النقد في العراق والشام

لئن كنا في الحجاز قد رأينا فنًّا جديدًا في الغزل كان يحمل لواءه عمر بن أبي ربيعة، وفنًّا جديدًا في النقد عماده الذوق الظريف المرهف الذي صقلته الحضارة يحمل لواءه ابن أبي عتيق فإنا نجد في العراق طعمًا آخر للشعر وللنقد.

نجد الشعر العراقي في أكثر أحواله يشابه الشعر الجاهلي في موضوعه وفحولته وأسلوبه؛ حييت فيه العصبية القبلية على أشدها وأعنفها، وكان أغلب موضوعاته ما يتصل بهذه العصبية من فخر وهجاء، فخر الشاعر بقبيلته ومن يعتز به. أما الغزل ونحوه فكان على هامش الشعر لا في صميم الشعر، على عكس الحال في بيئة الحجاز كعمر بن أبي ربيعة وأضرابه. يفخر الفرزدق ببيئته من تميم ويهجن غيره، ويفخر جرير كذلك ويهجو قبائل خصومه ونحو ذلك.

ويشاء الله كذلك أن يكون أشهر مكان للسباق بين الشعراء في العراق يشبه أخاه الذي كان في الجاهلية، وهو مربد البصرة في الإسلام الشبيه بسوق عكاظ في الجاهلية.

كان المربد ضاحية من ضواحي البصرة، وعلى بعد نحو ثلاثة أميال منها، وكان في أصله سوقًا للإبل، ثم كان مجتمع العرب يتناشدون فيه الأشعار ويبيعون ويشترون، وكان العرب يعيشون فيه عيشة تشبه عيشة الجاهلية من مفاخرة بالأنساب، وتعاظم بالكرم والشجاعة، وذكر لما كان بين القبائل من إحن.

كان هذا المربد يذخر بالشعراء يتهاجون ويتفاخرون، ويعلي كل شاعر من شأن قبيلته ومذهبه السياسي ويضع من شأن غيره من الشعراء ومذاهبهم السياسية، فيجتمع فيه جرير والفرزدق ويتنافران ويتهاجيان، ويحضرهما العجاج والأخطل وكعب بن جعيل وغيرهم.

وكان لكل شاعر من شعراء المربد حلقة ينشد فيها شعره وحوله الناس يسمعون منه، ولكل شاعر حزب ينتصر له ويتعصب له.

ومازال جرير والفرزدق يتهاجيان حتى ضج والي البصرة فهدم منازلهما بالمربد.

•••

وقد خلف لنا هذا المربد وما كان فيه من صراع مجموعات كبيرة من الشعر أهمها شيئان: مجموعة كبيرة من النقائض بين جرير والفرزدق، فكان أحدهما يقول قصيدة في هجاء صاحبه على وزن خاص وقافية خاصة، فينقضها الآخر ويحولها إلى هجاء خصمه على نفس الوزن والقافية. والثاني مجموعة من الأراجيز الفخمة كأرجوزة العجاج:

قد جبر الدينَ الإلهُ فجبَر

وأرجوزة أبي النجم:

تذكَّر القلبُ وجهلًا ما ذكر

وأرجوزة رؤبة:

وقائمِ الأعماقِ خاوي المخترق

إلى غير ذلك.

والناظر في هاتين المجموعتين: النقائض والأراجيز يرى فيهما صدق ما نقول من الفروق الواسعة بين الشعر الحجازي والشعر العراقي؛ فهذا الشعر العراقي متميز بأسلوبه الفخم الذي يشبه الأسلوب الجاهلي. ومعانيه البدوية التي لم تمسها الحضارة إلا مسًّا رفيقًا، والتي يشبع فيها الفخر القبلي، والهجاء القبلي، والتعبير بأنه قَيْن وابن قَيْن، وتعبير القبيلة بأن أحد أفرادها أكل فسال اللبن على ذقنه وثوبه، وبالضيافة وما يتصل بها ونحو ذلك من العقلية البدوية والعادات الجاهلية.

فلا عجب أن نجد النقد يتبع الأدب ويكون من جنسه، فلا نجد في العراق ابن أبي عتيق والسيدة سكينة وأمثالها الذين كانوا ينقدون المعاني بعرضها على الذوق الحضري المهذب، وينقدون الغزل بعرض ما هو أليق وأنسب. إنما نجد في العراق أنواعًا أخرى من النقد تناسب تلك البيئة التي وصفنا، ونوع الشعر الذي أوضحنا.

كان النقد متجهًا أكثر الاتجاه في العراق إلى التفضيل بين الشعراء، فأي الثلاثة أشعر جرير أو الفرزدق أو الأخطل؟ ونحو ذلك، وسموا هذا قضاء، وسموا الذي يحكم قاضيًا، وسموا هذا العمل حكومة، فقال الأخطل:

إني لقاض بين جعدة عامر
وسعدٍ قضاءٌ بيِّنُ الحق فيصلا

وقال كعب بن جعيل:

إني لقاض قضاء سوف يتبعه
من أم قصدًا ولم يعدل إلى أود
فصلًا من القول تأتمُّ القضاة به
ولا أجور ولا أبغي على أحد

وقال جرير في الأخطل لما فضل الفرزدق عليه:

فدعوا الحكومة لستمو من أهلها
إن الحكومة في بني شيان

•••

وكانت لهم أحكام نقدية كذلك في ميزة الشاعر ووجوه ضعفه ووجوه قوته، وأحكام في الموازنة بين الشعراء، نذكر منها بعض الأمثلة كحكم الفرزدق على النابغة الجعدي بأنه «صاحب خلقان، عنده مطرف بآلاف، وخمار بواف، يريد أنه يعلو ويسفل، ويقول البيت يساوي آلاف الدراهم والبيت لا يساوي إلا درهمًا. وكحكمه على ذي الرمة بجودة شعره لولا وقوفه عند البكاء على الدمن ووصف القطا وأبوال الإبل. وكحكم جرير على الأخطل بأنه يجيد مدح الملوك، وكموازنة الأخطل بين جرير والفرزدق بأن جريرًا يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر.

وساد هذا الضرب من النقد في العراق وزاده كثرة حركات العنف في الهجاء بين جرير والفرزدق وجرير والأخطل، فانقسم إلى معسكرات ثلاثة كل يتعصب لشاعر ويفضله على غيره، ويتلمس محاسن شعره ويشيعها ومعايب غيره فيشهر بها، فكان هذا وأمثاله من الخصومات بين الشعراء سببًا في غلبة هذا الاتجاه على النقد الأدبي في العراق.

وزاد هذا النظر حتى جعلوا من لم يسر على طريقتهم في المدح والهجاء متخلفًا. «رووا أن ذا الرمة قال للفرزدق: مالي لا ألحق بكم معشر الفحول؟ فقال له: لتجافيك عن المدح والهجاء واقتصارك على الرسوم والديار».

ولست أزعم أن نقدهم للمعاني الجزئية كالتي كانت في الحجاز معدومة، فقد روي لهم بعض الشيء من هذا القبيل:

فقد نقدوا الفرزدق إذ يقول:

يا أخت ناجية بن سامة إنني
أخشى عليك بني أن طلبوا دمي

فقالوا: إن هذا مما يعاب لأن قتيل الهوى لا يُودَى.

ورووا أن الفرزدق أنشد الحجاج قوله:

من يأمن الحجاج والطير تتقي
عقوبته إلا ضعيف العزائم

فقال الحجاج: «الطير تتقي عقوبته» كلام لا خير فيه لأن الطير تتقي كل شيء حتى الثوب والصبي، وفضل عليه قول جرير:

من يأمن الحجاج أما عقابه
فمُرٌّ وأما عهده فوثيق

ولكن هذا كله كان مغمورًا بالكثير الذي روي عن مفاضلتهم بين الشعراء وموازنتهم بين شاعرين فأكثر، وتنبيههم على مكان القوة في الشاعر ومكان ضعفه.

•••

وكان في العراق حركة أخرى أدبية تغاير هذه الحركة كل المغايرة، فلئن كانت الحركة السابقة متأثرة كل التأثر بالشعر الجاهلي والعصبية الجاهلية والعادات والتقاليد الجاهلية؛ فهذه الحركة الجديدة متأثرة كل الأثر بالإسلام وتعاليمه، وأعني بها حركة الخوارج، فقد كان لهم أدب قوي ولهم شعر رائع، ولكنهم لا يقصدون فيه إلى مديح وهجاء كما يفعل جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم، إنما يقصدون فيه إرضاء عواطفهم بالاستهانة بالموت في سبيل الله والحث على الشجاعة والإقدام وبيع النفس لإرضاء الله، وسموا أنفسهم الشُّرَاة من أجل هذا، أخذًا من قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.

ولهم شعر رائع بثوا فيه قوة إيمانهم وشدة شجاعتهم أمثال قطعة قطرِيّ ابن الفجاءة:

أقول لها وقد طارت شعاعًا
من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرًا في مجال الموت صبرًا
فما نيل الخلود بمستطاع

إلى آخره.

وكشعر عمران بن حطان المشهور.

وكان هذان الشاعرن وأمثالهما من شعراء العراق، إذ كان العراق عش الخوارج، فكان هذا اللون من الشعر مخالفًا كل المخالفة للون الشعر الذي يقوله جرير والفرزدق والأخطل. وقد ذكر المبرد في الكامل طائفة كبيرة من أدبهم وخطبهم وشعرهم تميل للمنزع الذي وصفنا.

وتبع نزعتهم في الأدب نزعتهم في النقد فكانوا يهزءون بهؤلاء الشعراء الذين يتمسحون بالملوك والأمراء يمدحونهم بما ليس فيهم، ويستجدون المال الذي ليس من حقهم، ويرون أن الشاعر الحق من صدق في قوله واتق الله في شعره فيروون أن عمران بن حطان مر على الفرزدق وهو ينشد والناس حوله، فوقف عليه ثم قال:

أيها المادح العباد ليعطى
إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم
وارج فضل المقسم العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه
وتسم البخيل باسم الجواد

وكان بعض الخوارج يسمي عاصم بن الحدثان أحد شعراء الخوارج شاعر المؤمنين والفرزدق شاعر الكافرين.

فهؤلاء الخوارج يزنون الشعر بميزان الدين والأخلاق، وأولئك يزنونه بالميزان الفني البحت ويجعلون إمامهم الشعر الجاهلي والنزعات الجاهلية، ولكن — على وجه العموم — قد ضاعت حركة الخوارج الأدبية بضياعهم سياسيًّا، وتغلبت نزعة أمثال جرير والفرزدق والأخطل ونقادهم، وكانت هي أكبر مظهر في العراق.

•••

ولئن كان الأدب في الحجاز أكبر مظهر له الغزل. والنقد يتبعه، والأدب في العراق أكبر مظهر له الفخر والهجاء والنقد يتبعه فالشام أكبر مظهر لأدبه هو المديح. وكان هذا طبيعيًّا فدمشق عاصمة الخلافة الأموية، والشعراء يفدون على الخلفاء بمدائحهم التي أنفقوا فيها عمرهم، والخلفاء يعطون عليها فيجزلون العطاء، إما سياسة منهم حتى يتألفوا الشعراء ويأمنوا شر ألسنتهم، ويستجلبوا منهم الثناء عليهم فيشيع ذلك في الناس؛ وإما تقديرًا للشعر نفسه، وإعجابًا به. وخلفاء بني أمية كانوا عربًا في نسبهم، وعربًا في ذوقهم، فلا عجب أن يعجبوا بالشعر ويطربوا له، ويكافئوا عليه؛ وإما للسببين معًا.

فمن عهد معاوية إلى عهد مروان بن محمد والشعراء تفد على دمشق بمدائحها في ملوكها.

وكانت قصور الخلفاء الأمويين في تقاليدها كثير من طباع العرب من سهولة حجاب، وكثرة وفود وزوار، وإمداد سماط لمن حضر، وكثرة تردد على الخليفة للأمور الجليلة والحقيرة.

ولهذا كله كان في القصر معنى المنتدى أيضًا، فالشاعر إذا قال قصيدة قالها في جمع كبير، وإذا نُقدت نقدت في جمع كبير، وكان القصر مركزًا للأدب كما هو مركز للسياسة.

والأدب الذي يناسب القصور هو أدب المديح؛ لهذا لون الأدب الشامي بلون المديح، ولون النقد بلون الأدب. وكان موقف خلفاء بني أمية يحملهم على تشجيع الشعراء على مديحهم، والإغداق عليهم، فهم منذ بدء خلافتهم يهاجمهم شيعة علي، ثم أعقبهم مهاجمة الزبيريين لهم، ثم الدعوة العباسية آخر الأمر، وهم يعلمون أن الشعراء ألسنة الناس، وأنهم يفعلون فيهم ما تفعل جرائد الأحزاب في هذه الأيام.

لهذا قربوا الشعراء إليهم بكل وسيلة، وشجعوهم هم ورجالهم — حتى أصاغر الشعراء — على القول في المديح والعطاء عليه.

لقد سمع زياد بن أبيه شاعرًا يمدح معاوية ويقول:

معاوية التقي السـ
ـري أمير المؤمنينا
أعطي ابن جعفر مالا
فقضى منه الديونا

فأجزل له العطاء، فقيل له: أتعطي على مثل هذا الشعر؟ فقال: نعم. إن الشعر كذب وهزل، وأحقه بالتفضيل أهزله، ولكن الحقيقة أنه لم يعطه لهذا، ولو كان صريحًا لقال: إن الشعر فن وسياسة فأنا أعطيه الآن للسياسة لا للفن.

ولو أحصينا أشهر شعراء الشام في ذلك العصر ونوع شعرهم لوجدناهم شعراء سياسة، وشعرهم يخدم السياسة بالمديح، وأشهرهم في ذلك وأوضحهم «الأخطل»، فقد ظل أكثر حياته يمدح الأمويين ويعلي من شأنهم، ويناصر من ناصرهم، ويهجو من ناوأهم، وكذلك كثير غيره كأعشى ربيعة، ونابغة بني شيبان، وأبي قطيفة.

واضطرهم الإكثار من المديح أن يقلبوا معانيه على وجوهها، وأن يذهبوا فيه كل مذهب، ويغوصوا على معانيه كل غوص ويشكلوه كل شكل.

وتبع الإكثار من المديح الإكثار من نقد المديح، ولعل خير من روي لنا عنه في نقد المديح هو عبد الملك بن مروان، فقد كان — إلى جنب أنه خليفة عظيم — ذا ذوق أدبي راق، يقصده الشعراء بمدحهم فيقومه تقويمًا حسنًا، يدقق في معانيه، وينقدها بذوقه الظريف.

لقد عاب الشعراء في قلة ذوقهم وعدم مراعاتهم المقام، وعدم البراعة في الاستهلال، فعاب «ذا الرمة» لما بدأ قصيدته بقوله:

ما بال عينك منها الماء ينسكب

وغضب عليه، ونحاه حتى عاد وقال:

ما بال عيني منها الماء ينسكب

وعاب على الأخطل افتتاحه بقوله:

خف القطين فراحوا منك أو بكروا

وقال له: بل منك إن شاء الله، فعاد الأخطل وغيرها بقوله:

خف القطين فراحوا اليوم أو بكروا

كما عاب على الشعراء نبوّ ذوقهم في شعرهم، فلما أنشده جرير:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إلى قطينا

قال: ما زاد على أن جعلني شرطيًّا، أما أنه لو قال:

لو شاء ساقهم إلى قطينا

لسقتهم إليه. وينقده أيضًا لأنه استعمل كلمة «يوزع» في شعره، وهي نابية ثقيلة.

ويكره من الشعراء أن يطيلوا في مدح أنفسهم أو نوقهم، ويرى أن يكون المدح خالصًا للممدوح، فينشده السلولي قصيدة خلطها مدحًا بفخر، فيقول له: «والله ما مدحت إلا نفسك». وينشده ذو الرمة قصيدة يطيل فيها مدح ناقته، فيقول له: «ما مدحت إلا ناقتك فخذ منها الثواب».

ويرسم للشعراء طريق المدح فيقول: «تشبهونني مرة بالأسد ومرة بالبازي ومرة بالصقر ألا قلتم كما قال الأشقري:

ملوك ينزلون بكل ثغر
إذ ما الهام يوم الروع طارا
رزان في الأمور ترى عليهم
من الشيخ الشمائل والنجارا
نجوم يهتدى بهم إذا ما
أخو الظلماء في الغمرات حارا

ويسمع قول ابن قيس الرقيات في مدحه:

إن الأغر الذي أبوه أبو العا
ص عليه الوقار والحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه
على جبين كأنه الذهب

فيوازن بينه وبين ما قاله الشاعر نفسه في مدح مصعب بن الزبير:

إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه
جبروت منه ولا كبرياء

فيقول له: يا ابن قيس تمدحني بالتاح كأني من العجم وتمدح مصعبًا بأنه شهاب من الله.

وأمثال هذا كثير في كتب الأدب تدل على علو مقام عبد الملك في النقد وأنه قام في نقد المديح بالشام مقام ابن عتيق في الغزل بالحجاز، وغير ذلك.

تروي لنا كتب الأدب أن مجالس الخلفاء كعبد الملك وهشام مملوءة بالسؤال عن الشعراء أيهم، وأي المعاني أجود، ونحو ذلك مما جعل القصور مدارس أدب ومدارس نقد، ولا سيما في المديح.

ومن الحق أن نذكر أن الشام في أواخر العصر الأموي شاركت الحجاز في الغزل الظريف على لسان خليفتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والسبب في انصرافه إلى الغزل هو السبب الذي أفشى الغزل في الحجاز، فقد نحى الحجازيون عن السياسة مع الغنى والترف فظهر فيهم الغزل، وكان الوليد بن يزيد قد ولاه أبوه العهد بعد هشام فطمع هشام في عزله وعابه وأهانه وشهر به. وكان الوليد من فتيان بني أمية وظرفائهم وشعرائهم وأجوادهم، فانصرف إلى اللهو والغزل وتغنى في الشام بما تغنى به عمر بن أبي ربيعة في الحجاز، ولكنه كان أغنى من عمر بن أبي ربيعة وأترف، وكان أسيرًا وولي عهد ثم خليفة، فتغزل غزلًا أرستقراطيًّا ليس فيه قصصه مع النساء، وليس فيه قلت لها وقالت لي، وليس فيه مطاردة النساء والجري وراءهن من المدينة إلى مكة، ومن المدينة إلى العراق، وإنما غزل يفيض بالحب، ويفيض بعاطفة الإخلاص لمن أحب، كقوله:

أراني الله يا سلمى حياتي
وفي يوم الحساب كما أراك
ألا تجزين من تيَّمتِ عصرا
ومن لو تطلبين لقد قضاك
ومن لو مت مات، ولا تموتي
ولو أُنسي له أجل بكاك
ومن حقًّا لو أُعطي ما تمنى
من الدنيا العريضة ما عداك
ومن لو قلت مت فأطاق موتًا
إذن ذاق الممات وما عصاك
أثيبي عاشقًا كلفًا مُعنّى
إذا خدرت له رجل دعاك

(البيت الأخير جار على عقيدة فاشية عند العرب، وهي أن الإنسان إذا خدرت قدمه دعا باسم أحب الناس إليه فسكنت).

ثم هو يفتح بابًا جديدًا في الشعر لم يفتح في عصر الإسلام قبله، وهو الإفراط في وصف الخمر والتغني بمحاسنها، وهو باب لم يطوقه عمر بن أبي ربيعة، ولا غيره من شعراء الحجاز كثيرًا، وكان في غزله وخمرياته إمام أبي نواس وغيره من شعراء بني العباس، أخذوا معاني الوليد وجعلوها في شعرهم.

ولكن لم يتكون حول غزل الوليد وخمرياته نقد كالذي كان حول عمر بن أبي ربيعة وأضرابه، ولم يكن للوليد كابن أبي عتيق، ولم يرو لنا كثير نقد للغزل الشامي كما روي النقد للمديح الشامي.

ولعله كان لإمارة الوليد وولاية عهده، ثم خلافته ما جعله صعب المنال أن ينقد.

لقد نقد كثيرًا من ناحية دينه، ولكنه لم ينقد كثيرًا من ناحية أدبه.

•••

هذه خلاصة موجزة للنقد الأدبي في البيئات المختلفة في العصر الأموي، فكل النقد يدور حول تفضيل شاعر على شاعر، وميزة الشعراء بعضهم على بعض، وضعف المعاني التي يأتي بها الشعراء، وتفضيل بعضها على بعض، وتخير الألفاظ، وحسن الصياغة أو قبحها إلى آخر ما ذكرنا، وكل ذلك مبني على الذوق الفطري الذي تهذبه البيئة وترقيه الحضارة، وشأن النقد شأن الأدب. لقد كان الأدب فطريًّا يصدر عن سليقة وطبع، فكان النقد كذلك فطريًّا يصدر عن ذوق وسليقة وطبع.

وفي آخر العصر الأموي ظهر النحو وجد بعض علمائه في وضع قواعده، وكان مما يهمنا هنا أن علماءه بدءوا ينقدون الشعر على نمطهم وأسلوبهم، بدءوا نوعًا جديدًا من النقد هو أن الشاعر أخطأ نحويًا، ولم يجر في شعره على منحى العرب في الإعراب فنقدوا النابغة الذبياني إذ يقول:

فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم نافع

فقالوا: إن الصواب أن يقول ناقعًا بالنصب على الحال.

ونقد عبد الله بن إسحاق الحضرمي الفرزدق إذ يقول:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مُسْحتًا أو مجلف

فقالوا: كان الواجب أن يقول مجلفًا لأنه معطوف على منصوب. وهجاء الفرزدق لما عابه بهذا قال:

ولو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا

فعابوه أيضًا في ذلك، وقالوا كان الواجب أن يقول مولى موال لا مولى مواليا.

وعلى الجملة فقد ظهر هذا النوع من النقد العلمي النحوي في آخر العصر الأموي، فلما جاء العصر العباسي، وأسست العلوم في جميع الفروع تأثر النقد الأدبي بالعلم، وتحول الذوق الفطري إلى قواعد وقوانين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤