الفصل الأول

الكوارث الطبيعية١

حار بيني يا نائبات الليالي
عن يميني، وتارة عن شمالي

(١) حريق الحمزاوي

في إحدى ليالي صيف سنة ١٨٦٣ شبت نار عنيفة بالحمزاوي — والحمزاوي، كما هو معروف، مجموعة مخازن تشتمل على أهم المستودعات لأنفس البضائع وأثمنها، لا سيما المنسوجات والأبسطة والطنافس بمصر القاهرة — وبالرغم من الهمة والنشاط المبذولين من رجال الحفظ العام، بالرغم من التطوع بإخلاص، المقدَّم من أهالي الجيزة وسكان الجهات الأخرى الذين هبوا للمساعدة على إطفاء النيران، فإن هذه لم تخمد إلا قبيل الفجر، بعد تعب شديد وجهد جهيد، وذلك لعدم وجود رجال مطافئ متخصصين كما هي الحال الآن، ولأن مياه النيل لم تكن قد جلبت بعد إلى القاهرة، فبلغت الخسائر جملة ملايين من الفرنكات — وكان لمليون الفرنكات في ذلك العهد قيمة تعادل نيفًا وعشرة أمثاله الآن.

فمدَّ (إسماعيل) يد المساعدة من صندوقه الخاص إلى أكثر المنكوبين بؤسًا، ثم استدعى التجار الذين أضر بهم ذلك الحريق، وأقرضهم عدة ملايين بدون فوائد، وأمهلهم عشر سنوات لردها، فنجى بذلك من الخراب والإفلاس التجار الغربيين أنفسهم الذين كانوا أهم دائني التجار الوطنيين المحروقة بضائعهم، وقلد الكل منة استحق عليها بجدارة الثناء والشكر العامين.٢

(٢) وباء الماشية والخيل

وكان قد انتشر في النمسا وإيطاليا في السنة عينها وباء اجتاح المواشي بكيفية مروعة، فانتقلت عدواه إلى مصر بعوامل التبادلات التجارية، وبالرغم من كل الاحتياطات التي أمر (إسماعيل) باتخاذها بكل دقة واعتناء لمقاومة تلك العدوى ومنع تفشيها، انتشر الداء الوبيل، كأنه الطاعون الأسود الفظيع، الذي أهلك الإنسان والحيوان والطير في أيام السلطان حسن، صاحب المسجد الأفخم في القاهرة، وعمَّ جميع البلاد شرقًا وغربًا، ولم يترك بلدًا إلا وحلَّ فيه، ولا قرية إلا ودخلها، واستمر يفتك بمواشي القطر، ويشتد شدة بالغة نيفًا وسنة، حتى بلغ عدد ضحاياه عدة مئات من الألوف، وكاد يفنى جميع البقر، فقلَّ اللبن والسمن، ثم انقطعا، وبلغت الحاجة إليهما أقصاها، وأكل الناس الدهن والزيت.

فبذل (إسماعيل) جهده لوضع حد لتلك المصيبة، وتخفيف ويلات نتائجها، فبعث واستحضر من البلاد المجاورة — لا سيما من الأناضول — كميات عظيمة من السمن، وفرَّقه على الفقراء مجانًا، فكانوا وهم في ضجيج وجلبة يصمان الآذان، يتزاحمون على «الوكائل»، ومخازن التوزيع التي خصصت لتفريقه بالأخطاط بالرغم من أنه لم يكن مما ترتاح إليه نفوس معتادي السمن المصري، وأن جانبًا منه كان رديء الرائحة، نتنها، ولا يزال كثيرون من الطاعنين في السن يذكرون أمامنا كراهة رائحته باعتبار أنه مستخرج من لبن الماعز، واستمرت الحال هكذا أيامًا عديدة.٣
واستحضر كذلك من البلاد الأجنبية عددًا كثيرًا من المواشي، وباعها للفلاحين بأوفق الأثمان لهم. وإذ لم يكفِ العدد المجلوب لسدِّ العجز المسبب عن الوباء، جلب جانبًا كبيرًا من الآلات البخارية، لتنوب قواها العاملة عن قوة الثيران وحيوانات الفلاحة الأخرى التي ذهب الوباء بأعمارها، ولو كان هناك سكة حديدية تصل ما بين مصر والسودان لأمكن المجيء بالمواشي من هذا القطر بسهولة، ولما وقعت وطأة ذلك الطاعون البقري على البلاد المصرية بالشدة التي عهدت، وكلفت (إسماعيل) نيفًا وثلاثة ملايين من الجنيهات.٤
ثم مضت الأيام وانقضت حملة الحبشة الأخيرة، فتلاها وباء أصاب الخيل وحيوانات النقل كالجمال، والحمير، والبغال، ربما انتقل إليها من الحبشة عينها أو أصابها عن طريق العدوى من زميلاتها التي اشتركت في تلك الحملة المشئومة ولم تمت فيها، ولكنها أصيبت بذلك الداء بسبب المشقات المروعة التي احتملتها، وعادت وهو كامن فيها إلى القطر.٥

(٣) الكوليرا

وبينما كان نوبار، بعد أن عهدت إليه وزارة الأشغال العمومية والزراعة المنشأة حديثًا في أوائل سنة ١٨٦٥، يهتم اهتمامًا فائقًا بتصليح السكك الحديدية، وإعادة النظام إلى أعمالها، وفي إتمام جزء ترعة الماء العذب (الإسماعيلية)، الواقع بين مصر والوادي، تسكيتًا لإلحاحات المسيو دي لسبس على الحكومة المصرية بعملها طبقًا لما حكم به الإمبراطور نابوليون الثالث، وكان (إسماعيل) يمده بكل ما في وسعه، ويعمل في الوقت عينه على إنماء ثروته الخصوصية مذ أصبحت، بمفعول تحديد مرتبه السنوي، منفصلة عن الخزينة المصرية — فيبذل مفتشو مزروعاته، لا سيما إسماعيل صديق، ومحمد عكوش٦ من المجهود وتفتق الذهن، والتفنن في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم ما جعل خمس أطيان القطر الجيدة ملكًا له، إذا بنبأ وجفت له القلوب طيره البرق إلى أنحاء العالم بأسره، ووقع من مصر — على الأخص — موقع السوء الذي تتطير له الأرواح، ألا وهو نبأ ظهور الكوليرا في مكة المكرمة.

وإنما تطيرت الأرواح لأن الكوليرا — الوباء الفظيع المهلك — كان قد زار مصر في الماضي زيارات متعددة زارها في يوليه سنة ١٨٣١، وفي يونية سنة ١٨٤٨، وفي يوليه سنة ١٨٥٠ وفي يونية سنة ١٨٥٥، وترك فيها عقب كل زيارة من الآثار المخيفة والدمار ما كان جديرًا بأن يجعل المخيلات ترتعد، والقلوب تخور لذكره.

ففي سنة ١٨٣١ — ولم يكن يُعرف قبلها، وقد دار فيها المعمور كله، وفتك به فتكًا ذريعًا، وافترس ضمن ضحاياه كازمير پيرييه، كبير وزراء لويس فيليب، ملك الفرنساويين، ووصف أوچين سي في «اليهودي التائه»، روايته الكبرى، مقدار اتساع بطش ذلك الداء الرهيب وصفًا مرعبًا — فإن (محمد علي) — وقد أقلقته شدة وطأة الوباء، وأخافته بالأخص على تجهيزاته وتعبيئاته الحربية — أقبل يبحث في طرق لمقاومته وإبادته.

فأشار عليه المسيو ميمو قنصل فرنسا العام، بإنشاء إدارة صحية تنظر في ذلك، وتقوم بشئونه، فكلف (محمد علي) بالمهمة جمهورًا من الأطباء الأجانب، فقاموا بها، وكونوا الإدارة المطلوبة في سنة ١٨٣١ عينها، ودعوها «الانتندانس سانيتير»، فألحقت بالإدارة المحلية، وجعلت تحت رياستها، وعهد إلى هذه الإدارة تنفيذ قراراتها.

وكان رئيس «الانتندانس» يعرض على الأمير أسماء الأطباء والعمال المطلوب تعيينهم فيها، فتصدر الإدارة السنية بتعيينهم، ويناط بكل منهم عمل يرفع تقاريره عنه إلى رئيسه مباشرة، وهذا يخبر بما يرى من كان أعلى منه، وهكذا بالتدريج الرسمي، حتى تبلغ المكاتبات الرئيس الأسمى.

وأقبل القناصل يعضدون تلك الهيئة الصحية فجعل كل منهم مندوبًا لديها، يحضر اجتماعات مجلسها، نائبًا عن جنسيته، ويتداول مع أعضاء ذلك المجلس في الإجراءات الواجب اتخاذها، على أن القرارات كانت بأغلبية الأصوات.

وامتازت الحكومة الفرنساوية رغبة منها في المحافظة على سلامة سواحلها التي على البحر الأبيض المتوسط من أن تتطرق إليها الأوبئة، بإيفاد أطباء خصوصيين من لدنها إلى الأسكلة الشرقية، لا سيما بمصر، ليراقبوا فيها الأحوال الصحية، ويخابروا وزير التجارة الفرنساوية رأسًا بكل ما يرونه ذا أهمية من الطوارئ، فلم يعد يسوغ لأي مركب، مهما كانت جنسيتها، أن ترد ثغرًا فرنساويًّا إلا إذا كان لديها إذن صحي من الطبيب الفرنساوي المقيم في الثغر الشرقي الذي بارحته.

هؤلاء الأطباء الفرنساويون كانوا بمصر يحضرون جلسات مجلس إدارة «الانتندانس» ومداولاته، ولهم حق التصويت فيها.

فلم يمض على إنشاء تلك الإدارة الصحية عهد قصير حتى ظهرت نتائج جهودها، فأنشئت «العازاريتات» (وهي التي يقال لها بالطليانية «لازارتي» “Lazzaretti”، فقلبها الأهلون إلى «مازاريطا») في الإسكندرية ودمياط والعريش والسويس، وأكبرها كلها عازاريتة الإسكندرية، فإنها — علاوة على استكمالها جميع ما يلزم للغرض الذي أنشئت من أجله — كانت تسع من ألف ومائتين إلى ألف وخمسمائة شخص، ونيطت إدارة كل منها بطبيب ومساعدين، وأفرد في كل عازاريتة محل للبضائع الواردة من البلاد الموبوءة، لتطهيرها فيه قبل التصريح لها بدخول القطر.

وعينت مدد مختلفة لحجز السفن القادمة من الأقطار المشبوهة في عرض البحر تحت المراقبة، حتى يثبت خلوها من إصابات وعدوى، فجعلت خمس أيام للسفن السليمة، مع عدم إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها في العازاريتة، وأما المراكب غير السليمة فقرر حجزها عشرة أيام، مع إجبارها على تنزيل ركابها وبضائعها، إلا ما كان غير صالح منها للتنزيل، لأجل تطهير الكل.

وعملت الحكومات التي تلت حكومة (محمد علي) على تحسين الأحوال الصحية في القطر فأعدمت بإشارة «الانتندانس» وتنفيذًا لقراراتها أهم الأسباب التي كانت الأوبئة تنشأ عنها فأبطلت الجبانات التي كانت داخل القرى والمدن بجانب المساكن، بل داخل المساكن عينها أحيانًا، ونقلت إلى مسافات بعيدة عنها، وروقبت أمور الدفن مراقبة دقيقة، منعًا لعدم تعميق اللحود والقبور تعميقًا كافيًا، وعدم قفلها قفلًا محكمًا، ومنع إنشاء المحلات المقلقة والضارة بالصحة بالقرب من المساكن، وردمت البرك التي كانت موجودة بكثرة في المدن والقرى، وسويت بالأرض تلال أقذار كان الإنسان يجدها لدى كل خطوة في القطر، ونقلت بعيدًا عن المأهول، وحتم الاعتناء بأمور النظافة اعتناء تامًّا في المدن والريف، على قدر المستطاع، وروقبت نقاوة المأكولات، وأقيم أطباء مجانيون في الأحياء المختلفة، وأنشئت مستشفيات في المدن الكبرى، وجعل اللقاح الجدري إجباريًّا، وخصص الأطباء لإجرائه مجانًا.٧

على أن هذا جميعه لم يتم إلا بالتدريج، ولم يجر معظمه إلا في عهد (إسماعيل) وبفضل همته، فكان أكثر الوقايات الصحية المألوفة الآن لدينا لا يزال — والحالة هذه — مجهولًا في سنة ١٨٦٥، وكانت الأوبئة، إذا ما تفشَّت، فتكت بالأعمار فتكًا ذريعًا، وصعب على القائمين بالشئون الصحية تلافي أمرها واستئصال شأفتها.

غير أن الصحة العمومية في القطر كانت — حتى آخر مايو من تلك السنة سنة ١٨٦٥ — جيدة جدًّا، ونسبة الوفيات في ٢٦ مايو عينه كانت في الألف، وزيادة المواليد على الوفيات في الألف، وبلغت هذه الزيادة في عشر سنوات ٤٣٩٦٦٤.‏٨

ومن جهة أخرى فإن مقاتلة الطاعون البقري كانت قد أفضت إلى القضاء على ذلك الوباء، لدرجة أنهم أبطلوا في ٢٤ مايو الكشف على المواشي الواردة إلى القطر. فما قيل من أن أهل مصر والإسكندرية كانوا يشربون مياهًا خضراء تذوب فيها أكوام مواد حيوانية ميتة كذب بحت، وكذب كذلك ما زعمته جريدة إفرنجية بالإسكندرية من أن جثث التماسيح الميتة كانت تغظي شواطئ النيل التي كانت تحرسها في السابق — كأن التماسيح كان أبدًا شأنها حراسة ضفاف النيل.

فما طار إذًا نبأ ظهور الكوليرا بمكة؛ إلا وأصدر (إسماعيل) أمره، فأرسلت الإدارة الصحية مندوبين إليها للوقوف على حقيقة الحال هناك، وموافاة رجال الحكومة المصرية بالأخبار.

ولكن المرض كان قد تلاشى من المدينة الحرام بمغادرة الحجيج لها، فتعقب المندوبان الحجاج وما افتروا عن ملاحظتهم لحظة، ولكن نقاوة هواء البحر كانت سببًا في أنه لم تظهر على ظهور البواخر إصابات مطلقًا، فأدى ذلك إلى عدم حجز الحجاج في محجر السويس، والتصريح لهم بالذهاب إلى الإسكندرية، ليسافروا منها إلى بلادهم. فجهزت الإدارة قطارات خاصة سريعة، نقلتهم إلى الإسكندرية بدون أن يختلطوا بالأهالي، وأنزلتهم في محجر المكس تحت المراقبة.

ولكنه حدث — لسوء الحظ — أن بعض الشيالين في مصلحة سكة الحديد، من قاطني حي كوم الشقافة بالإسكندرية، اختلطوا بهم لقضاء حاجاتهم، فما كان يوم ١١ يونية سنة ١٨٦٥ — وهو يوم مشئوم، لأنه في مثله من سنة ١٨٨٢ وقعت بالإسكندرية عينها المذبحة التي أكسبت الثورة العرابية المدنية صبغة الحركة الدينية التعصبية، فأدت إلى تداخل الدول الغربية، لا سيما إنجلترا في الشئون الإدارية المصرية، تداخلًا لم يعد في الإمكان إزالته بالتي هي أحسن، وأفقدت العالم الغربي القليل الذي كان لديه من ثقة في مقدرتنا على التجرد، في إرادة شئون بلادنا، من مؤثرات القرون الدينية علينا تأثيرًا يخرجنا عن المضمار الذي تجري المدنية الحديثة شوطها فيه — ما كان يوم ١١ يونية سنة ١٨٦٥ إلا وظهرت الإصابة الوبائية الأولى بناحية كوم الشقافة، وتلتها في الحي عينه أربع إصابات في ١٢ يونية، واثنتا عشرة إصابة في ١٣ يونية، وأربع وثلاثون إصابة في ١٤ يونية، وثمان وثلاثون إصابة في ١٥ يونية.

فهلعت قلوب الإسكندريين، واستولى عليهم الرعب، فزاد ذلك الطين بلة، وبعد أن كان عدد الإصابات قد انحط في ١٦ يونية إلى ٣٤، عاد فوثب مرة واحدة، وظهرت ثلاث وخمسون إصابة في ١٧ يونية، منتشرة في عموم أنحاء المدينة، وبدت على الأخص في بيوتها وشوارعها وأحيائها القذرة.

وكان الدكتور كولوتشي بك رئيس «الانتندانس سانيتير» قد أخطر هذه الإدارة بظهور الوباء منذ يوم ١٢ يونية، فهبت واتخذت الاحتياطات اللازمة، وعرضت نفاذها على الحكومة المحلية، فقامت به خير قيام، وأخطر كولوتشي بك القناصل بالقرارات المتخذة، وطلب منهم المساعدة، فأبدوها بكل ارتياح ونشاط، فنظفت المدينة بسرعة، ورشت الشوارع بغزارة، بل غسلت عدة مرات في اليوم، وأتلفت كل المأكولات التي اعتبرت غير صحية، وشددت المراقبة على المواد الغذائية عمومًا، وأنشئت ستة مكاتب إسعاف اشتغل العمال فيها ليلًا ونهارًا بالمناوبة، وبدون انقطاع، ولم يأل أطباء الحكومة والأطباء الأجانب المتطوعون معهم ورجال «الانتندانس» جهدًا في القيام بواجباتهم، حتى استحق جميعهم ثناء الصحافة والعموم عليهم.

غير أنه تعذر في بادئ الأمر إنقاذ المصابين من الموت — لأن الإصابات كانت صاعقية — ولا أمكن حصر الوباء، بالرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت، ولو أن عدد المصابين في البيوت والشوارع والأحياء التي استعملت فيها الوسائل الصحية بحكمة واستمرار كان قليلًا بالنسبة لغيرها.

فبعد أن كان الكوليرا لغاية ١٧ يونية قاصرًا على الإسكندرية، لا يفارقها، سرى في ذلك اليوم، فأصيب به في أبي قير بحري، وفي طنطا امرأة، قدما إلى البلدين من الإسكندرية، وظهرت أعراضه في مصر على ستة أشخاص منهم خمسة قادمون من السويس، وواحد من الإسكندرية.

ثم تفشى بسرعة غريبة بمصر السفلى والوسطى، وانتقل أخيرًا إلى بعض أنحاء الصعيد، ولوحظ أنه أصاب — على الأخص — البلدان والبيوت الواطئة، فبينما أفقد من قريتين متجاورتين مبنيتين على أرض تستوي مع المحمودية عشر سكانهما، فإنه لم يصب إلا واحدًا فقط من أهالي بلدة أبي طاحون الستمائة. وكان أعصب أيامه يوم ٣ يولية بالإسكندرية، وبلغت الوفيات فيه ٢٢٨، ويوم ٥ يولية بمصر، وبلغت الوفيات فيه ٤٦٨، ويوم ٢٩ يونية برشيد، وبلغت الوفيات فيه ٢٧٩، ويوم ٥ يولية بدمياط، وبلغت الوفيات فيه ١٧٢، ويوم ٧ يولية بالمنصورة، وبلغت الوفيات فيه ٣٥، ويوم ٢٤ يونية بطنطا، وبلغت الوفيات فيه ٩٦، ويوم ٢٧ يونية بالزقازيق، وبلغت الوفيات فيه ١٠٥.

وأما متوسط الوفيات يوميًّا به فقد كان في الألف بالإسكندرية، و في الألف بمصر، و في الألف برشيد، و في الألف بدمياط، ولكن متوسطها في مدة اشتداده كان من ٦٥ إلى ٧٠ وفاة يوميًّا. ومدة الزيادة هذه استمرت من ١٧ إلى ١٨ يومًا في الإسكندرية وغيرها، ثم وقف المرض على الفتك بعدد محدود، أي من ٣٥ إلى ٤٠٪ من المصابين، ما بين عشرة أيام وأحد عشر يومًا، وأخذ بعد ذلك يخف وطأة من عشرين إلى خمسة وعشرين يومًا، فلم يعد يموت من المصابين سوى من ١٥ إلى ٢٠ في المائة، وكثيرًا ما كان المصاب يشفى من تلقاء نفسه، وذلك في عموم القطر تقريبًا.

على أن جهود الإدارة الصحية لم تفتر لحظة عما كانت عليه في أول يوم، بل زادت على ما كانت مع ازدياد المرض، ففرضت على مراكب البريد ذاتها حجرًا صحيًّا مدته خمسة أيام، بما فيها يوم السفر، وأخضعت كل من فيها لزيارة طبية يومية. هذا إذا كانت سليمة، وأما إذا كانت مراكب حدثت عليها إصابات في مدة السفر، فالحجر كان ثمانية أيام عقب يوم الوصول، وإذا حدثت على ظهرها إصابة جديدة في هذه المدة ضربت عليها ثمانية أيام أخرى. كذلك لم يكن يسمح لأي مركب، بخارية كانت أم شراعية، أن تداني المواني والثغور إلا بعد قضاء مدة الحجر المفروضة. وأما البضائع التي كان لا بد من إنزالها وتصريفها في الحال، لئلا تتلف، فكانوا ينزلونها في ماعونات ويطهرونها تطهيرًا شاملًا، ثم يسمحون لها بالدخول إلى القطر.

ومع ذلك فإن فريقًا من الرأي العام وجد أن الإدارة لم تقم بكل واجبها، فحمل عليها في بعض الجرائد حملات منكرة، أدت إلى زيادة الهلع والخوف اللذين كانا قد عمَّا العاصمتين المصريتين، وبعض مدن الريف الكبرى منذ أن انتشر خبر الإصابات الأولى، وأوجبت نزوح الكثيرين من أهل البلاد إلى الخارج، حتى لقد قدر أن عدد الذين هجروا القطر ما بين ١٢ يونية و١٥ يولية بلغ نيفًا وخمسة وثلاثين ألفًا أي أنه قد سافر كل من استطاع إلى السفر سبيلًا.

وكان (إسماعيل) قد عزم على السفر إلى أوروبا في ذلك العام قبل أن تظهر أخبار مطلقًا عن الوباء، فلما ظهرت، تشدد كل التشدد في إنفاذ الوسائل الصحية وتعميمها، لكيلا يقضي عليه تنفيذ عزمه بترك الحالة الصحية في القطر مضطربة، سائدًا عليها الخوف، ولكنه لما وثق من أن أوامره نفذت كلها، وأنه لم يعد على مسئوليته غبار، فوض إلى شريف باشا قائمقامية القطر في مدة غيابه، وإلى نوبار باشا أمر الاهتمام الكلي بمقاومة الوباء والقضاء عليه، وأقلع في صباح اليوم الرابع عشر من شهر يونية من الإسكندرية على ظهر يخته «المحروسة»، وبعد أن قضى مدة يتجول بين جزر البحر الأبيض المتوسط، ويتنزه في عرضه، مستنشقًا نسيمه العليل نزل بمرسيليا، وتوجه منها إلى فيشي للتطبب بمياهها.

فاتخذت الألسنة النمامة سفره في تلك الظروف ذريعة للطعن عليه، واتهمته في بعض الجرائد الفرنجية في القطر المصري وخارجه بأنه إنما سافر لشدة خوفه من العدوى، وشدة حرصه على حياته الثمينة! مع أن تلك الألسنة كانت تعلم حق العلم أنه لم يكن بالجبان، ولا اشتهر عنه الخوف من الخطر، ولو أنه لم يلجأ في إثبات شجاعته إلى ما عمله (محمد سعيد باشا) سلفه، ليقيم الدليل عليها.

فإنه يُروى عن ذلك الوالي الغريب الأطوار أنه أمر ذات يوم بتكديس بارود جاف على جانبي طريق ضيقة، مسافة طويلة، ثم أوقد شبكه، وألزم حاشيته وشانئي شجاعته بإشعال شبكاتهم أيضًا، وسار بهم متنزهًا على تلك الطريق، وهو يدخن وهم يدخنون، وقد أنذر بالعقاب الشديد كل من وجد شبكه مطفأ عند البلوغ إلى نهاية الطريق، وما زال ينقل خطواته عليها ببطء كلي حتى بلغ آخرها، وكانت شرارة واحدة، تطير عن أحد الشبكات وتسقط على ذلك البارود المتكدس كافية لتنسف تلك الطريق بمن عليها نسفًا.٩

على أن لا (سعيد) ولا (إسماعيل) كانا في حاجة إلى إقامة الأدلة على شجاعتهما، فإن المثل السائر يقول «هذا الشبل من ذاك الأسد»، وأيضًا «ابن الوز عوام»، فكيف يكون ابن (محمد علي) وابن (إبراهيم)، بطلي أبطال الشرق الحديث، جبانين؟

وأما السوقة والعامة فإنهم شرعوا يرون في تعاقب المصائب الطبيعية على مصر بعد زيارة السلطان عبد العزيز لها دليلًا على ما كانوا يعلنونه من توقعهم إياها، ارتكانًا على أراجيف المرجفين من ضرَّابي الرمل، وقرَّائي المقدور على صفحات النجوم وصفحات الورق، فكثرت — والحالة هذه — المخاوف، وهلعت الأفئدة، وأصبح المعتقدون في آرائهم السخيفة هذه، كلما مس البلاد ضر، أو اشتدت عليها شدة يقولون لمن شاء أن يسمعهم «أرأيتم كيف يتحقق كلامنا، ويصدق حدسنا؟»١٠

وبعد أن أقام الوباء ستين يومًا، أخذ ابتداء من ١٣ أغسطس يتناقص شيئًا فشيئًا حتى إذا كانت أوائل سبتمبر تلاشى وزال، كعادته في المرات الأخرى التي حل فيها على القطر ضيفًا ثقيلًا، فكان جملة من مات به من المسلمين ٥٦٧٦ شخصًا، ومن الأقباط ٢٦٣، ومن الفرنج ١٦٥، وذلك غير ٦١٠٤ أشخاص توفوا إبان فتكه بأسباب أخرى، فيكون مجموع وفيات القطر في أثناء إقامته ١٢٤٢٩ شخصًا.

ولم يفتر أستاذ الكيمياء بمدرسة الطب طول مدة الوباء، يجري اختبارات طقسية يوميًّا، ليقف على مقدار تأثير درجة الحرارة الجوية على كثرة انتشاره أو قلته، فثبت لديه أن القيظ الشديد يساعد على زيادة فتك مكروبه فقد لوحظ أن أشد الأيام هولًا كان يومي ٣ و٥ يولية، وقد بلغت درجة الحرارة فيهما أعلاها، وازدادت سخونة الهواء، بما هب عليه من ريح سموم إلى حد غير معهود — وأما برودة الطقس وانحطاط درجة الحرارة فمما يوجب انحطاط همة ذلك المكروب ويساعد على زواله.١١

وأكبر دليل على قيام الإدارة الصحية والحكومة المحلية بواجباتهما، القيام الحق، هو كثرة ورود السائحين والزائرين الغربيين إلى القطر في هذا العام، عام سنة ١٨٦٥، فقد بلغ عددهم ٥٠٣١٧ سائحًا، ولم يكن يبلغ نصف ذلك في السنوات السابقة، فلو أن الانتقادات والمخاوف كانت في محلها لأحجم جمهور هؤلاء عن المجيء إلى بلادنا.

(٤) طغيان النيل وعجزه، وما نجم عن ذلك من غلاء ومجاعات

وكأن هذه البلايا لم تكن كافية لإحراج الصدور، واستنفاد الأموال فإن فيضانات النيل في كل سني ملك (إسماعيل) تقريبًا، خرجت عن طور المألوف، وأخذت تارة تزيد على المطلوب زيادة فاحشة، وطورًا تقل عنه قلة محرقة.

ففي سنة ١٨٦٣، مثلًا، بلغ ارتفاع النيل خمسة وعشرين ذراعًا وثمانية قراريط، فهدد القطر برمته بدمار عاجل محقق، ولولا أن (إسماعيل) — كأنما أوتي علم الغيب — كان قد سبق واتخذ الحيطة لذلك منذ تبوئه العرش، بما أصدره من الأوامر المشددة على المديرين بالإسراع في إنهاء الأشغال اللازمة لحفظ الجسور، حفظًا فعالًا بحيث تكون على أتم ما يرام وقت الفيضان — وكثيرًا ما كانت تهمل تلك الأشغال في السابق، فتصاب الزراعة والقرى بمضار جسيمة حتى في السنوات ذات الفيضان العادي — لحلت بالبلاد والعباد مصيبة تتضاءل أمام جسامتها كل مصيبة طبيعية أخرى، ولكن الإجراءات التي كان قد أمر بعملها قاومت ضغط النيل إلى أن بلغت زيادته الارتفاع العادي وفاقته قليلًا، غير أن الزيادة استمرت مطردة اطرادًا غريبًا، فرأى (إسماعيل) وجوب إجراء أشغال تقوية أخرى في الجسور، وحضر عملها بنفسه، لئلا يهمل أحد شغلًا نيط به، فحُفظت البلاد بذلك من الغرق.١٢

ولكي يثبت الأمير الاطمئنان في قلوب رعيته، لم يحجم عن الذهاب بنفسه لافتتاح خط سكة حديد طلخا — وهو خط يحاذي جانب عظيم منه النيل — غير أنه حدث بعد وصوله إلى طلخا بقليل، أن الحاجز الأكبر انهار، وتدفقت مياه النهر منه بغزارة، وهددت الجيزة كلها، فأمر (إسماعيل) حالًا باتخاذ الاحتياطات، وإجراء التصليحات والترميمات اللازمة، فلم تمض ثلاثة أيام إلا والحاجز قد أعيد إلى حالة من المتانة خير من الأولى.

ثم اتفق بعد يومين أن جسرًا آخر عند كفر الزيات انهار أيضًا فغرَّقت مياه النيل البلد، وجملة نواحٍ مجاورة، وجرفت خط السكة الحديدية أو كادت، ولكن بفضل عناية الأمير لم يمت أحد من الناس، ولم تهلك ماشية مطلقًا، وذلك لأن (إسماعيل) كلف الجند ورجال حاشيته بما فيهم أصحاب الرتب والألقاب بالعمل على رتق الخرق وسد الثغرة، وقدم للمحتاجين كل أنواع الإسعافات التي استدعتها حالتهم من خيام ومأكولات وملابس.١٣

وكانت نتيجة ذلك الفيضان الجارف القضاء على جانب عظيم من المغلِّ؛ فارتفعت أسعار الحنطة والذرة ارتفاعًا فاحشًا، طار بسببه غلاء شديد، أوجب ارتفاع عموم أسعار حاجات المعيشة ارتفاعًا مخيفًا، ثم انقطع وارد القمح بالمرة، واشتد الطلب فلم يجد الفقراء له أثرًا لا في سواحل بولاق، ولا في مصر القديمة، ولا في جميع رقع الغلال الأخرى، فضجوا وعجوا، وكثر طواف النساء في الأسواق يحملن المقاطف، لعلهن يجدن من يبيعهن قمحًا أو دقيقًا.

فلما علم (إسماعيل) بما عليه الناس من الضر، هاله الأمر وأزعجه، ورسم بجلب القمح والدقيق من البلاد الخارجية، فأتى بشيء كثير منهما، وفرق على الوكائل وجهات الرقع، ورتب للبيع وقتان في الصباح والمساء، ونودي في الناس بذلك، ففرحوا وتزاحموا على أبواب محال صرفه تزاحم الجياع، واستمروا على هذه الحال شهرين وبضعة أيام، حتى تواردت الغلال من الأقاليم القبلية، وملأت مخازن التجار وأشوان الدولة، وعم الوارد منها الأقاليم البحرية.١٤

على أن النيل عاد إلى الطغيان سنة ١٨٦٦ فبلغ ارتفاعه نيفًا وخمسة وعشرين ذراعًا وأربعة عشر قيراطًا، فعادت ويلات سنة ١٨٦٣، وزادت شدة، وكان ذلك هو العام الذي فاز (إسماعيل) فيه بحصر إرث العرش المصري في الابن البكري. فالابن البكري من ذريته، فأبى أن يشوب كدر عام أفراحه، لذلك بذل قصارى جهده في منع كل غرق وخراب عن البلاد وساكنيها، وما فتئ كالمرة الأولى متنقلًا في جهات القطر، لا سيما في الصعيد، مراقبًا بنفسه شئون المحافظة على الجسور، حتى تمكن من درء شر جسيم.

وأما في سنة ١٨٦٨ فقد شح النيل في فيضانه، ولم يبلغ أقصى ارتفاع مياهه سوى تسعة عشر ذراعًا وثلاثة عشر قيراطًا، فنجم عن ذلك أن ثمن أراضي الوجه القبلي بقي شراقي، وأنه وقع غلاء شديد في البلاد، دل عليه ارتفاع أسعار النقود. فإن الجنيه الإنجليزي — وقد كان في سنة ١٨٦٦ يساوي ١٧٦ قرشًا من العملة الدارجة، وفي سنة ١٨٦٧، ١٨٥ قرشًا، أصبح في سنة ١٨٦٨ يساوي ١٩٢ قرشًا، والجنيه المصري — وقد كان في السنتين السابقتين يساوي ١٨٤ و١٨٩ قرشًا، أصبح يساوي ١٩٧، وأما البنتو (القطعة ذات العشرين فرنكًا)، فأصبح يساوي ١٥٢ قرشًا، بعد أن كان في السنتين عينهما يساوي ١٤٢ و١٤٧، كذلك أصبح الجنيه المجيدي يساوي ١٧٢ قرشًا، بعد أن كان يساوي في سنة ١٨٦٧، ١٦٦ قرشًا، وفي سنة ١٨٦٦، ١٦١ قرشًا.١٥ وبينما الناس ينتظرون أن يعوض عليهم الفيضان التالي المضار التي لحقت بهم من جراء قلة الفيضان السابق، إذا بمياه النيل قد ارتفعت في سنة ١٨٦٩ ارتفاعًا فاحشًا، وبلغ علوها نيفًا وستة وعشرين ذراعًا وقيراطًا، فغرقت السواحل، وتلف كل الزرع الذي عليها، وانهارت الجسور، وهدد القطر جميعه بالغرق، وكان (إسماعيل) قد اتفق مع المسيو فردينان دي لسبس على أن يكون فتح ترعة السويس للملاحة والتجارة العالميتين في نوفمبر من ذلك العام، فرأى أن أقل تهاون يبدو من حكومته في أمر مقاومة مهاجمة ذلك الفيضان المريع يؤدي حتمًا إلى إفساد مجرى الحفلات الفخمة العتيدة، ورأى أنه يجدر بهمته إذًا أن تهب لمقاتلة همة المياه، والتغلب عليها، فأصدر الأوامر المشددة إلى جميع المديرين ومأموري المراكز بعدم مفارقة الجسور، لا نهارًا ولا ليلًا، والعمل باستمرار على تقويتها وتعليتها، وسرعة تصليح ما ينهار منها، وملافاة المضار الناجمة عن الانهيار، واغتنم فرصة سياحته على النيل مع الإمبراطورة أوچيني، في أوائل أكتوبر، لمراقبة تنفيذ أوامره بنفسه، حتى تسنى له إنقاذ البلاد من تلك المصيبة المدلهمة، ولو أنه لم يستطع تخليصها من براثن الغلاء، الذي تلا حتمًا ذلك الفيضان الطاغي، ورفع سعر النقود، فأصبح الجنيه المصري يساوي ٢٠٣ قروش، والإنجليزي ١٩٩ قرشًا، والبنتو ١٥٨ قرشًا، والمجيدي ١٧٩ قرشًا، والمجر ٩٥ قرشًا بعد أن كان يساوي ٩١ قرشًا، و٨٩ في السنتين السابقتين.١٦

على أن كثرة توافد الزائرين في هذا العام — وقد بلغ عددهم ٧٧٧٦٧ — وكثرة ما أنفقوه أو أنفق عليهم جعلتا ذلك الغلاء في مصلحة منمي المواد الأولى ومورديها وفي مصلحة التجار والصناع على العموم. فعوضتاهم خسائرهم وزيادة، ولكن الفقراء — وهم بكل أسف الأغلبية — لم يستفيدوا إلا قليلًا من الملايين المقنطرة التي صرفت في هذه السنة واحتفالاتها، فلم يخفف بؤسهم، ولا فاقتهم لطفت. وهم الذين كانت تقع عين الأجنبي عليهم في الغالب، فيحكم بانتشار البؤس وينسبه إلى مظالم الحكام ومغارمهم، أو إلى تعسف الحكومة بالرعايا، مع أن الحكومة في هذه السنة عينها وضعت تعريفة عمومية للنقود منعًا لتلاعب ذوي المطامع بها.

ومع أن فيضان سنة ١٨٧٠ كان أقل علوًّا من سابقه، إلا أنه كان طاغيًا أيضًا — فإن ارتفاع مياهه بلغ نيفًا وأربعة وعشرين ذراعًا وسبعة عشر قيراطًا، فأتلف كل الذرة المزروعة على السواحل النيلية، وأنذر — لا سيما في جهات الصعيد — أطيان الفقراء من مزارعيها بالطغيان عليها وتخريبها، فما كان من (إسماعيل) إلا أنه أمر بكسر جسور النيل أمام أطيانه الخاصة لتحويل مياهها إليها، وصرفها عن أطيان أولئك البائسين، ولم يبال في سبيل منفعتهم بالضرر الذي أصابه.

ومما زاد الطين بلة في فيضان تلك السنة أن الأمطار انهمرت انهمارًا غير معهود في عموم بلاد مصر السفلى ومصر الوسطى، فهدمت ما هدمت، وجرفت ما جرفت، واستمر نزولها بمصر القاهرة وحدها نيفًا وتسعة أيام متواليات، واستمرت في ذات يوم منها تنهمل تسع ساعات، وست دقائق بلا انقطاع.

على أن كثرة ورود السائحين في هذا العام أيضًا، بناء على المحببات والمرغبات التي بذلها لهم (إسماعيل)، سواء أكان بإقامته المراقص والملاهي التمثيلية بالقاهرة والإسكندرية، أم بالتسهيلات الكثيرة التي أوجدها لتمكينهم من زيارة عجائب القطر، حتى بلغ عددهم نيفًا و٦٤٣٢٨، وكثرة ما بذلوه من مال عن يد سخية، عوضتا البلاد إلى حد ما من المضار المتابعة التي أصابتها. ثم عاد النيل فزاد زيادة مخيفة أيضًا في سنة ١٨٧٢، وبلغ ارتفاع مياهه نيفًا وأربعة وعشرين ذراعًا، فزاد في بؤس صغار الفلاحين والفقراء من الناس، ولكن عدد الزائرين الأجانب — وبلغ ٦٧٧٧٢ — جاء مخففًا لشيء من ذلك المصاب، كأن الله ابتلى عباده من جهة، ولطف بهم من جهة أخرى.١٧
غير أن السيل بلغ الزبى، حقيقة، في سنة ١٨٧٤، فإن الفيضان ما فتئ في ذلك العام يرتفع، يرتفع، يرتفع، حتى بلغ نيفًا وستة وعشرين ذراعًا واثنى عشر قيراطًا، فتدفقت المياه من كل صوب، وتبطحت، وأدركت ذات الأماكن المرتفعة، وأصابت القطر كله بمضار جمة، نشأ عنها عسر شديد، وغلاء فاحش، اضطرَّا الخديو إلى العدول عن السفر إلى الخارج، والإقامة في الإسكندرية لمراقبة خدمة الجسور وصيانتها وترميمها من جهة، ولمنع نزوح الأموال المصرية إلى خارج القطر من جهة أخرى، بإبقاء ثروة البلاد فيها. ومما زاد تلك السنة في البؤس العام هو أن وزارة المالية قررت استيفاء العوائد على سائر الأملاك بمصر والثغور والبنادر والجفالك، باعتبار السنة الهلالية بدلًا من السنة الشمسية القبطية.١٨

واستمر النيل على الطغيان في العامين التاليين، ولو أن شدَّته فيهما لم تضارع شدَّته في عام ١٨٧٤، ففي سنة ١٨٧٥ أناف ارتفاع مياهه على أربعة وعشرين ذراعًا وأربعة قراريط، وفي سنة ١٨٧٦ على أربعة وعشرين ذراعًا وخمسة عشر قيراطًا، فزاد الطين بلة، وحلقات البؤس تعقدًا. أضف إلى ذلك تعسف وزير المالية في تحصيل الأموال مقدَّمًا، بدون مبالاة بالمضارِّ المهلكة، اللاحقة بالفلاحين من وراء إتلاف تلك الفيضانات الثلاثة الطاغية المتوالية جانبًا عظيمًا من مزروعاتهم ومحصولاتهم.

وبينما النفوس المبتهجة بنكبة إسماعيل صديق، والمترقبة بعدها فرجًا، تنتظر بفارغ صبر أن يعوِّض الله خيرًا ما أصابت به تلك الفيضانات البلاد من ضرٍّ، ويمن على القطر بنيل محسن، إذا بفيضان سنة ١٨٧٧ أشح ما رآه عهد (إسماعيل) قاطبة، لعدم بلوغ مياهه سوى سبعة عشر ذراعًا وثلاثة قراريط، وإذا به لا يكفي لري جانب يسير من الأطيان، فضج المزارعون والأهالي، وانخلعت قلوبهم وقلب كل ذي مصلحة في القطر معها، وتوقع الجميع مجاعة لا نظير لها في العام التالي. ولم تُخيِّب الأقدار السيئة توقعهم، فإن نتيجة شح المياه بعد طغيانها ثلاث سنوات متواليات طغيانًا مدمرًا، وإتلافها جانبًا عظيمًا من المزروعات، كانت في الواقع مجاعة شديدة، انتشرت في صميم الربوع المصرية، وأكلت لحوم البؤساء من الفلاحين وأرباب الحرف، لا بل ذات عظامهم، لا سيما في الصعيد، وكأن ذلك لم يكن كافيًا لإهلاك الحرث والنسل، علاوة على الزرع والضرع، فإن الذين خلفوا إسماعيل صديق على دفة المالية من الغربيين قاموا يسلكون مسالكه للأسباب التي سنبينها فيما بعد، وابتزوا من فلاحي القطر الأموال مقدمًا، فطارت صرخة التألم في البلاد قاطبة، ودوت في مسامع الغربيين أنفسهم، وهم في عقر دورهم ببلادهم.

فتقرر إرسال مفتشين من الإنجليز لاستطلاع حقيقة الحال، فوجدا أن نيفًا وعشرة آلاف شخص هلكوا من الجوع في مديريات جرجا وقنا وإسنا، وأن الباقين على قيد الحياة يتغذون بأعشاب برية، وحثالة قصب السكر، وما ماثلها من التافه، وأخبرا أن أكبر أسباب البلية إنما هو ابتزاز الأموال من الفلاحين مقدمًا، وفي أوقات غير ملائمة ولا مناسبة، واستعمال القسوة في جبايتها إلى حد تجريدهم من مخزوناتهم الطعامية، وحبوبهم ونقودهم، وكل وسيلة تعيش أخرى، ناهيك بفتك طاعون الحمير بمواشيهم وجمالهم.١٩

فهبت حكومة (إسماعيل) وأرسلت إلى أولئك البؤساء كمية من الخبز يقتاتون بها، ولكن الفناء ما انفك يعمل عمله، لا سيما في الأطفال والشيوخ، حتى لم يعد يبقى منهم في القرى والنواحي إلا القليلون.

فهل من المدهش، بعد توالي هذه النكبات والكوارث الطبيعية على القطر في مدة (إسماعيل) أن يظهر الريف — لا سيما في الوجه القبلي — في مظهر البؤس الذي وصفته الليدي دف جوردون في رسائلها، والذي أدى إلى تخييم كآبة على وجوه الفلاحين، كالتي رآها بعضهم٢٠ مخيمة عليها منذ سنة ١٨٦٦؟ هل من المدهش، والناس في الشرق ما فتئوا ميالين إلى الاستبشار بملوكهم، أو التطير منهم، حسبما يرونه في أيامهم من بواعث على الرخاء والهناء، أو من موجبات للخراب والشقاء؟ هل من المدهش أن الكثيرين من الذين عاشوا في تلك الأيام، لم يستطيعوا ذكرها إلا بشر، وبإظهار نقمتهم عليها، وهم — لابتعادهم عن الأشعة المنبعثة عن ولي النعم — لم يتمكنوا من التأثر بنعم هذه الأشعة، وإنما تأثروا فقط بتلك الكوارث الطبيعية المتعاقبة المتتابعة؟ أو ليس من المدهش بالعكس أن (إسماعيل) بالرغم من كل موجبات الأكدار هذه، استطاع أن يضع في سنى ملكه البهجة والسطوع اللذين وصفناهما في فصل سابق، وأن يجعل تلك السنين عبارة عن سلسلة أفراح ومواسم انتفاع عام لا انقطاع لها؟ وأن لا يتنكب على الأخص عن العمل على تنفيذ الخطة السامية التي وضعها لنفسه، على كثرة ما تستدعيه من نفقات، وبالرغم أيضًا من العقبات التي أوجبتها، على غير انتظار، تبعية مصر للدولة العثمانية؟

أما وقد تكلمنا عن الكوارث الطبيعية، فلنتكلم الآن عن هذه العقبات ولو بإيجاز.

١  أهم مصادر هذا الفصل: «مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي، و«مصر تحت حكم إسماعيل» لسانتي، و«الكافي» لميخائيل بك شاروبيم، و«الكولرا في مصر» لكولوتشي بك، و«محاضر جلسات مجلس إدارة الإنتندنس سانيتير للقطر المصري» لكولوتشي بك أيضًا، و«التوفيقات الإلهامية» لمختار باشا المصري، و«رسائل الليدي جوردون دف ومصر» لرونيه.
٢  انظر: «مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي ص٩، و«مصر تحت حكم إسماعيل» لسانتي ص١٨.
٣  انظر: «الكافي» لميخائيل بك شاروبيم ص١٤٠ ج٤.
٤  انظر: «مصر» لمالورتي ص١٤١ رقم ١٥ في بيان المنصرف.
٥  انظر: «مصر المسلمة والحبشة المسيحية» لداي ص٤٨١.
٦  والد حضرة صديقي الفاضل محمود عكوش بك سكرتير لجنة حفظ الآثار العربية بوزارة الأوقاف وسلالة صالح أغا أق قوش زعيم الألبانيين الذين قضوا على المماليك في مجزرة القلعة الشهيرة سنة ١٨١١، وإني أغتنم هذه المناسبة لأقدم له جزيل شكري على البيانات والرسومات والمستندات التي أمدني بها وكانت من خير ما ساعدني على تحري أمور شتى وتدوينها.
٧  انظر «الكوليرا بالقطر المصري» لكولوتشي بك ص٨.
٨  انظر «الكوليرا بالقطر المصري» لكولوتشي بك ص٩.
٩  انظر «مصر الحديثة» للورد كرومر، ص٢٨ ج١.
١٠  انظر «الكافي» ج٤ ص١٤٠.
١١  انظر «الكوليرا في القطر المصري» لكولوتشي بك.
١٢  انظر «مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي ص٢٤ وما يليها.
١٣  انظر «مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي.
١٤  انظر «الكافي» ج٤ ص١٤٠.
١٥  انظر «التوقيعات الإلهامية» لمحمد مختار باشا المصري ص٦٤٣.
١٦  انظر «التوقعات الإلهامية» البادي ذكرها ص٦٤٣.
١٧  انظر «التوفيقات الإلهامية» ص٦٤٥ لمحمد مختار باشا المصري.
١٨  انظر «التوفيقات الإلهامية» ص٦٤٦.
١٩  انظر التقرير المرفوع من السير ألكسندر بيرد إلى وزير المالية المصرية في سنة ١٨٧٨، وانظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص ٢٤٨.
٢٠  انظر «كتاب مصر» للمسيو رونيه ص١٦٢ طبعة باريس سنة ١٨٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤