمانية، ثم هو ليس يعرف فحسب، بل هو يحب أيضًا، فهو في مقالاته الأولى التي نشرها في مجلة Knight’s Quarterly يبدو منه شغف بالأدب وظمأ إلى التقدير والتذوق والحب، فإذا رأينا كل هذه الميزات انتظرنا أن يكون ناقدًا كبيرًا جدًّا، وخصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك ما وهب من أسلوب ممتاز قد جمع خصائص الذيوع والرواج، وقد يقول البعض: إن هذا الانتظار قد حقق، ولكني لا أظن ذلك، فلم يصل ماكولي إلى ذروة المقدرة النقدية.

بل إن في هذه المقالات الأولى نفسها البذور التي إن وجدت المجال للشعر حالت دون صاحبها وأن يكون ناقدًا ممتازًا، فأولها ميله المشهور إلى المبالغة، فماكولي يحب كل الحب هذه الجمل الجازمة الحاسمة، ويحب أن يستعمل أفعل التفضيل لدرجة خطرة تضاد موقف الناقد كل المضادة، وحتى تفضيلاته الصادقة المعقولة القائمة على أساس من الصحة والبرهان تفقد كثيرًا بأسلوبها الجارف المبالغ الجازم، ثم هي تفقد كثيرًا أيضًا بعادته الخاطئة في أن يظهر اللون الأبيض شديد النصاعة بأن يحيطه بالسواد الحالك (أعني أنه لكي يظهر أن من ينقده أعظم الناس في فنه يهوي بكل مشاركيه في هذا الفن إلى الحضيض متناسيًا كل ما لهم من ميزات). فهذا المديح الذي يصبه صبًّا على دانتي لا يبدو له كافيًا إلا إذا اقترن بانتقاص بترارك والتقليل من شأنه بغير حق، بينما يدفع بتاسو ومارينو وجواريني وماتاستاسيو إلى زاوية الخمول والاحتقار. (وهم من كبار كتاب الطليان في عصر النهضة).

ثم لعبت بماكولي حزازاته السياسية فأفسدت حكمه في بعض الأحيان، ولكن ليس هذا بالشيء الخطير، فإنه وإن كان في ذاته خطرًا على النقد الصحيح إلا أنه قد كبر بين النقاد حتى صار شيئًا عاديًّا، وإنما الخطر الأكبر الذي سيقضي على البذرة النقدية الجيدة في ماكولي هو ما نشاهده حتى في مقالاته الأدبية الخالصة التي نلمح فيها دائمًا تفصيلًا للكلام عن الموضوعات التي لا تتصل بالأدب الخالص، فهو لا يحب الأدب للأدب، وإنما هو يعالجه مفضلًا ما يتعلق بمسائل التاريخ، والسياسة، والعادات، والقصص.

ثم يترك ماكولي جريدة Knight’s Quarterly إلى جريدة إدنبره، وهي جريدة سياسية وسياسية حزبية محضة، فتجد كل هذه البذور السيئة المجال للنمو والانطلاق، فتظهر مقالاته عن ملتن، وميكافلي، ودريدن، وهي مقالات قد أفسدتها جميعًا المبالغات وأفعل التفضيل.
إلا أن المرآة التي يجب أن يلتمس فيها نقد ماكولي ليست أعماله المنشورة مطلقًا بل رسائله التي أرسلها إلى Flower Ellis وهو في كلكتا، قد استغل ماكولي إقامته في الهند لأن ينكب على القراءة وخاصة في الأدب الخالص، وبنوع أخص في الكلاسيكيات (اليونان والرومان) وأفكاره التي يرسلها إلى Ellis على أقصى مقدار من الطرافة والأهمية، فهو يقول: إنه قد رجع إلى الأدب اليوناني في حماسة عظيمة تدهشه هو نفسه، فإنه لم يجد لذة في الإيطالية، ولم يلق متعة كبيرة في الإسبانية، ولكن حين عاد إلى اليونانية أحس كأنه لم يعرف قبل ذلك كيف تكون المتعة الفكرية، ثم يعطي تقديرات لأشيلوس وثوسيديس تدل على ذوقه الشعري والأدبي الناضج، ولكن تقديره لثوسيديدس (المؤرخ المشهور) يبدو كأنه لم يدفعه إليه إلا ميله المتأخر إلى الأبحاث التاريخية والمسائل السياسية، وهكذا يمضي ماكولي في نقد قيم جميل لكتاب اليونان المختلفين.

ثم يجيء ما يكشف عن ميول ماكولي الحقيقية كشفًا تامًّا، وهو اعترافه الخطير إلى رئيس تحرير مجلة إدنبره إذ ذاك:

إنك تعرف أنني لا أحب التواضع، ولذلك ستصدقني حينما أخبرك في إخلاص وصدق أنني لست أنجح في تحليل الأثر الذي تتركه أعمال العباقرة، لقد كتبت أشياء عدة عن مسائل تاريخية وسياسية وأخلاقية أشعر بأنها تجعلني جديرًا بالتقدير، ولكني لم أكتب قط صفحة ذات قيمة عن نقد الشعر أو الفنون الجميلة؛ بحيث أفلح بصعوبة في ثني نفسي عن إحراقها لو استطعت إلى إحراقها سبيلًا، كان هازلت يقول دائمًا عن نفسه: لست بشيء إن لم أكن ناقدًا، أما أنا فإنني أقول العكس تمامًا. إن لي استلذاذًا قويًّا حادًّا لأعمال الخيال، ولكني لم أعود نفسي قط على تحليلها. ثق بمعرفتي بنفسي، أنا لم أكن في أي فترة في حياتي متأكدًا من شيء كما أنا متأكد مما أقول لك الآن.

والحق أن هذا الحكم الشخصي من رجل مثل ماكولي في سن الثامنة والثلاثين بعد خمسة عشر عامًا في الممارسة الأدبية المنتظمة هو كلام نهائي، ولكنه يؤكد لي شيئًا كنت قد كونته لنفسي قبل ذلك.

وفي الـ Essays التي ألفها ماكولي نجد نفس هذه الصفات التي يتصف بها نقده. حقًّا إنها لا تخلو من مناقشات أدبية خالصة، ولكن الميل الأكبر فيها إنما هو للمسائل التاريخية والسياسية والأخلاقية بينما يقلل من قيمتها نفس العيب الذي يتسم به ماكولي من حبه للمبالغة والتفصيلات الجارفة.

ومهما يكن من أمر فماكولي ناقد، وهو كان في أيامه ناقدًا كبيرًا، وهو لا يزال ناقدًا لا بأس به، ولكننا لا نعده من كبار النقاد نظرًا لمبدئنا من تفضيل النقد الأدبي الخالص.

كارليل Cariyle

كارليل من أكبر كتاب الإنجليز الثائرين في عصره وهو العصر الفكتوري أو عصر تنيسون نسبة إلى شاعره الأكبر، ويمتد من ١٨٣٠–١٨٧٧. ثم هو أحد القوى الأخلاقية الكبرى التي تؤثر في العالم الحديث. ولد توماس كارليل في ١٧٩٥ ونشأ أولًا نشأة دينية روحية ثم تطرق إليه الشك والريب، وظل يلقى الشدائد في هذه الشكوك النفسية إذ كانت له طبيعة بالغة الحساسية، ويحاول أن يتخلص من هذه الظلمات حتى أفلح أخيرًا في استعادة إيمانه القديم بالإله وبالدينيات وبالأخلاقيات، ولكنه وإن كان قد جاءه الخلاص النفساني أصبح ضحية مزاج سوداوي جعل حياته بائسة شقية ولون كثيرًا من أفكاره وآرائه، وكان يحصل على رزق ضئيل محدود من دروس خصوصية يعطيها ومن الكتابة المأجورة، وفي ١٨٢٥ نشر أول مؤلف مستقل في هيئة كتاب وهو حياة شلر Life of Schiller. ثم تزوج في ١٨٢٦ امرأة ذات مواهب ثقافية مشرقة واستمر بضعة أعوام يكتب للمجلات وخاصة عن الأدب الألماني والأدب الذي وجد فيه على حد تعبيره: جنة جديدة وأرضًا جديدة، ثم مات والد زوجته فورثت عنه منزلًا ريفيًّا صغيرًا في وسط المروج الإسكندرية. وفي هذا المنزل ألف كارليل كتابه الأعظم: Sartor Resartus وهو أيضًا أحد الكتب الكبرى في الأدب الإنجليزي الحديث، وفي الكتاب الثاني منه يقص علينا تاريخ جهاده الروحي العنيف بين الشكوك والإيمان في لهجة حارة ملتهبة، ثم نشر مؤلفه «الثورة الفرنسية» في ١٨٣٧ ونشر محاضراته عن «الأبطال وعبادة الأبطال» في ١٨٤١. وكان يلقي محاضرات هذا الكتاب في سنتي ٣٩، ٤٠ وهو الكتاب الذي يحتوي تقديرًا عادلًا لمحمد الرسول، ثم نشر مؤلفات اجتماعية وتاريخية، وماتت زوجته في ١٨٦٦ فكانت وفاتها صدمة لم يفق منها طول حياته الباقية، فأصبح متشائمًا كارهًا للعالم حوله، وظل سنوات ثائر النفس محزون الفؤاد حتى مات في ١٨٨١.

ولكارليل أسلوب فريد في اللغة الإنجليزية بكثرة مفرداته وبجمله المبنية بناء غريبًا وبما يتخلله من قطع، واعتراض، والتفات فجائي، وعلامات التعجب والاستفهام والشولات، وهو خير معبر عن نفسية كارليل وخير مصداق على المثل المشهور: إن الأسلوب هو الرجل.

وكان كارليل يتكلم باحتقار عن الفن كفن، ولم يكن يصبر على الناحية الأدبية الخالصة من الأدب، ولكنه كان رغم ذلك من كبار الأدباء الفنانين في الأدب الإنجليزي، فهو لا يجارى في تملكه وسيطرته على العبارة الأنيقة المليئة بالحيوية. وكان يستخدم السخرية والتهكم استخدامًا جيدًا فعالًا، فبينما هو يكاد يرتفع إلى مصاف الأنبياء والشعراء من نزعته الروحانية المتأججة وخياله الرقيق إذا به لا يقل عبقرية في الفكاهة والتندر والسخرية.

وكان كارليل في فلسفته puritan خالص البيوربتانية بل إنه فيه وجدت الروح البيوربتانية القوية التي كانت منتشرة في القرن السابع عشر متنفسها الأخير، وكان شديد التعصب للأخلاق الفاضلة لا يطيق أقل تسامح في التعاليم الخلقية، وكان مجرد الضعف الخلقي لا يقل شناعة عنده عن الارتكاب الفعلي للجريمة.
وسر تعاليم كارليل هو في إخلاصه، فهو مخلص للحقيقة ينشدها ويرى أن الواجب الأول في المجتمع وفي السياسة وفي الدين إنما هو البحث عن الحقيقة بأقصى جهد مستطاع، وكان التاريخ لديه هو الإنجيل الأعظم The Lager biblé الذي يدل على عدل الله في تصرفاته في الناس، ويتلخص موقف كارليل من الحياة الحديثة في أنه عدو لكل مثلها وميولها، فهو لا يؤمن بالديمقراطية، ويعتبرها فسادًا للحكمة السياسية، وكان لا يسأم أن يكرر دائمًا القول بأن جماعات الناس تحتاج إلى قيادة بطل Hero أو رجل صالح able man. وحارب النزعة المتفائلة التي نشرها في إنجلترا في ذلك الوقت الرخاء الاقتصادي الناشئ عن رواج التجارة الإنجليزي، وأخذ ينادي بتعاليمه عن الحياة الروحية في مجتمع فتنته الثروة والمال، ويجاهر بأن الله والخلاص الروحي هما الحقيقة الوحيدة في الحياة، وبالطبع لم يستطع كارليل أن يقاوم تيار عصره، ولكنه كان ولا يزال منبعًا فياضًا متدفقًا للنزعة الروحانية والقوى النفسانية الدينية والأخلاقية.

إن الصفة العامة التي يتصف بها نقد ماكولي من بعده عن الروح الأدبية الخالصة وعدم جنوحه إلى التحدث عن الفن كفن نجدها أيضًا في نقد معاصره وخصمه ومصححه كارليل، حقًّا إن هناك اختلافات كبيرة بين هذين الكاتبين الكبيرين المتعاصرين في نزعتهما ومشاربهما ونفسياتهما ولكنهما يتفقان في تغلب النزعة الفلسفية عليهما.

وقد يبدو غريبًا لأولئك الذين يعدون كارليل أكبر مشجع ونافخ في ملكاتهم الذهنية والثقافية ويجعلونه من أعظم العظماء في الأدب كله، قد يبدو غريبًا لهم أن نتساءل هنا عن مكانة كارليل كناقد.

يتخلل نقد كارليل كل مؤلفاته تقريبًا، فلا تكاد تخلو إحداها من انتقادات شتى، والقارئ للـ essays التي كتبها يلاحظ كيف أن قدرته النقدية كانت تتضاءل بمرور السنين، فهو يبدو في المقالات الأولى منها ناقدًا أدبيًّا خالصًا، إذ تحتوي هذه المقالات المبكرة على مقدار طيب من النقد الأدبي الخالص، وقد يوجد بها بعض المغالاة في قيمة الثقافة الألمانية وخاصة في مقالته عن جوته، ولكنه لا يبالغ في هذه المغالاة، ثم إن نقده في هذه المقالات الأولى نقد جيد حقًّا منظم ومؤسس على أدلة وحجج، قوي صاف معًا، فمقالته الأولى من أحسن النقد الإنجليزي الذي يستحق القراءة والدراسة.

ولكنه يأخذ يبتعد عن الناحية الأدبية ابتعادًا تدريجيًّا، فيفقد شيئًا فشيئًا نزعته الأدبية الخالصة حتى يستحيل آخر الأمر إلى عدو صريح لما يسمى الأدب الخالص أو الفن كفن.

يترك كارليل فيما ينقده الجانب الأدبي المحض ويهتم بأشياء أخرى، ويبدو هذا في كل المقالات التي تتلو المقالات الأولى.

ولنأخذ منها مثالًا، مقالته عن ديدرو، فبرغم أن ديدرو كان أديبًا خالصًا كأخلص ما كان عليه أديب في التاريخ فإن كارليل لا يتكلم عن ناحيته الأدبية، فهو لا يتكلم عن ديدرو الأديب، إنما هو يتحدث عن ديدرو الرجل وعن صلته وعلاقته بالعقلية الفرنسية والمجتمع الفرنسي، ثم هو في مقالاته الأخيرة قد يختار موضوعات لا صلة لها بالأدب كحديث عن ميرابو الذي لم يؤلف كتابًا قط.

ثم يتخذ موقفه النهائي في Larter-arey Pamphlets، ففي هذا الكتاب يهاجم الأدب الخالص أو الفن كفن، فليس أدب هومير عنده إلا تاريخًا، والفنون لم ترسل إلى هذا العالم لتلهو وترقص، أما الأدب فإذا ظل متبعًا للروحانية والتعاليم النفسانية فيها، وأما إذا استحال إلى مجرد متعة نفسية ولذة روحية فإنه يكون شيئًا لا فائدة منه ولا أمل فيه.

ثم يستمر كارليل على هذا الموقف الذي اتخذه فلا يتبدل عنه بحال في أي كتاب أو مقال أو عمل قام به بعد ذلك في سنيه الأخيرة.

فرجل يتكلم هكذا، ويفكر هكذا، لا بد أن يفقد كل ما كان لديه من مقدرة على تحليل الأدب الخالص، بل أن يفقد القدرة على مجرد التذوق، تذوق النواحي الفنية في الأدب والفنون، إلا أنه يجب ألا نأسف على ذلك، فإن كارليل قد أتى بأشياء أخرى لم يكن ليستطيع أن يأتي بها أي ناقد أدبي خالص.

ولكن من وجهة نظر تاريخ النقد الأدبي فإن كارليل، شأنه في ذلك شأن ماكولي، يبين أن النقد الإنجليزي في الفترة من ١٨٣٠ إلى ١٨٦٠ هبط من المرتبة العليا التي كان يمكنه بلا شك أن يظل محتفظًا بها.

ماتيو آرنولد Matthew Arnold

آرنولد أحد كبار الكتاب الإنجليز في العصر الفكتوري أو عصر تنيسون وكان آرنولد إلى جانب النثر والنقد شاعرًا، وقد يعده البعض ثالث شعراء هذا العصر إذ لا جدال في أن أعظم شعرائه تنيسون وبروتنج، وآرنولد على كل حال لم يشتهر بشعره قدر ما اشتهر بكتابته النثرية. ولد ماتيو آرنولد في ١٨٢٢ وكان طالبًا ممتازًا في أكسفورد، ثم اشتغل زمنًا سكرتيرًا لأحد اللوردات، ثم صار من ١٨٥٥ إلى ما قبل وفاته بسنتين مفتشًا فنيًّا للمدارس، وأسند إليه مع ذلك كرسي الشعر في جامعة أكسفورد من١٨٥٧ إلى ١٨٦٧ وفي سنتي ٨٣، ٨٦ قام برحلات في أمريكا كان يلقي فيها محاضرات ثم توفي في ١٨٨٨.

آرنولد الشاعر: كان الشعر هو ما وجه إليه أكبر عنايته في الطور الأول من رجولته، كان شعر آرنولد شعرًا كلاسيكيًّا، وكان آرنولد يعجب باليونان إعجابًا يجاوز الحد المعقول في كثير من الأحيان فيدفعه إلى أن يضل ويزيغ، وقد دفعه هذا الإعجاب بالشعر اليوناني إلى أن اعتقد أن الشعر الجيد حقًّا هو الشعر الموضوعي الذي ينسى فيه الشاعر نفسه، وأما الشعر الذاتي النفسي الذي تبدو فيه شخصية الشاعر فهو أقل درجة في الفن. وقد كتب آرنولد أشهر قصائده الشعرية متأثرًا فيها بهذه النظرية فهي قصائد موضوعية، وفيها نلمس جهده في صنعها والتعمل لها وإتقانها بحيث نشعر أنها عارية عن البساطة بعيدة عن الصدق والطبيعة تنزع إلى التقليد والاحتذاء، إلا أن أحسن شعر آرنولد يصدر حين يتناسى نظريته فيسمح لشخصيته بالظهور فيتأثر بنفسيته وذاته، وهذا الشعر نجد عليه مسحة من الكآبة والأسى وروح الشك الثقيل، ولكن آرنولد كان روحاني النزعة متمسكًا بالمثل العليا في الخلق والواجب، ولذلك لم يكن شكه من النوع الهدام، وكان أسلوب آرنولد باردًا واضحًا، ليس فيه موسيقية أو روعة شعرية ممتازة، وكانت أذنه غير حساسة، ولكن أسلوبه كان صافيًا منحوتًا مستويًا فهو من هذه الناحية يستحق التقدير، ولم يكن آرنولد الشاعر رائج السوق كثير القراء، ولكن كان له على كل حال محبوه وإن كان عددهم قليلًا.
آرنولد الكاتب: كتابته نوعان أساسيان: عن الأدب، وعن الحياة، فكتابته عن الأدب توجد في الكتب الآتية:
  • (1)
    Essays on Criticism. two series 1888, 1865.
  • (2)
    Lectures on Translating Homée. 61,62.
  • (3)
    Mixed Essays 1879.
وهذه الكتب تتميز بعمق النظرة وحدة الذكاء ودقة الإحساس وصفاء الذوق، وكان آرنولد يعتبر الأدب كأنه نقد الحياة، وتلك كلمته المشهورة criticism of life ولذلك كان أهم ما يعنيه في الأدباء الذين يتكلم عنهم أن يتبين قيمتهم الخلقية. أما في نقد العمل الأدبي فكان آرنولد يعتبر أن النقد محاولة دائبة لا تنقطع لمعرفة ونشر أحسن المعارف والأفكار في العالم، ولم يكن آرنولد في نقده ذا منهج محدد ولذلك كثيرًا ما تفسد أحكامه الفكرة العارضة، ولكن نقده مع ذلك كان متقنًا كاملًا ملهمًا مشرقًا، أما مذهبه عن الحياة فقد حمل على عاتقه كما يقول أن يوسع من الأفق الفكري والخلقي للشعب الإنجليزي.

ويتميز نثر آرنولد بوضوحه وصفائه وبرشاقته وجاذبيته، ولكنه كثيرًا ما تشوهه الصنعة الأسلوبية والتكرار، ورغمًا من أنه يكثر من اللغة العامية فإنه دائمًا يحتفظ بنقائه وتهذيبه ولطفه، وهو إلى جانب ذلك يستعمل المداعبة والمزاح والتهكم استعمالًا فعالًا، وكانت لدى آرنولد مقدرة خارقة للعادة في أن يركز أفكاره وآراءه في عبارة خالدة رائعة.

والخلاصة أن آرنولد كان من أكبر كتاب عصره ومن أشدهم تأثيرًا في الحياة الإنجليزية، ورغمًا من أنه كان يختلف عن كارليل ورسكن في الخلق والطبع فإنه واصل في طريقته الخاصة حملاته ضد النزعة المادية التي انتشرت في إنجلترا في العصر الفكتوري.

حين نصل في تاريخنا النقدي إلى ماتيو آرنولد فإننا نصل مرة أخرى — ولكنها المرة الأخيرة — إلى أحد أعاظم النقاد، أنا ناقد أخالف خطرات آرنولد النقدية، أخالفها أشد المخالفة، وقد أعارض أحكامه الذاتية، ولكنني حينما أرجع ببصري إلى تاريخ النقد الأدبي في الفترة التي تبدأ من سنة ولادته (١٨٢٢) والتي تقارب قرنًا فإني لا أستطيع أن أجد ناقدًا قد ولد في هذه الفترة يمكن أن يسمو على آرنولد بل أن يقارن به في الميزة النقدية العامة وفي المقدرة النقدية، وإذا عممنا النظرة حتى شملت منذ عهد أرسطو حتى مولد آرنولد فإننا قد نجد نقادًا أعظم منه، أعظم منه في الابتكار وفي الإخلاص وربما في روعة الخطرات النقدية الذاتية، ولكننا رغم ذلك نجد أن آرنولد من صف هؤلاء النقاد العظام ومن طبقتهم لا يهبط عن مستواهم العام.

نجد هؤلاء النقاد الأعاظم في تاريخ النقد صنفين: أما أحدهما فهم النقاد الذين صرحوا في فترة ما من فترات حياتهم بنوع من الاعتراف أو التقرير عن عقيدتهم الأساسية في النقد، بحيث لا تعدو أعمالهم النقدية الأخرى عن أن تكون تطبيقًا وممارسة لهذه العقيدة وتوسعًا وبسطًا لها. وأما الصنف الثاني فهم النقاد الذين لم يصنعوا ذلك قط وإنما دأبوا على بناء صرحهم النقدي مضيفين جناحًا إلى جناح وغرفة إلى غرفة وهادمين في أحيان ليست بقليلة ما سبق أن بنوه مبكرًا.

أما آرنولد فينتمي إلى الصنف الأول في عقيدته النقدية وفي ممارسته معًا، وقد صرح آرنولد بتقريره عن عقيدته النقدية في زمن مبكر جدًّا وهو لا يزيد عن سن الثلاثين إلا قليلًا، وإنما كان سن الثلاثين مبكرًا لأن آلهة النقد قد رفضت دائمًا أن تخلق ناقدًا جيدًا قبل سن الثلاثين.

نجد هذا التصريح في المقدمة التي كتبها آرنولد لما انتخبه في ١٨٥٣ من دواوينه الشعرية الأولى وأضاف إليه كثيرًا ثم طبع المجموعة في أكتوبر ١٨٥٣.

وإني لأشك في أن يكون آرنولد قد كتب في كل حياته ما هو خير من هذه المقدمة سواء في المعنى أو في الأسلوب. في هذه المقدمة تبدو نقائص آرنولد واضحة، ولكن مع ذلك تبدو ميزاته النقدية فمنها ما لا يزال بذورًا ومنها ما يبدو ثمارًا ناضجة.

وقد لخص آرنولد بنفسه في الطبعة الثانية من المجموعة مقدمته هذه، فركزها في مبدأين أساسيين: أولًا الإلحاح في بيان أهمية الموضوع subject أو الـ great action كما كان يسميه، ثانيًا الإلحاح في بيان ضرورة دراسة القدماء بقصد تصحيح الخطأ الكبير الذي وقع فيه المثقفون المحدثون وخاصة الإنجليز في اعتبار أدب القديم (اليوناني والروماني) أدب أوهام وخرافات ينقصه مطابقة العقل، وهكذا بين آرنولد بنفسه المحورين الأساسيين لعقيدته النقدية وقانونه النقدي.
في هذه المقدمة يقول آرنولد إن غرضه النقدي الأول والأخير هو الإصرار على أهمية الموضوع أو الـ action، وضرورة الاهتمام باختياره، وبيان خطأ الغرض القائل بأن المعالجة الجيدة تعوض ما ينجم عن تفاهة الموضوع ثم يذكر لماذا يختار هو في قصائده موضوعاتها من القديم، مناديًا بخطأ الرأي القائل بأن الشاعر يجب عليه أن يغامر الماضي الهزيل ويحصر كل انتباه في الحاضر.
وبعد أن يذكر آرنولد عقيدته هذه في أهمية تخير الموضوع يحاول أن يبرهن على أن اليونان قد «عرفوها وتفهموها أكثر مما نعرفها نحن» وأنهم «كانوا ينظرون إلى المجموع، وأما نحن فننظر إلى الجزئيات» وأنه بينما كانوا يبذلون أقصى اهتمامهم إلى الـ action فإننا نفضل الأسلوب والتعبير، وليس معنى ذلك أنهم أهملوا جودة التعبير بل هم على الضد قد كانوا أرباب الأسلوب العظيم grand style. وأن نظريتهم وأعمالهم معًا تصيح بألوف الألسنة: إن كل شيء يعتمد على الموضوع all depend supon the subject. انتخب موضوعًا ملائمًا وتغلغل بإحساسك إلى دقائق مواقفه، فإذا عملت ذلك فإن كل شيء آخر سوف يتهيأ لك في نفسه.
ولنلاحظ أننا نجد هنا ناقدًا يعرف ما يعنيه، ويعني ما لم يعنه ناقد قبله، حقًّا إن كثيرين قبله نادوا بأن كل شيء يتوقف على الموضوع، ولكن لم يقل ذلك من قبل ناقد يجد الأدب جميعه أمامه وفي متناول يده، ولم يناد بذلك أحد قط منذ نصف قرن، ثم لنلاحظ أن آرنولد جمع بين شيئين بين تخير الكلاسيكيين للـ fable الخرافة موضوعًا لقصائدهم وبين احتقار وردسورث للأسلوب الشعري، فكان آرنولد يفضل الوضوح على الجمال، وشك في ما يسمى بـ التعبير expression ويفضل اللهجة التقديرية على الرمز والكتابة والاستعارة.

هذه العقيدة التي جهر بها آرنولد في المقدمة في ١٨٥٣ استمر متمسكًا بها في كتبه النقدية التالية، وأهم هذه الكتب:

  • (١)
    On Translating Homer.
  • (٢)
    The Study of Celtic Literature.

    وفيهما يجمع محاضراته في أكسفورد حين كان كرسي الشعر بها مسندًا إليه.

  • (٣)
    ثم كتابه المشهور Essays on Criticism.

في هذه الكتب نجد عقيدة آرنولد وقد نمت وتنوعت ووضحت بعدد عظيم من المقالات النقدية الممتعة الكثيرة التنوع، إلا أن آرنولد يظل مع كل ذلك متمسكًا بنظريته أشد التمسك، لا يتطرق إليه أي تقهقر عن فكرته أو تغيير فيها أو تشكك في صوابها.

ونلاحظ في المنهج النقدي الذي يتبعه آرنولد أنه يتجنب التاريخ والطريقة التاريخية في النقد، فآرنولد لا يحب هذا النوع من النقد الذي يتناول التاريخ والسيرة، ويغالي في هذا التجنب مغالاة كثيرًا ما تعود على نقده بالضرر الكبير.

ولعل أشهر كتبه النقدية هو Essays in Criticism وهو مجلدان. ومقدمة هذا الكتاب تفيض بالحيوية والإشراق، والمقالتان الأوليان فيه تشرقان بنفس الحيوية والتدفق، وإن في هاتين المقالتين من الإمتاع للذهن والإشباع للذوق والإرهاف للحس ما يجعلنا نتسامح مع ما يبدو من آرنولد من معرفة ناقصة بالأدبين الألماني والفرنسي حين كان يحاول الاستشهاد منهما على صحة أقواله.
أما المقالة الأولى The Function of Criticism at the Present Time فتتخلص في أن علاج ما قد يكون أو ما هو كائن في الأدب الإنجليزي من مواطن النقص إنما هو النقد، وأن مهمة النقد إنما هي أن يستكشف الآراء التي يجب أن يتأسس عليها الأدب الإنشائي، وأن النقد هو محاولة لمعرفة أحسن المعارف والأفكار في العالم: Attemp to know the best of that is know and thought in the World. وأن الأدب الأجنبي مفيد على الأخص لأنه بالطبيعة يغطي ما ينقص الأدب القومي.
وأما المقالة الثانية infuence of academics فتستعير هذه الآراء وتستخدمها في تمجيد شأن الأكاديميات وضرورة إنشائها والمقارنة بين النتائج التي أدى إليها انعدام هذا التأثير في النقاد الإنجليز والتي سببها وجود الأكاديميات في النقاد الفرنسيين، الأمر الذي عاد على النقد الإنجليزي بالضرر بينما استفاد النقد الفرنسي، ونرى من المجلد الأول من الـ essays أن آرنولد ينتقص من قيمة النقد الإنجليزي ويبالغ في هذا الانتقاص إلى حد الظلم والخطأ، ولكنه محق على الأقل في الغض من قيمة النقد الإنجليزي في فترة شبابه ورجولته الأولى، أي من ١٨٣٠ إلى ١٨٦٠ فقد كان النقد الإنجليزي في هذه الفترة كما رأينا دون مستوى النقود الأخرى ودون مستواه هو في العصور الأخرى، وإنما جاء آرنولد نفسه ليعيد بناء هذا النقد ويحدده ويصلحه.

وكذلك كان آرنولد محقًّا حين قال: إن النقاد الإنجليز لا يشغلون أذهانهم بالقدر الكافي، وإن العقلية الإنجليزية تبدو غير مثقفة ولا متجددة إذ ترفض قبول المبادئ النقدية الصحيحة.

وإن كثيرًا مما يحتويه هذا الكتاب لصحيح صائب جيد، ولم يناد آرنولد قط بنظرية صادقة خالدة صحيحة لكل العصور ولكل الأجناس كما نادى بألا نهمل النقد أبدًا، وكما دعا إلى أن نقارن الآداب للأمم المختلفة، والآداب للأزمنة المتغايرة.

في هذه المقالات يحبونا آرنولد بمقدار فائق عظيم من المهارة النقدية ومن الإشراق والإبداع ومن الخلق والإنشاء، ولست أجد مجلدًا واحدًا آخر في النقد يفوق هذا الكتاب في نصاعة نقده، ولا يهم أن نوافق أو لا نوافق على أحكامه ولا يهم أنه أخطأ حين بالغ في الانتقاص من قيمة الأدب الإنجليزي من ١٧٩٨–١٨٣٤ كل ذلك ليس بذي بال، إنما المهم هو أن آرنولد في هذا الكتاب يمتعنا بالنقد الجيد الممتاز الملهم، الرائع المتنوع، المقارن المتذوق، وهو في نفس الوقت نماذج صادقة من الأدب الإنشائي.

ونعود مرة أخرى إلى نظرية آرنولد الأساسية في أهمية الموضوع وفي ضرورة العناية بانتخابه وتخيره. نعود إليها لنلاحظ أنها لم تكن سوى رد فعل لما استرسلت فيه الرومانتيكية من غض من شأن الموضوع وادعاء أن كل شيء إنما يتوقف على إتقان المعالجة والممارسة وأن لا شيء مطلقًا يعتمد الموضوع، وقد رأينا مغالاة فكتور هوجو في هذا الرأي وعرفنا خطأه في مغالاته، فالآن جاء آرنولد برد الفعل وقام يحد من مبالغة الرومانتيكية وينادي بما للموضوع من الشأن الأكبر.

وسواء أكنت ممن يؤيدون هذه النظرية أو ممن يرفضونها، وسواء أكنت ترى أن كل شيء يتوقف على الموضوع أو أن كل شيء يتوقف على النتيجة، فليس يهم ذلك في تبين منزلة آرنولد النقدية، وإنما المهم أن نتساءل: كيف يستطيع هذا الناقد أن يعبر لنفسه وأن يحمل إلى قارئه التقدير الصائب والمتعة الفائقة للأدب؟ تلك هي المسألة، وقليل من النقاد من يتفوق على آرنولد في هذه الرسالة النقدية، فإذا أنت سألته حكمًا واضحًا نهائيًّا كاملًا عن عمل رجل ما، وإذا أنت سألته عن تحديد منزلته في عالم الأدب تحديدًا مضبوطًا، فإن آرنولد لن يجيبك إلى هذا الطلب، وإنما يمنعه من ذلك نقص طريقته النقدية من الوجهة المنطقية والمنهجية، وكراهيته لقراءة مسألة لا تجتذبه ولا تمتعه، وأخيرًا خطؤه الجسيم في إهماله للنقد التاريخي، ولكن آرنولد قد صرح لنا بهذا منذ البدء وأعلمنا أننا لن نجد عنده نقدًا تاريخيًّا، أما إذا تطلبت من آرنولد ملاحظات نقدية جيدة وخطرات نقدية ثاقبة حساسة مُلْهَمة ومُلْهِمة، عن الرجل، أو عن العمل، أو عن ذلك الجزء أو غيره من الرجل أو العمل، وقد صيغت في تعبير جذاب شائق وألفت في عبقرية ومهارة، إذا تطلبت منه هذا فلن تجد ناقدًا سواه يتفوق عليه.

وليست هذه هي كل ميزات آرنولد النقدية، فإن آرنولد هو حقًّا أول ناقد ألح في بيان أهمية النقد المقارن للآداب المختلفة، هذا الذي كانت ممارسة اللاشعورية من أهم عوامل قيام الحركة الرومانتيكية. ولقد كان آرنولد أول من قام بهذه المقارنة في إنجلترا بانتظام ومواظبة، فلقد كان الإنجليز في النصف الأول من القرن التاسع عشر قد أهملوا الإسبانية والإيطالية بعد أن كانوا طالما أتقنوهما فيما مضى، ففقدوا عنصرين هامين مما يمد النقد ويدعمه. وكان احتقار الإنجليز للأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر قد عاد على أيدي رجال مثل كولردج ودي كوينسي De Quincey فجهل الإنجليز هذا الأدب الذي هو أفضل مصحح لأخطاء الأدب الإنجليزي وأكبر مكمل لمواطن نقصه، وحقًّا إن الألمانية كان الإنجليز قد بالغوا في تعظيم شأنها، ولكنه تعظيم لا يقوم كثيرًا على المعرفة والعلم، كما أنه بالنسبة للأدب الأوروبي في القرون الوسطى لم يكن هنالك أي تقدير نقدي عام.
ثم لنلاحظ ما فعله حين نادى بأهمية الموضوع من حدة لمغالاة الرومانتيكيين في الانتقاص من قدره، فإن النقد الرومانتيكي كان وشيكًا أن يضل ويزيغ فيصير أحكامًا شخصية انفعالية فردية لا تقوم على أساس من مبدأ أو قاعدة مقررة، وذلك حين كان لا يحكم على العمل إلا بنتيجته فيما يسمى الحكم بالنتيجة judging ley the result.

ثم لنلاحظ دعوته إلى الاحتراس من خلط الحكم الأدبي بالحكم اللا أدبي، ولم يعارض أحد كما عارض آرنولد التطرف في المناداة بنظرية أن الفن للفن وحده، كما أنه لم يناد أحد كما نادى آرنولد بضرورة الاحتراس من ترك العواطف القومية والحزبية والمذهبية تتدخل في الأدب نفسه وفي النقد الأدبي.

فما أداه آرنولد إلى النقد الإنجليزي هو إذن أجلّ من أن يوفى حقه من الثناء، فلقد كان أول القواد الذين قاموا بإصلاح الحالة التي هوى إليها النقد الرومانتيكي من التفكك والتشعب وعدم القيام على أساس من النظام والترتيب، فإذا أضفنا إلى ذلك ميزاته الخاصة قدرنا منزلته ومكانته، حقًّا إن ماتيو آرنولد لا يمتلك صواب الحس وصحة العقل كما يمتلكه كولردج، وحقًّا إنه لا يمتلك القوة التي يمتلكها جونسون، وحقًّا إنه لا يمتلك التقدير النفيس الفاخر الذي يمتلكه لامب، وحقًّا إنه لا يمتلك التقدير النظامي الحماسي الذي يمتلكه هازلت، ولكنه لا يهوى إلى حالة غياب الحس وفقدان الشعور التي تصيب كولردج، وأحكامه أكثر دقة مورقة من جفاف جونسون وبلادته، ودائرة اطلاعه كانت أوسع من دائر اطلاع لامب، وثقافته ومهارته ترفعانه فوق هازلت.

فماثيو آرنولد: بنظامه وترتيبه اللذين لا يصلان إلى حد التقيد والجمود. وباطلاعه الواسع الذي لا يشوبه تظاهر بالعلم أو تشدق بالمعرفة، وبرقته ودقته اللتين لا يخالطهما ضعف أو سطحية أو تفاهة، وبحماسته التي لا ينتقصها خلط أو تهويش، بكل ذلك يكون ماثيو آرنولد واحدًا من أعاظم النقاد الإنجليز، وإذا ما جعلتنا محاسنه وميزاته نتناسى مواطن نقصه فإن يصير من أعاظم النقاد في تاريخ النقد العالمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤