الفصل السابع

العزاء

عادت هيلين إلى المزرعة ونفسها تسيل لوعةً وأسًى، فما بلغت كوخها حتى ألقت بالكتاب على المنضدة وتهافتت على سريرها باكيةً منتحبةً، فهرعت إليها صديقتها تسألها ما شأنها، فأشارت إلى الكتاب وقالت ها هي ذي خلاصة حياتي من أولها إلى آخرها. ولم تكن مرغريت تحسن القراءة فأتتها بالكتاب فأنشأت تقرؤه عليها وفؤادها يتمزق لوعةً وأسًى، فقاطعتها مرغريت وأقبلت عليها تقول لها: متى تخلى الله عنا يا هيلين فنلجأ إلى الناس في شئوننا، ونعتمد عليهم في رزقنا، ونحن أغنياء عنهم بما هيأ الله لنا من القوت في هذه الجنة الصغيرة التي نعيش فيها، فما فينا من يشكو جوعًا أو عطشًا، ولا من يمشي عاريًا أو حافيًا، ولا من يبيت مغتمًّا أو محزونًا، فروِّحي عن نفسك، فالله أرحم بك وبنا من الأقارب والأصدقاء، ثم عجزت عن امتلاك نفسها ومتابعة حديثها، فاختنق صوتها بالبكاء فتهافتت هيلين على عنقها وضمتها إلى نفسها وظلت تقول لها: آه يا صديقتي! آه يا صديقتي!

وكانت فرجيني واقفةً بجانبهما، فأثَّر في نفسها هذا المنظر المحزن، فاستعبرت باكيةً، وظلت تتناول يد أمها مرةً ويد مرغريت أخرى فتقبلهما وتبللهما بدموعها، وتقول لهما: أرجو ألا يكون ذلك من أجلي! فبكى لبكائها الزنجيان، وكانا واقفين عند الباب واشتد نحيبهما ونشيجهما، أما بول فقد عصفت في رأسه عاصفة الغضب وظل يضرب الأرض بقدميه ويشير بيديه متهددًا متوعدًا لا يعلم من يهدد ولا من يتوعد، ولا على أي رأس من الرءوس يرسل صاعقة غضبه؛ لأنه لم يفهم مما كان شيئًا، فكان هذا المأتم الغريب في تلك الساعة الرهيبة مظهرًا من مظاهر الإخلاص والولاء بين قومٍ جمعتهم جامعة البؤس والشقاء، ووحدت بين قلوبهم الهموم والآلآم، وما اجتمعت القلوب على شيء هو أجمع لشملها وأوثق لرباطها من اجتماعها حول مواقف الهموم والأحزان، فسُرِّي عن هيلين قليلًا، وضمت بول وفرجيني إلى صدرها وقالت لهما: إنكما وإن كنتما يا ولدي سبب أحزاني وآلامي ولكن الشقاء لم يأتني منكما. فلم يفهما شيئًا مما تقول، ولكنهما علما أنها قد هدأت وسكنت، وأنها تبتسم لهما، فاعتنقاها وقبَّلاها.

وما لبثوا جميعًا أن عادوا إلى سرورهم وغبطتهم، ولعبهم ومرحهم.

وكانت تلك الحادثة أشبه شيءٍ بسحابةٍ اعترضت وجه الشمس ساعةً ثم اضمحلت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤