الفصل الثالث

قضي الأمر١

عددتك ممن حوته القبور
وإن كنت ألقاك في الناس حيا
فاختار من نساء حريمه أقربهن إلى قلبه، وجمع من الكل حليهن ومصاغهن — وكان ثمنها شيئًا كثيرًا — واستدعى عدة من صائغي الأقباط، وأقامهم بعابدين يشتغلون ليلًا ونهارًا في نزع الحجارة والفصوص الكريمة ليسهل نقلها والتصرف فيها، وجرَّد السراي من كل رياشها الثمينة التي كانت ملكه الشخصي، لا ملك الحكومة، ومن آنيتها الذهب الخالص والمرصعة — وقدر ثمنها بثمانمائة ألف جنيه — ومن كل طنافسها القديمة، وأثاثها الفاخر، ولوحاتها ونجفاتها الفضية، ولم يبق لخلفه من الأربعة والعشرين طاقم سفرة الفخمة الموجودة فيها سوى طاقمين، وكانا أقلها قيمة — وأرسل جميع ذلك، ما عدا نسائه، إلى الإسكندرية في صناديق مقفلة، ذهب بها حالًا إلى ظهر يخته «المحروسة» تحت حفظ حفظة مؤتمنين.٢

وقال لسان النميمة — الذي لم يترك عملًا من أعمال حياته إلا ونفث عليه سمومه — في إحدى جرائد الإسكندرية، أنه بذل مجهودًا أخيرًا لجمع أموال من الأقاليم، وأنه وضع يده على كل النقود التي كانت موجودة في خزينة المالية، وقدرها ما بين ٢٠٠ و٣٠٠ ألف جنيه، وغنمها لنفسه، وفات ذلك الأفاك أن (إسماعيل) كان أدرى الناس بأنه لو فعل ذلك لعرَّض نفسه إلى حجز الدول والحكومة المصرية ذلك المبلغ من مرتبه السنوي، فلا يكون قد جنى إذًا من عمله سوى العار اللاصق به والسخط العام.

وفي تلك الأثناء كانت الدوائر الرسمية الأوروبية في الأستانة قد نجحت في ضغطها على الأستانة، وأجبرت السلطان على تنفيذ عزمها، وتعيين الأمير محمد توفيق، لا الأمير عبد الحليم باشا، خديو على مصر. ففي صباح اليوم السادس والعشرين من شهر يونية أبرق السير لايرد سفير إنجلترا بالأستانة إلى وزارة الخارجية البريطانية، منبئًا بصدور الإرادة السلطانية القاضية بعزل (إسماعيل)، وتعيين (توفيق) مكانه.

وفي ضحى اليوم عينه، جيء ببرقية محررة باللغة التركية ومعنونة هكذا «إلى إسماعيل باشا، خديو مصر سابقًا» إلى حجرة زكي باشا السر تشريفاتي خديوي، بالدور الأرضي من سراي عابدين، حيث تصادف وجود خيري باشا المهمندار وحافظ الأختام السنية، وعدَّة من كبار الموظفين، فأسقط كلهم في أيديهم، وعلا الاصفرار والاضطراب جباههم جميعًا.

ولما كان أي إنسان في الشرق يأنف من أن يكون أول حامل لنبأ مكدر، فإن زكي باشا رفض الذهاب بالبرقية إلى سمو الخديو في الدور الأول، وأصر على أنه في مثل هذا الأمر الخطير لا يليق أن يقوم بتلك المأمورية سوى المهمندار، ولكن خيري باشا أبى، وقال بإلحاح: إنه من الظاهر أن هذا شأن أحد الوزراء، لا شأنه. وبينما الموظفان يتنازعان في ذلك، قدم شريف باشا، فسلمت البرقية إليه، فتردد هو أيضًا، ولكنه كان وزير مصر الأكبر، وواجبه يقضي عليه بالتبليغ، ولم يكن بالرجل الذي يحجم أمام صوت الواجب، مهما كان العمل شاقًّا على نفسه، فحمل الإشارة البرقية، وذهب بها إلى (إسماعيل). ففضها، وإذا بها من الصدارة العظمى بالأستانة وفحواها «إن الصعوبات التي نجمت أخيرًا، في أحوال مصر الداخلية والخارجية، بلغت مركزًا عسيرًا، وقد ينتج عن استمرارها كما هي خطر لمصر وللدولة العثمانية. ومن أهم واجبات الحكومة السلطانية إيجاد الوسائل لتقرير الطمأنينة والأمن والرفاهية بين الأهالي، وإنما صدرت الفرمانات لهذه الغاية عينها. فبما أنه قد ثبت أن بقاءكم في منصب الخديوية لن ينجم عنه سوى مضاعفة الصعوبات الحالية، وزيادتها خطورة، فجلالة مولانا السلطان بناء على تداول مجلس وزرائه، قرر تعيين صاحب السعادة محمد توفيق باشا في منصب الخديوية، وأصدر إرادته الهمايونية بذلك، وقد أبلغ هذا القرار السامي إلى سعادته بإشارة برقية على حدة، وعليه فإني أدعوى إلى التخلي عن شئون الحكم طبقًا لأوامر جلالة السلطان.»

فقرأ (إسماعيل) ذلك المنطوق الذي قضى بموته سياسيًّا، بثبات وهدوء جديرين بالإعجاب، كأنما هو يقرأ أقل تلغرافات روتر أو هافاس أهمية، ثم التفت بسكون إلى شريف باشا وقال «أدع سمو توفيق باشا حالًا.»

فخرج شريف باشا من حضرته ليقوم بنفسه بالبشرى كما قام بنبأ العزل، على أن أسلاك التلغرافات كانت قد أعقبت بأسرع ما أمكنها البرقية المرسلة إلى (إسماعيل) ببرقية أخرى أرسلها الباب العالي عينه إلى (توفيق)، فسلمت إليه في قصره بالإسماعيلية، ففضها، وإذا بها من الصدر الأعظم أيضًا، وفحواها: «إن جلالة مولانا السلطان قد أصدر إرادته الهمايونية بتعيينك خديو مصر، وسوف يرسل لك الفرمان الشاهاني بالكيفية الرسمية المعتادة، وقد كلف (إسماعيل باشا) بتلغراف آخر بالانسحاب من شئون الحكومة، فيلزمك بناء على ذلك، حالما تصل هذه البرقية إليك، أن تستدعي جميع العلماء، والموظفين، ووجهاء البلاد وأعيانها، ومستخدمي الحكومة، وتبلغهم مضمون الإرادة الشاهانية الخاصة بتعيينك، وتباشر شئون الحكم حالًا، فإن هذا التعيين السامي العادل مكافأة لكفاءتك، وسيكون ارتقاءك السدة الخديوية بدء عهد نظام ورقي يسود على القطر الملقاة زمام شئونه إلى حكمتك.»

والبرقيتان كانتا مؤرختين ٦ رجب سنة ١٢٩٦ و٢٦ يونية سنة ١٨٧٩.

فوجد شريف باشا الأمير محمد توفيق وهو على وشك الركوب في مركبته، فتخلى شريف باشا عن العربة التي أتى فيها، وركب صحبة الخديو الجديد، وعاد معه إلى عابدين.

ففي الطريق سلمه (توفيق)، بسكوت، البرقية الواردة إليه، فقرأها شريف وقال: إن المناداة به خديويًّا على مصر، المنصوص عليها في تلك الإشارة التلغرافية، يجب أن تتم بعد ظهر ذلك اليوم عينه في قلعة الجبل.

ولما وصلا عابدين، بقي شريف في الدور الأرضي، وصعد (توفيق) إلى حيث كان أبوه في انتظاره. وحالما دخل الغرفة التي كان (إسماعيل) جالسًا فيها بصحبة أفكاره وشجونه مذ تركه شريف، ووقعت عين والده عليه، نهض (إسماعيل) وتقدم للقياه، وأخذ يده ولثمها قائلًا: «إني أسلِّم على أفندينا»، ثم قبَّله على وجنتيه، وتمنى له أن يكون أوفر حظًّا وأكبر سعادة من أبيه، وبعد ذلك انحنى أمامه، ودخل دائرة حريمه، تاركًا لابنه، المتأثر تأثرًا عميقًا، منصبه وقاعة عرشه.٣

ولما كانت المناداة السريعة بالخديو الجديد شيئًا مرغوبًا فيه، اتقاء لكل طارئ، استدعى جمهور من أوصت إشارة الصدر الأعظم البرقية باستدعائهم إلى القلعة، وقرئت عليهم الإرادة السلطانية، فدوت المدافع كالرعد معلنة لمصر، والقطر كله أن (محمدًا توفيقًا) أصبح دون غيره، خديو مصر.

فاستقبل الخديو الجديد بعد ذلك وفود المهنئين، من قناصل وكبار موظفين وأعيان، ووجوه وعلماء ورءوس أديان، في القاعة عينها التي كان أبوه قابلهم فيها، منذ نيف وست عشرة سنة، ووعد جموعهم بأنه سيبذل جهده ليجعل البلاد سعيدة.

فلما كان المساء أخطر (إسماعيل) ابنه بأنه يرغب في مغادرة القطر يوم ٣٠ يونية (فأنبأ السير لاسل بذلك وزارة الخارجية البريطانية)، ولكنه لم يعين وجهة السفر.

فقد كان يرغب في أن يقيم في الأستانة، وإلا ففي أزمير، لكي يكون في بلاد ملائمة لطريقة معيشته الشرقية، واستأذن السلطان في ذلك.

ولكن (عبد الحميد) — ولم تكن قدماه قد ثبتت بعد على عرش أجداده — خاف جيرته، وأبى أن يقدم له الضيافة في بلاده، وربما خاف أيضًا وخزات ضميره، لأنه بعد خلع (إسماعيل) أخذ يفكر في إلغاء جميع الامتيازات التي كانت منحت له، كأنما النقود التي اشتريت بها لم يكن لها حساب، وكأنه يصح بقاؤها في خزينة الدولة العلية مع استرداد هذه البضاعة التي باعتها في نظيرها.

فعلم ملك إيطاليا رفض (عبد الحميد)، فأسرع ووضع تحت تصرف صديق المرحوم أبيه قصرًا من قصوره في ضواحي نابولي.

فقبل (إسماعيل) ضيافة الملك أمبرتو، وفي اليوم الثلاثين من شهر يونية — بعد أن سفر أثقاله في قطار سابق، وودع حريمه الباقي الوداع الأخير، ويقال إن حزن السيدات اللواتي تخلى عنهن بلغ مبلغًا يفوق التصور، وأنهن في غضبهن على عدم اصطحاب سيدهن لهن كسرن عدة أوان ثمينة، ومراءات بما بلغ قيمته ٨ آلاف جنيه — قام من سراي عابدين في ساعات بعد الظهر الأولى إلى المحطة، صحبته المختارات من نسائه وجواريه، وولديه حسين وحسن — أما إبراهيم فكان في إنجلترا، وأما فؤاد — ملكنا المحبوب — فكان لا يزال صبيًّا لا يتجاوز الحادية عشرة — وحاشيته قليلة، وكان قد أظهر رغبته في أن لا يتخذ سفره شكلًا رسميًّا، فلم يكن إذًا على المحطة في انتظاره أحد من الدوائر الرسمية الأجنبية، ولكن جمهورًا كثيفًا من الأهالي كان قد ازدحم حولها ليستجلي وجه أميره المسافر مرة أخيرة، ووقفت في الخارج أيضًا عربات تقل سيدات الحريم المتخلى عنهن، وكانت داوية بولولتهن وندبهن.

فلما بلغ (إسماعيل) المحطة، ودنت ساعة السفر، عانق ابنه (توفيقًا) عناقًا أخيرًا، وقال له، وهو مجهش للبكاء: «كنت أود يا أعز البنين، لو استطعت أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك ارتباكًا، على أني واثق بحزمك وعزمك، فتوص بإخوتك وسائر الآل برًّا، واتبع رأي ذوي شوراك، وكن يا بني أسعد حالًا من أبيك.»

ثم التفت إلى جمهور الحاضرين، وقال: «إني، وأنا تارك مصر، أعهد بالخديو ابني إلى ولائكم وإخلاصكم»، فتقدم (محمد توفيق) حينذاك، وقبل يد والده، واستودعه، واستودع إخوته المسافرين معه، الله.

فكان المنظر مؤثرًا للغاية، ولم يستطع إلا القليل من الحضور منع بكائهم.

ثم قام القطار، وإذا بمجموعة زغاريد ماجت في الآفاق مودعة له بتهكم، فاستوقفت البحث والاستفهام، فعلم بأنها صادرة عن نساء المفتش إسماعيل صديق، وأنهن أردن بها الشماتة بالخديو المخلوع، والانتقام منه.

ولكن المسالمين حملوها على أنها إنما كانت ابتهاجًا بتبوء الخديو الجديد عرش أجداده نهائيًّا.

وليت شعري، من يدريني ماذا كانت الأفكار المتجولة في رأس (إسماعيل)، بينما كان القطار يقطع المسافة بين العاصمتين المصريتين، وتتوارى عن أعين المسافرين مئذنتا جامع القلعة المناطحتان السحاب، وقباب مصر التاريخية، وجبال الأهرام الراسخة، وبينما كانت تنفرد أمامها سهول الدلتا الخصبية. هل اصطحبت تلك الأفكار بأمل؟ أم لم يجسر الأمل عينه على الوقوف إزاء اعتقاد (إسماعيل) أن تلك إنما هي آخر مرة يرى أرض مصر المحبوبة، ويجول بناظريه في آفاقها؟

ولما بلغ القطار محطة الإسكندرية، ركب (إسماعيل) ومن معه عربات مقفولة، وساروا إلى الترسانة، ومنها في زوارق إلى ظهر «المحروسة»، وكانت في انتظارهم، وكان ظهرها مكتظًا بذوي المقامات الرفيعة، وكبار الجاليات الغربية، الآتين لتوديع الخديو الأول، وداعًا أخيرًا، اعترافًا منهم بما كان (لإسماعيل) من المنزلة في القلوب، بالرغم من كل المطاعن التي وجهها إليه أعداؤه.

فقابلهم (إسماعيل) جميعًا بلطفه المعهود، وأظهروا هم له من الاحترام والتبجيل ما ذهب مباشرة إلى فؤاده، وأهاج العواطف فيه، ولكنه تجلد. وبالرغم من ظهور آثار الانفعالات النفسانية على وجهه، قاوم عواطفه، فقال لكل من مودعيه كلمة لطيفة، وعبارة شكر جميلة، مصحوبتين بابتسامة صافية، وصافح بصداقة كل من كان قريبًا منه.

غير أن موجة العواطف ما زالت تدفع بنفسها في قلبه حتى خاف تفجرها علنًا، فاستأذن الحاضرين ودخل مخدعًا فسيحًا، ليخفي مساورتها له، ففارقه المودعون، ولم تمض بعد ذلك نصف ساعة، إلا ورفعت «المحروسة» مراسيها، وأقبلت تمخر مبتعدة عن الشاطئ.

فأطلقت طابية نابوليون (كوم الناضوره)، والسفينة الإنجليزية «ريوپرت» الراسية في الميناء مدافعهما تحية للمسافر، وإجلالًا له فكان ذلك آخر إكرام قدم له في مصر.

وما زالت «المحروسة» تبتعد بين أزرقي البحر والسماء المنكسر عليهما ذهب الغروب المقترب حتى توارت عن الأنظار، ومع تواريها غابت الشمس.

هكذا انتهى حكم (إسماعيل) على مصر.

فهل قصد أن يتحد غروبه مع مغيب الشمس، أم هي الأقدار الغريبة التي دبرت ذلك؟

•••

والآن، وقد فرغنا من سرد ترجمة هذا الرجل الفريد إلى أن غادر القطر المصري مغادرة لم يعد بعدها إليه إلا محمولًا على أكف ملائكة الموت، ربما حسن بنا أن نلقي نظرة على حياته التالية، لتكون كلماتنا عنها ختامًا لهذا الجزء من مؤلفنا. فنقول لما وصلت به «المحروسة» إلى نابولي، بقي مقيمًا على ظهرها خمسة عشر يومًا، كأنه وهو يعتبرها جزءًا من مصر، وقطعة منها، يعز عليه أن يفارقها، ويود أن يطيل إقامته عليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ولهذا الغرض عينه وقع في خلده أن يعدها جزءًا من أملاكه الشخصية، ومتاعه الخصوصي، ويبقيها في حوزته، ليشم فيها أبدًا رائحة الوطن البعيد، فبعث يطلبها من الحكومة الخديوية، فأبتها عليه، وأنذرته إن لم يعدها أوقعت حجزًا على مرتبه السنوي، فاضطر (إسماعيل) إلى التخلي عنها، وقلبه يتفطر مرارة.

فنزل إلى البر، وأقام في نزل بضعة أيام، ريثما يجهز له قصر الفاڨوريتا بپورتيتشي بضواحي نابولي، الذي وضعه الملك أمبرتو تحت تصرفه، ثم انتقل إليه بأزواجه وأولاده ونسائه وحاشيته.

ومع أن البلد من أجمل بقاع الأرض، والسماء الصافية تشبه سماء مصر اللازوردية، والخليج الزمردي المحيطة به الربى من أبدع المناظر البحرية، والجيرة ربوع زاهرة ومناظر شائقة، ويتبرج عليها كلها جبل الڨيزوڨ المعقود على قمته تاج نار أبدي، ومع أن السكون، لا سيما في كل مساء، يخيم بجلال على الطبيعة المحيطة بأسرها، فإن (إسماعيل)، في حنينه إلى الوطن المحبوب، لم يستمرئ شيئًا من حلاوة الإقامة، وما فتئ متنقلًا بين روما وباريس ولندن وڨيينا، عاملًا على نيل أمنية الرجوع إلى العرش المصري الذي خلت منه رجله، لا سيما بعد أن أخذت الصعوبات تشتد حول شباب (توفيق) ابنه، واتضح له أن البلاد في حاجة إلى يد قوية تقود زمامها، وإلا ذهبت ضحية الدسائس وفريسة المطامع.

على أنه — بالرغم من بعض تعضيد وجده في روما وباريس — في بعض الدوائر التي كانت لا تزال تذكر حلاوة الأيام التي رأت نوبار ساعيًا لنيل أرب لمولاه، لم يجد تشجيعًا من الدوائر الرسمية إما لأن النجم إذا أفل مرة بات من المتعذر رجوعه إلى سمت مجده الأول، وإما لأن أعداءه كانوا كثيرين وأقوياء، ولا يزال نفوذهم متفوقًا عند أصحاب الأمر في تلك العواصم.

وكانت أشد الدول صممًا إنجلترا، ولو أن (إسماعيل) ألفى من بعض أعضاء برلمانها، وبعض رجال صحافتها ترحيبًا، وتعضيدًا، وشد أزر.

فلما سقط عرابي، واستولى الجيش البريطاني على قلعة صلاح الدين، أقبلت الدوائر الرسمية تتفاوض فيما يجب عمله، أيوضع القطر تحت حماية إنجلترا، ويبقى (توفيق) على عرشه في ظل سيوف البريطانيين — وهذا ما لم يكن ليرضي أوروبا، ولا الأحرار من الإنجليز، ولو أن إرسال الجيش البريطاني إلى مصر، عقب ضرب الأسطول البريطاني الإسكندرية، كان من عمل الأحرار لا المحافظين — أم يعاد إسماعيل إلى عرشه تحت رقابة أوروبا الشديدة عليه.

فلولا أن الدائنين قاموا يبدون سخطهم على هذا الحل الأخير، ويمانعون فيه، وينذرون بالويل والثبور إذا أخذ به لكانت أوروبا، في الغالب، وافقت عليه، وأعادت (إسماعيل) إلى وطنه وعرشه، لا سيما أنه أبدى وعودًا صادقة، وعاهد عهودًا أكيدة بأنه يسير كما تريد الدول أن تسيره، ويقبل بأي شرط يعنُّ لها أن تشترطه عليه.٤

وبالرغم من أنه قضى بعد ذلك سنين عديدة، وهو يجتهد اجتهادًا عنيفًا في تحويل تيار السخط عنه، أو تحويل تعضيد الحكومات عن مدائنيه، فإنه لم يفلح، وما نال سوى نفور ابنه الخديو (توفيق) منه، وتنكبه عن مساعدته أكثر من ذي قبل.

على أن كبار القوم في البلاد الأوروبية ما انفكوا مقبلين عليه، موالين له الصداقة القديمة طوال ما رأوا بصيص أمل في تحقيق مسعاه. فلما تأكدوا أن لا أمل، وأن خيبة مساعيه باتت لا دواء لها، أداروا له ظهورهم، ونسوا أنه هو الذي كان، إذا ما نزلوا عليه ضيوفًا بمصر، وضع أرض مصر ونيلها وسماءها تحت خدمتهم، ولم يشذ في معاملة جمهور كبراء الغرب له إلا القليلون.

فلما زار لندن آخر مرة أناخ رحله في نزل وضيع بأرلنجتن ستريت — يا لتقلب الحدثان! ويا لغدر الأيام! وكذلك وقع له لما ذهب إلى باريس وڨيينا، اللتين كانتا ترتجان طربًا في الماضي، حينما تطأ قدماه أرضهما.

ألا ما أصدق ما قاله بيكن، الفيلسوف الإنجليزي، حيث هتف «من يقدر أن يرى أيامًا أسوأ من الأيام التي يراها امرؤ يتبع، وهو حي، جنازة شهرته ومجده؟»

فنفض (إسماعيل) غبار قدميه في وجه تلك العواصم الجحودة، وعاد إلى قصر الفاڨوريتا، وليس له مقصد سوى تحسين معاشه مع الحكومة المصرية، والذهاب بعد ذلك للاستراحة من عناء هذا العالم على ضفاف البسفور، إذا ما صرح له السلطان بذلك.

فكلف وهو في لندن المرة الأخيرة المستر مريوت المحامي العمومي، بمقاضاة الحكومة المصرية، ومطالبتها ببعض أملاك له، أو ما يوازي قيمتها.

فأتى مريوت إلى مصر، ولما لم يجد من الخديو (محمد توفيق) معاكسة ما، نجح بسهولة في مهمته، ونال ما أصبح (إسماعيل) معه مستقلًّا عن الأمير ابنه وحكومته المصرية الاستقلال كله.

فكافأ محاميه، كما كان معتادًا أن يكافئ من يخدمه بإخلاص، أي مكأفاة ملك، وأعطاه ٣٥ ألف جنيه أتعابًا له.

ثم أقبل يلتمس من السلطان التصريح له بالذهاب إلى قصره بأميركون، والإقامة فيه، فرأى (عبد الحميد) أن يجيب طلبه، لا ليوليه فضلًا، ولكن ليضعه تحت يده.

ولم ينتبه (إسماعيل) إلى عواقب الخطوة التي صمم عليها.

فما صرح السلطان له بالإقامة على ضفاف البسفور حتى أسرع إلى سرايه بأميركون سنة ١٨٨٨ قبالة سراي عمه عبد الحليم، وظن أنه نال أكبر أمنيات قلبه.

ولكنه نسي، أو ربما لم يكن يعلم أن (عبد الحميد) مولى تسوده الظنون، وتملك الريب في الناس زمام أمره، لأنه — والحق يقال — ما كان اختلط به، ولا زار الأستانة منذ أن أغمضت عينا (عبد العزيز).

فما حلت ركابه بقصره الفخيم، إلا وأحاط به الجواسيس، ولم يعودوا يفارقون حركاته وسكناته، وإنا، وأيم الحق، لا ندري لماذا، ولا ماذا كان السلطان يخافه من ضيفه الوحيد.

فشعر (إسماعيل) أنه إنما ورد في الحقيقة حبسًا مذهبًا، ولولا أن الحياة في ديار الإسلام كانت تحلو له، ولو بضيق أكثر من الحياة في بلاد الغرب، ولو بحرية مطلقة، لما تعزى على تركه نابولي وجمالها ودلالها، وإبدالها بالبسفور، حيث الليل مملوء جرائم، والنهار مملوء دسائس.

ولكنه أتى عليه يوم احتاج لعلاج صحته أن يذهب إلى الاستحمام بمياه إمس، فطلب من السلطان أن يأذن له بذلك، فذكره (عبد الحميد) بأنه يوجد في الأناضول على مسيرة بضع ساعات من الأستانة، بلد يقال له: «بروصا» شهير بمياهه المعدنية، وأنه هو (إسماعيل) عينه، سبق له الذهاب إليه، أيام أن كان خديو مصر، والاستحمام في مياهه، وأنه فضلها في ذلك العهد على حمامات أوروبا بأسرها. فما وسع (إسماعيل) إلا العدول عن الذهاب إلى إمس.

على أن كل المضايقة التي أحاطه بها (عبد الحميد) لم تمنعه من رغبة الخير لتركيا، فما فتئ في جانب مصلحتها عاملًا على ما فيه خيرها، مظهرًا ميله إليها، وعطفه عليها، إلى آخر لحظة من حياته، كأنه بعد أن ضاعت منه مصر، وعز عليه الرجوع إليها، اتخذ أرض العثمانيين وطنًا ثانيًا له، وتمثل بقول الشاعر:

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام

على أن حياته السياسية كانت قد انتهت، وبات لا يعيش إلا مع ذكر الماضي وذكراه.

وقد قابله في قصره هناك حفيده (عباس الثاني)، في زيارته الأولى للأستانة، فسُرَّ (إسماعيل) به كثيرًا، ويقال: إنه التمس منه الاستئذان له بالعود إلى مصر، لأن حنينه إليها بات لا يحتمل.

ولكن (عباس الثاني) لم يفعل، إما لعدم رغبة منه مبنية على تخوف من جده، وإما لسهو مبني على عدم محبة له.

فاستمر (إسماعيل) في منفاه حتى أوائل مارس سنة ١٨٩٥، إذ وافاه المنون بالأستانة في اليوم الثاني منه، وله من العمر خمس وستون سنة.

فنقل رفاته إلى مصر، واحتفل بدفنه في مسجد الرفاعي احتفالًا مهيبًا، سار فيه الخديو حفيده، والأمراء أولاده، وعموم كبار دولته.

وهناك، هو راقد تحت أجنحة رحمة الله، بجانب الأميرة تفيدة هانم كبيرة أولاده، زوجة منصور باشا يكن، والأميرات زوجاته، في تربة فخيمة، يظلها من عليٍّ، قبر (محمد علي)، جده العظيم، المشرف عليه من علياء القلعة، كأنه يقول له: «ألا نم نومًا هنيئًا مرتاحًا بعد كل العناء الذي ذقته في أيامك الأخيرة. نم، يا بني في أرض مصر التي إنما هي مدينة لك أكثر مما هي مدينة لي بأنها أصبحت في مقدمة أقطار الإسلام تمدنًا وحضارة.»

قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني
فالآن عدت وعادت مصر لي دارًا
أبو الفتح كشاجم
١  أهم مصادر هذا الفصل «مصر الحديثة» للورد كرومر، و«مصر في عهد إسماعيل» لماك كون.
٢  انظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص٢٦٨ و٢٦٩ و٢٧٤.
٣  انظر «تاريخ مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص٢٧٢ و٢٧٣.
٤  انظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص٢٩٣ و٢٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤