تاريخ النقد عند العرب في الجاهلية

لئن صدقت نظرية «تين» في أن أدب كل عصر وكل أمة نتيجة للبيئة الطبيعية والاجتماعية للأمة، فهي عند العرب في الجاهلية أصدق، وقديمًا قال العرب: «إن الشعر سجل العرب» ولو توسعوا قليلًا لقالوا أيضًا: «إن الأدب على العموم سجل لهم، وليس الشعر وحده؛ فالأدب العربي الجاهلي نتيجة صادقة لبيئته، وحياتهم الطبيعية جعلتهم يقصدون إلى أغراض معينة استلزمتها الحياة الصحراوية في البادية، والتي تشبه الصحراوية في المدن، فعواطفه وعقليته وأسلوبه، نتيجة لنوع حياته؛ فالحياة عنده قاسية مجدبة، وهو في هذه الحياة المجدبة كان يغني وفقًا لقانون التعويض، كالذي نراه في بيئاتنا من أن أكثر الناس بؤسًا في الحياة أشدهم ولوعًا بالتغني، ليروح عن نفسه، وقد كان العربي يغني لنفسه، ويشرك في غنائه ناقته أو جمله.

ومن هنا نشأ أول ما نشأ من الشعر الرجز الذي يساير نغمات سير الجمل، وكان لهذا الرجز أثر سحري في نفس الشاعر وجمله، إذ يجعلهما يسيران مسافة بعيدة من غير أن يتعبا، ثم تطور الرجز إلى القصائد المختلفة الأوزان.

ومن الأسف أنه لم يصلنا من الشعر القديم شيء، وإنما وصل إلينا الشعر بعد أن نضج، وتاريخه يرجع إلى نحو قرن ونصف قبل البعثة لا قبل ذلك.

وحياة البادية هذه جعلتهم يتنقلون كثيرًا، ويبعدون عمن يحبون كثيرًا، فقالوا في وصف الحبيبة وفي الغزل وفي الوصل والهجر وفي الوقوف على الأطلال وفي وصف الحيوان الذي يرونه، ونحو ذلك.

وإذا كانت حياتهم قبلية تغنوا بمدح قبيلتهم وهجاء القبائل الأخرى، وتمدحهم لأعماله من ينتسب إليه، وكان الشاعر كما يدل عليه اسمه ذا منزلة عالية في قبيلته، إذ هو الذي يدافع عن أعراضهم، ويمجد محامدهم، ويناضل عنهم؛ ولذلك لما جاء الإسلام اتخذ هذا النوع وسيلة أيضًا من وسائل الدفاع في الخصومة، وضم النبي إليه حسان بن ثابت وغيره، علمًا منه بأن هذه سنة عربية لا بد منها.

وكان لتنقلات العرب إلى العراق والشام وفارس وللأحداث السياسية والاجتماعية التي حدثت لهم وللحروب التي كانت بينهم أثر كبير في شعرهم، وعمل كل ذلك عمله في نضج الشعر وصبه في القوالب المعينة، حتى وصل إلينا ناضجًا كما نرى، ولا شك أنه مرت به أدوار طويلة قبل أن يستوي: من إقواء وبساطة معان وخطأ في التفاصيل ونحو ذلك، ثم زال ذلك كله على مر الزمان، ونقد النقاد. ومهما اختلط العرب بغيرهم في أول أمرهم، وتثقفوا بثقافات غيرهم من الأمم، وتأثروا بالديانات المختلفة، من يهودية ونصرانية ووثنية، فقد ظل الشعر العربي محتفظًا بشخصيته، وإن اكتسب شيئًا فشيء قليل يذوب في الشخصية العربية.

ويروي الرواة أنه كان للعرب أسواق يجتمعون فيها ويتناشدون الأشعار ويتناقدون، فكان ذلك أيضًا عاملًا اجتماعيًّا في ترقيق الألفاظ وتدقيق المعاني وترقية النقد … وعلى الأخص سوق عكاظ، ويروون عنه أن النابغة الذبياني برز في نقد الشعراء وتفضيل بعضهم على بعض، كما فضل الأعشى والخنساء على غيرهما من الشعراء، وعابوا هم عليه الإقواء في قوله:

أمِن آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلينا غدا
وبذاك حدثنا الغراب الأسود

فغير شطر البيت ونبه إلى أن الإقواء معيب ويحرز عنه فيما بعد.

إلى جانب ذلك ما فعلته قريش في أنها وقفت موقف المتخير الناقد تختار من كل قبيلة أحسن ما عندها من ألفاظ وأساليب، وتبسط سلطان لغتها على القبائل الأخرى مكان الشعراء يشعرون بلغة قريش.

وقد كان النقد المروي لنا نقدًا مبنيًّا على الذوق الفطري فنقد طرفة بن العبد مثلا المتلمس إذ يقول:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بتاج عليه الصيعرية مقدم

فقال طرفة: استنوق الجمل؛ لأن الصيعري سمة في عتق الناقة لا في عنق البعير. وروي أن بعض شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب، وكان بينهم الزبرقان بن بدر، والمخبل السعدي، وعبدة بن الطيب، وعمرو بن الأهدم، وتذاكروا في الشعر والشعراء، وادعى كل منهم أسبقيته في الشعر، وتحاكموا، فقال الحكم:

أما عمرو فشعره برود يمنية، تطوى وتنشر، وأما الزبرقان فكأنه رجل أتى جزورًا قد نحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، وأما المخبّل فشعره شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما عبدة فشعره كمزادة أحكم خرزها، فليس يقطر منها شيء …

وهذا نوعان من النقد مختلفان، فالأول ينقد ألفاظًا أو معاني حرفية، والثاني يفاضل بين الشعراء وبين مزاياهم وعيوبهم، وهو على كل حال نقد بدائي …

وبجانب ذلك نوع ثالث من النقد وهو الحكم على بعض القصائد بأنها بالغة منزلة عليها في الجودة بالموازنة بغيرها، فقالوا: إن قصيدة سويد بن أبي كاهل التي مطلعها:

بسطت رابعةُ الحبل لنا
فوصل الحبل منها ما انقطع

من خير القصائد، وسموها اليتيمة، وقالوا في قصيدة حسان:

لله در عصابة نادمتهم
يومًا بخلق في الزمان الأول

بأنها من خير القصائد ودعوها البتارة.

ومن هذا النوع اختيارهم القصائد المشهورة التي سموها المعلقات إن صحت هذه الرواية.

وبهذا لم يكن النقد مبنيًّا على قواعد فنية، ولا على ذوق منظم ناضج، إنما هو لمحة الخاطر، والبديهة الحاضرة.

وقد احتاج النقد إلى زمن طويل في الإسلام حتى يؤسس على قواعد ثابتة ولئن كان كثير من هذه الروايات النقدية غير صحيح فإن أساسها كلها صحيح، يدل على الذوق البدائي في النقد في العصر الجاهلي، على أنا نرى أنه كان تابعًا للشعر فالشعر كان إحساسًا أكثر منه عقلًا، وكان النقد كذلك، فالشاعر يهتاج للحوادث التي تقع حوله، فيقول في ذلك بعاطفته وشعوره، والناقد يزن ما قيل، ويصغي في نقده إلى عواطفه وشعوره، والعربي من طبعه أن يكون دقيق الحس مرهف الإحساس، يهتاج لأقل سبب، ويهدأ أيضًا لأقل سبب، وكما ينفعل الشاعر بعواطفه فيشعر، ينفعل الناقد بحسه فينقد، وكلاهما بدائي ساذج، هذا في أدبه، وهذا في نقده، ويعجبني قول التبريزي لما سمع الشاعر الذي قيل إنه جاهلي يقول:

دق حتى دق فيه الأجل إلخ إنه معنى يدق عن الذوق الجاهلي، فهو شعر منحول منسوب إلى تأبط شرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤