مقدمة الترجمة العربية

د. رمضان بسطاويسي محمد١
يقدِّم هذا الكتاب الهام تحليلًا للفكر الغربي ومصادره من خلال تتبُّع فكرة الاضمحلال decline في الحضارة الغربية، ويقدِّم دراسةً هامة عن الإشكالية الرئيسية التي يطرحها الفكر المعاصر عن مستقبل الحضارة الإنسانية بشكل عام، والحضارة الغربية بشكل خاص. هذه الإشكالية تتضمن في ثناياها القضايا الرئيسة التي تهمُّ كلَّ متتبع للفكر الإنساني في حقوله المعرفية المختلفة؛ فالكتاب يمكن أن ينضويَ تحت الدراسات المسماة بعلم الأفكار الذي يتتبَّع تاريخَ فكرة ما،٢ ويرصد تحولاتها وتغيراتها، وعلاقة هذه الفكرة بالسياق الحضاري والاجتماعي والثقافي، وهذا ما فعله المؤلف حين تناول هذه الفكرة؛ لأنه تتبَّعها منذ الحضارة اليونانية حتى الآن. والكتاب ينتمي أيضًا إلى فلسفة التاريخ حيث يُحلل الوعي بالمصير داخل هذه الحضارة من خلال استعراضه للنظريات الفلسفية حول مصير الحضارات،٣ ويعرض لنظرياتِ كلٍّ من: «آرثر دو جوبينو»، و«جاكوب بوركهارت»، و«فرديدريك نيتشة»، و«شبنجلر»، و«توينبي»، و«مدرسة فرانكفورت»، و«جان بول سارتر»، و«ميشيل فوكو»، و«فانون»، وغيرهم؛ ولهذا فإنَّ أهمية هذا الكتاب لا تقف عند تحليل فكرة الاضمحلال فحسب، وإنما يقدِّم المؤلف تأريخًا للفكر الغربي حول تصوراته عن الزمان، والتقدم، والاضمحلال، وبالتالي فإنه يقدِّم استعراضًا لمسيرة هذا الفكر.

والكتاب يقدم معالجةً لموضوعَين متوازيَين: أولهما دراسة فكرة الاضمحلال، وثانيهما دراسة الوعي الذاتي بقضايا الإنسان في عصرنا الحالي؛ فهو لا يتتبَّع فكرةَ الاضمحلال فحسب، وإنما يتتبَّع أيضًا اضمحلال الصورة الإنسانية ذات الطابع الليبرالي، وبالتالي يرصد تحولات الفكر حتى المرحلة الحالية التي ظهرت فيها فلسفات جديدة، مثل: فلسفة البيئة، وفلسفات التعدد الثقافي، والاتجاهات الفكرية، مثل الاتجاه النسوي، وهو اتجاه فكري لا يقتصر على دراسة المرأة، وإنما يتجاوز هذا الأمر لدراسة الإنسان وقضاياه في المجتمع المعاصر.

ويزيد من أهمية الكتاب، أنه ليس دراسةً تقليدية عن الفكر المعاصر وأحدث تياراته، وإنما هو دراسة من مؤرخ يطرح أسئلة عن واقع عالم اليوم بين التفاؤل والتشاؤم؛ فالكتاب ليس دعوى أيديولوجية، وإنما تحليل نقدي من مؤرخ لمستقبل الإنسان،٤ ونقد للصورة التي يُكوِّنها الفكر الغربي عن العالم في مرحلته الراهنة. ونتيجةً لكون المؤلف مؤرخًا وليس من الدراسين للفكر الفلسفي بشكل مباشر، جعل الكتاب يربط بين الفكر والواقع التاريخي؛ فهو لا يقف عند الاتساق المطلق للأفكار، وإنما يراها في حالة صراع حضاري يعبر عن تيارات متباينة داخل الفكر الغربي؛ ولذلك فإنَّ كثيرًا من الفلسفات الصعبة والمعقدة تتحول إلى بناء فكري يمكن التواصل معه بيسر، ونجد هذا في الفصول التي تناول فيها فلسفات هيجل ومدرسة فرانكفورت، وغيرها من الاتجاهات المعاصرة؛ وذلك لأن مصادره لم تكن الأفكار فحسب، وإنما كل المصادر التي تُضيء الفكرة — الاضمحلال — وجوانبها المختلفة.
والكتاب يدرس فكرة الاضمحلال كجزء من التفكير الحديث، وليس حكمًا شخصيًّا عمَّا إذا كان من الحتمي أن تضمحل الحضارة الغربية أو لا. ورغم أنَّ كثيرًا من الدراسات تتنبأ بالانهيار الوشيك للحضارة الغربية،٥ فإن النظرة الغربية تسود العالم وتحظَى باحترام أكثر، فهل هذا يرجع إلى إسهامات الغرب الحالية التي تتمثل في العلم والتكنولوجيا، وتقديم نموذج ديمقراطي يجعل العملَ من خلال المؤسسات يقوم على أساس من روح الفريق وتعاون الجامعة الإنسانية في إنجاز ما يُوكَل إليها من مهام، وحقوق الفرد، حتى صارت القيم الغربية — وليست طريقةَ الحياة الغربية — هي نموذج للعمل السياسي والاجتماعي والثقافي في كثير من بلدان العالم، فكيف نتحدَّث عن انهيار واضمحلال الغرب في وقت تسود فيه النظرة الغربية؟ هل هو تشاؤم؟ أو اتجاه فلسفي ونفسي تجاه حضارة لم يتحقق فيها الإنسان كما يرغب؟ أم هو استقراء للأزمات الحالية التي تتوالى على الغرب؟
إنَّ الدافع الذي جعل المؤلف «آرثر هرمان» يدرس بذور الاضمحلال في الحضارة، هو ظهور هذا الكم الكبير من الدراسات والمقالات والكتب التي تكشف عن الجوانب السلبية في الحضارة الغربية في مختلف جوانب الحياة حتى صارت «ظاهرة» تستحق التوقف عندها، وهذا لا يهمُّ الغرب فحسب، وإنما يهمُّ الإنسان في كل مكان؛ فالأسباب التي تعصف بالغرب تتخلَّق تدريجيًّا في مجتمعات العالم النامي، مثل: سيادة اقتصاد السوق، ومحاكاة النمط الغربي من الديمقراطية، والثقافة الاستهلاكية التي جعلت من البيئة مجالًا يتغير الاتزان الحيوي فيه بشكل يُنذِر بانقراض كائنات حية عديدة. ولهذا فإنَّ هذا الكتاب مهم؛ لأنه يتضمن نقدًا لكل أشكال الحياة الإنسانية المعاصرة، وهو بالتالي يكشف عن الثقافة المضادة في الغرب،٦ والتي ترفض الصيغ السائدة، وهو تيار هام من تيارات الفكر المعاصر الغربي، ويطرح أسئلةً صعبة من قبل: هل الحضارة الغربية على وشك الانهيار؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فهل يستحق الغرب إنقاذه؟

وهذا الكتاب يعتبر رؤيةً شمولية لما آل إليه الغرب، وهو امتداد لكتب كثيرة ظهرت خلال العقد الأخير عن أزمة الغرب، وعمَّا ينتظر الغرب من مشكلات، فلم يَعُد هذا القرن هو «القرن الأمريكي» — على حد تعبير «هنري لوس» — وإنما هو قرنُ اضمحلال الغرب؛ لأنه يُكرِّس لثقافة واحدة هي «ثقافة النرجسية»، ولأن الغرب يركِّز على مصالحِه وإبراز ثقافته دون أن يجد صيغةً تسمح بحضور التعدد الثقافي العالمي، وهذه الثقافة تُنذر باضمحلاله، وقد عبَّر عن هذا «بول كيندي» في كتابه «قيام وسقوط القوى الكبرى» (١٩٨٧م)، الذي قدَّم فيه نظرةً ذات طابع تشاؤمي عن مصير الحضارة الأمريكية.

والحقيقة أن «التفاؤل» و«التشاؤم» اتجاهات يضفيها الدارس على تحليلاته، والوقائع التي يجمعها؛ ذلك لأن الوقائع وحدها لا يمكن أن تصنع نظريةً في التاريخ تفسِّر لنا قيام وانهيار الحضارات، ولا يمكن التكهُّن باستنتاجات عن مصير الحضارة الغربية، ولهذا فإن هذا الكتاب تعبير عن موقف سياسي وثقافي مما هو سائد في الغرب الآن، ويُطلق على هذا الموقف «الثقافة السوداء» التي تنتقد الممارسات الغربية في شتى نواحي الحياة، وترى في سمات الحضارة المعاصرة أعراضًا للاضمحلال؛ فانتشار الترف والانحلال الأخلاقي، والاستقطاب الاقتصادي (وهو تجمُّع عدد من الشركات الاقتصادية العملاقة في صيغة واحدة)، وفقدان الانتماء الوطني وتَشيُّؤ الإنسان،٧ وفقدانه للمعنى، كل هذ يُنبئ أن هناك اتجاهًا يتزايد داخل الغرب يرفض: «رأس المال المتغطرس» ويشير إلى «نقطة غليان» داخل ثقافة تنهار بسبب الجشع والهيمنة التي تمارسها على المؤسسات والبلدان، وهذا الاتجاه له أصوله لدى «أرنولد توينبي» الذي سبق أن أوضح هذا من خلال «نظرية التحدي والاستجابة»، وما ردَّده «أوزوالد شبنجلر»، و«بنيامين كيد»، لكنَّ الجديد في الدراسات المعاصرة أنها حاولت التنبُّؤ بمستقبل أمريكا والغرب، واستفادت من الجهود العالمية التي قُدِّمت في الدراسات المستقبلية، وعلاقتها بالزمن وبالمتغيرات المختلفة التي تحيط بالحياة المعاصرة، ودرست ممكنات الغرب من خلال بناء النماذج التي تساهم في توضيح الاحتمالات الممكنة للصورة الحالية للمجتمع الأمريكي والغرب. ولهذا فإن الكتاب ليس نظريةً تفسر لنا الغرب الآن ومصيره، وإنما هو تعبير عن «الخوف» بسبب تدهور أحوال البيئة، ونتائج ذلك على المجتمع الغربي، الذي أصبح يُسمَّى «مجتمع التداوي»؛٨ أي أنه يبحث عن دواء لكل شيء سبَّبته الصناعة والحياة الحديثة. وهذا الجزء من «الخوف» لا يقتصر على الثقافة المضادة، وإنما تتبناه السلطة الحالية أيضًا؛ فقد قدَّم «ألبرت آل جور» كتاب: «الأرض في الميزان» (١٩٩٢م) الذي بيَّن فيه أن بقاء الحضارة سيكون موضعَ شك كبير إذا لم نتمسك بالمحافظة على التوازي الحيوي للأرض، بحيث نُعدِّل من طريقة التفكير التي تضع الإنسان في الأولوية، بل ينبغي أن تجعل الحفاظ على البيئة ومكوناتها في نفس الدرجة أيضًا، وهذا يتطلب أن يُغيِّر الإنسان من عاداته الذهنية، وأن يفكِّر بطريقة مختلفة في الكون، وأن يُقدِّم نقدًا للرأسمالية الجديدة المولعة بالكسب، والتي عميَت عمَّا تُسببه للبيئة من دمار. ويشير «آل جور» في كتابه إلى «أزمة هوية جماعية» متجاورة مع أزمة روحية في الحضارة الحديثة بسبب خواء مركزها وغيبة هدف روحاني كبير.
والجديد في تجربة المؤلف في جمع مادة الكتاب أنه لم يقتصر على الأسماء الفكرية فحسب، وإنما يضم إلى مصادره وثيقةً جديدة، يتكرَّر ذكرها عبر الكتاب، وهذه الوثيقة تركها «مفجر قنبلة مجهول» خارج عن القانون، وقتل ثلاثة أشخاص، وشوَّه ثلاثةً وعشرين حين قاد عملية إرهاب وعنف ضد الدولة بكاملها في الولايات المتحدة، وترك وثيقةً بعنوان: «المجتمع الصناعي ومستقبله» بعد تفجير قنبلة في مصنع للأخشاب. وقد لخَّص فيها بالفعل كل النظرات المتشائمة التي تتنبأ بمستقبل المجتمع الغربي وأمريكا ومستقبل كوكب الأرض. ويتوقف المؤلف عند مُفجِّر القنبلة وبيانه،٩ ويشير بذلك إلى قلق عام يتولَّد لدى الجماهير من النتائج المترتبة على التكنولوجيا، وسعي الرأسمالية للكسب بأي ثمن حتى جعلت الحياةَ شبهَ مستحيلة، وأخضعت البشر لأوضاع مُهينة ودمار نفسي، ومعاناة إنسانية متعددة الأبعاد والمستويات، وهذا يُبيِّن أن الوعيَ بالمصير،١٠ لم يَعُد هو موضوع الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة فقط، وإنما أصبح موضوعَ الساعة لدى الإنسان في حياته اليومية، الذي شعر أن العالم يسير في طريق لا يلتفت فيه لمصلحة الجنس البشري، مما جعل الحياةَ اليومية المعاصرة تُبعِد الإنسان عن تجربته الشخصية في المكان، وحرمته من التساؤل عن هدفه في العالم، ومن ثَم فقد اختفت الحرية الحقيقية.١١

فالعالم اليوم تُحرِّكه ثلاثةُ عناصر رئيسة طبعت كل شيء بطابعها:

  • الثورة التكنولوجية، وما ترتَّب عليها من سيادة سلع استهلاكية.

  • السعي نحو سوق اقتصادية عالمية تفرض على الجميع الدوران في الفلك نفسه.

  • ثورة الاتصال التي جعلت التواصل عن بُعد هو الصيغة المتاحة الآن.١٢
وهذه السمات غيَّرت نظرة الإنسان لكل شيء، وتُعتبر كل الدراسات تعليقًا على نتائج العناصر السابقة على الحياة الحديثة. وهناك نوعان من الدراسات التي تتناول الغرب، النوع الأول هو الدراسات التي يُقدمها كلُّ مثقَّف يخشى اضمحلال مجتمعه مثل دراسات «هنري آدامز»، و «أرنولد توينبي»، و«بول كيندي»، و«تشارلز موراي»، فهي في توقُّعها لانهيار الغرب تدعوه لتغيير سلوكه، وعاداته الذهنية مثلما فعل «آل جور» في كتابه؛ حيث يريد للإنسان الغربي أن يشارك في صنع مصيره، وتعديل دفَّة الحياة المعاصرة نحو آفاق أخرى غير الاضمحلال. ويمكن القول إنَّ هذا النوع هو نقدٌ للحضارة الغربية من الداخل، نتيجة الحرص والخوف عليها من المصير المظلم الذي ينتظرها لو ظلَّت تسلك نفس المسلك الذي تمارسه الآن. إنها دعوة للتفكير لتغيير أنماط وعادات التفكير في الحياة المعاصرة، وهو تساؤل: هل يمكن تغيير التفكير؟ هل يكون هذا بتقديم برامج جديدة للتفكير soft ware؟ أو تغيير النظرة التي ورثها الإنسان عن تصوُّر نفسه بوصفه مركزًا للكون؟ ونجد معظم الاتجاهات المعاصرة متشائمة بخصوص تعديل الطريقة التي يفكر بها الإنسان؛ حيث يرى نفسه مركزًا لكل شيء ويستخدم كل ما حوله لتحقيق ما يريد، والوحيد الذي كان متفائلًا هو الفيلسوف «إرنست بلوخ»؛ حيث بيَّن أنه من الممكن إعادة صياغة الفكر بحيث يكون الإنسان ضمن الكون وليس مركزًا له، وهذا التمركز الذاتي للإنسان هو الذي أدَّى إلى تدهور البيئة الطبيعية والسياسية والاقتصادية.١٣

والنوع الثاني من الدراسات يتطلَّع بلهفة إلى انهيار الغرب، وتولُّد حياة جديدة من رماد الحضارة، ويتساءل عن البديل الذي يحلُّ محلَّها، وهذا هو الجديد الذي يشير إليه الكتاب، فهذه الحضارة من وجهة نظر هذا النوع من الدراسات هي حضارة لا تستحق الإنقاذ؛ لأنها استهلكت نفسها، ووصلَت إلى طريق مسدود، وأصبحت حضارةً منغلقة على نفسها. وتعود أصول هذا الاتجاه الذي يُطلق عليه المؤلف: «التشاؤمية الثقافية» إلى «نيتشة»؛ لأنه أدان المجتمع الأوروبي ووصَفه بأنه مجتمع مريض ومتفسِّخ، وقال: «هناك عنصر تآكل في كل شيء يُميِّز الإنسان الحديث». وامتدَّت هذه الرؤية إلى «مارتن هيدجر»، و«هربرت ماركيوز»، و«تيودور أدورنو»، و«هوركهايمر»؛ ولذلك فهم نقدوا الحضارة الغربية المعاصرة دون أنْ يذكروا بأن هناك مستقبلًا لها؛ ولذلك فإن تعريف المؤلف للتشاؤمية الثقافية، أنها الاتجاه الذي يرى — بإصرار — أنَّ المسار الطبيعي للمجتمع المدني على النموذج الغربي، كمجتمع رأسمالي أو تجاري هو الفناء. وقد عبَّر عن هذا «شبنجلر» بقوله: «لقد استسلمنا وارتضينا حياةً ضائعة»؛ لأن الإنسان الحديث يعيش حياةً تنزلق عميقًا في مستنقع الكآبة. ويُبيِّن المؤلف أن هذا الفكر التشاؤمي هو الذي شكَّل نظرةَ الإنسان المعاصر إلى نفسه، وإلى مجتمعه، وهذا نجده واضحًا في الاتجاهات التي نُطلق عليها لفظ «الإرهاب» التي تعبِّر عن الرفض العاطفي للحياة الحديثة، وقد صدَّ المؤلف هذا حين تحدَّث عن «بيان مفجر القنبلة»؛ لأنه من البشر العاديِّين الذي حاصرهم سؤال المصير، وأقلقَتهم معاناة الإنسان في عالم تُسيطر عليه «السوق الاقتصادية» و«ترويج السلع» ولا يلتفت لما هو إنساني.

ولكن نلاحظ أن نقد الحضارة المعاصرة وتمنِّي زوالها ليس هو نهاية المطاف؛ لأن التشاؤمية الثقافية تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الحد، فهي تتصور أن المجتمع الحديث الفاسد بعد أن يفرغ من تدمير نفسه ويختفي، سوف يحلُّ محلَّه مجتمعٌ آخر أفضل منه، إلا أنَّ النظام الجديد لن يكون اقتصاديًّا أو سياسيًّا بالأساس، ولكنَّه سوف يتضمَّن هدمَ الثقافة الغربية في مجموعها الكلي، وبزوغ مجتمع جديد لم نتبيَّن ملامحه، وإنما يُقدِّم لنا المفكرون أحلامًا، لأن المجتمع الجديد قد يأخذ شكل اليوتوبيا البيئية، أي الحلم بعالم مثالي تختفي فيه الأسباب التي تدمر البيئة. وكلمة «يوتوبيا» هنا تُشير إلى الحلم الذي لم يتحقق في مكان ما؛ لأن المعنى الحرفي لها هو «لا مكان». وصورة الإنسان في المجتمع الجديد قد تأخذ شكلَ الإنسان الأعلى superman، والحلم بتحقيق الوحدة المثالية بين التكنولوجيا والإيروس eros التي تعني انعتاقَ الحواس الطبيعية من تدجين المجتمع المعاصر،١٤ أو صورة الفلاحين الثوريِّين كما هو الحال عند «فرانز فانون»، وقد يكون البشر في المجتمع الجديد هم أصدقاء البيئة أو الملونون عند القائلين بالتعددية الثقافية، أو «الأمازونيون الجدد» عند الحركة النسوية الثورية، أو البشر الجدد عند «روبرت بلاي».

هذه هي الصورة التي يتخيَّلها المفكرون للمجتمع الجديد الذي يُولَد من رماد الحضارة الغربية، وهي تُعبِّر عن آمال وطموحات وأحلام تتمنَّى زوال العالم الغربي وما يرتبط به من مشكلات، وهي تبرز سمةً ثقافية ونفسية لدى البشر في الحياة اليومية، حيث يتقبَّلون اضمحلال الحياة اليومية حتى أصبح اليأس والشك من المواقف الثقافية العادية التي تسود في الحياة اليومية، حتى عندما يكون واقعًا متناقضًا بشكل لا يُحتمل، فيتمنَّى المرء زواله، وانبثاق صورة جديدة ليس لها علاقة بالواقع القديم …

والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تناول المؤلف هذا الموضوع الصعب، والشائك، والذي تتفرَّع منه معظم قضايا الحضارة والفكر الغربي؟

لقد اختار المؤلف التناول التاريخي لدراسة الموضوع، وهذا ما يجعلنا نرى أن الكتاب ينتمي إلى علم تاريخ الأفكار؛ لأنه يتتبَّع أصولَ فكرة الاضمحلال حتى عصرنا الحالي، وقد اختار المؤلف طريقةً لعرض موضوعه تتَّسق مع رؤيته؛ ذلك لأن فكرة الاضمحلال لم تُطرَح بالمعنى المعاصر إلا في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنَّ البدايات الأولى تفهم الاضمحلال في إطار فهمها لدورة الزمان، وفهمها لمعنى التقدم؛ ولذلك فقد قسَّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أجزاء:

  • الجزء الأول: عن لغات الاضمحلال؛ ذلك أن معنى الاضمحلال لم يكن واحدًا طوال التاريخ الحضاري، وإنما أخذ معانيَ متعددة، أبرزها في تحليله للصور المختلفة التي عبَّرت عنها كتابات المفكرين في الحضارة اليونانية عن الاضمحلال، فقدَّمت تصوُّرًا عن طبيعة الاضمحلال، وهل هو ميتافيزيقي أو طبيعي، أو نظرية تُفسر من خلالها ظهور الحضارات.
  • الجزء الثاني: عن التنبُّؤ باضمحلال الغرب في تطوُّر الفكر الغربي في وعيه بذاته.
  • الجزء الثالث: عن سيادة اتجاهات التشاؤمية الثقافية حتى إننا نُطالعها في كل الأعمال الفنية والأدبية التي تنتقد الحياة المعاصرة، ونظرة الإنسان لها، حتى صارت التشاؤمية مكوِّنًا من مكونات الحياة المعاصرة. وفي عرض المؤلف لمسيرة فكرة الاضمحلال لم يكن منحازًا لها، أو ناقدًا لها. وقد يرجع هذا إلى طبيعة التخصُّص الأكاديمي الذي ينتمي إليه؛ لأنه مؤرِّخ وليس فيلسوفًا ولا يطمح إلى تقديم نظرية خاصة به.١٥ وقد استطاع أن يسجِّل لنا ملامح الصورة التي يبدو عليها الفكر المعاصر؛ ولهذا فإنَّه يعرض لنا المواقف والرؤى فحسب. ولكن هذا لا يعني أنه محايد؛ لأن اختياره لهذا الموضوع ينفي حياده، ويؤكد خوفه على مصير الحضارة الغربية التي يسود نموذجها الإنساني في الحياة الدولية، وأصبحت الحضارة الغربية التي يسود نموذجها الإنساني في الحياة الدولية، وأصبحت الحضارة الغربية هي صيغة التفاهم، ونموذجًا لقياس مدى تقدُّم المجتمعات على المستوى الاقتصادي والسياسي والعلمي.

وقد قدَّم لنا المؤلف «آرثر هيرمان» هذه الأجزاء الثلاثة من خلال اثنَي عشر فصلًا، ومقدمة وخاتمة. وبيَّن في المقدمة أن فكرة الاضمحلال هي هاجس عام يسود الثقافة المعاصرة، حتى إن «آل جور» نائب الرئيس الأمريكي يقدِّم مشاركةً حول الموضوع.

ويقدِّم في الفصل الأول دراسةً حول مفهوم مصطلح «الاضمحلال» وأصوله التاريخية، حتى تحوَّل هذا المصطلح إلى أسطورة ثقافية قوية في الفكر الغربي، فبيَّن أن فكرة الاضمحلال تتمُّ مناقشتها حين تُقدِّم الحضارة نظرية ما عن طبيعة ومعنى الزمان لدينا، فهذه الفكرة مرتبطة بنقيضها وهو نظرية التقدم؛ فالاضمحلال والتقدم هما تعبير عن نظرية واحدة في طبيعة الزمان؛ لأن الاضمحلال معناه أن كل شيء يتدهور كلما ابتعدنا عن الزمان الأصلي على النحو الذي قدَّمه «هيزيود»؛ حيث يرى في كتابه «الأعمال والأيام» أن الكون كلَّه تحكمه عملية اضمحلال متوالية بدءًا من عصر ذهبي حتى نَصِل لعصر حديدي،١٦ بينما نظرية التقدُّم ترى أننا نتطوَّر من الأدنى إلى الأعلى. فالفرق بين النظريتين — الاضمحلال والتقدم — هو فرق في الاتجاه ولكنهما تفسير لطبيعة الزمان،١٧ ولذلك فإنَّ نظرية الاضمحلال هي الوجه الآخر لنظرية التقدُّم؛ فنظرية الاضمحلال ترى أن «الزمان الأصلي» أو الأول هو أفضل الأزمنة، وفيه يعيش الإنسان في وفاق مع الطبيعة والكون، وحين طُرد من الجنة بدأ تدهور واضمحلال الحضارة،١٨ ونجد هذا المعنى في حضارات الشرق القديم أيضًا مثل الحضارة المصرية القديمة والحضارة الهندية والصينية.

ويتساءل المؤلف لماذا يشيع إذن هذا الشعور بالاضمحلال في جميع الثقافات؟ هل لأن هذا يعكس إحساس الإنسان بالزمان وبالتغير، لأنه في مراحل حياته الأولى — الطفولة — لم يتمايز وعيُه عن العالم الذي يعيش فيه؟ أو نتيجة للشعور بالتغيرات الجسدية من الطفولة إلى النضج، والانهيار الحتمي للقدرات الجسيمة والعقلية في مرحلة الشيخوخة؟ ولعل هذه النظرة التي تربط بين الزمان والبيولوجيا هي ما حدا ﺑ «شبنجلر» إلى تطبيق مسار حياة الخلية الحية على الحضارات، فتنبَّأ بأفول الغرب؛ لأن الحضارة تمرُّ بنفس المراحل التي تمرُّ بها الخلية الحية من ميلاد ونضج وشيخوخة، وقد حاول «شكسبير» التعبيرَ عن مراحل الإنسان التي تنتهي بالموت حين أطلق عليها «أعمار الإنسان السبعة».

وما دام الزمان يعكس مراحل الوجود: ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، فإنَّ «آرثر هيرمان» توقَّف عند معنى الزمان وطبيعته في الحضارة اليونانية وفي الفكر والدراما، وبيَّن طبيعة الزمن المتغير والأزلي، والصراع بينهما، وبيَّن أن الحل الذي طرحَته الحضارة اليونانية لمواجهة تغيُّرات الزمن وعصفها بالإنسان، (ذلك الزمان لا تحرِّكه اعتبارات عمياء، وإنما تحكمه ظروف ما) الفضيلة virtus١٩ وهي تعني الشجاعة في مواجهة الظروف، وتتضمن أيضًا نزاهة الإنسان في شتَّى مجالات الحياة؛ فالفضيلة هي القوة الداخلية اللازمة للتغلُّب على تروس وأسنان عجلة الحظ «التي كان يؤمن بها الناس في العصور الوسطى حيث كانوا يعبِّرون عن دورة الزمن بعجلة في يد القدر، في دورة لهذه العجلة ترفع أناسًا، وفي دورة أخرى تحطُّ من شأنهم»،٢٠ فالفضيلة كانت أداةً تساهم في تشكيل مصير الإنسان، وفي العصور الوسطى أُضيف للفضيلة بُعدًا مسيحيًّا، وأصبح الحظ يتحدَّد بمدى ارتكاب الإنسان للخطيئة؛ فكلما ابتعد الإنسان عن الشر والفساد أصبح حظُّه أفضل … لكنَّ هذا المعنى لم يَدُم طويلًا؛ لأن الفضيلة عند «ميكيافيللي» أصبحت نقيضًا للحظ، ومن ثَم ظهر الصراع بين الثقافة والحضارة، وهذا تغيُّر جوهري في طبيعة الصراع؛ فلقد كان الصراع في الحضارة اليونانية بين الشخصية الإنسانية والقدَر المجهول، وأدَّى هذا الصراع إلى جعل تطوُّر العلوم والفنون والآداب ممكنًا. ونجد التعبير عن ذلك في أسطورة «بروميثيوس»: حيث يُصارع الإنسان الطبيعة البدائية والظلام الذي يحيط به، ونجد نفس الأمر لدى «أفلاطون» حيث يُصارع الجهل والاعتقاد dogma لكي يرتقيَ من كهف الأوهام الضبابية إلى مملكة المعرفة الصافية،٢١ بينما أخذ الصراع شكلًا آخر؛ حيث أصبح الإنسان يصارع كل شيء بما فيها الفضيلة لكي يحقق مآربه. وانتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحضارة الرومانية، التي حاولت أن تقوم على مبدأ جديد هو التوافق الكوني، بحيث يتعوَّد الناس على فن السلام بدلًا من الحرب، وبالتالي يمكن القضاء على الاضمحلال من خلال تذويب الفوارق والتجانس الدائم؛ ولهذا كان للإمبراطورية والاستعمار دلالات إيجابية وليست سلبيةً بالنسبة للأوروبيِّين قبل الحداثة؛ ولهذا فإنَّ أفضل ما يمكن الطموح إليه في عالم يحكمه القدر هو الوصول إلى ثبات معين في الزمان؛ ولهذا حاولت الإمبراطورية الرومانية بعد أن دخلت في المسيحية أن تكون إمبراطوريةً كونية تُبيِّن أن المستقبل لن يأتيَ بشيء سيِّئ، ولكنه لن يأتيَ بجديد. والمسيحية قدَّمت منظورًا جديدًا؛ فالزمن ليس محكومًا بالقدر، وإنما بإرادة «يهوه» (رب العبرانيين)، ولم تَعُد حركة التاريخ دائرية كما هو الحال عند اليونان والرومان، وإنما خطية، تمضي من النشوء إلى يوم القيامة طبقًا لمشيئة الرب، فهو يقول: «أنا البداية والنهاية، أنا الأول والآخر.»

ومع هذه النظرة الخطية الجديدة يصبح المستقبل والتفكير فيه أكثرَ أهمية من الماضي في تقرير علاقة الإنسان — ذات المعنى — بالآخرين؛ حيث تتقدَّم البشرية إلى الأمام، نحو القدوم الثاني للمسيح، وهو حدث مستقبلي في المسيحية والإسلام (رغم أن المؤلف لم يُشِر إلى الإسلام طوال الكتاب)، وهو هدف نهائي للعصر الألفي السعيد ليوجه التاريخ كله وأفعالنا فيه.

وهذا التصور المسيحي نجده لدى «القديس أوغسطين» الذي يرى أن سقوط روما قد فتح الطريق لبناء نظام مسيحي عالمي لكي يحلَّ محلَّ «بابل الأرضية» أي «مدينة الله» في مقابل «مدينة الشيطان»، وأطلق على مدينته المستقبلية اسمَ «أورشليم الجديدة».

ويتبيَّن لنا مما سبق أن هناك عدة نظريات عن التغيُّر والزمان والتاريخ؛ فقد كانت هناك أسطورة العصر الذهبي، ووعيها باضمحلال الزمن الذي يليها، وهناك نظرية التصوُّر الدائري للزمن عند الإغريق، والتي تم تطويرها لتصبح الحظ في مواجهة الفضيلة، ثم ظهرت النظرية التي تعبِّر عن الصراع بين الفضيلة والفساد الأخلاقي. وأثَّرت المسيحية في صياغة الرؤية الغربية للزمن، حيث ظهرت رؤيا نبوئية عن ألفية سعيدة. ورغم الفروق الكبيرة بين النظريات السابقة عن الزمن، إلا أنَّ نظريات الزمن ظلَّت شديدةَ التشاؤم فيما يتعلق بعالم البشر، وكانوا يعتقدون أن الأمل الحقيقي للإنسان يوجد في عالم الروح، مع الله وقانونه السرمدي. ومع عصر النهضة بدأت تظهر نظريات التقدم، وهي الوجه الآخر لنظرية الاضمحلال، والتي بدأت من خلال الإيمان بالعناية الإلهية واللطف الإلهي، والتي وصلت إلى أن القوانين الطبيعية التي تسيِّر الكون هي قوانين الرب، فظهرت نظرية «فيكو» التي تمدُّ نطاق القوانين الطبيعة لتشمل التاريخ الإنساني أيضًا، مما ساهم في نشأة نظريته في التاريخ التي ترى أن التاريخ الإنساني كله يتحرك في ثلاث دورات متتابعة تحت رعاية العناية الإلهية.٢٢

وقد ظلَّت نظرية «فيكو» التاريخية التي تستند إلى القوانين الطبيعية سائدة؛ لأنها تقدِّم تحليلًا تاريخيًّا يميل إلى استخدام المقارنات الثقافية المتقاطعة لتركيب فكر تاريخي عالمي، وقدَّم «فيكو» إحدى الخصائص الرئيسة للتنوير، وهي أن المجتمع الإنساني جزء من نظام طبيعي أكبر، عقلاني، ومطبوع على حبِّ الخير.

ثم يتناول المؤلف ارتباط نشأة نظرية التقدم بنشأة مفهوم «الحضارة»؛ حيث كانت الكلمة مرادفةً لوجود حكومة منظمة للحياة الاجتماعية، ثم أصبحت تعني الانتقال من مرحلة البدائية إلى مرحلة الرقيِّ والتحضُّر. ويتبنَّى المؤلف المفهوم التاريخي للحضارة، بوصفها عمليةً تاريخية لها بداية ونهاية، نقلت المجتمع الإنساني نقلةً نوعية من البدائية أو الهمجية إلى شكل أفضل للحياة، ولم تتمَّ هذه النقلة دفعة واحدة، ولكن عبر مراحل أربع، (١) حالة التجوال البدائي، ثم (٢) الاستقرار النسبي في المجتمعات البدوية والرعوية (٣)، ثم مرحلة الزراعة حيث ظهرت الملكية للأرض، ثم (٤) المرحلة التجارية. وهذا التطوُّر جعل الإنسان يجد نفسه على اتصال مستمر بالبشر، وأصبح يستخدم وسائل أكثر تعقيدًا لتحقيق منافع متبادلة. عرف الإنسان الأسرة والأصدقاء، وأصبح مواطنًا في مؤسسة مشتركة يتعرَّف فيها على أفضل ما في الإنسان، ويشتدُّ فيها حضور الجانب العقلاني، وهذا يؤدي بدوره إلى تطوُّر الفنون والعلوم والآداب والشعر. ولذلك يقول «هيوم»: «كلما تقدَّمت هذه العلوم الراقية يصبح البشر أكثرَ اجتماعية.» وأدَّى هذا إلى ظهور المجتمع المدني الذي تميَّز عند مفكري التنوير في أربع سمات رئيسة:

  • السلوك الراقي بوصفه أهم من القوانين لتدعيم أساس المجتمع الإنساني، والأخلاق هنا مرتبطة بالعقلانية، ورقي السلوك يؤدي إلى التسامح بين البشر المختلفين في أفكارهم السياسية والدينية وتقبل القيم الجوهرية للكائنات الأخرى.

  • الأدب أو التهذيب وهو أكبر مما نطلق عليه «حسن السلوك»، فهو يكشف عن طبيعتنا العقلانية والاجتماعية.

  • تبادل المنافع: وهو يؤدي إلى التقدم الإنساني، ونمو التجارة وتبادل الخبرات.

  • الاستقلال الذاتي في السياسة والاقتصاد والثقافة.

كل هذا يُبيِّن أن نظرية المجتمع المدني ترى أن التاريخ يتكوَّن من حركة عامة تتجه نحو رخاء تجاري وحضاري؛ ولذلك فإنَّ فكرة التقدم لا يمكن فصلها عن فكرة الحضارة، وهي فكرة عكس الاضمحلال وتعتمد على أنه عندما تستنير العقول، فإنَّ السلوك الإنساني يصبح أكثر رقة، وتتقارب الأمم المتباعدة، وتزدهر التجارة بين أجزاء الكرة الأرضية، وأن العقل والصناعة سيتقدمان أكثر، وتختفي الشرور والأحقاد. ولكن هذه الصورة عن التقدم لم تكن بهذا القدر من التفاؤل؛ لأنه كان هناك الوعي بأن ذلك التحسن سيكون عمليةً تحوُّلية وتراكمية، بمعنى أن كل مرحلة من مراحل التطوُّر الحضاري في هذه العملية تتطلَّب تدمير ما كان قبلها، أو نفيها بلغة «هيجل» الفلسفية؛ ولذلك تنطوي عملية التقدم أيضًا على سلب أو نفي أو تجاوز المرحلة السابقة عليها؛ ولهذا فإنَّ نهوض أوروبا الحديثة كان يتطلَّب تدمير سلفها القديم الفاسد.

ونجد هذه الفكرة بشكل واضح عند «جيبون» عند تحليله لأسباب انهيار الإمبراطورية الرومانية؛ لأنه يرى أن الإمبراطورية الرومانية كان محكومًا عليها بالدمار؛ لأن جميع الإمبراطوريات والمجتمعات العظمى تَصِل إلى نقطة النهاية، وبعدها لا بد أن يحلَّ محلَّها شيء آخر؛ لأن ذلك يتم من خلال دورة نمو وتآكل ودمار. وهذه النظرة التي قدَّمها «جيبون» تتكرر في النظريات المعاصرة التي ترى احتمالَ زوال الحضارة الغربية في يوم ما، ورغم كل إمكانياتها المادية والسياسية، ولكن الزوال لا يحدث بالكامل؛ فقد تُترَك بعض الأطلال القديمة التي تدلُّ على أنه هنا كانت حضارة ما، وهذا ما نجده من آثار مصر القديمة التي تدلُّ على وجود الحضارة في التاريخ، وهذا يعني أنه في داخل نظرية التقدم بذور الاضمحلال كآلية للتقدم نفسه. ولعل هذا ما جعل فلسفةَ «روسو» تظهر بوصفها نقدًا للتقدم وما ترتَّب عليها من مظاهر في المجتمع المدني والحضارة؛ فقد بيَّن أن التقدم لم يؤدِّ إلى تحسين أخلاق البشر، بل جعلهم أسوأ مما كانوا عليه من همجية، فقد تزايد الترف والجشع وحب الذات والحرص على المصلحة الشخصية، وأصبح يرى أن الحضارة والمجتمع المدني تُكبِّل الإنسان بقيود جديدة غير مرئية، وارتضاها لنفسه، وأصبح البشر ضعفاء من الناحية الجسدية، وتعساء ومتوتري الأعصاب. ويبيِّن «روسو» أن تقدُّم المجتمع الإنساني لم يحقِّق الحرية السياسية، بل دمر الحرية الطبيعية؛ ولهذا يقول بسخرية: «يا الله: خلِّصنا من «التنوير» ورُدَّنا إلى الجهل والبراءة والفقر.» ويعتبر «روسو» بذلك أول منتقدي الرأسمالية والمجتمع المدني بشكل جذري؛ ولهذا فإنَّ الفكر الإنساني حول معالجة العيوب التي أشار إليها «روسو»، فظهرت الليبرالية الرومانسية والثورة الديمقراطية كوسائل لتحقيق ما يفتقده الإنسان في المجتمع المدني، ونجد هذا واضحًا لدى «بيرون»، و«شيللي»، و«ماتزيني».

ولذلك يمكن اعتبار فلسفة «هيجل» هي مشروع الحداثة الغربي كما يرى «هابرماس»؛ لأنها تُعيد صياغةَ إشكالية عصر التنوير على نحوٍ يستوعب التناقض بين الاتجاه الذي يرى أن المجتمع المدني يجعل البشر أفضل مما كانوا و«روسو» الذي يزعم أنه يجعلهم أسوأ، حيث بيَّن «هيجل» أن العمليات الاجتماعية التي تصنع المجتمع واسعةً ومعقدة، ولعلَّ صعوبة فلسفته راجعةٌ إلى تعبيرها عن هذا التعقيد الذي يكتنف الإشكالية التي يريد التعبير عنها؛ ولذلك يمكن اعتباره ملخصًا لحالة الروح الغربية وهي تتطلَّع إلى حياة جديدة. ولذلك فإنَّ التاريخ لديه هو تقدُّم الوعي بالحرية لدى الفرد والمجتمع؛ ولذلك اكتسب معنى التقدم بُعدًا آخر لم يتمَّ الإشارة إليه من قبل وهو: «النبض غير المحدود لروح العالم، وهدف لاندفاعات الروح التي لا تقاوم.»٢٣ حاول «هيجل» إعادةَ بناء التاريخ العالمي ليؤكد فكرته التي تربط العناية الإلهية بالتاريخ، وأعلن «هيجل» أن أوروبا هي نهاية التاريخ ما دام تاريخ العالم ليس سوى هذا النوع من التطور والتقدم لفكرة الحرية، وأنه يمكن للدولة أو الأمة التي تحلُّ كلَّ القضايا التي أقلقَت «روسو» و«مالتوس» والخاصة بعدم عدالة توزيع الثروة وجموح المصالح الذاتية وافتقاد الهدف الإنساني، والدولة هي إنجاز الجميع؛ لأنها تجعل الناس شركاء في عالم اجتماعي أخلاقي ثابت ومستقر.

والصياغة التي يقدِّمها «هيجل» ترى أن البشرية يمكنها عن طريق العقل أن تحقق خلاصها الخاص، وأن سعادة الإنسان ليست حلمًا بعيدَ المنال، ولكنها تحدث هنا والآن نابعة من السيل الجارف الذي تقوم به المؤسسات والطموحات الإنسانية.

وتعتبر فلسفة «ماركس» امتدادًا للبحث عن الإشكالية التي طرحها القرن التاسع عشر، حيث حدَّد الاقتصاد، وليس السياسة، بوصفه المفتاح لتقدُّم الإنسانية من خلال قانون الصراع الطبقي. وعلى عكس «هيجل» بيَّن أن هناك مرحلة أبعد من الرأسمالية وهي الاشتراكية؛ وبالتالي فإن سلطة الدولة تموت. ونلاحظ أن عند كلٍّ من «هيجل» و«ماركس» فإن التاريخ كعملية تقدُّم يصل إلى نقطة نهاية لا يستطيع أن يتخطاها، وهذا يعني أنهم يلتقون في النهاية مع القائلين بالاضمحلال؛ لأن التقدم لديهم ليس عمليةً لا نهائية.

ورغم محاولة «هربرت سبنسر» في تقديم نظرية للتقدم تستوعب العلوم كلها والربط بين التقدم المادي في العلم البشري والتقدم الاجتماعي، إلا أنها سلَّمت في النهاية بأن مصير المادة إلى الفناء؛ ذلك عندما علم أن القانون الثاني من علم الديناميكا الحرارية يدل على أن التقدم إلى ما لا نهاية أمر مستحيل؛ لأن كل طاقة لا بد أن تتبدَّد في النهاية، فأدرك أن توقعاته عن المستقبل التي تعتمد على التحقيق الدقيق لقدر تاريخي غير قابل للتغيير؛ وهذا جعل الدراسات التي تستلهم فلسفته تُضيف مرحلة نهائية نحو السقوط عندما تفقد القوى، التي تجذب المجتمع والإنسان إلى الأمام، قوتَها، وتبدأ انطلاقها في الاتجاه العكسي نحو الاضمحلال. وهذا أدَّى إلى تشاؤمية من نوع خاص وهي الرومانتيكية التي تُطالب بالعودة إلى الزمان الجميل، الماضي، نتيجة لفقدانها الثقة في المستقبل، ونجد هذا لدى «شليجل»، و«فرديدريك شيللر»، و«جوزيف دي مايستر»، و«نوفاليس» و«كوليريدج»؛ حيث بدأ يتولَّد شعور بالتعاسة في المدنية الغربية والتصنيع. والأعمال الأدبية في تلك الفترة تعبِّر عن هذا البؤس كما نجده في أعمال كلٍّ من: «والترسكوت»، و«ألكسندر دوماس»، و«فيكتور هوجو»، و«جول فيرن» و«وليم بليك»، و«توماس جراي»، و«روبرت سوذي»، و«ووردنورث». فالرومانتيكية رصدت «التدهور» في المجتمع الصناعي، ويقصدون بالتدهور ضياعَ معيار ثابت أو مستوى محدد من التميُّز الأدبي، وبيَّنوا في كتاباتهم أن كلمةَ «التدهور» تعني أيضًا أن الانهيار في المستويات الفكرية والروحية له علاقة مباشرة بالانهيار الاجتماعي والاقتصادي. وقد عبَّر عن هذا «كوندورسيه» في كتابه: «تأملات في عظمة وانحلال الرومان»؛ حيث بيَّن أن التدهور يبدأ من القمة، عندما تفقد النخبة السياسية والثقافية رغبتَها في الحفاظ على النظام القديم. وعبَّر «جوته» عن تلك المرحلة من الرومانتيكية التي منحت رخصةً لأسوأ الغرائز وأكثرها انحطاطًا مثل الإشباع الفوري للشهوات، والبحث عن المتعة والذاتية المتوحشة، وقال إنَّ «الكلاسيكية صحة والرومانتيكية مرض.» حيث ظهر فنان الانحطاط الذي يبحث عن الرضا الذاتي بأي وسيلة مثلما يسعى رجل الأعمال إلى المال من أي طريق. وعبَّر «نيتشة» عن ذلك بقوله: «المجتمع المنحط مثل الفن المنحط، مركَّب ومتعمد وزائف ومصطنع.» وعبر «شارل بودلير» عن ذلك: «لقد أدَّى التقدم إلى ضمورِ كلِّ ما هو روحاني فينا.»

بعد أن قدَّم المؤلف مفهوم الاضمحلال وارتباطه بمفهوم الزمن في الفلسفات المختلفة، وارتباطه أيضًا بما هو مضاد له وهو مفهوم «التقدم»؛ حيث بيَّن أن داخل التقدم بذرة الوعي بالاضمحلال؛ لأنه ليس هناك تقدُّم بلا نهاية؛ لذا فإنه يرصد نموذجًا من القائلين بالاضمحلال لأسباب عِرقية، وهو المفكر الفرنسي «آرثر دو جوبينو» الذي بيَّن أن الموت هو مصير المجتمع، واعتمد في استخلاص هذه النتيجة على التحيُّز العِرقي، وعبَّر عن ذلك في دراسته: «فصل المقال في لا تساوي الجنس البشري». وقد استعرض المؤلف حياته ليبيِّن أن أفكاره حول التشاؤم العِرقي ترجع لما مرَّ به في حياته من أحداث، ونتيجة لنسبه للأرستقراطية التي عانَت بعد الثورة الفرنسية؛ ولهذا كان مناهضًا للبورجوازية؛ لأنها وليدة مناخ يمقته «جوبينو».

وإذا كان الاغتراب الرومانسي أيقظ الافتتان بالعصور القديمة والحنين إليها، فإنَّ طريق الهروب الآخر من الحداثة الغربية كان الجغرافيا، أي الهروب إلى الثقافات غير الغربية مثل ثقافات الشرق الأوسط والهند وآسيا، وأصبحت باريس — بعد حملة نابليون على مصر (١٧٩٨م) — مركزًا للدراسات الشرقية، وتزايد الاستشراق والاهتمام بحضارات قديمة وبالدراسات اللغوية المقارنة، ويتضح هذا في تأثير الجماليات الشرقية على الجماليات الرومانسية، فقد تأثَّر «فريدريك شليجل» بالحضارة الهندية، وقال: «في الشرق فقط، يمكن أن نبحث عن أسمى درجات الرومانسية.» ولذلك فقد سافر «جوبينو» إلى إيران، وهذا تعبير عن مناخ ثقافي يشعر فيه الإنسان بالاغتراب الحاد نتيجة للانقسام بين الحديث والبدائي، وهي الإشكالية التي سبق أن أشار إليها «جان جاك روسو»، وأوضحها «بودلير» حين قال: «الشعوب البدوية، حتى المتوحشة آكلة لحوم البشر ربما كانوا أرقى من أجناسنا في الغرب، استنادًا لما لديهم من قوة ووقار شخصي.» وعبَّر «جوبنيو» عن هذا الاتجاه العاطفي بنظريته في التاريخ التي تعتمد على التفكير العرقي، وهي النظرية التي ترى لجنس ما أفضليةً على بقية أجناس البشرية، وتربط بين التطورات الثقافية في التاريخ وعرق معين؛ فانتشار أنواع جنسية معينة من الإنسان هو الذي أدَّى إلى انتشار الحضارة، وبيَّن أن أصل الحضارة هم الآريون وهم السلف الأرومي الأصلي للجنس الأوروبي الأبيض، وهذه الفكرة نجدها أيضًا عند «فريدريك شليجل» حين افترض أن اللغة السنسكريتية هي اللغة الأصلية المشتركة بين كل الحضارات شرقًا وغربًا، وأنها لغة الآريين الأصلية، وكانوا هم أسلاف الإغريق والرومان والمؤسسيين الآخرين للثقافة الغربية، وهي فكرة خيالية أن تكون جميع الحضارة في الأصل حضارة واحدة، وهذا معناه أن جميع الحضارات تبحث عن الجنس الأبيض ومستمدة منه، التي توزَّعت في الحضارات المختلفة، وأن البقايا العرقية هي أرستقراطية كل حضارة ابتداءً من البراهمة الهندية إلى النبلاء الزرادشتيِّين، وفي كل حضارة وعند «جوبينو» أن العرق وليس الاقتصاد هو الذي يخلق المجتمع والطبقة الحاكمة، والمجتمع يكون عظيمًا بقدر ما يحافظ على الدم النبيل للجماعة التي صنعته، وهذا يعني أن نهاية الأرستقراطية دليل على نهاية المجتمع الغربي واضمحلاله … وعملية التحضُّر هي عملية إفساد لدى «جوبينو»؛ لأنها تؤدي إلى اختلاط الأجناس، وضياع العرق الذي يقود البشرية، وهذا يؤدي إلى الموت الحتمي للحضارة الغربية؛ لأنها امتزجت بمن هم أدنى منها، ويلغي بذلك الحرية الإنسانية، وقدرة الإنسان على تشكيل مصيره. ولم يلقَ «جوبينو» ذيوعًا في فرنسا، ولقيَ شيوعًا في ألمانيا، ومهَّد للنازية. وقد عبَّر «هتلر» عن ذلك في كتابه «كفاحي»: «جميع ثقافات الماضي قد اختفت؛ لأن الجنس الخلَّاق الأصلي مات بسبب تلوث الدم.»

يقدِّم المؤلف بعد ذلك التشاؤمية التاريخية كما تتمثَّل في «رانكه»، و«بوركهارت»، فهما اتجاه متشائم بخصوص المستقبل؛ لأنهما يريان أن الحاضر يقوم بعملية تفكيك منظمة لمنجزات الماضي الخلَّاق، حيث يعتقد كلٌّ منهما أن مهمةَ التاريخ هي تحليل وتأمُّل الماضي؛ لأن الماضي هو تجسيد لحالة التوازن التام. ولذلك فإنَّ كل شيء ينهار إذا لم يُصلح النظام نفسَه على نحو ما. والتشاؤم يتحوَّل هنا إلى جبرية، ويصبح الخيار الوحيد هو الاستسلام والانسحاب، وما يحدِّد حالة المجتمع عند «بوركهارت» هو حالة النظام الاجتماعي الأكبر إذا كان في حالةِ نموٍّ وتطوُّر، أو كان قد وصل إلى نضج أكثر مما ينبغي فيؤدِّي هذا إلى تفسُّخ داخلي، الأمر الذي يميِّز نهايةَ النظام القديم وبداية نظام جديد. ويعتقد «بوركهارت» أن كل المجتمعات والحضارات عبارة عن توازن ديناميكي بين ثلاثة عناصر أو ثلاث قوًى اجتماعية؛ اثنتان أخذهما من «رانکه» وهما الدين والدولة، والثالثة هي الثقافة، أو ما يسميه التنوير «نمط السلوك»، تلك العملية التي يتحوَّل فيها النشاط التلقائي إلى فعل محسوب. وكل عنصر من العناصر السابقة يتبع مسار النمو والازدهار والانحلال، وعندما تتصادم العناصر الثلاثة تنتج عنها أزمات دورية، ولم يهتمَّ «بوركهارت» بالأخلاق؛ فالمجتمعات والدول لديه موجودة لتحقيق أهدافها ككيانات جماعية، وهي تقف بمعزل عن الأخلاق؛ ولهذا فإن «نيتشة» هو الذي تابع الطريق لأنهما تقابلا في «بازل» (۱۸٦۹)، واتفقا مع «إدوارد فون هارتمان» بأن عالم المستقبل سيكون عالمَ ثراءٍ ماديٍّ وجذبٍ روحي. و«نيتشة» يعتقد في أعماله الناضجة أن الحضارة الأوروبية يمكن إنقاذها، ولكن ليس من خلال فلسفة «بوركهارت»، ولكن من خلال ثورة تعكس اتجاهَ الحياة بخضوع البرجوازية والجماهير لنخبة جديدة، وقد قال ذلك حين كان تحت تأثير موسيقى «فاجنر»، الذي وجَّه «نيتشة» وجهةً جمالية، عمَّقها بعد ذلك معرفته بالفيلسوف الألماني «شوبنهاور»، حيث يمكن للفن — ولا سيما الموسيقى — أن يحقق ما عجز المجتمع عن تحقيقه للأفراد، ورأى «نيتشة» أن أوبرا «فاجنر» سوف تُنقذ حداثةً فاسدة عن طريق مزج التطهير العاطفي بالتجربة الموسيقية السامية، بالطقس الأسطوري، أي خلاص أوروبا من خلال موسیقی «فاجنر». ولذلك نشر كتابه عن مولد التراجيديا، وهو كتاب يبدو من ظاهرِه أنه عن الدراما، بينما هو في حقيقته احتفالٌ برؤية «فاجنر» للعلاقة بين الفرد والمجتمع. وبيَّن «نيتشة» في أعماله التالية أن المجتمعات الحديثة محكومٌ عليها بالفناء بما فيها من تحلُّل وضعف، وكل أمة أو حضارة هي وحدة ديناميكية من القوى والقوى المضادة، تقوم كلٌّ منها بموازنة أو إزاحة الأخرى طول الوقت، وأفضل ما يمكن فعلُه هو أن نُواجه طبيعتنا الموروثة، ونغرس في أنفسنا عادةً جديدة وغريزة جديدة لكي تضمحلَّ طبيعتُنا الأولى، فلكي يتحرر البشر من أَسْر هذا الحاضر المحتضَر، لا بد أن يندفع البشر نحو ثقافة جديدة وغرائز جديدة يقوم بها نخبةٌ مثقفة تُنتج ثقافةً حقيقية تُدير ظهرها لكل ما هو مادي. وبيَّن أن الفن يمكن أن يقوم بدور جوهري في ذلك، وذلك حين ميَّز بين الروح الديونيسية والروح الأبوللونية؛ فقد كان «نيتشة» يرى أن أوبرا «فاجنر» تُحقق عودةَ الإنسان إلى الوحدة الكلية الأصلية، من خلال عالم الثقافة التراجيدية التي تقبل كلًّا من العجز والتفوق الإنسانيَّين. وقد انقلب «نيتشة» بعد ذلك على «فاجنر» وأعاد تقييمَ فنِّه في كتابه: «إنساني … إنساني أكثر مما ينبغي»، ووصل إلى أن أوروبا الحديثة فقدت قوةَ الحياة الدافعة لخُلق قيِّم وخصوبة تؤدي إلى ثقافة قوية حقًّا. و«قوة الحياة» تلك، يُطلق عليها نيتشة «إرادة القوة». كما اكتشف «نيتشة» أن الجذر التاريخي لتفسُّخ حياة الحداثة ليس هو تمازج الأجناس، (رغم أنه لم يستبعده كقوة مساعدة)، وإنما هو مولد الأخلاق، وفلسفته هي احتفال بإرادة القوة، وهي تعني لديه حقيقةَ الحياة والعالم، وهي تجسِّد «غريزة الحياة»، والحضارة كلها من صنع أصحاب القوة الذين يمتلكون إرادةَ قوة لا تُقهر، وهم الآريون: وهو نفس مصطلح «جوبینو»، وهم الذين يخلقون القيم التي تسود المجتمع، لأنهم يملكون القوة والسيطرة. والأخلاق هي من اختراع الطبقة الضعيفة لكي تحميَ نفسها من الغزو الذي يُمجِّده «نيتشة»؛ ولذلك فإنَّ الأخلاق لديه نسبية؛ لأن هناك أخلاقًا للسادة وأخلاقًا للعبيد، والأخلاق بالمعنى المثالي تنفي الحياة، وهذا الاستنتاج ليس مجردَ حكمٍ أخلاقي أو فلسفي ولكنه حكمٌ تاريخي؛ لأنه يرى أن انهيار الحضارة ليس حركةً للخلف نحو حالة بدائية كما يعتقد «بورکهات»، وإنما حركة نحو الأمام، نحو التفسُّخ واللامعنى. وهو يرى أن الغرب الحديث مريض، وقد عبَّر عن هذا في كتابه «جينيالوجيا الأخلاق»، وقد عبَّر «نيتشة» عن نهاية الحضارة في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت»، حيث يصف موتَ الإنسان الغربي وضياع الإيمان.٢٤

إن المتشائم الثقافي النيتشوي يرى أن الحاضر مجرد امتداد لقيم الماضي الفاسدة التي لا معنًى لها في ذاتها، وينبغي رفضُ الاثنين معًا، الماضي والحاضر، وترك العالم يتفسَّخ لكي يُفسحَ الطريقَ لشيء جديد تمامًا، ولنظام ثقافي جديد، وهذه الرؤية قد أثَّرت على نقاد الثقافة والفنانين، الذين وجدوا في أنفسهم قوةً مضادة للنظام الاجتماعي المتفسخ؛ ولهذا كان المفهوم النقدي هو المرحلة الأولى في إعادة تقييم كل القيم؛ ولذلك يتكرر ذكرُ «نيتشة» لدى معظم الفنانين المعاصرين الذين يسخرون من المجتمع الحالي، ولا يرَون في نهايته مأساةً بل ولادة لعالم جديد.

ثم يقوم المؤلف باستعراض نظرية الانحلال في النتاج الثقافي، وهذه النظرية أصبحت موضوعًا للنقاش لدى السياسيِّين في أواخر القرن التاسع عشر. واعترف الليبراليون أن التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية للحضارة الحديثة لم تَعُد تمثِّل تقدُّمًا بل العكس، ولا بد من التدخُّل من قِبَل العالم الحديث وسلطة الدولة للحد من التدهور، فبدأت تظهر النظريات التي تبحث عن الأسباب العلمية للظواهر السلبية مثل العنف والإجرام. فظهرت أبحاث «لومبروزو» عن العلاقة بين تكوُّن الدماغ والسلوك الإجرامي؛ وذلك حين لاحظ تشابهًا بين جزء من جمجمة مجرم شهير وبين الحيوانات الدنيا بما فيها القوارض، وقدَّم خصائصَ جسمانيةً وسلوكية للمجرم. وظهرت أيضًا أبحاثُ «دارون» ونظريته البيولوجية التي أكَّد فيها على أن جميع الأجناس بما فيها الإنسان تتطور من خلال الانتخاب الطبيعي؛ فالبقاء للأصلح طبقًا لقدرته على التكيُّف مع البيئة، وهذا التطور لم يَعُد ثابتًا أو غير قابل للتغيُّر، فإن نوعًا من الأنواع يجد نفسه عند نقطة معينة من تاريخه، يُخلي مكانه لنوع آخر أفضل منه تكيُّفًا مع البيئة الموجودة، أو أن الظروف الخارجية قد تتغيَّر فجأةً وبشدة لتجعل خواصَّ هذا النوع التكيُّفية غير صالحة للحياة، وهذا ما تؤكده الحفريات المكتشفة للديناصورات؛ فقد انقرض الديناصور رغم قوته الشديدة؛ لأن خواصَّه لم تَعُد صالحةً. وهذا المعنى ينطبق أيضًا على المجتمع الحديث؛ حيث سقطت الإمبراطورية الرومانية رغم العظمة المفرطة. فالتطوُّر يمكن أن يكون عودةً للأسلاف القدامى، ويمكن أن يكون تقدُّمًا للأمام. وقد حسب علماء الوراثة احتمالات ولادة نسل متوحش مثل «مورسيللي»، فبيَّن أنها لا تزيد عن حالة واحدة كل ثمانية ملايين حالة، ولكن ماذا لو أن ظروفًا محدَّدة أظهرت كل الصفات المفقودة فجأة، وفي النوع بكامله، والتي سوف ينقلها إلى ذريته؟ وهنا ستعمل عملية الوراثة فجأةً ودون تفسير ضد مصالح الأنواع، وتصبح عملية الانتخاب الطبيعي فخًّا وتُنتج أسوأ سلالة بشرية قريبة من حالة فوضى الشعوب.

وهذا يعني أن مصيرَ الإنسان يتحدَّد عن طريق عمليات بيولوجية خفيَّة، قوانين صامتة لا تكفُّ عن العمل، وهي تحكم المجتمع بسلطة أكبر من القوانين التي يسنُّها المجتمع، وأصبحت هناك صورة تُؤرِّق الخيال الليبرالي، ألا وهي أن بداخل كل إنسان وحشًا نائمًا، يمكن أن يقفز فجأةً من خلال التناسل وقوانين الوراثة.

وقد تطوَّر الأمر ليرى «موریل» أن العوامل البيئية يمكن أن تكون أكثرَ أهمية من الوراثة في إطلاق عملية الانحلال؛ لأنها تفسِّر ظهور الانحراف الاجتماعي. فالبيئة الحديثة تُرهق أعصاب البشر وتجعلهم أكثر ميلًا لارتكاب أعمال لا عقلانية بما فيها الجريمة، والمجرمون هم مرضى الحضارة المعاصرة، وقد قدَّم «إميل زولا» مجموعةَ روايات تدرُس بشكل عملي الانحلالَ والتداخل بين الوراثة والبيئة.٢٥ وقد عبَّر الأدب عن هذا من خلال نوعَين أدبيَّين هما الرواية البوليسية ورواية الرعب؛ مثل رواية «دكتور جیکل ومستر هاید» للكاتب «روبرت لويس ستيفنسون» التي صدرت عام ۱۸۸٦، والتي تقدِّم الازدواجيةَ التطورية للإنسان الحديث، الذات المتحضرة التي تتمثل في «جیکل»، الذي يواجه فجأةً ذاته المرتدة للأسلاف المتوحشين «هاید»، والمواجهة بينهما هي تعبير عن أن الحضارة تعتمد على كبح الحيوان في داخلنا. وهذا شبيه بما وصل إليه «فروید» بعد ذلك في أبحاثه، وشبيه بما وصل إليه «ماکس نوردو» في كتابه «الانحلال»، الذي بيَّن فيه أن كلَّ الشخصيات الرئيسة في ثقافة نهاية القرن كانوا ضحايا حالات عقلية ذاتية؛ فالفنان الحديث المنحل مثل قرينه المجرم يفتقَّد الحسَّ الأخلاقي، وأعمالهم كلها يتخللها الاسترسال العاطفي والهيستريا بالإضافة إلى السأم، ذلك المرض القديم للرومانتيكية. وبيَّن أن التشاؤم هو الفكرة الأساسية للعصر، وأن الترف والتقدم الصناعي قد دمَّرَا الحيوية والثقة بالنفس مُخلِّفَين قافلةً من المنهارين عصبيًّا والمنحطِّين أخلاقيًّا.
وقد بيَّن «فروید» أن العقل البدائيَّ غيرُ قابل للفناء؛ فالبدائي والوحشي يظلان جزءًا من الذات الفردية على شكل «الهو» ID، والإنسان يمكن أن يرتدَّ في أيِّ لحظة إلى هذا الجزء؛ ولذلك فالأسطورة والطقوس اللاعقلانية لم تختفِ من المجتمعات المتحضرة؛ فالمتحضر في رأْي «فروید» يحتفظ بالغرائز الأساسية لوجوده البدائي، والحضارة تُعطي الأفراد شعورًا بالاستقلال والمكانة في مجتمع أكثر نظامًا وأفضل أخلاقًا، ولكن يمكن أن يَصِل الإنسان إلى لحظة لا يستطيع فيها أن يقهر غرائزه؛ لأنه يؤدي إلى اختفاء حيويته فيعود إلى المكبوت، وهذه العودة للبربرية يمكن أن تحدث للفرد أو للمجتمع ككل. وقد بيَّن هذا في كتابه: «الحضارة وما تُثيره من قلق»؛ لأن الكبح الذاتي الذي تقوم به الحضارة للغرائز يمكن أن يؤديَ إلى اختفاء الإنسان، أو انطلاق القوى الكامنة فيه، ولهذا فإن تجربة «فروید» فرضَت سؤالًا مهمًّا: إلى أيِّ مدًى سوف ينجح التطوُّر الثقافي في السيطرة على اضطراب الحياة الاجتماعية الذي تُسببه غريزة العدوان وتدمير الذات؟

في الجزء الثاني من الكتاب يقدِّم المؤلف معالجةً مختلفة عن الدراسات والنظريات التي تنبَّأَت باضمحلال الغرب، ابتداءً بنظرية المؤامرة، وانتهاءً بالدراسات التي قدَّمها فلاسفة التاريخ التي يفسِّرون من خلالها اضمحلالَ الغرب. وقد بدأت هذه الدراسات بمحاولات أولى تُقدِّم نقدًا للحضارة الغربية الحديثة نجدها في أعمال «هنري آدامز»، الذي انتقد كلَّ أشكال الفساد في الكونجرس والنظام السياسي والحياة الاقتصادية التي يرى أنها عبارة عن طبقتَين: طبقة تسرق، وطبقة مسروق منها. وقد أعلن خوفه وقلقه على المستقبل، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ويمكن تغيير هذا بإعدادِ جيلٍ جديد مزوَّدٍ بالعلم والقيَم الجديدة التي توجِّه المجتمع نحو المستقبل.

ويعود المؤلف إلى دوره كمؤرِّخ للحياة الأمريكية وتطوُّرها، حتى كانت أزمة ۱۸۹۳، وظهور الدراسات التي تدرُس عوامل الاضمحلال والانحلال في المجتمع الأمریکي.

وهي دراسات تعتمد على النظرة العِرقية؛ ولذلك يبدو الحل في إعادة الزنوج الأمريكيِّين إلى أفريقيا والمحافظة على النقاء العِرقي، وهذه النظرة العنصرية سادَت الدراسات الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يقلب هذه النظرية سوى «دو بوا» الذي بيَّن أن الملونين يتمتعون بقدرات عقلية إبداعية وأنها ليست وقفًا على البيض، واستفاد من الاستشراق في عرض نظريته.

ويقدِّم المؤلف تحليلًا لفلسفة «شبنجلر» عن «أُفُول الغرب»، ويستعرض المناخ الثقافي والعلمي الذي كان متاحًا في ذلك الوقت ليخلُصَ إلى أن كتاب «أُفُول الغرب» لم يكن عملًا أصيلًا، وإنما هو تلخيص للتشاؤمية التاريخية والسخط الثقافي الذي ظهر في أعمال «نيتشة». واعتمد «شبنجلر» بشكل أساسي على تراث النقد الثقافي للحضارة الغربية، كما اعتمد على نظرة القرن التاسع عشر العضوية والتي مزجَها بفلسفة «نيتشة»؛ فقد نظر للحضارة نظرةً بيولوجية، وبالتالي فقد جعل مصيرَ الحضارة هو نفس مصير الخلية الحية. وينتقل بعد ذلك إلى «توينبي»، وهو لم يكن فيلسوفًا ولكن مؤرخًا كتَب تاريخَ البشرية كلَّه من مصر القديمة حتى العصر الحالي، وحاول أن يعرف السبب الذي يؤدي إلى زوال الحضارات واندثارها، وكتب مشروعه متأثرًا بالمناخ الثقافي؛ حيث نشر «ماثيو أرنولد» کتابَ: «الثقافة والفوضى»، و«ت. س. إليوت» وقصائده التي تعبِّر عن أزمة الغرب الثقافية، ونبذ منظور المركزية الأوروبية الذي كان يضع الحضارة الأوروبية في مركز عملية التقدُّم الإنساني، وقدَّم نقدًا لمعظم النظريات السابقة التي تفسِّر التاريخ وعوامل التدهور في أي حضارة، وقدَّم نظريته: «التحدي والاستجابة»؛ حيث يرى أن جميع الحضارات الكبرى تحرَّكت بلا وعيٍ نحو هدف واحد هو «تقرير المصير»، وهو مفهوم ثقافي واجتماعي أكثر منه سياسي، ويعني أن حضارةً ما تُحقق هويةً فريدة واعية بذاتها، من خلال شعور أفراد هذه الحضارة بالهوية والهدف، واعين بالكيان الكلي، وتقرير المصير هو نتاج وثوب روحي يحرِّك كل حضارة من خلال التحديات التي تواجهها إلى استجابة وإلى تحدٍّ أبعد، هذا ما يشكِّل اتجاهَ الحضارة ككل. ويرى «توينبي» أننا نعيش في ظل علامات سقوط الحضارة، والسبب يرجع إلى أن الأفكار الأخلاقية التي كانت الحضارة تقوم عليها أصبحت هائمةً في العالم يضربها الفقر. وقد استمد «توينبي» نظريته من الفكر الصيني عن «الين»، و«اليانج»، وفسَّر بها نشأةَ الحياة وتطوُّرها، واعتمد على منظور أخلاقي مسيحي في رؤيته لمصير الحضارة الغربية. ويغلب على أعمال «توينبي» التحليل التاريخي للحضارة، لكننا لا نجد نظرية، وإنما نصائح أخلاقية، ولعلَّ هذا ما جعل الكثير من المفكرين العرب أن يتبنَّوا هذه النظرية، لا سيَّما بعد زيارة «توينبي» لمصر في السبعينيات، وقدَّم رسالةً للشباب بوصفهم قادةَ المستقبل، والمؤلف قد توقَّف عند أعماله؛ لأنها تماثل تجربته في الكتاب، فكلاهما مشغول بمستقبل الغرب …

وفي الجزء الثالث الذي يُطلِق عليه المؤلف: «انتصار التشاؤمية الثقافية»، يعرض الشخصية النقدية التي تتمثَّل في «مدرسة فرانكفورت»، التي قدَّمت نموذجًا جديدًا في النقد الثقافي، وكان سؤالها الرئيسي: لماذا ينتهي الغرب؟ واستعرض إجابات «تيودور أدورنو»، و«ماکس هورکهایمر»، و«فرانز نيومان»، و«إريك فروم»، و«هربرت مارکیوز». وهذه الإجابات لم تكن تقليدية؛ لأنها تغاضَت عن الماركسية القديمة في التقدُّم والعقلانية العلمية، ولأنهم اعتمدوا في تحليلاتهم على فكر «فروید»، و«نيتشة»، وكلاهما يُبرِز الآثار المشوَّهة التي تتكبَّدها الإنسانية في مقابل انتصاراتها التكنوقراطية.

وقد أسَّس نُقَّاد «مدرسة فرانكفورت» صورَ ولغةَ نظريةِ انحلال المجتمع الغربي، ودرسوا كلَّ مظاهرها في برنامجهم الفلسفي؛ فدرسوا التفسُّخ الاجتماعي، والجريمة والجنون والتسلطية، وانحطاط الفنون، وقدَّموا نقدًا للتنوير في صورته الأولى، وطالبوا بالتخلي عن نظرة للحياة تؤكد قدرةَ الإنسان على استخدام المنطق والعقل للوصول إلى كل الحقيقة، وخلقت «مدرسة فرانكفورت» نمط المثقَّف الناقد للهجوم على شرور الحضارة الغربية وكشفها، وقد تأثروا ﺑ «جورج لوكاتش» في دراسته عن التاريخ والوعي الطبقي التي بيَّن فيها أن انتصار الطبقة العاملة سوف يحلُّ تناقضات الحداثة، ولكن «هورکهایمر» جعل المثقَّف يحلُّ محلَّ العامل في فلسفة «لوكاتش»، وقد مدَّت «مدرسة فرانكفورت» مفهومَ النقد ليُعيدَ النظر في كل الأفكار في الحضارة الغربية بما فيها مصادرهم الثقافية، فأعادوا قراءة «ماركس» وأعادوا بناء عناصر فلسفته في فهم الرأسمالية المعاصرة من أجل دراسة ديناميكيات الانحلال والتفسُّخ في المجتمع المعاصر، وركَّزوا على المخطوطات الاقتصادية والفلسفية ﻟ «ماركس» التي تُشخِّص أعراضَ الاضمحلال الثقافي الحديث، وساهموا بذلك في ذيوع مفاهيم الاغتراب والثقافة الاستهلاكية والتسلُّطية وأشكالها وعلاقاتها المرتبطة بأدوات الاتصال الحديثة مثل أجهزة الإعلام كالتليفزيون ودوره في الهيمنة والسيطرة الثقافية، وتحدَّثوا عن التشيُّؤ، ونقدوا الأساس المنطقي والفلسفي للتكنولوجيا.

ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الفلسفة الفرنسية ليتحدَّث عن التشاؤمية الثقافية كما تمثَّلت في ثلاثة مفكرين، هم «سارتر»، و«ميشيل فوكو»، و«فرانز فانون»، فقدَّم الأصول الفكرية لفلسفتهم التي تتمثَّل في «هنري برجسون»، و«ألكسندر کوجیف»، و«مارتن هيدجر».

ويتوقف في نهاية الكتاب عند موجة التعددية الثقافية والتشاؤمية البيئية، والفلسفات الجديدة التي تؤكد اضمحلال الغرب، ويتبيَّن لنا خلال هذا العرض لتاريخ فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، أن المؤلف يؤرِّخ للأحداث الكبرى في الغرب وما صاحبَها من فلسفات مردِّدًا النقد الثقافي للحضارة الغربية، حتى تحوَّل الكتاب إلى موسوعة لهذا الفكر الغربي وتياراته البارزة في فلسفة التاريخ حول الاضمحلال والتقدم. وقد عرض لصيغتين من صيغ التشاؤم، وهما: التشاؤم التاريخي، والتشاؤم الثقافي. المتشائم التاريخي يرى مزايا الحضارة الغربية واقعةً تحت هجوم شرس ومدمر، ولا تستطيع التغلب عليها، بينما المتشائم الثقافي يزعم أن ما يتهدَّد الحضارة الغربية ينبع من داخلها ومن نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي، والمتشائم التاريخي يرى أن مجتمعه على وشك أن يدمِّر نفسه، بينما المتشائم الثقافي يرى أن الغرب يستحق التدمير لكي تولدَ حضارة جديدة من الرماد.

لقد استعرض المؤلف (كما يظهر من الببليوجرافيا) كلَّ الأسماء البارزة في تاريخ الفكر الغربي؛ لكي يوضح مسار الفكر الأوروبي في التعرُّف على أزمته الداخلية، لكنَّه لم يقدِّم رؤيةً جديدة خاصة به سوى هذه المعالجة التي تتضمن بُعدَين رئيسيَّين في آنٍ واحد: الأول رسم صورة لفكرة الاضمحلال في تاريخ الفكر الغربي، والثاني استعراضه للتاريخ الذاتي الثقافي للغرب في ترابطه العضوي، فهو كل تاريخي غیر منفصل الارتباط. ويعترف المؤلف صراحةً في خاتمة الكتاب بأن توقُّع مستقبل الغرب وأمريكا هي مشكلة لا حلَّ لها، ولا يمكن إصلاح المجتمع الغربي إلا بإصلاح جذري شامل للمجتمع والثقافة ككل. ورغم التشاؤمية الظاهرة في كثير من الاتجاهات إلا أنها صنعت أكثرَ من مجرد توازن مضاد للتفاؤل الساذج بشأن المستقبل، والتشاؤم والتفاؤل وجهان نقيضان للفكر الذي يهتم بمستقبل الغرب.

هذا الكتاب يجعل القارئ يتعرَّف عن قرب على الاتجاهات المعاصرة، مثل: الإيوجينيا (تحسين السلالات)، والعنصرية، والتشاؤمية العِرقية، والفاشية، والحداثة، والتعددية الثقافية، والنسوية، رغم أن المؤلف يرى أن كلَّ هذه الاتجاهات تنتمي للقرن الماضي ولا تنتمي لعالمنا الحاضر؛ لأن هؤلاء الذين تحدَّثوا باسم هذه الاتجاهات هم نتاج نظرة للمجتمع تشكَّلت ملامحها في القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن هناك اتجاهاتٍ كامنةً داخل المجتمع الغربي نبعت من خلال القرن العشرين، لكننا لا ندري عنها شيئًا؛ مثل بيان مفجِّر القنبلة الذي عثر عليه البوليس بعد موته، وهذا يعني كذلك أن الفكر الغربي المعاصر لا يزال أسيرَ رؤًى سابقة، وأن الإبداع الأدبي والفني يكشف عن الخطابات الفلسفية في الغرب الآن؛ ذلك لأن الإبداع يمكن أن يعبِّر عن المفاهيم والحالات التي لم تستقرَّ بعد، أو لم يتمَّ التعرُّف عليها.

يبقى أن أُشير إلى الترجمة التي قدَّمها الأستاذ طلعت الشايب، التي تمثِّل إبداعًا من نوع خاص؛ لأنه استطاع أن يجعل هذا العملَ العميق والصعب في آنٍ واحد، ينطق باللغة العربية ويكون مفهومًا بشكل يخلق قدرًا كبيرًا من التواصل مع أفكار الكتاب، واختياره لهذا النص المهم الذي يحتوي إشكاليات الفكر الإنساني بشكل عام والفكر الغربي بشكل خاص هو تأليف غير مباشر؛ لأنه جعل النص مفهومًا باللغة العربية، وكم من الكتب الفلسفية قد تُرجمت، وجعلَت الرجوع إلى النص الأصلي بلغته الأصلية أسهلَ وأدق من التعامل مع الترجمة، بينما في هذه الترجمة المشرقة جعلنا نتواصل مع أفكار الكتاب، وهذا يعني أن المترجم قد رجع إلى المصادر التي أشار إليها المؤلف «آرثر هيرمان»، وهذا واضح من الإشارات التوضيحية التي أشار إليها المترجم في ثنايا الكتاب، وتدلُّ على استيعابه للموضوع، وقدرته الإبداعية على صياغة قضاياه باللغة العربية … وهذا إنجاز ثقافي كبير؛ لأن الكتاب الذي يقدِّمه هنا مصدر من المصادر الرئيسية في تاريخ الأفكار، ويعتبر موسوعةً شاملة في الفكر الغربي، وهذا ليس غريبًا على الأستاذ طلعت الشايب الذي آلى على نفسه ترجمةَ المصادر الهامة للتعامل مع عصرنا وقضاياه؛ فقد ترجم من قبل: «صِدام الحضارات» ﻟ «صمويل هنتنجتون»، و«المثقفون» ﻟ «بول جونسون»، و«حدود حرية التعبير» لمارنيا ستاغ، ورواية «البطء» ﻟ «میلان کونديرا»، و«الملاك الصامت» ﻟ «هينرش بول»، وغيرها من أعمال.

١  أستاذ مساعد بقسم الفلسفة بكلية البنات – جامعة عين شمس، باحث مصري تدور دراساته حول علم الجمال والتحليل الثقافي للأدب، من دراساته: «علم الجمال لدی جورج لوكاتش»، «فلسفة هيجل الجمالية»، «علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت – أدورنو نموذجًا»، «الخطاب الثقافي للإبداع» وغيرها.
جميع الآراء الواردة في هذا الكتاب تنتمي للفكر الغربي. (المترجم)
٢  علم تاريخ الأفكار هو فرعٌ من الفلسفة حديثٌ نسبيًّا، وهو يُعنَى بالبحث في «فكرة ما» في ثقافة معينة وتطور هذه الفكرة؛ ولذلك فإنَّ مصادر علم تاريخ الأفكار، الأدب والشعر ومختلف جوانب الحياة الثقافية. وهو يختلف عن علم الاجتماع المعرفي الذي يبحث في أثر الواقع الاجتماعي في تشكيل الأفكار السائدة في المجتمع، والمؤلف هنا قد تتبَّع فكرةَ الاضمحلال في التاريخ الغربي، ولم يقف عند النصوص الفلسفية فحسب، وإنما حلَّل التيارات الثقافية المختلفة التي اهتمَّت بفكرة الاضمحلال؛ ولذلك تعدَّدت مصادره، مثل: الأسطورة، والأدب والشعر، والدراسات القانونية، والدراسات البيولوجية والفلسفية وغيرها. ومن الباحثين المصريين الذين اهتموا بهذا العلم الدكتور «أنور مغيث»؛ لأنَّ أطروحته للدكتوراه في فرنسا كانت عن علم تاريخ الأفكار ومصادره.
٣  اقتصر عرض المؤلف على النظريات الغربية، ولم يُشِر من قريب أو بعيد للنظريات غير الغربية، فلم يُشِر إلى «ابن خلدون» ونظريته في التعاقب الدوري للحضارات، ولم يُشِر إلى الدراسات المعاصرة في آسيا وبلدان الجنوب.
٤  ساهم كون المؤلف مؤرِّخًا في سلاسة عرض الكتاب، لا سيَّما في المواضع التي يتعرَّض فيها إلى فلسفات صعبة بطبيعتها مثل فلسفة «هيجل»، و«ميشيل فوكو» وغيرهما من الفلاسفة.
٥  يمكن اعتبار الكتاب تمهيدًا للدراسات المستقبلية التي تتناول فكرةَ المستقبل للحضارة المعاصرة من منظور فلسفة التاريخ؛ ذلك لأنَّ التيارات التي عرض لها وتتناول فكرة الاضمحلال، ترى الاضمحلال ضمن رؤية شاملة ونظرية تُفسِّر أحداث التاريخ.
٦  المقصود بالثقافة المضادة أو الثقافة السوداء، الاتجاه الذي يرى عيوب الغرب، ويقدِّم نقده العنيف لكل الممارسات الغربية في الديمقراطية والاقتصاد والاتصال الإعلامي، وقد عبَّرت فلسفة «أدورنو» عن ذلك في الكتاب الذي اشترك فيه مع «هورکهایمر»: جدل التنوير. وبيَّن أنَّ العقل الغربي قد حاول أن يُؤمِّن نفسه ضد عودة ما هو أسطوري أو خرافي؛ وذلك عن طريق تمجيد العلم والتكنولوجيا بشكل مبالغ فيه وأدَّى إلى نتيجة عكسية، فقد انتهى الفكر الغربي بتغريب الإنسان عن الطبيعة وعن نفسه، وقد توقَّفت الثقافة المضادة عند العصر اليوناني الذي قدَّم العقل بجانب الأسطورة: اللاعقلانية والسحر، وحافظ اليونان بذلك على وحدة الإنسان والطبيعة، تلك الوحدة التي حطَّمها المشروع الأبوللوني للفلسفة اليونانية، وقد تواصل هذا في المشروع الغربي المعاصر حيث انطلق العقل ليحاول السيطرة على كل ما يسمى بالآخر، مثل: العلم والقانون والحكومة حتى اللغة نفسها. كل هذه الموضوعات أصبحت أدوات خفض بها الإنسان الغربي التنوُّع إلى تماثل، والتلقائية والعفوية إلى اتساق، والاختلاف مع الآخر إلى موضوعات متعددة الأشكال للسيطرة عليها، والتنوير أطلق على هذه العملية الشمولية اسمَ الحضارة والتقدُّم، إلا أنَّ النتيجة لم تكن التقدم أو إشباع حاجات الإنسان، وإنما الاغتراب حتى عن الأشياء التي يحاولون أن يمارسوا السيطرة عليها!
Adorno and Horkheimer, Dialectic of Enlightenment, trans. J. Cumming, Herder and Herder, New York, 1944, p. 8.
٧  من أبرز مَن تحدَّث عن التشيُّؤ «جورج لوكاتش» Georg Lukács في كتابه التاريخ والوعي الطبقي، وحدد ملامحه وعلاقته بالنظام السياسي والاقتصادي السائد.
٨  هل يمكن أن نُطلق على مجتمعاتنا العربية «مجتمعات التداوي» أيضًا لأنها تبحث عن الدواء لعلاج مشكلاتها دون أن تمتلك خطةً استراتيجية بعيدةَ المدى للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ وفي المجتمعات التي تبحث عن الدواء حين تظهر المشكلة ولا تضع في حسبانها ما يمكن أن يئول إليه الواقع، وقد يرجع هذا إلى أنه لا يمكن التنبُّؤ بأشكال السلطة السياسية في المجتمعات العربية؛ لأنها لا تحكمها المؤسسات وإنما سلوك شخصي.
٩  يبيِّن «ميشيل فوكو» في معرض حديثه عن علم تاريخ الأفكار أنه يمكن أن نتخذ من أي وثيقة من العصر الذي ندرسه مصدرًا للتعرُّف على الأفكار التي تسود هذا المجتمع، وهذه الوثيقة يمكن أن تكون حيثيات حكم في محكمة، أو بطاقة دخول لمستشفى، والمؤلف حين اتخذ من بيان مفجِّر القنبلة مصدرًا لتحليل الاتجاه التشاؤمي في التاريخ العربي كان متسقًا مع علم تاريخ الأفكار، وهذا يقترب من التعبير عن فلسفة رجل الشارع وموقفه من الحضارة المعاصرة.
١٠  يعتبر الوعي الكلي والوعي بالمصير من السمات الجوهرية للمفكر لدى هيجل، و «لوكاتش» وقد تحدَّث «لوكاتش» عنها في معرض حديثه عن نظرية النمط والنمط الأصلي archetype.
١١  إنَّ الحرية المتاحة الآن في الحياة الثقافية الغربية مرتبطة بشروط خاصة؛ فقد بيَّن «أدورنو» ومدرسة فرانكفورت أن التكنولوجيا الحديثة — مثل أدوات الاتصال — قد حوَّلت الفنَّ والموسيقى والثقافة في المجتمعات الصناعية إلى وسيلة للخداع الجماهيري؛ ففي صناعة الثقافة، نجد أنَّ كيان الفرد وهم، فهو — أي النظام السائد الآن — يسمح ويُجيز الأعمال التي تتطابق مع ما هو سائد تمامًا وليست محلَّ شك، وأصبح التكرار في الكلام والحديث صيغةً للحوار، ولا يترك مجالًا للخيال والتفكير.
١٢  هذه العناصر الثلاثة هي ما يميز عصر العولمة أيضًا.
١٣  كل الدراسات الحريصة على استمرار الغرب تنتمي إلى هذا النوع من الدراسات.
١٤  أشار «هربرت ماركيوز» في دراسته: «الإنسان ذو البعد الواحد» إلى الصيغة الحالية من الحصار الإعلامي التي تصبُّ الإنسان في قوالب مُعدَّة مسبقًا، بمعنى التنبُّؤ بسلوك الإنسان الذي يتبنَّى الصيغ التي تلاحقه في كل مكان، وقد وصل التدجين المعاصر إلى طرق ووسائل تستخدم كلَّ إمكانات الحديث لتحقيق أهدافها، وهذا ما نجده بشكل واضح في كتاب: «إنهم يصنعون البشر» الذي كتبَه «فانس بكارد»، وترجمَتْه «زينات المباغ»، وصدر عن سلسلة الألف كتاب الثاني بالهيئة العامة للكتاب (۱۹۹٤)، ص۱۳.
١٥  لم تكن النظرة الميتافيزيقية واضحةً طوال الكتاب لدى بعض الفلاسفة، مثل تحليل «نيتشة» و«هيدجر» الأنطولوجي للزمن، وطبيعة الاضمحلال، فلجأ المؤلف إلى تفسير الموقف من خلال حياة المفكر أو العصر؛ ولذلك جاءت صورة بعض الفلاسفة غامضة ومبهمة مثل الصورة التي يقدِّمها الكتاب لكلٍّ من «نيتشة» و«شوبنهاور»، ويرجع هذا لعدم تخصص المؤلف في شرحه للتشاؤم الميتافيزيقي الناتج عن نظرة للوجود والزمان.
١٦  لم يُشِر المؤلف إلى طبيعة التفكير الأسطوري في الفكر اليوناني رغم أنه ملمح أساسي، وقد أشارت الدكتورة «أميرة حلمي مطر» إلى هذا الطابع في كثير من دراساتها مثل «القيم والحضارة» و«الفلسفة عند اليونان».
١٧  تقوم نظرية الاضمحلال على مفهوم الزمان الدهري، الذي يسير في خط واحد، بينما تقدِّم نظرية التقدُّم مفهومًا لولبيًّا للزمن حيث يسير في دورات متعاقبة ومتنامية كما هو الحال في فلسفة «هيجل»، ولم يتوقف المؤلف عند مفاهيم الزمان المختلفة في الحضارة الغربية، وكان يمكن أن تكون مفتاحًا لرؤية التعدُّد في إدراك الوعي بالمصير؛ ذلك لأنَّ تعدُّد رؤى الزمان تعني ضمن ما تعنيه تعدُّد رؤى العالم أيضًا.
١٨  العلاقة بين الدين والتنبُّؤ: موضوع يهتم بصورة المستقبل في إطار عقائدي وقيمي، لكن تغيب التصورات الدينية عن الكتاب رغم أن الفكر الديني في الغرب أصبح له إسهامات حقيقية في هذا المجال، ويمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب «هانس كينج»: «مشروع أخلاقي عالمي»، ويوضح فيه دور الديانات في تجنُّب المستقبل المظلم للبشرية، وقد ترجم الكتاب: «جوزيف معلوف وأورسولا عساف»، وراجعه «يوسف عساف»، وصدر عن دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، (۱۹۹۸م)، ص۳۰، ويوضح فيه المؤلف أنه لا استمرار لبقاء العالم دون أخلاق عالمية شاملة.
١٩  استخدم المؤلف الفضيلة بالمعنى الذي كان سائدًا في الحضارة الرومانية.
٢٠  وهذا هو المعنى الفولكلوري الذي يسود في المعتقدات الشعبية عن الزمان.
٢١  عبَّر أفلاطون عن نظريته في محاورات عدة: تيماوس وثيتيا بتوس والجمهورية.
٢٢  تأثَّر «فيكو» في نظريته عن التاريخ باليهودية. انظر كتاب «في فلسفة التاريخ» د. أحمد محمود صبحي، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الثالثة، ۱۹۹۰م، ص۱۳۸.
٢٣  عبَّر «هيجل» عن هذا في مقدمة «ظاهريات الروح».
٢٤  هناك تأويلات أخرى لفلسفة «نيتشة» نجدها عند «کارل ياسبرز»؛ حيث يفسِّر فلسفة «نيتشة» بوصفها فلسفةً إيمانية، ويرجع هذا لطبيعة عمل «ياسبرز» بوصفه طبيبًا نفسيًّا قادرًا على تأويل الرؤى في الحالات الإنسانية الحرجة مثل تلك الحالة التي مرَّ بها «نيتشة».
٢٥  تبنَّى «نجيب محفوظ» مفاهيمَ الوراثة في بناء رواية الثلاثية: «بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية»؛ حيث اهتم بالخصائص الجسمانية والسلوك الوراثي لاسيما بين «ياسين» و«السيد عبد الجواد».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤