الفصل السادس

أسود على أبيض

«دبلیو إي بي دو بوا»
W. E. B. Du Bois

«الاحتمال الأكثر معقولية، هو أنَّ المستقبل سيكون على النحو الذي سيصنعه الملونون».

«دبليو إي بي دو بوا»
(الزنجي، ١٩١٥م)

«سيكون يومًا مرعبًا! يوم يُجرِّد السودُ سيوفَهم لكي يقاتلوا من أجل حريتهم … وهو آتٍ … يوم حرب الأجناس …»

(ماركوس جارفي، ١٩١٩م)
في عام ١٨٨٩م، ومع ظهور الجزء الثاني من كتاب «تاريخ الولايات المتحدة» ﻟ «هنري آدمز» في مكتبات «بوسطن»، وصل طالبٌ جامعي شابٌّ إلى كلية «هارفارد». كان ضئيل الحجم، أنيقًا، تبدو عليه الأرستقراطية، ويُجيد اللاتينية واليونانية والألمانية، كما كانت أفكاره السياسية واضحةً وواقعية لدرجة تجعل أيَّ شخص مثل «بروكس آدمز» يُعجب بها. كان مثَلُه الأعلى ونموذجه هو «أوتو فون بسمارك» Otto von Bismarck المستشار الألماني الذي كانت أعماله تؤكِّد أنَّ المرء يمكنه أن يصنع ما يريد إن توفرت له الإرادة. كانت ثقته في نفسه قوية. قال لأحد أساتذته إنه اختار «هارفارد»: «لقد تأكَّد لي أنَّ هذا المجال هو ما يناسبني في الحياة … ربما كان ذلك اعتقادًا غبيًّا … لكنني أعتقد، وبكل إخلاص، أن لديَّ ما يجب أن أقولَه للعالم.» كان الشيء الوحيد الذي يميِّزه عن غيره من الشباب جيِّدي التربية، الذين يتحرَّكون في ساحة «هارفارد»، هو أنَّ «وليم إدوارد بورجهارت دو بوا» William Edward Burghardt Du Bois كان أسود البشرة. «دبليو إي بي دو بوا» يقف عند منبع التفكير المعاصر في شئون العرق والثقافة. وبالرغم من شهرة مارتین لوثر كنج Martin Luther King إلا أنَّ «دو بوا» يظلُّ هو المفكر الأفرو-أمريكي الأعظم؛ حيث يعبِّر انتشار مصطلح «أفرو-أمريكي» عن عظيم تأثيره، فمن خلال عمله الدءوب كعالم اجتماع ومؤرِّخ وصحفي، استطاع «دو بوا» أن يحوِّل «مشكلة الزنوج» في أمريكا من قضية من مخلَّفات الحرب الأهلية، ومن الإقليمية أو الجزئية، لتصبح الافتراض الرئيسي لتفسير الحضارة الغربية كلها، وليس التاريخ الأمريكي فقط. وبفضل عمله ذلك، خلق هوية ثقافية علمانية جديدة للعالم غير الغربي الذي كان يقف موقف المعارضة المباشرة للغرب الحديث.
في عام ١٩٠٣م، تنبَّأ «دو بوا» أنَّ مشكلة القرن العشرين ستكون هي مشكلة «خط اللون».١ وما كان يخشاه «لوثروب ستودارد» تمامًا في كتابه «تيارات اللون المتصارعة»، كان هو بالضبط ما توقَّعه «دو بوا» وما كان يرغب فيه. فما الذي أعطى «دو بوا» كل هذه الثقة في المستقبل؟

كان السبب هو التشاؤم المتزايد بشأن مصير الغرب بين المثقَّفين الغربيِّين أنفسهم؛ فالحضارات الغربية، كما عرف عن طريق أساتذته في «هارفارد» و«جامعة برلین»، كانت مجتمعات في حالة حرب مع روحها ذاتها. وكان المفكِّرون الأوروبيون والأمريكيون على السواء، يُعيدون تجمُّعَهم في وجه مخاوف الانحلال الاجتماعي. «بروكس»، و«هنري آدمز في أمريكا»، «إميل دوركايم»، و«جوستاف لوبون» في فرنسا، «فرانسيس جالتون»، و«بنيامين كيد» في إنجلترا، «أدولف فاجنر»، و«جوستاف فون شموللر» في ألمانيا، (وكلاهما سيكون له تأثيرٌ حاسم على رؤية «دو بوا» الخاصة)، وكثير من الدارسين والأكاديميِّين، كانوا كلهم في حالة مواجهة شديدة مع ما يتصوَّرونه الحدود والسواحل الآدمية لمجتمعاتهم الصناعية الحديثة، والتي كان «دوركايم» يسمِّيها ﺑ «الحضارة المفرطة». كان الجميع يبحثون عن تفسير لما يحدث، ويبحثون عن حلٍّ.

نظرية العرق، سواء في شكلها «الجوبينووي» الجديد، أو قناعها «العلمي»، كانت تُقدِّم الحلَّين معًا. «دو بوا» كتب أعماله في وقت كانت فيه مجالات تحسين النسل والسلالة تجتاح أوروبا والولايات المتحدة اجتياحَ العاصفة. كان لون البشرة قد أصبح علامة دالة على الحضارة أو العكس، وتزايد بشكل كبير عددُ المفكِّرين الذين أصبحوا يقبلون أنَّ البشرة البيضاء كانت تدلُّ على حيوية داخلية والقدرة على دفع الحضارة إلى الأمام … ضد جذب الانحلال الحتمي. وعلى العكس من ذلك، فإن البشرة الداكنة أو «الملوَّنة» (التي كان المراقبون المدقِّقون يعتقدون أنها تضمُّ أيضًا بشرة يهود أمريكا)، كانت تدلُّ على غيبة تلك الصفات أو على الأقل، احتمال فقدانها، وما فعله «دو بوا» على مراحل متنوعة وباستراتيجيات مختلفة، هو أنه قلب تلك المزاعم رأسًا على عقب، وقام بالفعل بمراجعة سلسلة خط اللون، وسواء صاغها على شكل نظرية عن «العشر الزنجي الموهوب»، أو القومية الأفريقية العامة بعد عام ١٩١١م، أو آماله في انقلاب ماركسي على الاستعمار في الثلاثينيات، فإن افتراضات «دو بوا» كانت هي الافتراضات نفسها.

يتمتع الأفارقة والآسيويون والهنود الأمريكيون الأصليون وغيرهم من «الملونين» بقدرات إبداعية وفنية خلَّاقة متميزة، وربما متفوقة على تلك التي لدى أعدائهم وخصومهم ومضطهديهم البيض، فهم يُبدون حيويةً داخلية وإنسانية أكثر عمقًا، وهي التي كان يُطلق عليها معلِّمو «دو بوا» الألمان «روح الحياة» أو Seeleleben، والتي كان «دو بوا» يُترجمها ﺑ «الروح»، وكما تقول إحدى الشخصيات في رواية «دو بوا»: «الأميرة السمراء»:

«الشعوب السمراء هم الأرستقراطية الطبيعية، هم صنَّاع الفن والدين والفلسفة والحياة … وكل شيء»، ثم تُضيف على نحوٍ صريح «فيما عدا الآلة».

كانت نظرة «دو بوا» للعرق أكثر تعقيدًا من ذلك التيار الجامح الذي يقترحه الاستشراق الرومانسي، رغم أنه — كما سنكتشف — كان مدينًا بالكثير لتراث الاستشراق، وبأكثر مما يعترف بعض المعجبين الحاليِّين به. كانت نظرياته على أيِّ حال مؤسسة على ردود فعله ضدَّ الأفكار التي تقول بالتفوُّق الأبيض، والتي كانت ذائعةً في ذلك الوقت، وضدَّ ما كان يراه نتيجة لها: وهو نموُّ الإمبراطوريات الاستعمارية. كان الاستعمار هو المنتج الغربي المائز، النمو الطبيعي لمواصفات الحضارة الغربية. شرور الحضارة الغربية الآن كانت هي شرور الغرب — بما في ذلك الولايات المتحدة، الدولة التي خُلقت وبقيَت بفضل السلف الاستعماري المؤسس — أي العبودية.

في عام ١٩١٤م، كان «دو بوا» وغيره من الوطنيِّين غير الأوروبيِّين مثل «موهانداس غاندي» Mohandas Gandhi، والشاب «ماركوس جارفي» Marcus Garvey في «جامایكا»، ما زالوا يعيشون في عالم، ثمانون في المائة من مساحته خاضعة لسيادة الأوروبيِّين أو ذريتهم. وكانت النظرة الاستشراقية للحرية ما تزال ضعيفةً على الأقل، ولكن ماذا لو كانت تلك السيادة والاستعمار نفسه علامات تدهور واضمحلال للحضارة الغربية؟ كان ذلك هو السؤال الذي طرحه «دو بوا» على نفسه، وفي سعيه للإجابة عنه، أعطى معنًى جديدًا ومختلفًا تمام الاختلاف للتشاؤمية العرقية.

«دبلیو إي بي دو بوا» العرق والحضارة في أمريكا

مثل «هنري» و«بروكس آدمز»، كان «دبليو إي بي دو بوا» من «نیو إنجلند». وُلِد في عام ١٨٦٨م في «جريت بارينجتون-ماساشوستس»؛ حيث كانت تعيش عائلةُ أمه ضمن «السود الأحرار» منذ الثورة الأمريكية. كان السود الأحرار يمثلون ١٢٪ من تعداد السكان الأفرو-أمريكيين، في أمريكا قبل الحرب في كلٍّ من الشمال والجنوب مجتمعين. وبالرغم من أنهم كانوا عرضةً لأشكال مختلفة من التمييز، ولم يكن مسموحًا لهم بالتصويت في بعض الولايات، إلا أنَّ كثيرًا من السود الأحرار كانوا أغنياء ناجحين، وكانوا جزءًا ثابتًا من الحياة المدنية في مدن مثل «بوسطن» و«نيويورك»، وكذلك في مدن صغيرة مثل «جريت بارينجتون». كان أحدُ أجداد «دو بوا» مالكَ أراضٍ ثريًّا،٢ وكان الآخر تاجرًا متقاعدًا في «نيو بدفورد-ماساشوستس».٣ منزل «ألكساندر دو بوا» في «نيو بدفورد» والذي يبدو عليه المظهر الأرستقراطي بما فيه من ترف: (مثل الفضيات اللامعة، وأواني الشراب الكريستال، ومفارش الطاولات اللاسية المزركشة). ظلَّ دائمًا بالنسبة لحفيده النموذجَ المبهر لما يجب أن يحقِّقه السود الناجحون في أمريكا. كانت قضية العرق برمتها في أمريكا القرن التاسع عشر وفي الجنوب تستند إلى الفكرة المعقَّدة، وهي تفوُّق الأبيض كعقيدة اجتماعية، تلك الفكرة التي كان «جیم كرو» Jim Crow يرمز إليها ويخلِّدها. والحقيقة أنه كانت هناك أربعة أنماط من التفكير العرقي منتشرة في أمريكا عندما كان «دو بوا» في طور النمو، وكان لكل نمط منها أصله ومضامينه الاجتماعية. كان الأول هو «خط اللون»، الذي كان ينطبق على كل المجتمعات التي تمتلك عبيدًا وليس في الجنوب الأمريكي فقط. كان يمتد إلى الكاريبي والبرازيل وأمريكا اللاتينية؛ حيث كان التسلسل الهرمي للون البشرة يحدِّد المكانة الاجتماعية. سلسلة كاملة من التقاليد والمحرمات كانت تؤمِّن تلك المجتمعات المحصَّنة طبقيًّا على أساس اللون، تجعل البيض على القمة، وأولئك من ذوي البشرة الأكثر دكنةً في القاع، ولأنها نتاج ممارسة طويلة أكثر منها نتاج نظرية خالصة، فإن تلك التقاليد ستظل حيَّة في أمريكا في العقاب الشديد للانتهاكات العرقية، وعلى شكل هاجس بين كثير من السود الأثرياء للحصول على بشرة بيضاء وشعر غير أجعد، وكان ذلك هاجسًا لم يكن «دو بوا» (وكانت بشرته فاتحة اللون) محصَّنًا ضدَّه،٤ وذلك يمكن فهمه؛ حيث إنَّ خط اللون كان حاجزًا واضحًا وإن كان يمكن المرور منه. وبفضل الامتزاج العرقي، فإن البشرة فاتحة اللون يمكن أن تكون صالحة مثل البيضاء، وكانت النتيجة أن بقيَت فئة من الذرية الزنجية تحمل بشرةً «فاتحة» بما يكفي «لمرورها» من ذلك الحاجز مثل البيض.
كانت هناك طبقة كبيرة وحرَّة من الخلاسيِّين (المولدين) تمثِّل جزءًا من كل المجتمعات التي عرفت العبودية، بما في ذلك أقاصي الجنوب. وبفضل خط اللون، أصبحت هذه الطبقة تتمتَّع بحقوق وامتيازات لا يتمتَّع بها السود غير الأحرار.٥ «دو بوا» نفسه جاء من أسرة فاتحة اللون مختلطة الدماء هاجرت من «هاييتي» إلى «أمريكا». وكانت فكرته في العقد الثاني من القرن العشرين عن «العشر الموهوب» من السكان الزنوج، والذي سيقود جنسه إلى التحرُّر ذات يوم، تعبِّر عن الطموحات القديمة لتلك النخبة الخلاسية.
لقد فرض النمط الثاني من التفكير العرقي، وهو «علم العرق» في الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، والذي شجَّع عليه «روبرت نوكس» Robert Knocks، و«جیمس هنت» James Hunt في بريطانيا، و«جوشيا نوت» Josiah Nott، و«جورج جليدن» George Glidden في الولايات المتحدة.٦ فرض نفسه أيضًا على خط اللون، كان أولئك العلماء يزعمون أنهم قد استطاعوا أن يُثبتوا أنَّ البِيض والزنوج، ومن ثَم السادة والعبيد، كانَا نوعَين متمايزَين تمايُزَ التفوُّق والضعة في الإنسان والقرد. هذا البرهان على تفوُّق الأبيض — والسابق على الدارونية — ظلَّ نظريًّا إلى حدٍّ كبير، وبالرغم من أنَّ نظرة في كتاب «جوشيا نوت»: «أنواع البشر» يمكن أن تجعل مزارعًا ذكيًّا من «كارولينا» يشعر ببعض الرضا، إلا أنَّ الأفكار التي احتوى عليها لم يكن لها علاقة بواقع مجتمع العبيد. ترجمة «نوت» لكتاب «جوبينو»: «فصل المقال في لا تساوي الأجناس» والذي نشره في ١٨٥٩م على حافة الحرب الأهلية، لم يجذب اهتمامًا أو جمهورًا عامًّا. ومع ذلك ظلَّت المحاجة قائمة، وعندما بدأ يزيد التذمُّر الشعبي بخصوص التفرقة في نهاية القرن، بدا أنَّ «نوت» و«جليدن» يؤيدان النتائج التي توصَّلت إليها كتبٌ أخرى أكثر تناولًا للموضوع، مثل كتاب: «الزنجي وحشًا» ١٩٠٠م، من تأليف «تشارلز كارول» Charles Carroll.
النمط الثالث من التفكير، العرقي ظهر في النظريات العرقية عن الغزو والتوسُّع المستمدة من أوروبا، والمستزرعة في التربة الأمريكية بما فيها الأطروحات الأنجلو ساكسونية. كانت تلك النظريات تميل إلى تقسيم الأمم أو «الأجناس» (البيض وغير البيض) إلى الأقوى والأضعف، وبالتالي — وحتمًا — الأرقى والأقل شأنًا. هذه القومية الرومانسية، أصبحت في كثير منها أساسًا للتمييز العرقي في أمريكا الحديثة.٧

ولكن القوة الموجَّهة لها، حتى في أعتى صورها الشوفينية ظلَّت تاريخية دائمًا أكثر منها بيولوجية؛ فمصير «الجنس المؤسِّس» مثل الأنجلو ساكسوني أو التيوتوني، والصراعات العرقية وراء هذا التطوُّر (الفرانك ضد الغال، والنورمان ضد الأنجلو ساكسون، والأنجلو ساكسون ضد السلت، والجرمان ضد السلاف)، كانت كلها قضايا قد استُنفدت في ساحة المؤسسات السياسية والصراعات الجيوبوليتيكية، ومقارنة بأحداث على هذا المستوى، كانت قضية «المكانة» طبقًا للفوارق الفيزيقية، ضعيفةً جدًّا وغير مستقرة لكي يكون لها أيُّ ثقل. وبالنسبة للقومي الرومانسي، فإن لون البشرة يتبع قوانين التاريخ أكثر مما هو العكس.

ولكن هذا النوع من التفكير العرقي الرومانسي، كان له تأثيره على قضايا عرقية محددة بشكل كبير؛ إذ إنه ضغط أفراد الأمة معًا كأفراد متساوين، ضغطًا رافعًا أدنى الأعضاء فوق الحواجز الاجتماعية التقليدية للطبقة أو المكانة الاجتماعية، وصانعًا نوعًا جديدًا من التضامن الديمقراطي. وبينما هدم هذا التضامن الفوارق الاجتماعية بين الوطنيِّين المتساوين، إلا أنه صنع فوارقَ جديدةً ضدَّ الأجانب. وكان «روسو» Rousseau قد توقَّع، بل رحَّب بمثل هذا التطوُّر كجزء من جمهوريته المثالية الحرَّة (المضادة للتنوير). كتب «روسو» في «إميل: أو في التربية»: «أي وطني يكره الأجانب، بين الأجانب. كان «الإسبرطي» أنانيًّا وجشعًا ومخادعًا، بينما كانت الأخوَّة والسلام والوفاق سائدةً بين جدرانه.» هذا التضامن فتح الباب كذلك أمام المنظور العرقي الرابع، والأكثر وعورة وهو «التشاؤمية العرقية»، المستمدَّة من «جوبينو» وأتباعه الألمان، والتي أصبحت أكثرَ حدَّة على يد النظرية الدارونية ونظرية الانحلال. وبنهاية القرن التاسع عشر، كان هذا الضرب من التفكير العرقي الأوروبي، قد شقَّ طريقه في الحياة الأمريكية العامة، وذلك بفضل المشاعر المعادية للهجرة وللسامية؛ فقد أبرز بشكل مخيف، المخاطرَ الكامنة في مجتمع متعدِّد الأعراق. ورغم أنَّ التشاؤمية الثقافية كانت وافدًا جديدًا — نسبيًّا — على الولايات المتحدة، إلا إنها سوف تُقوِّي وتُنبِّه التفكير العرقي التقليدي في كلٍّ من الشمال والجنوب في تسعينيات القرن التاسع عشر؛ فقد أصبح يُنظَر إلى السود على أنهم خطر مباشر على بقاء الحضارة وليس مجرَّدَ بشر في منزلة دنيا.٨ كانت القومية العرقية، مثل الآرية، تستند إلى ماضٍ افتراضيٍّ بعيد، بينما تُشير التشاؤمية العرقية إلى ما يحدث أمام العين مباشرة. وأصبحت قضايا مثل الامتزاج العرقي، أو أحقية السود الأحرار في التصويت، ذات أهمية كبيرة. لم يَعُد الخلاسیون زنوجًا من ذوي البشرة الفاتحة، بل أصبحوا يُعتبَرون «بيضًا منحلِّين» أفسدهم الدم الأسود. وبمجرد أن فرضت هذه الرؤية على طرق النظر الباكرة للجنس، تولَّدت نظرية ثقافية أكثر عرقية مما كانت في أيِّ وقت في التاريخ في أوروبا بعامة، وفي الولايات المتحدة بخاصة. وكانت أفضل روايات «توماس دكسون» Thomas Dixon مبيعًا، والتي تصوِّر «الكوكلوكس كلان» على نحوٍ رومانسي، مثل «رقط النمر: حكاية عن عبء الرجل الأبيض» ١٩٠٢م، و«رجل العشيرة» ١٩٠٥م، وكذلك الإعجاب القومي الشديد بكتاب «دي دبلیو جريفيث» D. W. Griffith «ميلاد أمة» ١٩١٥م كانت كلها تعبِّر عن مخاوف متزايدة من الانتحار القومي. كان قدَر «دبليو إي بي دو بوا» أن ينشأ ويتلقَّى تعليمه إبان وصول تلك النظرة العرقية إلى أَوْجِها. في مدرسته الثانوية في «جريت بارينجتون» درس التاريخ الأمريكي في صيغته الآرية الأنجلو ساكسونية على يد مدير المدرسة «فرانك هوسمر» Frank Hosmer. وفي الوقت نفسه، واجه في جامعة «فيسك»، وهي من معاهد السود الرائدة، أبناء وبنات العائلات الخلاسية — الأفرو-أمريكية — الغنية، الذين كانوا يتلقَّون تعليمًا إنسانيًّا في اليونانية واللاتينية والعلوم والرياضيات، والذين يعتبرون أنفسهم من أعضاء النخبة الاجتماعية مثل أي «براهمن» من «بوسطن» أو «نيكر بوكر» من نيويورك، وحينذاك كانت «الهيرالد» في «فيسك» تُعلن: «نحن لسنا الزنوج الذين سقطت عنهم قيود العبودية منذ ربع قرن، لقد تعلَّمنا كيف تكون مزايا ومسئوليات المواطنة.»٩ وفي العام نفسه، طُبِّقت في فلوريدا قوانين «جیم كرو» الأولى، وسرعان ما انتشرت في الولايات الأخرى في الكونفدرالية السابقة. هذه القوانين ستدمِّر تلك الأرستقراطية الطبيعية السوداء التي زرعَتها «فيسك»، والتي كان ينتمي إليها «دو بوا»، محوِّلة أعضاءَها إلى مواطنين من الدرجة الثانية، تاركةً إياهم تحت رحمة الناخبين البيض الفقراء والدَّهماء، وهي ضربة لن يغفرها «دو بوا»، وسيعود إليها مرةً تلو الأخرى؛ ففي كُتُبه التالية نجد صورةً متكرِّرة لأشكال الامتهان في عربة السكَّة الحديد الخاصة بالسود، والتي كان الأغنياء السود (مثله) يُجبَرون على ركوبها بشكلٍ مزْرٍ، بينما يتنقل عمَّال المزارع البيض بكل راحة، وكما لخَّص المسألة بعد ذلك، كان الشخص الأسود في أمريكا «هو الشخص الذي يسافر في عربات الدرجة الثالثة». استطاع «دو بوا» أن يحتفظ بتلك الصورة النخبوية عن الذات، عندما دخل «هارفارد» بمنحة دراسية. قدَّم نفسه كرجل مثقَّف، وكان مدرِّسه «جورج سانتايانا» George Santayana يسمِّي ذلك ﺑ «التقليد الدمث». كان محافظًا في أفكاره السياسية، وكان قد أطرى على الانتقام العنيف الذي تلا تفجيرَ «هاي ماركت» قبل ثلاث سنوات، والذي كان رجال أمثال «أوليفر ويندل هولمز» Aliver Wendell Holmes، و«وليم دين هولز» William Dean Howells قد احتجُّوا عليه علنًا، ولكنه شديد الحساسية والتعاطف مع قضايا العرق. الربط التلقائي بين معادلة العرقية والأفكار اليسارية لم يكن قد حدث بعدُ. بالنسبة ﻟ «دو بوا» وغيره من ذوي الأفكار المستنيرة بخصوص «المسألة الزنجية»، كانت المشاعر المعادية للسود بشدة مرتبطةً بأفكار الديماجوجيِّين من السياسيِّين مثل «توم واطسون» Tom Watson، وكان من السهل على أعضاء أرستقراطية سوداء طبيعية أن يستنتجوا أنَّ «الديمقراطية السوقية أو المبتذلة» تكشف عن وجهها الحقيقي في جميع قوانين «جیم كرو»، وفي الأعمال الوحشية غير المنطقية للدَّهماء.١٠ لم تفعل «هارفارد» شيئًا لتغيير أفكار «دو بوا» بالنسبة لهذه الأمور أو غيرها، بل على العكس، كان تحوُّل «دو بوا» الفكري وإعادة صياغته الراديكالية للعلاقة بين العرق والحضارة قد بدأ في مكان آخر … في ألمانيا نهاية القرن.١١

«دو بوا» في ألمانيا: (١٨٩٢–١٨٩٤م)

وصل «دو بوا» إلى ألمانيا كطالب منحة دراسية في وقت حرج في تاريخ الأمة الجديدة الموحَّدة. كان «ولهلم الثاني» قد طرد «بسمارك» صنم «دو بوا» القديم، ونصَّب «كونت كابریفي» Count Caprivi مستشارًا. «كابریفي» خفَّض التعرفة الزراعية، وحرَّك الاقتصاد الزراعي الألماني نحو التجارة الحرَّة. كان يجرِّب ما يمكن أن نُطلق عليه اليوم «السياسة الصناعية»، وبرامج الإنعاش الاجتماعي مثل تعويضات العمال والتأمين ضدَّ البطالة. وفي توجُّهها نحو الشئون الداخلية والخارجية، كانت ألمانيا الإمبراطورية تعبِّر عن الثقة ما بعد الليبرالية الجديدة في قدرة الدولة القومية على إعادة تشكيل، أو حتى إعادة تنظيم المجتمع الصناعي. وأصبح «دو بوا» شديد الإعجاب بتوجُّه ألمانيا ما بعد الليبرالي، بل إنه أطلق شاربه مثل الإمبراطور تحيةً لبطله ونموذجه الجديد الذي كان «يهتزُّ طربًا» وانفعالًا لمشاهدته في «أونتردن ليندن» Unterden Linden، وجد «دو بوا» أيضًا أنه كان متحرِّرًا في ألمانيا من ذلك النوع من التمييز العرقي والإهانات الصغيرة التي كان يتعرَّض لها في وطنه، ويجد نفسه مقبولًا في كل مكان كما هو ومن دون مناقشة: طالبُ علمٍ جادٌّ وذكي، يتحلَّى بأخلاق نادرة ونظرات رجولية مثيرة، متحرِّرًا من «اليد الحديدية الصلبة» للتعصب العرقي الأمريكي وكما يقول، اكتشف «دو بوا» في نفسه روحًا استقلالية، ومصيرًا خاصًّا. كتب في مفكرته في فبراير ١٨٩٣م:
هل هي الأنوية — هل هي الثقة بالنفس — أم تراه النداء الصامت لروح العالم؟ ذلك الذي يجعلني أشعر بأنني «ملكي»، وأنَّ تحت صولجاني سیركع عالمٌ من الملوك. دم الأجداد الأسود — الذي وُلِد ملكًا على البشر — يدقُّ في قلبي، أنا عبقري، أو مجنون!١٢
ربما يكون الإحساس الجديد بالحرية الداخلية قد جعله أكثرَ تقبُّلًا للأفكار المثيرة التي كانت منتشرةً بين أساتذته في جامعة «برلین»، وخاصة الأستاذَين اللذَين أسهمَا في تشكيل رؤية ألمانيا الجديدة … تلك الرؤية ما بعد الليبرالية، وهما «جوستاف فون شموللر» Gustav von Schmoller، و«أدولف فاجنر» Adolf Wagner، كانا يقودان جماعةً تُسمَّى «اشتراكيو المقعد»، ترفض ليبراليةَ «دعه يعمل»، وتُنادي «باقتصاد أخلاقي» جديد. وكانوا ينظرون إلى رأسمالية المقاولات على أنها «جشع للمال» بشكل لا أخلاقي مجرَّد من أيِّ شعور بالمسئوليةِ الاجتماعيةِ أو الرقيِّ الأخلاقي.١٣ ومثل الليبراليِّين الجدد في إنجلترا، والتقدميِّين في أمريكا، كانت تُقلقهم تلك الهُوَّة التي تزداد اتِّساعًا بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الصناعي. كان «شموللر» و«فاجنر» والموالون لهما يُشبِّهون باستمرار العمَّال الصناعيِّين الجدد بالعبيد (وقد لمس ذلك وترًا مستجيبًا لدى «دو بوا» بلا شك)، كتب «ك جاي فون رودبيرتس جاجتزو» K. J. von Rodbertus Jagetzow في كتابه «إلقاء الضوء على المسائل الاجتماعية» ١٨٧٥م: «الجوع يعتبر بديلًا تامًّا للسقوط»، و«ما كان يُسمَّى في الماضي «علف الماشية»، أصبح الآن يُسمَّى «الأجور».» وكان اشتراكيو المقعد يعتقدون أنَّ المرء إذا ترك صاحب البنك أو رجل الصناعة يتبع رغباته، فإن جشعه للربح سوف يدفع الطبقات الاجتماعية الأخرى للتوجُّه نحو الثورة والتطرُّف. وكانوا يؤكِّدون — مردِّدين مخاوفَ «بروكس آدمز» — أنَّ هناك حاجةً لقوة تصحيحية … وتلك لا بد من أن تكون هي الدولة الحديثة.
كان «أدولف فاجنر» يدفع بشدة في اتجاه التأميم الكامل للصناعات الألمانية الرئيسية، ولم يكن في تفكيره شيءٌ يُسمَّى بالمؤسسة الخاصة، كل أشكال الإنتاج الاقتصادي تتضمَّن ممارسةَ السلطة العامة، وبالتالي فهي تتطلَّب إشرافًا عامًّا وسيطرة عامة. «شموللر»، الذي أصبح معلِّمَ «دو بوا» الحقيقي في «برلین» كان أقلَّ اقتناعًا بأن «الدولانية»١٤ هي الحلُّ، ولكنه كان على ثقة من أنَّ «السوق الحرة» مؤسسة عفا عليها الزمن. كتب «شموللر» أنَّ اقتصاديات السوق، فضلًا عن كونها انعكاسًا للاحتياجات والرغبات الإنسانية، فإنها تحتلُّ مكانًا صغيرًا ومحدودًا في المشروع الشامل للتاريخ الإنساني. «فكرة أنَّ الحياة الاقتصادية كانت دائمًا عمليةً تعتمد أساسًا على العمل الفردي … لإشباع حاجات إنسانية … هي فكرة خاطئة.»

والآن … كانت هناك حاجة ماسَّة لنموذج بديل للحياة الاقتصادية، «نحن لا نبشِّر بإبطال العلم، ولا بقلب النظام الاجتماعي القائم.» كما كتب «شموللر» في ١٨٧٢م «ولكننا لا نريد أن نسمح للانتهاكات الصارخة أن تكون كل يوم أسوأ من اليوم الذي قبله». إنَّ أزمة طاحنة سوف تضرب الغرب الصناعي إذا لم يُزِل المظالم الصارخة، والتركيز الخاص للسلطة التي يبدو أنها تستتبع الرأسمالية الحديثة.

كانت فكرة «شموللر» عن رأسمالية «دعه يعمل» المحكوم عليها بتدمير نفسها، كانت تروق ﻟ «دو بوا»، كما كان الأمر بالنسبة لأفكار اشتراكيِّي «المقعد» الجذَّابة عن الاقتصاد المخطَّط، و«التحكم العلمي» في الصناعة، كما أثَّرت أيضًا على جيل لاحق من الطلاب الألمان، من بينهم «أوزوالد شبنجلر» Oswald Spengler،١٥ كما فَهِم «شبنجلر» و«دو بوا» أيضًا أنَّ الاعتراضات على الرأسمالية لم تكن كاملة، ولا حتى اقتصادية في الأساس. كان الجميع يرون أنَّ الاقتصادَ الحرَّ قد أدَّى إلى إنتاج ثروة مادية أكبر وسلع وخدمات أكثر من أيٍّ من الأنظمة الاقتصادية السابقة. أما الاعتراضات فكانت في الأساس اجتماعية وثقافية. كان «شموللر» و«فاجنر» يُقلقهما أن يُزيحَ التوسُّع السريع في التصنيع المركز الثقافي في المجتمع الألماني، الفلاحين والحرفيِّين والمزارعين. وهكذا في نقلة غريبة، وجد أساتذة «دو بوا» — وبخاصة «أدولف فاجنر» — أنفسهم، قد أصبحوا الحلفاءَ السياسيِّين لمفكِّرين رجعيِّين مثل «لودفيج شيمان»،١٦ وبالرغم من أفكارهم التقدمية.١٧ وكان ذلك التحالف غير المواتي يعبِّر عن إجماع أعمق بين المثقَّفين الألمان بخصوص الصراع بين الثقافة والحضارة (أو Kultur وZivilisation)، لا مناقشة لأفكار «دو بوا» الخاصة يمكن أن تكون كاملة، بدون فهم لذلك الصراع الأساسي بين المفاهيم، والذي كان مهمًّا ومن صميم التقاليد الفكرية الألمانية، وقد كان في كثير من جوانبه، صورة متطوِّرة من الشقاق القديم بين الفضيلة والثروة أو الفضيلة والفساد،١٨ كانت «Zivilisation» هي عالم التهذيب والذوق الرفيع، ولكنها أيضًا عالم التجارة والمجتمع المدني، وهي مادية وسطحية، وكان الفرنسيون خير مثال على الحضارة، وهم أوَّل مَن سكَّ مصطلح Civilization، أما Kultur فكانت — على العكس من ذلك — روحانية، ويشرحها «جورج سیمل» Georg Simmel عالِم الاجتماع وأحد تلاميذ «شموللر» على النحو التالي: «نحن نتكلم عن الثقافة كلما أنتجت الحياةُ أشكالًا معينة، تعبِّر عنها وتحقِّق نفسها: أعمالًا فنية، دينًا، أساليب تكنولوجية، قوانين وأشياء أخرى عديدة.» عندما تكلَّم «بوركهارت» Burckhardt عن الثقافة كان يقصد ذلك المحدَّد الذي يضمن إنجازات الحضارة بالاستخدام العادي للمصطلح، ولكن Kultur يمكن أن تستخدم أيضًا بالمعنى الأنثروبولوجي، لتعنيَ الموروث الفني والأدبي والمادي لشعب تاريخي أو Volk، وكما يقول أحد المعلِّقين: «مفهوم اﻟ Kultur يحدِّد»، يؤكِّد على الفروق الوطنية وهويات الجماعات والتواريخ.١٩ كان الرومانسيون الألمان الأوائل في ألمانيا مثل «جاي جي هيردر» J. G. Herder يقولون إنَّ اﻟ Volk أنتجوا «ثقافة شعبية» حيَّة، وبالرغم من بداياتها المتواضعة بين المزارعين والحرفيِّين، إلا أنها حدَّدت أو عرفت كل الفن والشعر والملاحم والموسيقى والأساطير الألمانية «الحقيقية».٢٠ كانت ثقافة الشعب إذن تضم بذور اﻟ Volksgeist (روح الشعب) بالنسبة للشعب الألماني، وقد تمسَّك القوميون المتطرفون؛ مثل «بول دو لیجارد» Paul de Legarde بتلك الفكرة، رابطين بين حضارة اليهود وغيرهم من العناصر الأجنبية غير المرغوب فيها، إلا أنَّ — حتى — علماء الاجتماع الجادِّين، مثل: «شموللر»، و«آدولف فاجنر»، و«فردريك راتزل»، و«ولهلم وندت»، و«جورج سیمل» فيما بعد، كانوا كلهم متفقين على أنَّ العصر الحديث كان عصرَ انتصار حضارة سطحية على ثقافة عضوية متسامية، وكان «جورج سيمل» يُعرِّف القرن التاسع عشر كله ﺑ «تفسُّخ وانحراف الثقافة».٢١ وقدَّم «فردیناند تونيس» Ferdinand Tönnies دراسةً مهمة، تُصوِّر التناقض بين أشكال التنظيم الاجتماعي المؤسسة على أهداف مشتركة وتضامن عضوي Gemeinschaft، وتلك المؤسسة على المنافع الشخصية وتطبيق الوسائل لتحقيق غايات معينة أو Gesellschaft، وكان تاريخ الغرب الحديث في رأي «تونيس» يمكن تلخيصه بتقدُّم اﻟ Gesellschaft الذي يرمز إليه بالمؤسسة الصناعية، على حساب اﻟ Gemeinschaft، عالم القرية والمدينة الصغيرة الذي حدث أن كان مهدًا للثقافة كذلك، كما لخَّصت جماعة أخرى من أساتذة الجامعات الألمانية الذين أثَّروا بشدة على «دو بوا»، تلك الصورة الانحلالية للتاريخ الثقافي، هذه الجماعة أو ما يُسمَّى ﺑ «مدرسة ليبزج» للجغرافيِّين التاريخيِّين كانت تضمُّ علماء، مثل: «فردريك راتزل»، و«وندت»، و«ليوفوربينيوس». كانوا يزعمون أنَّ الحداثة Modernity قد جرَّفَت التضامن العضوي الذي كان موجودًا لدى الشعب، كما كان «راتزل» يرى أنَّ المزارع الريفي والحرفي، منهمكان في أنشطة متنوِّعة تُنتج شخصيةً مصقولة تُفرز ثقافة، بينما العامل في مصنع ما في «شتوتجارت» أو منجم في «سيليسيا» مربوط بسلسلة٢٢ «مع الدورة المتكرِّرة للعجلة» في الآلة.٢٣ هذا النموذج من عجلة الثروة يجعله إنسانًا آليًّا لا مشاعر له، والفرد المنتزع من أرضه الأصلية، المقطوع من القوى الاجتماعية التي تحقِّق الصحة الثقافية، يجد نفسه في الصناعة وحيدًا وخائفًا. وعلى طريقته الخاصة جمع «دو بوا» هذه الأفكار من التراث الألماني الأكاديمي، وغذَّى بها قضيةَ العرق في بلاده، كما شجَّعه «شموللر» على العكوف على دراسة «علمية» جديدة عن علاقات الأجناس، ظهرت نتيجتها في أول كتاب مهم له: «زنجي فيلادلفيا»، الصراع بين الثقافة والحضارة يوجد أيضًا في أساس «روح الشعب الأسود»، حتى عندما عدَّل «دو بوا» نظريات «راتزل» ليشرح تجربة السود في المجتمع الأبيض. عند عودته للولايات المتحدة في عام ١٨٩٤م، أطلق «دو بوا» الحياة الفكرية للأمريكيِّين السود في اتجاه شعبي جديد. في حديث بعنوان «الحفاظ على الأجناس» ١٨٩٧م شرح كيف أنَّ التاريخ عبارة عن قصة ثمانية أجناس عظيمة: السلافي، التيوتوني، الإنجليزي الأنجلو ساكسوني، اللاتيني، السامي، الهندوسي، المنغولي، الزنجي، و«أنَّ كلًّا يحاول بأسلوبه أن يطوِّر نموذجه الحضاري الخاص»، السود الأمريكيون يمثِّلون «حرس المقدمة» في ذلك الجنس الزنجي، «جنس تاريخي عريض منذ فجر الخليقة، ولكنه بدأ يستيقظ في الغابات المظلمة في أرض الأجداد الأفريقية»،٢٤ ولكن بينما كانت الأفكار العرقية و«الجوبينووية» الجديدة هجومًا على الحضارة الحديثة في ألمانيا، كان «دو بوا» يعتبر التفرقة العنصرية والحداثة حليفَين، وأصبح مقتنعًا بأن مفاهيم «روح الشعب» Volksgeist، و«التضامن العرقي» يمكن أن تكون وسائل موازنة بالنسبة للزنوج والأجناس الأخرى غير البيضاء، ضدَّ «بياض التيوتون اليوم»، وأنها يمكن أن تُحدِّد الطريق نحو قومية سوداء جديدة.

مصير أسود جلي: «دو بوا» والقومية السوداء

كان القس «ألكساندر كرامل» Alexander Crummell هو الشخصية الأكثر بروزًا وسيطرة على المشهد الأمريكي الوطني الأسود، وهو الذي كتب عنه «دو بوا» فيما بعد: «كان يقف فارع الطول، ضعيفًا، أسود اللون، يبدو عليه الوقار، وحسن التربية الواضح.»٢٥ كان من مواليد نيويورك كأسود من الأحرار. درس في «يیل» و«كمبردج»، وكان — على مدى أربعة عقود تقريبًا — يقود جوقةً من المثقَّفين السود الذين يدعون إلى عودة الأمريكيِّين السود إلى أفريقيا؛ لكي يكتشفوا مصيرًا جديدًا لأنفسهم، ولم يُطلق عليها القارة السوداء. وبينما فشل «كرامل» وأنصاره (الأسقف هنري. م. تيرنر، مارتن ديلاني، إدوارد. دبلیو. بلايدن) في دعوة الهجرة الكبيرة التي كانوا يريدونها، إلا أنهم ألهموا عددًا كبيرًا من المثقَّفين السود الشبَّان برؤية أفريقيا الرجل الأسود القوية مثل الحضارة الأوروبية الحديثة، إن لم تكن أقوى.
وقاموا بنشر القومية الليبرالية المتفائلة نفسها، التي كانت مزدهرةً في دوائر المثقفين الأوروبيِّين والأمريكيِّين قبل عام ١٨٤٨م. كان «كرامل» يبشِّر بما يمكن أن يَصِل إلى صيغة سوداء من «المصير الجلي». كان يقول إنَّ «مبدأ النمو والسيادة في جنس من الأجناس أو أمة أو شعب، هو المبدأ نفسه في أنحاء الكرة الأرضية.» وكما استطاع الأنجلو ساكسون والتيوتون الألمان أن يصنعوا مجتمعًا جديدًا من أرض أوطانهم، فإن التفوُّق المصيري للزنوج «سوف يتقدَّم على خطوط مشابهة في أفريقيا». وكان يتنبَّأ بجنس من «الرجال الملونين المغامرين» من الدولة الحرة في «ليبيريا»، ينشر «الدين وأهداف الحضارة الكبرى» عبر القارة الأفريقية.٢٦ الثقافة الأفريقية المحلية لم تُصِب نجاحًا كبيرًا بميزان «كرامل» عن القيم المتحضِّرة أو بميزان غيره من الوطنيِّين المتحضرين الآخرين.٢٧ كان هدفهم هو رفع جماهير القارة الأفريقية إلى مستوى الوعي الكامل، وكان ذلك يتطلَّب وسيلةً خارجية قوية، سواء كانت سوداء أو بيضاء. وبقدر ما كان يكره الاستعمار الأوروبي، كان «كرامل» يعتبره أفضلَ بكثير من الأحوال البدائية التي كانت سائدةً في أفريقيا قبل وصول الأوروبيِّين. وكان الأسقف «هنري تیرنر» يرى — حتى — العبودية نعمةً بشكل غير مباشر؛ لأنها نقلت السود من العبودية ودفعت بهم إلى العالم الحديث.٢٨
رفض الوطنيون السود في القرن التاسع عشر، مباشرةَ أيِّ مفهوم للتفوُّق الأبيض، وكانوا يؤكِّدون على الكرامة العرقية للسود. وبكلمات الأسقف «هنري تيرنر»: «… إنَّ أيَّ ملوَّن لا يعتدُّ بنفسه وبلونه وبشعره … حيوانٌ مشوَّه الخلقة، لا يستحق الهواء الذي يتنفسه وليس فقط الخبز الذي يأكله.» في الوقت نفسه لم يكن «كرامل» وأمثاله خجولين من الدَّينِ الثقافي الذي كانوا يعتقدون أن السود مدينون به للبيض. كان «كرامل» يرى أنَّ المسيحية والعلم والفلسفة وقواعد السلوك الأخلاقي المتحضِّر، كلها هبات يمكن في النهاية أن تغيِّر حياةَ السود وحياة البيض أيضًا. كان الحديث الأخير الذي ألقاه في أكاديمية الزنوج في «واشنطن» عام ١٨٩٧م، واستمع إليه «دو بوا»، بعنوان «الحضارة، الحاجة الأولية للعرق». قال «كرامل» لجمهوره: «إنَّ السود إذا كانوا يريدون أن يرفعوا أنفسهم إلى نفس مستوى سادتهم البيض السابقين، فلا بد لهم من أن يروِّضوا قُوَى التقدم.» «ترقية وصقل القوانين، إعطاء صبغة علمية للأخلاق والدين، حفز المؤسسات، توسيع التجارة، إقامة صناعات … إحداث ثورات وإصلاحات، أنسنة العمل، الوفاء بأدق احتياجات البشر … وذلك كله من ثمار الحضارة.» وكان ينبِّه محذرًا، من أنه بدون هذا، فإن السود سوف يفقدون مكانهم في «عالم الثقافة والاستنارة».٢٩
تأثَّر «دو بوا» بشكل بالغ بتحذير «كرامل» الذي أوضح أنَّ «السود الأمريكيِّين أمة مهملة في هذا البلد»،٣٠ إلا أنَّ منظوره الجرماني أدَّى به إلى أن يرفض طرح «كرامل» المتفائل بالنسبة للحضارة على الفور. بدا له أنَّ «كرامل» كان يمتدح الحضارة في شكلها السطحي، أما في الحضارة «الحديثة»، فسوف يؤكِّد «دو بوا» فيما بعد «نحن مدفونون تحت أنقاض ثروتنا المادية … الثقافة الحقيقية تعتمد على الكيف وليس الكم.»٣١ ومثلما أضحى الأمل في إقامة وطن على أساس عرقي في أفريقيا التي تسيطر عليها قوًى استعمارية بيضاء يُعَدُّ انسحابًا من الواقع، فإن «دو بوا» وصل أيضًا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ الرجال والنساء السود في أمريكا، أو على الأقل العشر الموهوب منهم، لا بد أن ينظروا، بدلًا من ذلك، إلى القيم الدائمة للثقافة، يجب أن يكونوا إلى جانب «الفكر الأفضل، والمثل العليا البعيدة عن الأنانية»، ضدَّ فردانية «دعه يعمل» المتمثِّلة في «إعلان الاستقلال» و«آدم سميث» وطبقة الأثرياء الحاكمة المجنونة بجمع المال.٣٢ هذا المنظور كان له تأثيره على خصومته مع «بوكر ت واشنطن» Booker T. Washington بخصوص الحركة الزنجية، والتي ارتفعت إلى ذروتها حتى موت «واشنطن» في عام ١٩١٥م. وفي التحليل الأخير، فإن «واشنطن» كان يرى «المشكلة الزنجية» بعيون أمريكية متفائلة، أما «دو بوا» فكان يراها بعيون أوروبية تنتمي إلى نهاية القرن. كان عميد معهد Tuskegee يتصوَّر أمة من السود تُشبه شخصيات «هوراشيو آلجر»،٣٣ تشقُّ طريقها صعودًا من وجود مهمل، مثل ذلك الذي قد عرفه عبر «كرامة ومجد العمل المشترك» والإخلاص لروح رأسمالية. وكان يعتقد أنَّ أساليب وأفكار التفرقة العنصرية سوف تحلُّ نفسها بمجرَّد تغيُّر الواقع، وأنَّ الواقع سيتغيَّر عندما يدفع التقدم الاقتصادي السود ليكونوا على قدمٍ وساق مع بقية المجتمع الأمريكي.
كان «دو بوا» يعتقد أنَّ تركيز «واشنطن» على التقدم المادي من شأنه أن يجعل السود جزءًا من الرأسمالية المدمِّرة للروح، واتهمه بأنه قد خدع «بكلام وفكر النزعة التجارية المنتصرة»، وبأنه باع فكره ﻟ: «مُثُل الرفاهية المادية».٣٤ كما كان يرى أنَّ «واشنطن» قد تجاهل العرق كمصدر لهوية الجماعة. العرق هو الحقيقة المركزية في تاريخ العالم كما أعلن «دو بوا» في عام ١٨٩٧م، ومَن «يتجاهل أو يتخطَّى فكرة العرق في التاريخ الإنساني، إنما يتجاهل أو يتخطَّى الفكرة المركزية في التاريخ كله»، و«روح الشعب» Volksgeist الأفريقية في رأْي «دو بوا» سوف تحقِّق انتصارًا نهائيًّا على الحضارة البيضاء بدل أن تخضع لمطالبها الاجتماعية والاقتصادية.٣٥ إنَّ الحاجة إلى إبعاد الثقافة السوداء عن الحضارة البيضاء، هي السمة الغالبة على كتاب «دو بوا» المهم «أرواح الشعب الأسود» وهي التي تمنحه الحيوية. هذا الكتاب صدر عام ١٩٠٣م إبان ذروة صراعه مع «بروكر ت. واشنطن»، ويقدِّم فيه السود الأمريكيِّين كشعب Volk بالمعنى الألماني، أما كلمة «الأرواح» Volksseele التي جاءت في عنوان الكتاب فيعني بها الروح الجماعية التي كان عالِم النفس الاجتماعي الألماني «ولهم فندت» Wilhelm Wundt يقول إنها هي التي تقرر أو تحدِّد ذهنيةَ الأمة في مرحلة تاريخية معينة. الروح الجماعية تحتوي على ذاكرة جمعية مكوَّنة من الأساطير القديمة والتجارب التي يحتفظ بها الشعب وينقلها إلى ذريته.٣٦
وعند «دو بوا»، فإن الجذر الرئيسي للروح الجماعية للأمريكيِّين السود، هو «الروحانية الزنجية». كانت بالنسبة للأمريكيِّين الأفارقة، مثلما كانت اﻟ belungenlied بالنسبة للتيوتون، واﻟ Odyssey بالنسبة للإغريق، تعبيرًا شعريًّا بدائيًّا عن الدوافع الروحانية للشعب، كاشفة عن قوة داخلية تحمَّلت الاستعباد والاضطهاد.

وكما كان «علماء نفس الشعوب» يوضِّحون، فإن ماضي الشعب الذي يتمُّ تدويره كأسطورة، يمكن أن يُصبح جزءًا من روحه الجماعية، «خبرة الروح». وكان «دو بوا» يقول إنَّ ذلك هو ما حدث بالضبط مع «العبودية»، ربما تكون قد انتهت مع الماضي، إلا أنها كانت وراء كل نشاط ثقافي تالٍ لها بالنسبة للسود. ووجود دم أسود في أمريكا، معناه أنَّ هناك تجربةً روحية مع العبودية (مثلما كانت حالة دو بوا)، حتى إذا لم يكن أحد من أفراد الأسرة أو أسلافها قد عرف الاسترقاق، هذا الإرث الثقافي العبودي «الكسل والانسحاب والارتباك الذي تراكم على مدى عقود وقرون» كان يكبِّل أيدي وأقدام الزنجي الحديث.

كتب «دو بوا»: «… روح الأسود الكادح الذي يبذل عرقه، يُخيِّم عليها بأسٌ طويل» … ولكن «في غابات كفاحه المظلمة قد استيقظت روحه أمامه، ورأى في نفسه مظهرًا من مظاهر قوته، رسالته». والواقع أنَّ «دو بوا» كان يؤكِّد أنَّ للأمريكيِّين السود «روحَين»: «الروح الأمريكية» أو المتحضِّرة، وهي حديثة وقابلة للتكيُّف في وجه التغيُّر، و«الروح الزنجية»، وهي حيَّة ودائمة، وأن يكون دمك أسود معناه أنك تنتمي لثقافة سوداء متميزة عن تلك البيضاء وأجمل منها. «ذلك الجنس ينعم بأعظم هبات الله. الضحك، إنه يرقص ويغنِّي: جنس متواضع، توَّاق للعلم، يحب الرجال، يحب النساء، صريح، واضح، إنساني في عالم متكلف ومنافق».٣٧ كان «دو بوا» يربط بين كل تلك الصفات الخلَّاقة وكلمة «روح». وباختصار، أصبحت كلمة «روح» بالنسبة له، مثلما كانت كلمة Kultur بالنسبة للنقَّاد الألمان، منبعًا دائمًا لجميع البنَى الدينية والاجتماعية والسياسية التي تحدِّد الطريق نحو المستقبل، وبعيدًا عن حضارة أوروبية «مصنوعة» و«منافقة»، لخَّص «دو بوا» مفهومه للثقافة السوداء في كتابه «الزنجي»، الذي نشره في عام ١٩١٥م. وسيرًا على نهج القوميِّين الرومانسيِّين السابقين، كان يتناول أفريقيا ككل ثقافي وتاريخي: تنوعها الجغرافي العظيم، الانتشار العرقي، ما يربو على ألفَي لغة ولهجة منتشرة في القارة … كل ذلك كان قد أصبح قضايا جانبية، وفي الوقت نفسه، فإن أفريقيا هي أكثر القارات «رومانسية ومأساوية»، رومانسية بسبب الشعوب الحيَّة والخلَّاقة التي تسكنها، ومأساوية بسبب المصير الذي حلَّ بها على أيدي تجار الرقيق الأوروبيِّين.٣٨ كتاب «الزنجي»، يقدِّم «السود الأفارقة» كواحدة «من أقدم سلالات العالم وأكثرها مثابرةً وانتشارًا»، مظهرهم النموذجي ليس هو «الزنجي الأسود القبيح ذا الشعر الأشعث المشوش» الذي تُصوِّره الدعاية البيضاء، وإنما تلك النماذج النبيلة الموجودة على هيئة تماثيل في الجناح المصري من المتحف البريطاني، «العين الواسعة الوديعة، الشفاه المكتنزة المعتدلة، الملامح الودودة والحسُّ الطبيعي، ذلك هو النموذج الأفريقي الحديث». والواقع أنَّ النموذج الأفريقي أصبح هو الخلاسي صاحب البشرة الفاتحة مثل «دو بوا» نفسه. «أفريقيا في الأساس هي أرض الخلاسيِّين»، بفضل الامتزاج المستمر بين الأجناس والشعوب في القارة كلها. والأفارقة عند «دو بوا» جنس أرستقراطي حيوي «بسبب» الاختلاط العرقي، أكثر مما هو بالرغم منه.٣٩ كان «دو بوا» يتبع خطوات بعض علماء الأنثروبولوجيا مثل «فرائز بواس» Franz Boas، و«ميلفيل هيرسكوفتش» Melville Herskovitz الذين كانوا في عام ١٩١٥م قد أثبتوا على نحوٍ قاطع ذلك الزعم بأن التقسيمات العرقية ليس لها أيُّ دلالة بيولوجية، ولكن «دو بوا» وجد فائدةً أخرى للعرق أكثر تمركزًا حول الثقافة، مستبقًا الموقف الذي سيتخذه «شبنجلر» Oswald Spengler في «أُفُول الغرب» بعد ثلاث سنوات على الأكثر. قال «دو بوا»: «العرق مفهوم ديناميكي وليس مفهومًا استاتيكيًّا.» فهو «يتغيَّر ويتطوَّر» عبر مسيرة التاريخ من الناحية الفيزيقية، إلا أنه يكون «كتلة … مجموعة اجتماعية متمايزة في التاريخ والمنظر وإلى حدٍّ ما في الهبة الروحية».٤٠ (ويؤكِّد على الجزء الأخير). وهكذا يرى «دو بوا» أنَّ «الزنجي» يقدِّم السلالة العرقية الرئيسية لكل الثقافات العظيمة في الهلال الخصيب القديم، وتلك في أوروبا أيضًا. «بشرة الزنجي «ابيضَّت» بسبب المناخ في أوروبا، بينما أصبحت سوداء في أفريقيا». الزنجي في الواقع هو «جوبينو» مقلوبًا بطنًا لظهر.٤١ أصول الثقافة النقية موجودة لدى الزنجي، وليس لدى الهندو-أوروبي أو التيوتوني. الزنجي يتمتع بنفس الشخصية «المكتملة» التي وصفها «فردريك راتزل» بأنها نموذج لشعب ذي جذور، ويتبدَّى ذلك «الاكتمال» في مهارات الزنجي الحرفية، وقدراته الفنية، وميله للتجارة «الأداة الأساسية الموصلة للحضارة»، والزنجي عند «دو بوا» هو أيضًا تجسيد للقيم الروحية العليا للثقافة ذات المسحة الشرقية، فنُّه وتقاليده الفولكلورية هي انعكاس «للإحساس الزنجي العميق والرقيق، الجمال في الشكل واللون والصوت». ويقول «دو بوا» مقتبسًا عن «ليو فروبینیوس» Leo Frobenius إنَّ «السلوك المهذَّب والكياسة يميِّزان حياة الزنجي»، وإنَّ الزنوج يُبدون «رقة في المشاعر»، و«صراحة وكبرياء وكرامة وإخلاصًا مع كل إيماءة ومع كل طية ثوب». وفي الوقت نفسه، فإن عقيدة الزنجي الأفريقية، الفتيشية Fetishism تتماشى مع حيوية العرق الداخلية «ليست انحطاطًا عديم المعنى، بل فلسفة حياة»، وحيث إنَّ ذلك الدم الزنجي الحيوي قد تمَّ ضخُّه في كل مكان، يستنتج «دو بوا»: «يمكن القول عن حق أنَّ الزنوج كانوا بين روَّاد الحضارة في كل عصر من تاريخ العالم منذ بابل القديمة إلى أمريكا الحديثة.»٤٢ لكن قوى الفساد التاريخية — إذن — كما في أسطورة «جوبينو» الآرية، دمَّرت المركز الحيوي البدئي … أفريقيا كلها. بدأت الوحدة الثقافية الأفريقية الأولى تتداعى. بعد ذلك كان تجار الرقيق من العرب والأوروبيِّين يتدخَّلون في قارة يأخذ بخناقها تزايد السكان والغليان السياسي، أصبحت العبودية الأفريقية التي كانت مجرَّدَ عادة محلية، جزءًا من اقتصاد أوروبا العالمي، وأصبح البشر سلعة تقدِّمها أفريقيا.
تحت ظروف كتلك، كما كان «دو بوا» ينعَى، «يمكن أن تكون هناك نهاية وحيدة: الاجتثاث الفعلي للثقافة الأفريقية القديمة، لتترك بقايا ضبابية بعد تدمير عادات وأعمال الشعب».٤٣ بعد أربعة قرون من الاسترقاق والسيطرة الاستعمارية، وجدت أفريقيا نفسَها في القبضة الحديدية للبيض المسيطرين على «استخدام المنظمة والأرض والشعب، لا لمصلحتهم الخاصة، وإنما لمصلحة أوروبا البيضاء». الآن، كان «دو بوا» يستشعر تغيُّرًا قادمًا.

«تنهض الآن ببطء أُخُوَّة بين الدم الزنجي في جميع أنحاء العالم، ليس ذلك فقط، بل والقضية المشتركة بين الأجناس السمراء ضد الافتراضات والإهانات الأوروبية التي لا تُحتَمل … معظم الناس في العالم من الملوَّنين … الإيمان بالإنسانية معناه الإيمان باللونَين، والاحتمال الأكثر معقولية هو أنَّ المستقبل سيكون على النحو الذي سيصنعه الملوَّنون».

الأمم السمراء ونهاية الغرب

بعد أن انتهى «دو بوا» من كتابه «الزنجي» في عام ١٩١٥م، كان قد أصبح بالفعل شخصيةً مهمة في الدوائر الأفرو-أمريكية. ساعد في إنشاء جماعة NAACP٤٤ في عام ١٩٠٦م، وكان آنذاك قد أصبح محرِّرًا لمجلتها الشهرية، كانت المجلة واسمها «الأزمة: سجل الأجناس السمراء» تعبِّر عن توجُّه فكري جديد … على مدى العقد ونصف العقد التاليَين، كان «دو بوا» يتجنَّب أيَّ مركز نشاط أمريكي يستبعد الآخرين، وأصبح يتخذ منظورًا تاريخيًّا واسعًا بالنسبة لمشكلة الزنوج. وبدا هناك احتمال أبعد من ذلك، وهو وحدة «البنِّي والأصفر والأحمر»، وليس السود فقط؛ لتحدِّي النظام الأوروبي والأمريكي المسيطر، وأنَّ ذلك على وشَك التحقُّق. وتجمَّعت ثلاثة أحداث لكي تشجِّع هذا التفاؤل: الأول هو موت «بوكر تي واشنطن» Booker T. Washington في عام ١٩١٥م ليصبح «دو بوا» قائدًا لا يُنازَع لحركة الحقوق المدنية للزنوج في أمريكا، والثاني الحرب العالمية الأولى والتي هزَّت بشدة وضع أوروبا المتفوق في العالم. أربع سنوات من الصراع المروع والتقتيل (١٩١٤–١٩١٨م) خلَّفت ثمانيةَ ملايين ونصف المليون قتيل من أوروبا، ومن الطبيعي أنَّ «دو بوا» كان ينظر إلى الأمور من منظوره القومي الأسود. كتب في «الأزمة»، وكانت أمريكا على وشك دخول الحرب، إنَّ السبب الأصلي للحرب يكمن في التزاحم الاستعماري على أفريقيا «الصراع الحاقد الجشع للحصول على أكبر نصيب من استغلال الشعوب السمراء». وبحلول الهدنة في عام ١٩١٨م، وتسوية «فرساي» التي أُجْبرَت فيها ألمانيا على التنازل عن ممتلكاتها الاستعمارية، كان «دو بوا» يرى في الأفق فرصةً جديدة، تلوح لكل القوميات غير البيضاء من كل نوع. نظَّم أوَّل مؤتمر ﻟ «كل أفريقيا» في باريس في عام ١٩١٩م؛ لكي يتزامن مع مداولات مؤتمر السلام، عن قضية حقِّ تقرير المصير لكل الشعوب … من البيض وغير البيض. وكتب: «ربما تتمخَّض هذه الفوضى عن اليقظة الكبرى لجنسنا». والحدث الثالث الذي ساعد في تشكيل تفكير «دو بوا» هو انتصار الشيوعية في روسيا. كان يتابع الأحداث في الاتحاد السوفيتي في عهد «لينين» عن كَثَب، وقد جعلَته ينظر بشكل أعمق في كتابات «كارل ماركس»، وأن يجعل الرؤية الماركسية للتاريخ جزءًا من نظرته الخاصة للعالم. في كل تلك الميادين، كان العالم في عام ١٩١٩م يبدو مختلفًا تمامًا عمَّا كان عليه قبل أربع سنوات. وقد كيَّف «دو بوا» آماله ومشروعاته طبقًا لذلك. التيوتون البيض والأنجلو ساكسون كان لهم يومهم في السيطرة والسيادة، والجنس الأصفر والسلاف كانوا على وشك أن يتبعوهم … هكذا كتب «دو بوا» بثقة كبيرة. اليابان وروسيا كانتا تبدآن نضالهما من أجل السيادة الإمبراطورية في آسيا. بعد ذلك سيأتي دور الزنوج، العبودية حوَّلت الزنجي نفسه إلى سلعة، وعمله المنتج إلى شيء يملكه غيره، وليس هذا فقط، بل إنها جعلت منه كائنًا لا إرادة له أمام حضارة أوروبية مادية بيضاء مهتاجة ومتنامية، تمتدُّ مجسَّاتها بعيدًا لتقلب النظام الثقافي الحيوي في أرجاء الكرة الأرضية. وبالنسبة ﻟ «دو بوا» كانت العبودية مجرَّد تعبير عن العلاقات الاقتصادية والرأسمالية، التي تميِّز٤٥ الحضارة الأوروبية٤٦ برمَّتها. «كانت العبودية الأفريقية الحديثة بداية مشكلة العمل الحديثة».٤٧ وكان «العمَّال السود في أمريكا يقبعون في قاع هرم التجارة والصناعة المتنامي»، كعبيد للزراعة، وكان هذا القاع في النهاية يجمع بين عبيد الجنوب والعمال المستغلَّين في الشمال الصناعي، بالإضافة إلى بريطانيا وأوروبا.٤٨
ومثل أقرانه الألمان لم يكن «دو بوا» ينظر إلى ثروة المجتمع الصناعي بالمفهوم الاقتصادي، أو كنتيجة للإنتاجية الزائدة، بل يراها فقط في معناها الثقافي كثمرة عملية اخترقَت الإبداع الإنساني، وقضَت على السعادة. ولكن «زنجي» «دو بوا» كان مثل الفلاح الألماني عند المفكِّر الألماني الشعبي، يقف على الطرف النقيض من قِيَم الرأسمالية الغربية، حتى عندما يكون مجبَرًا على الخضوع لها. كان ميزان القوة الثقافية في العالم واضحًا، وبينما قدَّمت مصر للعالم الفلك والعلم، وقدَّمت الصين الفن، وبين النهرين الدين، كان المصنع هو الإسهام الوحيد للحضارة النوردية، وأعلن «دو بوا»: «الحضارة البيضاء كنظام ثقافي، تلهث أساسًا من أجل اختراع الوسائل؛ لاستعباد الكثرة وإثراء القلَّة وقتل الاثنين.٤٩ أما خلاصة فساد الحضارة البيضاء فهو استعمار القرن التاسع عشر. في كتابات «دو بوا» نجد أنَّ الاستعمار يعني أكثر من مجرد نظام للاستغلال السياسي أو الاقتصادي. إنه يمثِّل غريزةَ طوَّاف من أجل النهب، واستجابةً شريرة للعالم الخارجي، الذي يتخلَّل كل جانب من جوانب الثقافة الغربية، وسوف يسمِّي الخبراء بتعدُّد الثقافات ذلك فيما بعد عمليةَ «نفي الآخر». كان «دو بوا» يرى ذلك بالمعنى الجيوبولوتيكي في الأساس، وكان بالفعل يعتقد مثل «بروكس آدمز»، أنَّ الغرب عليه أن يتوسَّع أو يموت.٥٠ ومن المفارقة الساخرة أنَّ «دو بوا»، الذي كان ناقدًا شديد الحدَّة للأنماط المتعصِّبة ضدَّ العرق بين السود، كان يقبل تلك الصورة التي يقدِّمها أصحاب التشاؤمية العرقية من البيض، دون أيِّ انتقاد.٥١ الحضارة البيضاء عند «دو بوا» دائمًا تيوتونية، وتكاد تكون «نيتشوية» في تعطُّشها الذي لا يرتوى للغزو والسيطرة، و«فرديتها مصحوبة دائمًا بحكم القوة».٥٢ العالم الأوروبي الأبيض قد «اجتاح الأرض، لم يأتِ فقط بالحضارة الحديثة والتقنية، ولكنه جاء مع ذلك بالاستغلال والعبودية والتدهور لمعظم الناس، لقد حطَّموا حياة الأسرة الطبيعة، انتهكوا أوطان الشعوب الأضعف ونشروا مزيفيهم في كل ركن من البر والبحر». الرأسمالية الأوروبية والاستعمار استقطبَا الإنسانية في عالَمَين: أحدهما بحر الظلمات الواسع للعمل البشري في الصين والهند، بحار الجنوب وأفريقيا كلها، في جزر الهند الغربية وأمريكا الوسطى والولايات المتحدة، والذي يضمُّ «الغالبية العظمى من البشرية … مقودة، مضروبة، سجينة ومستعبدة في كل شيء باستثناء الاسم»، والثاني هو العالم الأوروبي، مركز القوة العالمية والسيطرة الكونية والغطرسة المسلَّحة.»٥٣
كانت غريزة السلب والنهب ذات يوم هي القوة الرئيسة للغرب، وهي التي مكَّنَته من الاستحواذ على إنجازات الحضارات السابقة والبناء عليها، إلا أنَّ «دو بوا» أصبح مقتنعًا في عام ١٩١٩م بأن الاستعمار «بقوته الكاذبة والوحشية» سيتضح في النهاية أنه أكبر نقاط ضعف الغرب، كما أكَّد أنَّ الحرب العالمية الأولى بدأت بالمنافسة الإمبراطورية للسيطرة على أفريقيا، وانتهت بحمامات الدم في «فيردون» و«سوم». كتب: «وذلك ليس ضلالًا ولا جنونًا، تلك هي أوروبا، وما يبدو مرعبًا هو الروح الحقيقية للثقافة الأوروبية.»٥٤
«العالم المظلم سيرضخ للمعاملة الحالية ما دام مضطرًّا لذلك.»٥٥ وإذا لم تُراجع أوروبا نفسَها، فإن الشعوب الملوَّنة في العالم سوف تنهض، «وسوف تُحدِث حربُ اللون دمارًا وحشيًّا لم تُحدِثْه حربٌ أخرى»، وسواء في السِّلم أو الحرب فإن «الإيمان بالإنسانية معناه الإيمان بالرجل الملوَّن». هكذا كان يتكلَّم «دو بوا»، مردِّدًا الأفكار نفسها التي سبق أن كرَّرها في كتابه «الزنجي». «إذا كانت الترقية البشرية لا بد أن تتمَّ بأيدي الناس، فإن مصير هذا العالم سيكون بكامله في أيدي الأمم الأكثر سمرة»، عالم ما بعد الاستعمار في القرن العشرين سيكون حتمًا عالمًا ما بعد غربي، وانهيار الإمبراطورية لا بد أن يؤدِّيَ كذلك إلى انهيار الحضارة الغربية ذاتها.
كان «دو بوا» يصدِّق ما كان «أوزوالد شبنجلر» قد وصل إليه في الوقت نفسه تقريبًا: الاستعمار دقَّ ناقوسَ موتِ الحضارة الغربية. ومثل «جوزيف كونراد» Joseph Conrad، كان «دو بوا» يعتقد أنَّ الاستعمار قد فضح القلب المظلم للرجل الأوروبي. ومثل كتاب شبنجلر «أُفُول الغرب»، كانت رؤية «دو بوا» لعالم ما بعد الاستعمار، ما بعد الغربي، تعني العودةَ إلى ثقافة حيَّة، ومثل نظيرتها Pan Germanic، وُلِدت فكرة الأفريقية العامة Pan Africanism من رغبة في الهروب من أحضان عالم يحتضر. بدأ «دو بوا» في عشرينيات القرن العشرين يحثُّ قرَّاءَه إلى ما سوف يُسمَّى بعد ذلك بالعودة إلى «الجذور»، وهذه العودة إلى أفريقيا لن تكون خروجًا جماعيًّا فيزيقيًّا كما كان يعتقد «ألكساندر كرامل» وغيره من القوميِّين الزنوج، بل ستكون خروجًا سيكولوجيًّا؛ لتطهير الروح وإزالة الفساد الذي صنعَته حضارة بيضاء محتضرة.

قام «دو بوا» بأوَّل زيارة لأفريقيا في سنة ١٩٢٣م، وألهمته تلك الزيارة غنائية رومانسية: «أفريقيا هي الحدُّ الروحي للجنس البشري». كانت المدينة التي نزل بها «منروفيا-ليبيريا»، هي المدينة الأكثر جمالًا من أيِّ عاصمة أوروبية كما قال، الناس يبدو عليهم الفرح، والبهجة بالحياة واضحة في أغنياتهم ورقصاتهم و«أجسادهم المثالية … العارية».

«إنَّ ما قد يعتبره الأوروبيون المظهريون علامةً على الفقر والبطالة، لا يعني بالفعل سوى أنَّ «أولئك الناس ينعمون بالأرستقراطية الحقيقية، ترف التفكير والمجاملات الاجتماعية، ووقت الفراغ للنوم والضحك».» عزلة حياة القرية «تصنع معرفةً أكثر عمقًا بالروح الإنسانية … الأفارقة يعرفون شعوبًا أقل عددًا، ولكنهم يعرفونهم على نحو أفضل». ولكن حماس «دو بوا» حمله إلى تحليق شعري عن الحيوية العرقية: «إنَّ سحر أفريقيا يتملَّكني، سحر دوائها القديم يشتعل في دمي الناعس الحالم.»٥٦
كتب «دو بوا» عمله الأكثر تعبيرًا عنه وهو «الأميرة السمراء» في عام ١٩٢٨م، مباشرة قبل أن يتحوَّل حماسه ﻟ «كل أفريقيا» إلى ولاء للشيوعية و«ستالين». «الأميرة السمراء» عند «دو بوا» هي مثل «هكذا تكلَّم زرادشت» عند «نيتشة»: فانتازيا رمزية، جزء منها سيرة ذاتية شاعرية، وجزء رؤيا نبوئية عن موت المجتمع الفاسد من حوله.٥٧
طالب طب أمريكي أسود، موهوب، هو «ماثيو تاونز» Mathew Towns يجد نفسه قد تحوَّل بسبب التفرقة العنصرية البيضاء إلى «رجل قلبه عبارة عن كتلة من الحقد». يترك أمريكا ويذهب إلى أوروبا. وفي «لندن» يقوم بإنقاذ امرأة ملوَّنة أنيقة من إهانات سائح أمريكي أبيض شرير، يتضح أنها أميرة هندوسية، تجعلها تنشئتها الطبيعية وثقافتها الرفيعة تبدو أكثرَ رقيًّا من الحضارة الزائفة حولها. تُقدِّم «ماثيو» إلى مجتمع سرِّي من الأجانب غير البيض، المجلس الأعلى للشعوب السمراء، الذين يخطِّطون من أجل المستقبل المشرق للعالم بمجرَّد أن ينتهيَ الاستعمار الأبيض ومؤسساته.
هذا المجلس في الواقع، يرمز إلى العشر الموهوب من العالم الثالث، الذي يصبح «تاونز» Towns ممثِّلًا له بالنيابة عن أفريقيا السوداء. «كم كان ممتعًا ﻟ «ماثيو» أن يرى الموائد وقد قلبت. عمال أوروبا البيض أصبحوا هم الدَّهماء، حُكَّام أوروبا البيض أصبحوا هم الأجناس الأقل شأنًا والأكثر دونية». عاد «تاونز» إلى الولايات المتحدة، وحاول أن يعمل من أجل عدالة عرقية (بما في ذلك التخطيط لتفجير قطار يقلُّ أعضاء في جماعة كوكلوكس كلان)، ولكنه يتورَّط في فساد الحياة الأمريكية. يقول: «آلاتنا تصنع الأشياء وتُجبرنا على بيعها.» «نحن أغنياء بالمأكل والملبس ولكننا جوعى ثقافة … كل المشاعر الرقيقة غارقة تحت طوفان القدرة المتوسطة.» «الثقافة الرفيعة ضاعت! … ضاعت! … وربما إلى الأبد.»٥٨

وفي النهاية يُنقذه شخصان: الأوَّل أمُّه المسنَّة، وهي عبدة سابقًا، امرأة نكدة المزاج وإن كانت نموذجًا حيويًّا وقويًّا لروح «تاون» الأفريقية، إنها «كالي» السوداء، «أمُّ العالم»، كما تترنَّم أميرته الهندوسية، الشخص الثاني هو الأميرة نفسها، والتي تعود لتتزوَّج البطل في طقس احتفالي بدائي-عصري جديد، يحتوي على عناصر هندوسية وبوذية ويهودية وإسلامية. جميع الأديان في الواقع باستثناء المسيحية، نخبة ملوَّنة جديدة تنهض لكي تستدعيَ «عالمًا حقيقيًّا أكثر سمرة، العالم الذي كان، والذي يجب أن يكون.»

في الرؤية الخيالية ﻟ «دو بوا»، عالم الحضارة، عالم الواقع السياسي والاقتصادي المحيط به، هو عالم مصنوع تمامًا بواسطة البيض ومن أجلهم، وهو يتقلَّص ليُصبح شيئًا تافهًا عديم القيمة، وهذا ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. وبالمفهوم العرقي، فإن الحضارة تتراجع كمؤثِّر اجتماعي يؤدِّي إلى التقدم، الوراثة تأتي لتقرِّر كلَّ شيء، حيوية العرق القديم تقدِّم كل الموارد اللازمة لثقافة حقيقية وإبداع حقيقي. «دو بوا» المتحمِّس لدعوة «كل أفريقيا» يجد نفسه متفقًا مع «الجوبينوويين» البيض الجدد، المجتمع الليبرالي على النموذج الغربي يحطِّم كمال العرق والفضيلة، سواء عن طريق الامتزاج العرقي أو انحلال السمات القديمة أو العبودية والاستعمار. هذا الخوف إذن، سيصبح المبدأ الهادي لأفكار «دو بوا» عن أمريكا السوداء، وسيؤدِّي به إلى قطع علاقته ﺑ NAACP في عام ١٩٣٤م؛ لأن أعضاءها كانوا مصرِّين على محاولاتهم للقضاء على التفرقة العنصرية، أكثر من متابعتهم ودفعهم لأفكاره العرقية اليوتوبية، وحتى عندما أصبح أكثرَ عزلة عن حركة الحقوق المدنية، ظل عنيدًا صلبًا. الشعب الأسود كان لا بد أن يفصل نفسه عن البِيض بسبب نظرة الرجل الأبيض للعالم، تلك النظرة المدمِّرة للروح. وكانت قوتها التدميرية تعبِّر عن نفسها دائمًا في الاقتصاد القائم على الاستغلال والقيود الاجتماعية القمعية والثقافة السياسية المبنية على خيارات زائفة، وثقافة شعبية خرقاء تعتمد على الإعلان والإذاعة.٥٩ وحتى إذا كان السود لا بد من أن يحصلوا على حقوق مدنية كاملة، ومساواة سياسية في أمريكا، كما خاطب جمهورًا في عام ١٩٦٠م فلا ينبغي عليهم أن يتبنَّوا المثل التي يتبنَّاها الأمريكيون. «سيكون معنى ذلك أننا توقَّفنا عن أن نكون زنوجًا، وأصبحنا من البيض من الناحية العملية»، وهذا سوف يساعد على الانحلال الفيزيقي، (أو تمازج الجنسين الأسود والأبيض)، وتدمير «كل دليل على اللون ونوع العرق»، وهكذا «سنفقد ذكرياتنا عن التاريخ الزنجي».٦٠ قد تكون تلك كلمات «دو بوا»، ولكن الأفكار هي أفكار «هوستون تشمبرلين» أو «ماديسون جرانت» مثلًا. والحقيقة أنَّ الفضيلة الرئيسية للثقافة السوداء في رأْي «دو بوا»، هي تناقضها مع الليبرالية البرجوازية، سواء في أفريقيا — حيث تنتقل النساء عاريات الصدور، وحيث تحقق حياة القرية معرفة إنسانية حميمة يفتقدها الغرب بسبب إغراقه الفردي في المجتمعي — أو في أمريكا السوداء ذاتها. كتب في عام ١٩٢٦م: «نحن «السوبرمان»، نجلس في كسلٍ وتراخٍ ونضحك ونحن ننظر إلى الحضارة. نحن الذين نرغب في أجساد زوجاتنا صراحةً ولا تُصيبنا حمرةُ الخجل عندما نمتلكها، روح المرح عند الزنجي وشعوره بوقت الفراغ، رفضه أن يعمل «وكأن الكدح اليومي إحدى الوصايا العشر»، هذه الأشياء التي كان «دو بوا» قد رآها قبل ثلاثين عامًا، والتي هي من موروثات العبودية المدمِّرة، أصبحت الآن من الملامح الباعثة على الفخر، تعبيرًا عن التحدِّي الثقافي.»٦١

دعْ شعبي يتقدَّم: «ماركوس جارفي»، وإرث «دو بوا»

بالرغم من شهرته الواسعة كأعظم أمريكي أسود على قيد الحياة، إلا أنَّ أفكار «دو بوا» كانت تجتذب اهتمامًا واحترامًا أكبر خارج الولايات المتحدة أكثر مما بين مواطنيه سواء من البِيض أو السود. بعض ذلك النفوذ والاعتراف كان يُسعده، وبعضه على العكس. أحد تلاميذه الذين «لم يُسعدوه» على أيِّ نحوٍ كان المهاجر الجامايكي: «ماركوس جارفي» Marcus Garvey. كانت حركة «جارفي»: «العودة إلى أفريقيا» تهزُّ الرأي العام بين السود في «جامايكا» والولايات المتحدة على مدى معظم سنوات العقد. وقد أشعل ذلك غضب «دو بوا»، الذي كان يقول إنَّ «جارفي»: «بلا شك هو أخطر أعداء الجنس الزنجي في أمريكا والعالم»، إلا أنَّ حركة «جارفي» — ببساطة — أعطَت نظرةَ «دو بوا» للانتصار النهائي «للأمم السمراء» على الحضارة البيضاء، شكلًا محددًا وإنْ يكن غيرَ متقن. وبالرغم من الخصومة العنيفة، إلا أنَّ أوجه الشبه بين النظرتَين كانت تفوق أوجهَ الاختلاف. كان «ماركس هارفي» فنِّي طباعة جيدًا، وقارئًا واسع الاطلاع، وقوميًّا قياديًّا أسود اللون. وفي عام ١٩١٤م أسَّس «الجمعية المتحدة لترقية الزنوج» UNIA٦٢ في موطنه «جامايكا». كان يعتقد أنَّ الجمعية سوف تُفرخ سلسلةً من حركات الاستقلال عن الاستعمار في الكاريبي، وتقدِّم وسيلةً للسود في العالم الجديد؛ لكي يعودوا إلى موطنهم الأصلي في أفريقيا.
قام «جارفي» بزيارة للولايات المتحدة في عام ١٩١٦م العام الذي صدر فيه كتاب «ماديسون جرانت» Passing of the Great Race «زوال الجنس العظيم». وبعد ذلك قرَّر أن يتخلَّى عن قاعدته في «جامايكا»، ويبدأ نشاط اﻟ UNIA (الجمعية المتحدة لترقية الزنوج) في «هارلم» في مدينة نيويورك. كان معظم الدعم الذي تتلقاه الحركة الأفريقية يأتي من الطبقة العاملة السوداء الكبيرة في «هارلم»، والتي كانت قد هاجرَت من الجنوب وجزر الهند الغربية. أما الطبقة العاملة الفنية في المجتمع، وطبقة المثقفين الواثقين من أنفسهم في حركة النهضة في «هارلم»، مثل: «دو بوا»، و«كلود ماكاي» Claude Mckay، و«كونتي كالن» Countee Cullen، و«لانجستون هیوز» Langston Hughes، و«زورانيل هيرستون» Zora Neale Hurston، فكانوا يعاملون «جارفي» بكل احتقار، وكانوا يُشهِّرون به في جريدة «مسنجر» الماركسية بأنه «القصير البدين الصقيل صاحب العينَين الخنزيرتَين الواسعتَين، والوجه الذي يُشبه وجه الكلب»، بينما كان يقول أحد الأطباء السود الأغنياء أن اﻟ «UNIA» تمثِّل «أقبح الزنوج في أمريكا». وفي مقابل ذلك، كان سود الطبقة العاملة ومهاجرو جزر الهند الغربية هم الذين يشترون جريدة «هارفي»: «عالم الزنوج»، ويحضرون تجمَّعاته، ويردِّدون النشيد الوطني الأفريقي الذي ألَّفه «إثيوبيا … إثيوبيا … أنت أرض الأجداد»، ويتنازلون عن أجورهم من أجل عضوية اﻟ UNIA. وهكذا كانت القومية السوداء والتي كانت قضيةً خلافية بين العشر الموهوب. تجد الآن موطنًا جديدًا بين السود الفقراء.
من النظرة الأولى، تبدو قوميةُ «كل أفريقيا» عند «جارفي» معبِّرةً عن افتراضات سلف القرن التاسع عشر؛ مثل «ألكساندر كرامل»، و«هنري تيرنر»، فضلًا عن «دو بوا». التأكيد مثلًا على الكرامة العرقية، كان يقول لمستمعيه: شعرك خشن، أنفك أفطس، شفتاك غليظتان، والفرق أيضًا لا بد٦٣ أن يكون متعمدًا في نظرتك للحياة وفي آرائك.٦٤
«جارفي» أعلن أنَّ «أفريقيا كانت ذات يوم أفضل جنسًا في العالم»، وكانت مهدَ الحضارة، في الوقت الذي كان فيه الجنس التيوتوني «يكتسي جلود الحيوانات»، وأنَّ العودة إلى الوطن الأفريقي الأمِّ تعني ميلادًا جديدًا لتلك الأمجاد القديمة. وبنفس أسلوب «كرامل»، كان يُصِرُّ على أنَّ «أفريقيا الجديدة المتحدة لا بد أن تكون أمَّةً صناعية حديثة». يقول «جارفي»: «الزنوج سيشغلون أفريقيا كلَّها كما يشغل الجنس الأبيض أوروبا»، وإنَّ سلالة قوية من الأمريكيِّين السود الروَّاد من جزر الهند الغربية، سوف يساعدون في «تحضير وتمدين القبائل المتخلِّفة في أفريقيا»، كما أسَّس «جارفي» خط بواخر النجم الأسود، وهي شركة تجارية كبرى سوف تُثبت أنَّ التجار السود يمكنهم أن يكونوا ناجحين مثل البيض، وأنهم سيقدِّمون الوسائل المادية اللازمة لنقل الأمريكيِّين السود وإعادتهم إلى وطنهم.٦٥ ولكن «جارفي» كان يعبِّر بذلك أيضًا عن نظرة «دارونية» متأخرة، كانت غائبةً تمامًا بالنسبة للقوميِّين الأوائل، كما ربطَته كذلك ﺑ «بروكس آدمز» و«دو بوا». كان «جارفي» يعتقد أنَّ مصير الجنس الأسود جزءٌ لا يتجزَّأ من «نضال تطوُّري» أوسع بين الأمم، يمكن أن يقرِّر مستقبل القرن العشرين. كان على الرجل الأسود إما أن يصبح قوةً مسيطرة أو أن يظلَّ قابعًا في الخلف، كما كان يؤكِّد على أنَّ «الجنس القادر على إنتاج أعلى تطوُّر علمي، هو الجنس الذي سيحكم في النهاية».٦٦ ولو كان التاريخ هو قصة الأجناس القوية، كما كان «دو بوا» يزعم، لكان لزامًا على السود أن يتعلَّموا كيف يتصرَّفون كجنس قوي، «سيِّد ومالك لكل شيء خلقه الله في هذا العالم». وإذا كانت الإمبراطورية هي العلامة الباقية الدالة على حضارة واسعة، فإن على الزنوج أيضًا أن يُصبحوا «إمبراطوريِّين»، ويُشيِّدوا «إمبراطورية عرقية، لا تغرب عنها الشمس».٦٧
كانت فكرة النقاء العرقي تتملَّك «جارفي» أيضًا مثل أيِّ «جوبینووي» جديد،٦٨ «أنا من المؤمنين بعرق أسود نقي»، كما كتب في كتابه: «فلسفة ماركوس جارفي».٦٩ وكان مثل «دو بوا»، يفترض دون أيِّ شك أن الحضارة الأوروبية الحديثة هي بالضرورة تيوتونية الأصل، ومنظمة حول المبدأ الوحيد، وهو التفوُّق الأبيض. «توجُّه الجنس الأبيض هو أن يُخضِعَ الآخرين وأن يستغلَّهم، وعند الضرورة، يُبيد الشعوب الأضعف التي يتصل بها.» اتهم «جارفي» البيض بأنهم يحاولون إقناع السود عن طريق التلقين، بأنه لا فائدة تُرجَى منهم سوى العمل اليدوي في ظلِّ المؤسسة الرأسمالية المملوكة للبيض؛ وذلك لأن الاستغلال الاقتصادي كان أرخص وأكثر فعالية من الإبادة الفعلية (كتلك التي تحملها الهنود والسود الأفارقة). ولحسن الحظ، فإن الحضارة البيضاء «المجرَّدة من الروح» أصبحت الآن متفسخة وضعيفة. كان «جارفي» يشرح لجماهيره كيف أنَّ أوروبا تترنَّح على حافة الإفلاس الاقتصادي، وكانت اضطرابات وثورات الخبز وأعمال العنف وشيكةً؛ حيث كان البِيض قد استعدُّوا لإلقاء السود في «مجاعة اقتصادية»، كما أعلن لمستمعيه أنَّ أربعة ملايين أفريقي في «هارلم» كانوا يقومون حينذاك بتنظيم أنفسهم للمطالبة باستعادة تراثهم. وفي حشد جماهيري في عام ١٩١٩م … «السقوط قادم … السقوط الذي سيؤدِّي إلى الدمار التام للحضارة التي نراها.» كان صراعٌ تدميري عنيف على وشك أن يحدث «بين السود والبيض على هضاب المعركة الأفريقية»،٧٠ وكانت تروق ﻟ «جارفي» فكرةُ حربٍ عِرقية كونية للسود ضدَّ البيض، والبيض ضد الصفر، رغم أنه كان يرى إمكانيةَ أن يقوم السود بمساعدة البيض ضد الإمبراطوريات الآسيوية الوليدة في اليابان والصين في مقابل الحصول على حريتهم السياسية.
وعلى أية حال، فإن فناء الحضارة البيضاء سيزوِّد السود بالأدوات التي يحتاجونها — العلم والتكنولوجيا وأسلحة الحرب — لكي يُقيموا إمبراطورياتهم، أمَّة أفريقية قوية ستنهض من ساحة القتال الدموي الواسعة، و«سوف يتَّحد فيها الزنوج ليصبحوا سلطةً عرقية عظيمة متحدة»،٧١ ويصرِّح «جارفي» لأحد المراسلين الصحفيِّين بأنه يمثِّل مستقبل القومية السوداء، بينما كان «دو بوا» يمثِّل الماضي.٧٢ وعنده كان المستقبل يعتمد على ما كان يراه مستقبل سياسات القرن: السياسات الجماهيرية، الدعاية الجماهيرية، وقوة أمَّة منظَّمة معبأة. هذا الاقتناع جذبه إلى شخصية «بنیتو موسولیني» Benito Mussolini. كان «جارفي» يعبِّر عن إعجاب شديد بالديكتاتور الإيطالي إلى أن غزا «إثيوبيا» في عام ١٩٣٦م، وكان يزعم أنَّ حركته، بصرف النظر عن أنها على نمط قمصان «موسولیني» السوداء، إلا٧٣ أنَّ تأثيرها كان يمضي في اتجاه آخر: «عندما كان لدينا مائة ألف رجل، وكنَّا نقوم بتدريب الأطفال. كان «موسولیني» ما يزال مجهولًا»، وكان «جارفي» يرى — بكل ثقة — أنَّ اﻟ UNIA هم الفاشست الأوائل. وكان يُكِنُّ الإعجابَ نفسَه ﻟ «أدولف هتلر» Adolf Hitler؛ فقد كان اليهود بالنسبة ﻟ «جارفي» هم رمز الغرب «الكذَّاب المداهن»، وأنَّ المال اليهودي العالمي قوة «يمكن أن تحطِّم البشر والمؤسسات والأمم»، ولا يوجد أسود واحد بمأمن من تلك القوة، كما كان يحذِّر أتباعه. كانت «بروتوكولات حكماء صهيون» تقول: «إنَّ الضرر الذي يُلحقه اليهوديُّ بأيِّ شخص غير يهودي ليس ضررًا على الإطلاق، والزنجي ليس يهوديًّا.» معاداة السامية والإعجاب بالحركات الجماهيرية الواسعة قادَته أيضًا للبحث عن شريك في جماعة غير عادية: «الكوكلوكس كلان»، وسط دهشة بالغة وغضب من «دو بوا» واﻟ NAACP، وكل زنجي عقد «جارفي» لقاء مع «التنين الأعظم» زعيم «الكوكلوكس كلان». كلَا الرجلين كان من رأيه أنَّ خروجًا جماعيًّا للسود من الولايات المتحدة، من شأنه أن يحافظ على نقاء الجنسين: الأبيض والأسود.٧٤ وباختصار، فإن التشاؤمية العرقية أقامت جسرًا بين هاتين الصورتين للقومية الراديكالية، واحدة سوداء والأخرى بيضاء. وفي عام ١٩٢٥م أخبر «جارفي»: «إرنست سیفر كوكس» Ernest Siever Cox، وهو من الجوبينويِّين الجدد المؤمنين بالتفوُّق الأبيض، بأن كل قومي أسود جيد لا بد أن يقرأ كتاب «أمريكا البيضاء» من تأليف «كوكس». وكتب يقول: «المجتمع الأمريكي الأبيض، الأندية الأنجلو ساكسونية، واﻟ «كوكلوكس كلان»، لهم مني كل تعاطف؛ لأنهم يقاتلون من أجل عِرقٍ نقيٍّ كما نقاتل نحن أيضًا من أجل نقاء عرقي أسود.» كلاهما، كما كان «كوكس» ينبِّه محذرًا، كان يُواجه الأعداء أنفسهم. «الجماعات اليهودية تحاربني كما تحارب اﻟ NAACP».٧٥ والحقيقة أنَّ «إمبراطورية جارفي السوداء» انهارت بسرعة كما بدأت؛ ففي عام ١٩٢٣م أُدِينَ من قِبَل محكمة فيدرالية في قضية غش بريدي، وقضى أربعة أعوام في السجن إلى أن أصدر الرئيس «كوولدج» Coolidge عفوًا عنه، وأمر بترحيله فورًا. وبعد ذلك حاول «جارفي» أن يُحْييَ حركته الزنجية الفاشية تحت راية «الأصولية الأفريقية».
قبل وفاته بعامين في عام ١٩٤٠م، أسَّس مدرسة الفلسفة الأفريقية في «لندن». كان المنهج الدراسي يرفض كل الأنثروبولوجيا «البيضاء»، والعلم الاجتماعي الأبيض باعتبارهما منحازَين، وكان يقوم بتدريس صيغة أفريقية من «سفر التكوين» يظهر فيها «آدم» و«حواء» سودًا، كما تبدو ذريتهما الزنجية باعتبارها أوَّل شعب مختار.٧٦
بعد ترحيل «جارفي» ضعفت القومية السوداء الراديكالية في أمريكا. وفي عام ١٩٣٣م ظهر أحد أتباعه وهو «الیجابول» Elijah Pool ليتبنَّى فرعًا طائفيًّا غامضًا من المحفل الموريسكي-الأمريكي العلمي يُدعَى «أمَّة الإسلام»، ومن على منابره، بدأ التبشير بشكل جديد من «سفر التكوين الأسود» عند «جارفي». أعلن أنَّ القوقازيِّين البيض كانوا «جنسًا متفسِّخًا»، أعطاهم الرب ستة آلاف عام من السيطرة؛ لكي يختبرَ قوة ودرجة تحمُّل أبنائه السود … الشعب المختار حقيقة. على أية حال، كانت نهاية تلك العبودية البابلية قريبة، كان الشياطين القوقازيون ودينهم «الإبليسي»، المسيحية، على وشك الاختفاء إلى الأبد. وغيَّر «بول» اسمه إلى «أليجا محمد»، وبسرعة قام بتوسيع عضوية «أمَّة الإسلام». كان يقول إنَّ «الله نفسه أسود»، «هو الكائن الأسمى بين أمَّة من السود الرائعين»، بينما الزنجي هو «الصانع الأول والأخير ومالك الكون».٧٧ وفي عام ١٩٤٨م كان أحد أتباعه يشرح لقاطع طريق حديث السن اسمه «مالكولم ليتل» Malcolm Little أنَّ «الرجل الأبيض هو الشيطان ذاته». كما قال له: «وأنت كرجل أسود، فإنك تنتمي إلى جنس من البشر هو صاحب الحضارات القديمة … الغنية بالذهب، وبالملوك.» والتي سرق منها الشياطين البِيض كلَّ شيء، بما في ذلك اسمه الحقيقي. واقتنع «مالكولم» بما سمع، وغيَّر اسمه إلى X رمزًا لفقدان الهوية كرجل أسود في أمريكا البيضاء، وذاعَت شهرة «مالكولم إكس» في وقت قصير. «مالكولم إكس» حلَّ معضلة «دو بوا» الخاصة بالروحَين داخل الأفارقة الأمريكيِّين. كانت هناك روحٌ واحدة فقط، هي الروح الأفريقية السوداء التي حاول البِيضُ محوَها وتدميرها مثلما دمَّروا كلَّ أثر للعظمة الأفريقية الأصيلة للسود. وبالرغم من أنَّ «مالكولم إكس» انفصل بعد ذلك عن «أليجا محمد» و«أمَّة الإسلام»، إلا أنه كان يحتفظ دائمًا بمنظور «دو بوا» و«جارفي». أعلن في حديث باكر أنَّ «عالم الغرب يواجه اليوم كارثةً كبرى»، «يقف على حافة الهاوية». وبعد سنوات كتب في سيرته الذاتية: «ثلثَا التعداد البشري يقولون للثلث الباقي … الأقلية … «الرجل الأبيض …»: يقولون له ارحل «… وسيرحل … أعتقد أنَّ الله يعطي الآن لما يُسمَّى ﺑ «المجتمع المسيحي الأبيض»، في العالم فرصةً أخيرة ليكفِّر عن جرائمه».»٧٨
في الستينيات كانت تأكيدات «جارفي» الفاشستية على السياسة كقوة، واضحةً في حركة القوة السوداء وحراسة البرلمانيِّين المرتدين زيًّا موحدًا، أما ثمرة الإسلام فستكون هي الفيلق الأفريقي، حارس «أليجا محمد»، ومن بعده «لويس فاراخان» Louis Farrakhan نفسه سوف يتذكَّر أنه عندما كان في الحادية عشرة، رأى صورةَ رجل أسود على الحائط في منزل عمه وسأل عن صاحبها. قالوا له إنها كانت صورة «ماركوس جارفي» … «هذا رجل جاء ليوحِّد كل الشعب الأسود».٧٩ كل جوانب حركة «فاراخان» الإسلامية السوداء: أسلوبه في القيادة، إصراره على أنَّ السود لا بد من أن يُصبحوا مُلَّاكًا مستقلِّين للأعمال التجارية، عداؤه للسامية، تعاطفه مع حرب «هتلر» ضد اليهود … كل ذلك ترديد بصوت أعلى لما جاء في أفكار «جارفي» عن «كل أفريقيا». وصلت «الجارفية» بعيدًا خارج الولايات المتحدة. كانت مجلة «عالم الزنوج»، ومجموعات من أحاديث «جارفي»، ومقالاته الافتتاحية في الصحف تجد صداها لدى الشباب الأفريقي المثقَّف وأصحاب الفكر القومي، وبشكل أكبر من أعمال وأفكار «دو بوا» القديمة. «كينيث كوواندا» Kenneth Kuanda في «زامبيا» و«هاري ثوكو» Harry Thuku في «كينيا»، و«نلسون مانديللا» Nelson Mandela في جنوب أفريقيا، كلهم تأثَّروا على نحو مباشر أو غير مباشر بأفكار «جارفي». زعيم أفريقي آخر هو «كوامي نكروما» Kwame Nkruma سيكتب فيما بعد: «كان كتاب «فلسفة ماركوس جارفي» هو «أكثر كتاب يلهب حماسي». وكان ذلك أمرًا مثيرًا للسخرية؛ حيث سيلعب «نكروما» نموذج الدور الأخير لألد أعداء «جارفي»، وهو «إي بي دو بوا» نفسه.»

«دو بوا» والشيوعية، ونهاية الغرب

في عام ١٩٤٦م كتب «دو بوا» الذي كان في الثامنة والسبعين:

«نحن الآن وجهًا لوجه مع أعظم مأساة تحلُّ بالعالم. إنَّ سقوط أوروبا هو أشدُّ ما يُصيبنا بالذهول؛ وذلك بسبب الإيمان غير المحدود الذي كنَّا نُكنُّه للحضارة الأوروبية».

لا شك، بالتأكيد، أنَّ «دو بوا» كان يتكلَّم بسخرية؛ فلمدة تزيد عن ربع القرن ظلَّ «دو بوا» ينتظر بفارغ الصبر أُفُول الحضارة البيضاء، الذي كان أساتذته في برلين في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر يقولون إنه سيحدث، لا بد أن يحدث؛ لأن الحضارة كانت تحطُّ من قدر الثقافة وتُقلل من شأنها. تلك الأفكار كانت وراء كتابه «الزنجي»، عن تاريخ أفريقيا وأعماله الأخرى والتي ستكون بدورها وراء حركة المركزية الأفريقية. كان اهتمامه الحقيقي مركَّزًا على ما سيأتي بعد انهيار الحضارة الحديثة. ولفترة قصيرة من ١٩٠٠م إلى ١٩١٠م أعاد إلى الحياة فكرة العُشْر الموهوب من مثقَّفي وسياسيِّي الزنوج الذين سوف يؤكِّدون الشعور بالكرامة العرقية، ببناء سجل من الإنجازات الثقافية دون «الركوع أمام البعل».٨٠ ثم اتجه نحو قومية أفريقية شاملة، ثم إلى انفصالية سوداء على أساسها يقوم السود الأمريكيون ببناء اقتصادهم الخاص المستقل بالتوازي مع الاقتصاد الأبيض، وبلا أيِّ دافع للربح يُثير الاستياء. وأخيرًا، اتَّجه في الثلاثينيات إلى «ماركس» والشيوعية. كان قد درس الكثير عن «ماركس» أثناء إقامته في ألمانيا، من ١٨٩٢م إلى ١٨٩٤م، كما زار «الاتحاد السوفيتي» في عام ١٩٢٤م. كان تحليله الخاص للإمبريالية يضع في اعتباره كتاب «ف ا لينين» «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، الذي كان يجادل، عن خطأ، أنَّ السباق على أفريقيا كان بسبب فائض رأس المال، وأنَّ الرأسمالية في مراحلها المتأخرة يمكن أن تحصل على أرباحها فقط من إمبراطورية استعمارية واسعة.٨١
ولفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان «دو بوا» يخشى أن يقوم العالم الرأسمالي، أثناء آلام الاحتضار الأخيرة بسحق قضية تحرير الشعوب غير البيضاء.٨٢ بعد ذلك منح الإنجليز الاستقلال للهند، وأجبرَت الولايات المتحدة الهولنديِّين على ترك إندونيسيا، وبدأت القوى الأوروبية تتخلَّى عن مستعمراتها وتزدهر. كان «دو بوا» مجبرًا على أن يعرف أنَّ الرأسمالية الغربية يمكن أن تتقدَّم جيدًا بدون السيطرة الإمبريالية.

وفي النهاية، فإن ما جذب «دو بوا» إلى الماركسية، كان هو نفس ما جذب مثقَّفين آخرين كثيرين في القرن العشرين: كونها شكلًا من أشكال التحرُّر الثقافي. بدا انتصار الماركسية وعدًا بتطهير أخلاقي للعالم الحديث؛ حيث سيتم غسيل كل فساد الحضارة البرجوازية بالفيضان الثوري.

وفي عام ١٩٣٥م، كان «دو بوا» قد أقنع نفسه بأن الشيوعية السوفيتية سوف تُحطِّم آخرَ آثار الغرب المصاب بالتيبُّس، وتدعم نظامًا ثقافيًّا جديدًا غير غربي.

وفي كتابه «العالم وأفريقيا» ١٩٤٦م أوضح «دو بوا» أنَّ تفسُّخَ أوروبا كان هو النتاج المباشر للإمبريالية والسيطرة الاستعمارية، ومستبقًا منظِّرين آخرين مثل «إدوارد سعيد»، كان «دو بوا» يؤكِّد على أنَّ الموروث الكامل لثقافة مهذَّبة، قد تطوَّر ليُخفيَ سوءات الإمبريالية، منتجًا «أدبًا يحاول أن يتوازن ويتناول المشكلات الثقافية للأغنياء وأبناء الأصول، ويُهمل المشكلات «الأخطر، المتعلِّقة بالقانون والرحمة والعدالة الحقيقية».»٨٣ هذه الحضارة السطحية، جعلت من المستحيل بالنسبة للشعب في أوروبا أن يُدرك أنَّ ما هو فيه من راحة وتَرَف يكلِّف شعوب العالم السوداء «عرقًا ودمًا ويأسًا». الإمبريالية أيضًا هي التي سبَّبت جميع المشكلات التي كانت تُقلق منظِّري الانحلال منذ كان «دو بوا» طالبًا صغيرًا: عالم أرستقراطية واهنة لم تَعُد في حاجة إلى القيام بأيِّ عمل من أجل العيش، مدن صناعية «قبيحة ومروعة» مسكونة بالجريمة والأمراض وقلاقل العمل وانهيار القيم الفكرية. وكانت تلك كما استنتج «دو بوا»: «صورة صادقة لأوروبا، والتي كانت تقود الحضارة الإنسانية خلال القرن التاسع عشر».٨٤
وبالرغم من أنه لم يكن عضوًا رسميًّا في الحزب الشيوعي حتى عام ١٩٦١م، أي قبل وفاته بوقت قصير، إلا أنه كان مدافعًا عن القضية بالقول والكتابة وكثرة التنقُّل قبل ذلك. كان يشيد ﺑ «ستالين»، «كرجل عظيم وبسيط»، لدرجة أنَّ ما كشف عنه في حديث «خروشوف» السري عام ١٩٥٦م لم يجعله يهتزُّ في اقتناعه بأن عهد «ستالين» كان «إنجازًا عظيمًا في النهوض بالبشرية»، وأنَّ «ستالين» نفسه كان «واحدًا من أعظم إنجازات القرن العشرين».٨٥ وكانت الحرب الباردة في رأي «دو بوا» مؤامرةً رأسمالية إمبريالية للإبقاء على «الشعوب السوداء» والعمال البيض تحت نير العبودية، ولصنع حرب عالمية أخرى.
كتب بغضب عام ١٩٥٤م: «إنَّ الجهد المنظَّم الذي تقوم به الصناعة الأمريكية لاغتصاب الحكم، يفوق أيَّ شيء آخر في التاريخ الحديث، بما في ذلك أعمال «أدولف هتلر» الذي تعلَّموا منه.»٨٦
سافر «دو بوا» إلى الاتحاد السوفيتي عام ١٩٥٩م؛ حيث تسلَّم «وسام لينين»، وذهب إلى الصين الشيوعية؛ حيث قدَّم سلسلةً من الأحاديث الإذاعية لراديو «بكين»، يحثُّ فيها دول آسيا الجديدة أن تُديرَ ظهورها للرأسمالية الغربية، والنظر بدل ذلك إلى روسيا والصين، كنموذجَين مضيئَين للمستقبل. وأعلن «لقد رأيت العالم، ولكنني لم أرَ معجزةً مجيدة هائلة مثل الصين.»٨٧

كان «كوامي نكروما» أحد الزعماء الأفارقة الذين استمعوا إلى ندائه، وقد دعاه إلى غانا (ساحل الذهب سابقًا) في العام التالي ليجيءَ ويعمل معه مستشارًا ورجلَ دولة، ولا بد أن يكون «دو بوا» و«نكروما» قد التقيا قبل ذلك بسنوات في مؤتمر «باندونج» في إندونيسيا عام ١٩٥٥م، وهو حدثٌ فاصل في تاريخ عالم ما بعد الاستعمار. في «باندونج» ظهر مصطلح «العالم الثالث» لوصف الدول المستقلة حديثًا في أفريقيا وآسيا، والتي لم تكن أكثر أو أقل من شعوب «دو بوا» السمراء التي تحدَّث عنها قبل ثلاثين عامًا، الرمز الجماعي لمستقبل البشرية المشرق. كان «نكروما» واحدًا من زعماء ما بعد الاستعمار، الذين ظهروا إلى جانب «جمال عبد الناصر» في مصر، و«جواهر لال نهرو» في الهند، و«سوكارنو» في إندونيسيا، والأمير «سيهانوك» في كمبوديا، و«آدم كلايتون باول الأصغر» في «هارلم».

كان من المفترض أن يُلقيَ «دو بوا» الكلمةَ الافتتاحية في «باندونج»، ولكن وزارة الداخلية الأمريكية سحبَت منه جواز السفر بسبب انتماءاته الشيوعية. كانت الكلمة التي أرسلها لكي تُلقَى في «باندونج»، تتطرَّق إلى الموضوعات التي تضمَّنتها أعماله منذ عودته من «برلین» إلى الولايات المتحدة في عام ١٨٩٤م:

«نحن الشعب الأسود الأمريكي الذي عاش معكم طويلًا أيها الصفر والبنيُّون والسود في العالم تحت نير الغطرسة والأفكار الفظيعة للجنس الأبيض … ومن هنا نحن ننبِّه العالم إلى أنَّ أفريقيا لا يمكن أن تظلَّ رهينةً وعبدة وملكية خاصة للأوروبيِّين أو الأمريكيِّين أو أيِّ شعب آخر.»

واستعاد «دو بوا» عبارةً كان قد صاغها في عام ١٩٢٢م وهي «أفريقيا للأفريقيِّين»: «وبالتالي فهي لن تظلَّ محكومةً بالقوة ولا بالجبروت، ولا بالجيوش الغازية أو الشرطة، أفريقيا ستظلُّ محكومةً بأرواح جميع آلهتها وحكمة جميع أنبيائها.»٨٨ كان «نكروما» نموذجًا للزعماء الجدد الذين جاءوا إلى السلطة في أفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار. درس في جامعة «لندن» ما جعله يعتقد أنَّ الغرب الرأسمالي، مثل الإمبراطورية البريطانية التي تشكِّل جزءًا من أساسه، محكوم عليه بالدمار الذاتي. كان يمارس أيضًا سياسةً «كاريزمية» على النمط «الجارفي»، يسحق بلا رحمة أيَّ معارضة لنظام الحزب الواحد لديه. عندما أصبح رئيسًا ﻟ «غانا» في عام ١٩٥٦م، منح نفسه لقبَ «أوساجيفو» أو «المُخلِّص»، وجعل من نفسه متحدِّثًا رسميًّا باسم أفريقيا متحدة. كانت أهدافه بالنسبة ﻟ «غانا» رمزيةً وعملية: «دولة غانية سوف تنهض أمام بقية العالم كنموذج ساطع على قدرة الإنسان الأفريقي على إدارة شئونه.»٨٩
عندما قَبِل «دو بوا» دعوةَ «نكروما» للانتقال إلى «غانا» كان في الثانية والتسعين، أي إنه عاش دهرًا، وأشرف على الآخر … وكان قد تخلَّى عن أيِّ أمل في أمريكا التي كانت تبدو واقعةً في فخِّ انهيار لا حدود له بالنسبة للسود والبيض على السواء. كانت حركة «مارتن لوثر كنج» من أجل الحقوق المدنية ترى أنَّ أسلوبه في تناول المسألة العرقية قد عفا عليه الزمن، كما أنَّ ستالينيته لم تُبقِ له سوى عدد قليل من الأصدقاء بين صفوف اﻟ NAACP.٩٠ ولم تكن مفاجأةً أن يجدَ «دو بوا» بطلًا جديدًا في «نكروما» المخلِّص، وهو الذي كان قد وجد قبل ذلك في ستالين «شخصًا عظيمًا وبسيطًا»، وفي «هاري ترومان» «أكبر سفاح منذ هتلر».٩١ وعلى الفور، بدأ مشروعًا ضخمًا لموسوعة أفريقية ستكون أعظم أرشيف فكري وتاريخي للحضارة الأفريقية الطالعة، كما أصبح أكبر المدافعين عن «نكروما»، وربما أهم وأقرب «نسخة» منه.
لقد أرسی «دو بوا» النموذج الذي سيصبح مألوفًا على مدى العشرين عامًا التالية، نموذج المثقَّف الغربي الذي «يكتشف» في الدكتاتورية الماركسية في بلد بعيد، خزانة لعرض مجتمع جديد، يؤمن بالمساواة.٩٢ أما بالنسبة لفكر «دو بوا»، فهو يرى أنَّ الروح الأفريقية والماركسية كانتا يدًا في يد في غانا، وفي كتاباته الأخيرة نجد تسبيحةً ﻟ «نكروما»، على شكل أنشودة دينية زنجية بعنوان «غانا تنادي»:
رفعت صوتي الأخير وصرخت،
صرخت للسماء وأنا أموت
من الغرب الذي تتصاعد رائحتُه الكريهة
الذي انتهى يومه
الذين يغرقون في النتن ويترنَّحون في روثهم
نحو أفريقيا والصين وشاطئ الهند؛
حيث توجد كينيا والهملايا،
وينساب النيل ويانج-تزي
يُدير كل وجه مشوق للإنسان.
استيقظ … استيقظ أيها العالم النائم
مجد الشمس،
سبح النجوم، تلك الشموس الفسيحة
التي تحكم الليل؛
حيث الأسود أبيض،
وكل عمل غير أناني … حق،
والجشع خطيئة
وأفريقيا تتصدر … أفريقيا كلها …

مات «دو بوا» في ۲۸ أغسطس ١٩٦٣م، وبعد ثلاث سنوات، كانت «العسكرية» الغانية — التي غذَّتها عدم كفاءة «نكروما»، ودمَّرت اقتصاد البلاد ومستوى المعيشة — تُطيح بالمخلِّص في انقلاب عسكري. 

١  colour line سلسلة نسب اللون. (المترجم)
٢  Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, p. 582.
٣  Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 18.
٤  Gatewood, Aristocrats of Color.
٥  Williamson, New People.
٦  Bainton, Idea of Race, pp. 47–59.
٧  E. g., Horsman, Race and Manifest Destiny, passim.
٨  As in Robert Shufeldt’s 1907 book, The Negro: A Menace to American Civilization.
٩  Lewis, W. E. B. Du Bois, pp. 56–63; W. E. B. Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, p. 577.
١٠  Mcpherson. Abolitionist Legacy, pp. 308-09.
١١  E. g., De Marco, Social Thought of W. E. B. Du Bois, and D. D. Bruce, “W. E. B, Du Bois and the Idea of Double Consciousness”.
١٢  Quoted in Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 134.
١٣  Ringer, Decline of the German Mandarins, pp. 146–48.
١٤  الدولانية: Statism تركيز السلطة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي في يد الدولة. (المترجم)
١٥  المدافعون عن الاقتصاد الحر في العالم الناطق بالألمانية أقاموا حصنًا أخيرًا في جامعة «فيينا» هناك. كان رجال الاقتصاد الكلاسيكيون مثل «كونراد مينجر»، و«إيوجين فون بوهمباوريك» ينقلون أفكارهم عن مزايا المؤسسات الحرة وأخطار الاقتصاد المسيطر عليه، إلى جيل من الطلاب كان يضمُّ بين مَن يضمُّ «لودفيج فون ميسيس»، و«فردريك هايك» (انظر الفصل الأول).
١٦  Schmoller, Mercantile System, pp. 2-3; Ringer, Decline of the German Mandarins, p. 147.
١٧  Smith, Politics and the Sciences of Culture in Germany, p. 182.
١٨  انظر الفصل الأول.
١٩  Simmel, Conflict in Modern Culture, p. 11.
٢٠  Cf. Berlin, Vico and Herder.
٢١  Quoted in Ringer, Decline of the German Mandarins, p. 100; Muller, Other God That Failed, p. 62.
٢٢  Tönnies, Community and Society.
٢٣  Smith, Politics and the Sciences of Culture in Germany, p. 138.
٢٤  Quoted in Appiah, “Uncompleted Argument: Du Bois and the Illusion of Race,” in Gates, ed., “Race,” Writing, and Difference, pp. 23-24.
٢٥  Du Bois, “Souls of Black Folk,” in Writings, p. 512.
٢٦  Moses, Alexander Crummell, pp. 294–96.
٢٧  كان الاستثناء المهم هو «إدوارد بلايدن» الذي كان يدافع عن ثقافة أفريقية أصلية، وكان يتمسَّك برؤيا زوال الحضارة البيضاء. ﻫ. ر. لينش (إدموند ويلموت بلايدن) Pan-Negro Patriot.
٢٨  H. M. Turner, Respect Black, pp. 74-75.
٢٩  Moses, Alexander Crummell, p. 263.
٣٠  Quoted in Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 170.
٣١  Du Bois, Du Bois Speaks, p. 49.
٣٢  Du Bois, “Conservation of Races,” in W. E. B. Du Bois: A Reader, pp. 825; 817, 821.
٣٣  أسقف أمريكي ومؤلف قصص أطفال تصوَّر أنَّ النجاح يتحقَّق دائمًا بفضل الاعتماد على النفس والعمل الجاد، وأسطورة الولد الفقير الذي يتحوَّل إلى الثروة. (المترجم)
٣٤  Quoted in Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 263.
٣٥  Du Bois “Conservatism of the Races,” in W. E. B. Du Bois: A Reader, p. 24.
٣٦  Smith, Politics and the Sciences of Culture of Germany, pp. 126–28, 189.
٣٧  Williamson, Crucible of Race, p. 411; Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, p. 662.
٣٨  Du Bois, The Negro, p. 9.
٣٩  Ibid., pp. 14, 24.
٤٠  Ibid., p. 18.
٤١  Ibid., pp. 21–24.
٤٢  Ibid., p. 137. Also pp. 132, 133; 124, 138.
٤٣  Ibid., p. 29.
٤٤  NAACP الجمعية الوطنية لتقدُّم الملوَّنين National Association for the Advancement of Coloured People.
٤٥  Ibid., p. 242.
٤٦  Darkwater, pp. 49-50; Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 565.
٤٧  Du Bois, “The Negro’s Fatherland,” in W. E. B. Du Bois: A Reader, p. 652.
٤٨  Du Bois, Black Reconstruction, p. 5.
٤٩  Darkwater, p. 49; Foner, p. 51; Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, pp. 659; 658.
٥٠  Darkwater, p. 41.
٥١  Appiah, “Uncompleted Argument: Du Bois and the Illusion of Race,” in Gates, ed., “Race,” Writing, and Difference, pp. 21–37.
٥٢  E. g., “Jefferson Davis as a Representative of Civilization,” p. 811.
٥٣  Du Bois, Black Reconstruction, pp. 15-16.
٥٤  Darkwater, p. 39.
٥٥  Ibid., p. 49.
٥٦  Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, pp. 646-47, 648; 639.
٥٧  Rampersad, Art and Imagination of W. E. B. Du Bois, p. 203.
٥٨  Quoted in Ibid., p. 213.
٥٩  والتليفزيون أيضًا، الذي كان «دو بوا» يرفضه ويعتبره تسليةَ البلهاء.
٦٠  Quoted in Bainton, Idea of Race, p. 155.
٦١  Du Bois, “Dusk of Dawn,” in Writings, pp. 648, 662.
٦٢  United Negro Improvement Association.
٦٣  Quoted in J. White, Black Leadership, p. 93.
٦٤  Garvey, Life and Lessons, p. 268.
٦٥  Garvey, Philosophy and Opinions, Vol. II, p. 68.
٦٦  Ibid., p. 14.
٦٧  Ibid., p. 90; Life and Lessons, p. 147.
٦٨  Cf. Speech of September 26, 1920, in Marcus Garvey and UNIA Papers, Vol. III, pp. 22–28.
٦٩  Garvey, Philosophy and Opinions, Vol. I, p. 37.
٧٠  Garvey, Marcus Garvey and UNIA Papers, Vol. II, p. 128.
٧١  Ibid., pp. 13, 129, Garvey, Life and Lessons, p. 5.
٧٢  J. White, Black Leadership, p. 90.
٧٣  Garvey, Life and Lessons, pp. lviii-Iix.
٧٤  Garvey, Philosophy and Opinions, lxxiv-lxxvii; Stein, World of Marcus Garvey, p. 225.
٧٥  Garvey, Philosophy and Opinions, p. Ixxv.
٧٦  Garvey, Life and Lessons, passim.
٧٧  Quoted in Lincoln, Black Muslims in America, p. 62.
٧٨  Malcolm X, Autobiography, pp. 269-70.
٧٩  Sewell, Garvey’s Children, pp. 61-62.
٨٠  Quoted in Lewis, W. E. B. Du Bois, p. 316.
٨١  كلاهما اعتمد على المصدر نفسه وهو هجوم الصحفي البريطاني «ج. ا. هويسون» على الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا، انظر الفصل السابع.
٨٢  Du Bois, Color and Democracy.
٨٣  لم يستطع «دو بوا» أن يوضِّح لماذا كان يعتبر «أوسكار وايلد» أو «أنتوني ترولوب»، أكثرَ تمثيلًا لأدب القرن التاسع عشر من «ليوتولستوي»، و«فيدور ديستويفسكي»، و«جورج إليوت»، و«إمیل زولا»، و«فيكتور هوجو»، أو «تشارلز دیكنز».
٨٤  Du Bois, The World and Africa, p. 1.
٨٥  G. Home, Black and Red (New York, 1983), p. 317.
٨٦  Du Bois, Speeches and Addresses, p. 181.
٨٧  كان ذلك في نهاية «قفزة ماو العظيمة للأمام» التي مات فيها جوعًا ما بين عشرة إلى اثنَي عشر مليون فلاح صيني.
٨٨  Ibid., pp. 236-37.
٨٩  Nkrumah, Africa Must Unite, p. xvi.
٩٠  Record, Race and Radicalism.
٩١  Rampersad, Art and Imagination of W. E. B. Du Bois, p. 256.
٩٢  Hollander, Political Pilgrims, pp. 126, 166.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤