الفصل الأول

(ساحة بالمدينة، في عصر سلاطين المماليك. الفجر يكاد يبزغ، وقد خيَّم السكون … عمود شُدَّ إليه محكوم عليه بالإعدام، وجلَّاده على مقرُبة منه يجاهد في مقاومة النعاس.)

المحكوم عليه (متأملًا جلاده) : تنعس؟! … طبعًا تنعس … ناعمًا! … هانئًا! … لأنك لا تنتظر ما يكدر صفوك!
الجلاد : صه!
المحكوم عليه : وأخيرًا؟ … متى؟
الجلاد : قلت لك صه!
المحكوم عليه (متوسلًا) : قل لي بحقك متى؟ … متى؟
الجلاد : متى تكف أنت عن إزعاجي؟!
المحكوم عليه : آسف! … ولكنه أمر يهمني بوجه خاص! … متى يتم هذا الحادث … السار بالنسبة إليك؟
الجلاد : عند الفجر … قلت لك هذا أكثر من عشر مرات … عند الفجر! … أُنفذ فيك الحكم! … فهمت الآن؟ … دعني إذن أنعم بالسلام لحظة!
المحكوم عليه : الفجر؟! … إنه لم يزل بعيدًا! … أليس كذلك أيها الجلاد؟!
الجلاد : لست أعرف.
المحكوم عليه : لا تعرف؟!
الجلاد : المؤذن هو الذي يعرف … متى صعِد إلى مئذنة هذا المسجد وأذَّن لصلاة الفجر، نهضتُ أنا إليك بسيفي وأطحت برأسك … تلك هي الأوامر! … استرحت الآن؟!
المحكوم عليه : بدون محاكمة؟! … إني لم أُقدَّم بعدُ إلى المحاكمة … ولم أَمثُل بعدُ بين يدَي القاضي!
الجلاد : ليس هذا من شأني!
المحكوم عليه : حقًّا! … ليس من شأنك سوى إعدامي!
الجلاد : عند الفجر … تنفيذًا لأمر السلطان!
المحكوم عليه : لأية جريمة؟!
الجلاد : لا شأن لي!
المحكوم عليه : لأني قلت …
الجلاد : صه! … صه! … أغلق فمك. لقد أُمرت بقطع رقبتك في الحال لو نبَستَ بحرف عن جريمتك!
المحكوم عليه : لا تنزعج! … أغلقت فمي!
الجلاد : هذا خير ما تفعل! … أن تغلق فمك وأن تتركني أهنأ بنومي! … إنه من مصلحتك أن أستمتع بنوم هادئ هنيء!
المحكوم عليه : من مصلحتي؟!
الجلاد : بالتأكيد … من مصلحتك أن أكون في راحة تامة وصحة جيدة جسمًا ونفسًا؛ لأني حين أكون متعَبًا، ضيق الصدر، متوتر الأعصاب … فإن يدي تُصاب بالرعشة، وعندما تُصاب بالرعشة فإني أؤدي عملي أداءً سيئًا.
المحكوم عليه : وما شأني بعملك؟!
الجلاد : يا أحمق! … عملي متصل برقبتك! … إن سوء الأداء معناه أن رقبتك لن تُقطع قطعًا حسنًا … لأن القطع الحسن يحتاج إلى يد ثابتة ونفس هادئة؛ حتى يُطاح الرأس بضربة واحدة لا تَدَعُ لك وقتًا للإحساس بالألم … فهمت الآن؟!
المحكوم عليه : حقًّا … هذا صحيح!
الجلاد : أرأيت؟ … واقتنعت؟ … إنه من اللازم لك أن تُهيئ لي الراحة، وأن تُدخل على قلبي البهجة، وأن ترفع من روحي المعنوية!
المحكوم عليه : روحك المعنوية؟! … أنت؟!
الجلاد : بالطبع … ولو كنت أنا في مكانك.
المحكوم عليه : اللهم اسمع منه! … ليتك كنت في مكاني!
الجلاد : ماذا تقول؟!
المحكوم عليه : استمر! … ماذا كنت تفعل لو نلت الشرف والغِبطة بأن تكون في مكاني؟!
الجلاد : أقول لك ماذا كنت أفعل! هل معك نقود؟
المحكوم عليه : آه … النقود! … نعم … نعم … نعم! … النقود! … فكرة صائبة! … أما النقود يا صاحبي فحدِّث عنها ولا حرج! … المدينة كلها تعرف — وأنت منهم — أني من أغنياء التجار وأثرياء النخَّاسين!
الجلاد : لا … إنك أسأت الفهم … ليست الرشوة! … من المستحيل أن ترشوني! … لا بفضل أمانتي ونزاهتي … بل لأني — بكل صراحة — لن أستطيع إنقاذك … كلُّ ما أردت هو تلبية دعوتك إلى الشراب إذا دعوتني … إن قدَحًا من النبيذ ليس رشوة! … وإنه لمن سوء الأدب أن أرفض دعوتك … انظر! … ها هنا خمَّار على مرمى البصر منك … حانه مفتوح طول الليل؛ لأن له زبائنَ ممن يزورون تلك العاهرة التي تقطن المنزل المقابل.
المحكوم عليه : الشراب؟ … فقط؟!
الجلاد : فقط!
المحكوم عليه : عندي فكرة أظرف وألطف! … فلنصعد معًا — أنا وأنت — إلى تلك الجميلة! … إني أعرفها … فإذا صرنا إليها قضينا عندها ليلة رائعة لن تُحسب من العمر … ليلة تملأ قلبك بالبهجة والمرح، وترفع روحك المعنوية! … ما قولك؟
الجلاد : لا يا سيدي الكريم!
المحكوم عليه : تقبل دعوتي إلى الشراب، وترفض دعوتي إلى مجلس شراب وأُنس وحُسن وطرب؟!
الجلاد : في ذلك المنزل؟! … لا يا عزيزي المحكوم عليه! … إني أُفضِّل أن تبقى كما أنت … مقيَّدًا بأغلالك حتى الفجر!
المحكوم عليه : يا للأسف! … أنت لا تثق بي! … ولو وعدتك بأني قبيل أذان الفجر أعود إلى مكاني من الأغلال كما كنت؟
الجلاد : عصفور يعود إلى الشبكة كما كان؟!
المحكوم عليه : نعم … وإني لأُقْسِم لك بشرفي!
الجلاد : شرفك؟! … يا له من قَسَم!
المحكوم عليه : أنت لا تصدقني …
الجلاد : أصدقك ما دمت في مكانك هذا والقيدُ في يديك!
المحكوم عليه : وكيف أستطيع إذن أن أدعوك إلى الشراب؟!
الجلاد : الأمر بسيط … أذهب أنا إلى الحان، وأطلب إلى الخمَّار أن يجيء بقدحين من أجود خمره، فإذا جاء بهما شربنا ونحن في مكاننا هذا! … ما قولك؟!
المحكوم عليه : لكن …
الجلاد : اتفقنا! … أذهب أنا ولا حاجة بك أنت إلى تكلُّف العناء والمشقة لحظةً واحدة بعد ذلك!

(يتجه الجلاد إلى حانة في طرف الساحة، ويطرُق بابها، فيخرج إليه الخمَّار فيهمس في أُذنه كلامًا، ثم يعود إلى مكانه.)

الجلاد (للمحكوم عليه) : تم المراد وقضينا المطلوب … وسترى يا عزيزي المحكوم عليه النتيجة السارَّة عما قريب!
المحكوم عليه : أي نتيجة سارة؟!
الجلاد : عملي المتقن … فأنا إذا شربت أتقنت العمل، وإذا لم أشرب قُل على عملي السلام! … أذكر لك على سبيل المثال ما حدث ذلك يوم: كُلِّفت بإعدام شخص، ولم أكن قد شرِبت يومئذٍ شيئًا … فهل تدري ماذا صنعت؟ … ضربت عُنق ذلك المسكين ضربة عنيفة هوجاء، أطاحت برأسه وأطارته في الهواء، فسقط بعيدًا، لا في سلتي أنا هذه، بل في سلة أخرى هنالك … سلة الإسكافِ المجاور للحان … ويعلم الله كم بذلنا من الجهد والعناء، لنخرج ذلك الرأس الضائع من بين أكداس الأحذية وأكوام النعال! …
المحكوم عليه : سلة الإسكاف! … بئس القرار! … أستحلفك بالله أن تبعد رأسي عن هذا المصير! …
الجلاد : لا تخف! … الأمر بالنسبة إليك مختلف! … الرأس الآخر كان لرجل بخيل منتن في البخل!

(يظهر الخمَّار خارجًا من حانه، يحمل قدحين.)

الخمَّار (متجهًا إلى المحكوم عليه) : هذا بالطبع لك أنت … رغبتك الأخيرة!
المحكوم عليه : بل للجلاد! … رغبته العزيزة!
الجلاد (للخمار) : لأُدخل على قلبه السكينة والارتياح!
الخمَّار : وممن أتقاضى حقي؟
المحكوم عليه : مني أنا طبعًا … لأُدخل على قلبه الغبطة والبهجة!
الجلاد : إنه لمن الواجب عليَّ أن أقبل دعوته الحارة!
المحكوم عليه : وإنه لمن الواجب عليَّ أن أرفع روحه المعنوية!
الخمار : يا لكما من صديقين حميمين!
الجلاد : إن المحبة بيننا متبادلة!
المحكوم عليه : إلى أن يطلع الفجر!
الجلاد : دعك الآن من الفجر … إنه لم يزل بعيدًا! … هلُمَّ بنا نقرع الكئوس!
(الجلاد يتناول القدحين، ويقرع أحدهما بالآخر، ثم يرفع قدحًا … في نخب المحكوم عليه …) في صحتك!
المحكوم عليه : لك الشكر!
الجلاد (بعد أن يَجرَع قدحه يدني القدح الآخر من فم المحكوم عليه) : الآن دورك أيها العزيز!
المحكوم عليه (يجرع جَرعةً ثم يَسعُل) : كفى! … اشرب أنت الباقي عني!
الجلاد : أهذه رغبتك؟
المحكوم عليه : الأخيرة!
الجلاد (يرفع القدح الثاني) : أرفع كأسي إذن في نخب …
المحكوم عليه : عملك المتقن!
الجلاد : إن شاء الله! … وكذلك في نخب كرمك ولطفك أيها الصديق المحكوم عليه! …
الخمَّار (وهو يتلقى القدحين الفارغين من الجلاد) : ماذا صنع هذا النخاس الكهل؟ … ما جريرته؟ … كلنا نعرفه في المدينة … ما هو بسفاح وما هو بسارق!
المحكوم عليه : وبرغم ذلك فإن رأسي سيُطاح به عند الفجر، كما يطاح برأس السفاح ورأس السارق!
الخمار : لماذا؟ … لأية جريمة؟
المحكوم عليه : لا لشيء إلا لأني قلت …
الجلاد : صه! … لا تنبس بحرف! … أغلق فمك!
المحكوم عليه : أغلقت فمي!
الجلاد : وأنت أيها الخمَّار قد أخذت قدحيك فامضِ لشأنك!
الخمار : ونقودي؟
الجلاد : هو الذي دعاني … واللئيم من يرفض الدعوة!
المحكوم عليه : حقًّا … دعوته وتفضَّل هو بالقبول … نقودك يا صاحب الحان هنا في كيس بمنطقتي … تقدَّم وخذ ما تريد!
الجلاد : اسمح لي أن أتقدم أنا عنه … (يتقدم ويأخذ من كيس المحكوم عليه نقودًا ويدفع للخمار). خذ حقك! … وقد زدناه … لتعلم أننا كرماء!

(الخمار يتناول حقه، ويعود إلى حانه، ويأخذ الجلاد في الترنم بالغناء الخافت.)

المحكوم عليه (قلقًا) : والآن …
الجلاد : الآن نشرع في الغناء والطرب! … هل تدري يا عزيزي المحكوم عليه أني من المغرمين بالغناء الحسن، المفتونين برائع النغم، الكلفين بجيد النظم والإنشاد؟ … إن هذا يملأ القلب هناءة وحبورًا، وفرحةً بالحياة وسرورًا! … غنِّ لي شيئًا! …
المحكوم عليه : أُغني؟!
الجلاد : نعم! … ولِمَ لا؟ … ما الذي يمنعك؟ … حنجرتك — ولله الحمد — حُرة طليقة … فما عليك إلا أن ترفع عقيرتك بالغناء، فيخرج النغم الحلو يشنِّف الآذان … هيا … غنِّ! … أطربني؟
المحكوم عليه : ما شاء الله! … اللهم فاشهد!
الجلاد : هلم! … غنِّ … أسمعني …
المحكوم عليه : أوَترى حقًّا أن لي الآن المزاج الذي يصلح للغناء؟!
الجلاد : أوَلم تَعِدْني منذ قليل بإدخال البهجة على نفسي، وكشف الانقباض عن صدري؟ …
المحكوم عليه : أنت الذي يشعر بالانقباض؟!
الجلاد : نعم … وأرجوك أن تزيل انقباضي! … اغمُرْني في المرح غمرًا! … أمتعني بنفحات من الأناشيد والأغاني … أغرقني في الطرب بحلو الأنغام ورائع الألحان! … اسمع! … تذكرت شيئًا … إني أحفظ أغنية نظمتها بنفسي في ليلة من ليالي السُّهاد والشجن! …
المحكوم عليه : غنِّها أنت إذن!
الجلاد : ليس لي الصوت الجميل!
المحكوم عليه : ومن قال لك إن صوتي — أنا الآخر — جميل؟!
الجلاد : كل أصوات الآخرين عندي جميلة … لأني لا أصغي إليها … ولا سيما إذا كنت ثملًا! … كل ما يهمني هو أن يحيط بي الغناء من كل جانب … الشعور بالجو المشبع بالطرب من حولي يريح أعصابي … وأحيانًا يحلو لي أن أُغني … أنا نفسي … ولكن لا بد لذلك من شرط: هو أن أجد من يسمعني! … وإذا وُجد السامع فحذارِ حذارِ ألا يُبديَ الإعجاب والاستحسان … وإلا … وإلا فإني أستحي وأخجل ويرتج عليَّ، ثم أغضب غضبًا شديدًا … الآن وقد نبهتك إلى الشرط. فهل أُغني؟
المحكوم عليه : غنِّ!
الجلاد : وهل ستُعجب بي وتستحسن؟
المحكوم عليه : نعم!
الجلاد : وعْدٌ أكيد؟
المحكوم عليه : أكيد …
الجلاد : إذن … أُغني لك تلك الأغنية الرقيقة … أتصغي؟
المحكوم عليه : أُصغي وأستحسن …
الجلاد : الاستحسان يأتي في النهاية … أما الآن فالمطلوب منك هو الإصغاء فقط …
المحكوم عليه : أصغي فقط …
الجلاد : حسن … هل أنت مستعد؟
المحكوم عليه : لماذا؟ … ألست أنت الذي سيُغني؟
الجلاد : بلى … ولكن من الضروري أن تكون أنت مستعدًّا للاستماع!
المحكوم عليه : وهل أستطيع شيئًا آخر؟! … إنك قد تركت لي أُذني حرة طليقة … من أجل ذلك بلا ريب!
الجلاد : إذن فلنبدأ! … هذه الأغنية الرقيقة، وعنوانها «الزهرة والبستاني» … أنا الذي نظمتها … نعم نظمتها بنفسي!
المحكوم عليه : أعرف ذلك …
الجلاد : عجبًا! … من قال لك؟
المحكوم عليه : أنت بفمك منذ لحظة!
الجلاد : حقًّا … حقًّا … والآن هل تريد أن أبدأ؟
المحكوم عليه : ابدأ!
الجلاد : ها أنا ذا أبدأ … استمع … ولكنك لا تستمع!
المحكوم عليه : إني أستمع …
الجلاد : يجب أن يكون الاستماع بغاية الانتباه!
المحكوم عليه : بغاية الانتباه!
الجلاد : حذار أن تخجلني بشرود ذهنك أو عدم اهتمامك؟
المحكوم عليه : إني مهتم!
الجلاد : هل أنت مستعد؟
المحكوم عليه : نعم!
الجلاد : لست أراك متحمسًا غايةَ التحمس!
المحكوم عليه : وكيف أفعل ذلك؟
الجلاد : أريد أن تلتهب بالحماسة التهابًا … اذكُر لي أنك تُلحُّ وتُلحُّ في أن تستمع إلى غنائي!
المحكوم عليه : أُلحُّ وألح …
الجلاد : إنك تقولها بفتور وبرود!
المحكوم عليه : برود؟!
الجلاد : نعم … أريد أن يكون الإلحاح صادرًا من أعماق قلبك!
المحكوم عليه : إنه من أعماق قلبي!
الجلاد : إني لا أستشعر حرارة الإخلاص في صوتك!
المحكوم عليه : الإخلاص؟!
الجلاد : نعم … إنه لا يبدو في نبرات صوتك؛ لأن النبرات والخلجات تنم عن حقيقة المشاعر … وصوتك فاتر بارد!
المحكوم عليه : وأخيرًا؟! … ستُغني؟ … أو لن تُغني؟!
الجلاد : لن أُغني …
المحكوم عليه : الحمد لله!
الجلاد : تحمَد الله على عدم غنائي؟!
المحكوم عليه : بل أحمد الله دائمًا؛ على غنائك أو عدم غنائك على السواء! … ولا أحسب هنالك من يعترض على حمد الله في كل الأحوال!
الجلاد : إنك في قرارة نفسك تتمنى ألا أُغني!
المحكوم عليه : قرارة نفسي؟! … وهل يعلم السرائر إلا الله؟!
الجلاد : إذن تريد أن أُغني؟
المحكوم عليه : إذا شئت!
الجلاد : سأُغني …
المحكوم عليه : غنِّ …
الجلاد : لي الآن شرط؛ توسَّل إليَّ أولًا أن أُغني … قدِّم إليَّ توسلاتِك؟
المحكوم عليه : أتوسل إليك …
الجلاد : قُلها برقة واستعطاف!
المحكوم عليه : أرجوك … أتوسل إليك … بربك ورب الخلق أجمعين! … أسأل الله الواحد القهار، القوي الجبار، أن يلين قلبك القاسي، فتُصغي إلى التماسي، وتَمُنَّ عليَّ وتتفضل بالغناء!
الجلاد : مرةً أخرى!
المحكوم عليه : ماذا؟
الجلاد : كرِّر هذا التوسل والالتماس!
المحكوم عليه : سبحان الله! … ارحمني! … إنك أهلكتني بكل هذا التمنع والدلال! … غنِّ إذا كنت تريد أن تُغني، وإلا فاتركني بربك لحالي وما أنا فيه!
الجلاد : غضبت؟! … لست أُحب أن تغضب! … سأُغني لأُهدئ ثورة نفسك، وأزيل كَدَر صفوك! … ها أنا ذا أبدأ!

(يَسعُل، ثم يترنم بصوت خافت تمهيدًا للغناء.)

المحكوم عليه : أخيرًا!
الجلاد (يقف فجأة) : إذا كنت تُفضل ألا أُغني فقلها صراحة!
المحكوم عليه : يا إله السماوات! … إنه سيعود!
الجلاد : أنَفِد صبرك؟
المحكوم عليه : وأي نفاد؟!
الجلاد : أأنا أُعذبك؟
المحكوم عليه : وأي عذاب!
الجلاد : صبرًا جميلًا يا عزيزي! … صبرًا جميلًا!
المحكوم عليه : إن هذا الجلاد يعدمني إعدامًا!
الجلاد : ماذا تقول؟
المحكوم عليه : لم أعد أحتمل!
الجلاد : لم تعد تحتمل انتظارًا … يا لك من مُضنًى مسكين أحرقه الشوق إلى غنائي! … سأبدأ إذن! … لن أجعلك تنتظر طويلًا! … ها أنا ذا أُبادر! … استمع! … ها هي ذي الأغنية الرقيقة!

(يتنحنح ويترنم، ثم يغني بصوت الثَّمِل السكران.)

يا زهرة عمرها ليلة!
عليكِ السلام من المعجبين
إذا أذَّن الفجر غدًا تقطفين،
ويسقط عنكِ رداء الندى!
وفي سلة من حطب ترقدين،
وتخفت من حولك ألحاني!
ويبرق في الجو نصل الردى؛
مُضيئًا في يد البستاني!
يا زهرة عمرها ليلة!
عليكِ السلام عليكِ السلام!

(صمت …)

الجلاد : لماذا أنت صامت؟! … ألا تستحسن؟! … هذا وقت الإعجاب والاستحسان! …
المحكوم عليه : أهذه أغنيتك الرقيقة يا جلاد النحس؟!
الجلاد : من فضلك! … إني لست جلادًا!
المحكوم عليه : ومن تكون؟
الجلاد : أنا بستاني …
المحكوم عليه : بستاني؟!
الجلاد : نعم بستاني! … أتفهم؟ … بستاني! … (يصيح ثملًا) أنا ﺑ … ﺴ … تا … ني!

(تفتح نافذة في منزل الغانية، وتُطِلُّ منها الخادمة.)

الخادمة : ما هذه الجلبة؟ … ما هذا الضجيج والناس نيام! … مولاتي تشكو الصداع، وتريد النوم الهادئ!
الجلاد (ساخرًا) : مولاتك؟! … (يضحك هازئًا) مولاتها!
الخادمة : قلت لك كُفَّ عن هذا الصخب!
الجلاد : اغربي عن وجهي يا خادم الفجور والخنا!
الخادمة : لا تَسُب مولاتي! … إنها لو شاء لكان لها عشرون كنَّاسًا من أمثالك، يكنسون التراب من تحت حذائها!
الجلاد : خرِستِ وخسِئتِ يا قذارة القاذورات!

(الغانية تظهر في النافذة خلف خادمتها.)

الغانية : ماذا حدث؟!
الخادمة : هذا الجلاد المخمور، يُعربد ويقذنا بالسِّباب!
الغانية : أوَيجرؤ؟!
الجلاد (مُشيرًا إلى النافذة) : ها هي ذي — بجلالتها — مولاتها المشهورة!
الغانية : بعض الاحترام أيها الرجل!
الجلاد (يضحك ساخرًا) : الاحترام؟!
الغانية : نعم … ولا ترغمنا على تعليمك كيف تحترم السيدات!
الجلاد : السيدات؟! … (يضحك) السيدات؟! … إنها تقول السيدات؟! … اسمعوا وتعجبوا!
الغانية (لخادمتها) : انزلي إليه ولقِّنيه درسًا في الأدب!
الخادمة (للجلاد) : انتظرني إذا كنت رجلًا!

(تختفي المرأتان من النافذة …)

الجلاد (للمحكوم عليه وقد أفاق قليلًا) : ماذا تنوي أن تفعل هذه الشيطانة؟ … هل تعرف أنت؟ … إنها لقادرة على كبيرة! … أرأيت كيف هددتني وتوعدتني؟
الخادمة (تخرج من باب المنزل رافعة في يدها نعلًا) : تعال هنا!
الجلاد : ماذا ستفعلين بهذه النعل؟
الخادمة : هذه النعل هي أقذر ما وجدت في الدار وأعتق … أتفهم؟ … ولم أعثر على أعتقِ منها ولا أقذر، مما يليق بوجهك القبيح الأغبر.
الجلاد : ها هو ذا قدح النبيذ اللذيذ قد طار من رأسي! … أسمعت كلامها المهذب النظيف أيها المحكوم عليه؟!
المحكوم عليه : نعم!
الجلاد : ولا تنبس بحرف؟!
المحكوم عليه : أنا؟
الجلاد : ولا تحرك ساكنًا؟!
المحكوم عليه : كيف؟!
الجلاد : تتركها هكذا تُلحق بي الإهانات وأنت صامت؟!
المحكوم عليه : وماذا تريد أن أصنع؟
الجلاد : افعل شيئًا! … قل شيئًا على الأقل!
المحكوم عليه : وما شأني وهذا الموضوع؟!
الجلاد : يا لقلة الشهامة، وسقوط الهمة! … تراها وقد رفعت في يدها النعل كما يرفع الحسام أو الصارم الصمصام، ولا تهبُّ لتدافع عني؟! … تقف هكذا مكتوف اليدين! … تتفرج بغير اكتراث! … وتصغي بدون اهتمام إلى إهانتي وتحقيري وسبِّي! … ليس هذا والله من المروءة في شيء!
المحكوم عليه : حقًّا!
الخادمة (تهز النعل بيدها) : اسمع أيها الرجل! … دع هذا المسكين وشأنه! … واجهني أنا إذا كانت لديك الشجاعة! … حسابك معي أنا … لقد أسأت أدبك معنا، وعليك أن تُقدم إلينا اعتذارًا وتطلب منا الصفح … وإلا فوَربِّ العزة صاحب الملكوت وواهب الجبروت …
الجلاد (في رفق) : مهلًا! … مهلًا!
الخادمة : تكلم! … ما جوابك؟
الجلاد : التفاهم!
الخادمة : اطلب الصفح أولًا!
الجلاد : إلى من أطلب الصفح؟ … إليكِ أنتِ؟
الخادمة : إلى مولاتي …
الجلاد : أين هي؟
الغانية (تظهر على عتبة دارها) : ها أنا ذا! … أَهو اعتذر؟
الخادمة : سيفعل يا سيدتي!
الجلاد : نعم يا سيدتي!
الغانية : حسن … وأنا قَبِلت اعتذارك!
الجلاد : فقط يا سيدتي … ألا يحسُن أن تعود المياه إلى مجاريها؟
الغانية : لقد عادت!
الجلاد : أقصد عودة النبيذ إلى مجاري رأسي!
الغانية : ماذا تعني؟
الجلاد : أعني أن هناك تلفًا يحتاج إلى إصلاح … خادمتك النشيطة أخرجت ما كان في رأسي من نشوة، فمن ذا يملأ فراغ رأسي؟!
الغانية : أنا أتولى ملءَ رأسك! … خذ من الخمَّار على نفقتي ما شئت من شراب!
الجلاد : شكرًا لكِ أيتها السيدة السخيَّة!

(يشير الجلاد إلى الخمَّار الواقف بباب حانه كي يأتي إليه بقدح.)

المحكوم عليه (للغانية) : ألا تعرفينني أيتها الجميلة؟
الغانية : بالطبع أعرفك … منذ اللحظة الأولى … ساعةَ أن جاءوا بك إلى هنا في مطلع الليل … أبصرتك من نافذتي وعرَفتك، وأحزنني أن أراك في الأغلال ولكن … ما هي الجريمة التي ارتكبتها؟
المحكوم عليه : لا شيء يُذكر … كل ما حدث أني قلت …
الجلاد (يفطن إليه ويصيح به) : حذارِ! … حذار! … أغلق فمك!
المحكوم عليه : أغلقت فمي!
الغانية : لقد حاكموك طبعًا؟
المحكوم عليه : لا.
الغانية : ماذا تقول؟ … ألم تحاكَم؟!
المحكوم عليه : ولم أُقدَّم إلى محكمة … لقد أرسلت مظلمة إلى السلطان، أسأله حقي في أن أمثُل بين يدَي قاضي القضاة … أعدلِ من حكم بالذمة والضمير، وأنزهِ من تمسك بالشرع، وأخلص حامٍ لقداسة القانون … لكن … ها هو ذا الفجر يقترب، والجلاد قد تلقى الأمر بضرب رقبتي عند أذان الفجر!
الغانية (متطلعة إلى السماء) : الفجر؟! … إن الفجر يكاد يبزُغ … انظر إلى السماء!
الجلاد (وفي يده قدح تلقَّاه من الخمَّار) : ليست السماء يا سيدتي العزيزة هي التي ستُقرر ساعة هذا المحكوم عليه … ولكنها مئذنة هذا المسجد … إني في انتظار المؤذن!
الغانية : المؤذن؟ … إنه لا شك في الطريق … إني أسهر حتى الصباح أحيانًا، فأراه في مثل هذه الساعة متجهًا إلى المسجد!
المحكوم عليه : إذن قد حانت ساعتي!
الغانية : لا … ما دامت مظلمتُك لم تُفحص بعد!
المحكوم عليه : هذا الجلاد لن ينتظر نتيجة المظلمة … أليس كذلك أيها الجلاد؟
الجلاد : لن أنتظر سوى المؤذن … تلك هي الأوامر!
الغانية : أوامر مَن؟ … السلطان؟
الجلاد : تقريبًا!
المحكوم عليه (صائحًا) : تقريبًا؟! … ألم يكن إذن هو السلطان؟!
الجلاد : الوزير … وأوامر الوزير هي أوامر السلطان!
المحكوم عليه : إني إذن ميت لا محالة!
الجلاد : هو ذاك … ما إن يصعد أذان المؤذن إلى السماء، حتى تصعد روحك معه … إن هذا لَيحزُّ في نفسي أسًى، ويعتصر قلبي حزنًا، ولكن العمل هو العمل، والمهنة هي المهنة! …
الغانية (ملتفتةً إلى الطريق) : يا للمصيبة! … ها هو ذا المؤذن قد وصل!
المحكوم عليه : قُضي الأمر!

(المؤذن يظهر.)

الجلاد : أَسرِع أيها المؤذن … نحن في انتظارك!
المؤذن : في انتظاري؟ … لماذا؟!
الجلاد : لتؤذن الفجر!
المؤذن : أتريد الصلاة؟
الجلاد : أريد أن أقوم بعملي!
المؤذن : وما شأني بعملك؟
الجلاد : عندما يصعد صوتك إلى السماء تصعد معه روحُ هذا الرجل!
المؤذن : أعوذ بالله!
الجلاد : تلك هي الأوامر!
المؤذن : حياة هذا الرجل متعلقة بحبال صوتي؟!
الجلاد : نعم!
المؤذن : لا حول ولا قوة إلا بالله!
الجلاد : بادِر أيها المؤذن إلى عملك حتى أقوم بعملي!
الغانية : وفيمَ العجلة أيها الجلاد اللطيف؟! … صوت المؤذن قد أثر فيه بردُ الليل، وهو محتاج إلى شراب ساخن … اصعد إلى داري أيها المؤذن! … سأعد لك ما يصلح صوتك.
الجلاد : والفجر؟
الغانية : الفجر بخير، والمؤذن أدرى بوقته.
الجلاد : وعملي؟
الغانية : عملك بخير ما دام المؤذن لم يؤذن بعدُ للفجر!
الجلاد : أتوافق أيها المؤذن؟
الغانية : إنه موافق على دعوتي الصغيرة لوقت قصير، فهو من خيرة معارفي في الحي!
الجلاد : والمصلون في المسجد؟
المؤذن : ليس في المسجد غير رجلين … أحدهما غريب عن المدينة، قد اتخذ المسجد مأوًى، والآخر متسول قد اعتصم به من برد الليل… والكل يغطُّ الآن في نوم عميق، وقلما استمع أحد إلى أذان الفجر في هذا الشتاء! … ولا ينهض منهم إلا من ركلتُه بقدمي ليستيقظ ويؤدي الفريضة!
الغانية : وأهل الحي أغلبهم من المترفين، وأكثرهم نَئومُ الضحى!
الجلاد : قصدكما أن الفجر لن يؤذن له اليوم؟!
الغانية : قصدنا التأني، وفي التأني السلامة، وفي العجلة الندامة! … لا تشغل بالك! … إن الفجر سيؤذن له في حينه، وأنت على كل حال في مأمن، ولا تَبِعةَ عليك … المؤذن وحده هو المسئول … هلم بنا أيها المؤذن! … فنجان من القهوة فيه لصوتك شفاء وصفاء!
المؤذن : لا بأس بوقت قصير، وفنجان صغير …

(الغانية تدخل دارها بالمؤذن.)

الجلاد (للمحكوم عليه) : أرأيت؟! … بدلًا من أن يصعد إلى المئذنة، صعد إلى بيت اﻟ … محترمة! … هذا هو المؤذن!
المحكوم عليه : رجل شهم! … يخاطر بكل شيء! … أما أنت؟! … أنت الذي لن يوجَّهَ إليه عَتبٌ ولا لوم … أنت الآمن المغطَّى بعذرك … الخالي من التبعة، المالك لحجتك، تثور هكذا وتهتاج وترتاع؟! … هدِّئ من روعك قليلًا يا صديقي! … تجمَّل بالأناة والصبر! … وتوكل على الله! … اسمع! … لدي فكرة! … فكرة طيبة نيرة … فيها لك تهدئة الخاطر، ومتعة النفس، وانشراح الصدر! … غنِّ لي أغنيتك الرقيقة مرة أخرى! … بصوتك العذب الرخيم، وأُقسم لك إني سأستمع إليها بقلب ينتفض حماسةً وإعجابًا … هلم! … غنِّ! … إني مصغٍ إليك بكل جوارحي!
الجلاد : لم تعُدْ بي رغبة!
المحكوم عليه : لماذا؟ … ما الذي كدر صفوك؟ … ألأنك لم تُطِح برأسي؟
الجلاد : لأني حِدت عن واجبي!
المحكوم عليه : واجبك هو تنفيذ الحكم عند أذان الفجر! … لكن من الذي يؤذن للفجر؟ … أنت؟ … أم المؤذن؟
الجلاد : المؤذن!
المحكوم عليه : وهل فعل؟
الجلاد : لا.
المحكوم عليه : إذن … ما ذنبك أنت؟
الجلاد : حقًّا! … لا ذنب لي!
المحكوم عليه : هذا هو ما نقوله جميعًا!
الجلاد : إنك تُعزِّيني وتهوِّن عليَّ.
المحكوم عليه : إني أقول الحقيقة!
الجلاد (يلتفت إلى مشارف الطريق ويصيح) : ما هذه الجموع! … يا الله … إنه موكب الوزير! … إنه الوزير!
المحكوم عليه : لا ترتعد هكذا! … هدِّئ من روعك!
الجلاد : لا جُناح عليَّ … إني مغطًّى … أليس كذلك؟
المحكوم عليه : اطمئن! … مغطًّى بألف دِثارٍ من الحجج والمعاذير!
الجلاد : إنه المؤذن اللعين الذي سيؤدي الحساب العسير!

(الوزير يظهر بين حراسه.)

الوزير (صائحًا) : عجبًا! … ألم يُعدَم بعدُ هذا المجرم؟
الجلاد : نحن في انتظار الفجر يا مولاي الوزير! … حسب أوامرك!
الوزير : الفجر؟! … إن الفجر قد صليناه في مسجد القصر بحضور مولانا السلطان وقاضي القضاة!
الجلاد : ليس الذنب ذنبي يا سيدي الوزير … إن مؤذن هذا المسجد لم يصعد بعدُ إلى المئذنة!
الوزير : كيف ذلك؟! … هذا أمر لا يُعقل! … أين هو هذا المؤذن؟

(المؤذن يخرج من باب الدار متسللًا، ومحاولًا الاختفاء خلف الغانية وخادمتها.)

الجلاد (يلمحه ويصيح) : ها هو! … ها هو ذا!
الوزير (للحراس) : أحضروه! … (يحضرونه إليه) هل أنت مؤذن هذا المسجد؟
المؤذن : نعم يا مولاي الوزير!
الوزير : لماذا لم تؤذن للفجر حتى الآن؟
المؤذن : من قال ذلك لا مولاي الوزير؟ … لقد أذَّنت للفجر منذ وقت مضى.
الوزير : أذَّنتَ للفجر؟
المؤذن : في موعده … شأني في كل يوم، وقد سمعني من سمع.
الغانية : حقًّا، لقد سمعناه كلُّنا يؤذن للفجر من فوق مئذنته.
الخادمة : نعم … اليوم … كعادته في كل الأيام في مثل هذا الوقت.
الوزير : ولكن هذا الجلاد يزعُم …
الغانية : هذا الجلاد كان مخمورًا، وكان يغط في النوم!
الخادمة : وكان غطيطه يتصاعد إلينا ويوقظنا من لذيذ الرُّقاد!
الوزير (للجلاد المندهش) : أهكذا تنفذ أوامري؟!
الجلاد : أُقسم! … أُقسم! … يا سيدي الوزير …
الوزير : كفى!

(الجلاد يعقد لسانَه الذهول.)

المحكوم عليه : أيها الوزير! … ألتمس إليك أن تصغي إليَّ: لقد بعثتُ إلى مولانا السلطان بظلامة …
الجلاد (يفطن ويصيح) : أُقسم يا سيدي الوزير إني كنت متنبهًا …
الوزير : قلت لك كفى! … (ثم يلتفت إلى المحكوم عليه) نعم … ظُلامتك عَلِم بها مولانا السلطان، وقد أمر أن تحاكَم أمام قاضي القضاة … وسيحضر مولانا السلطان بنفسه محاكمتك … تلك رغبته الكريمة وأمره الذي لا يُرد … أيها الحراس! … أخلوا الساحة من الناس، وليدخل كلٌّ داره … إن هذه المحاكمة يجب أن تُجرى في نطاق السرية التامة.

(الحراس يخلُون الساحة من الناس.)

الجلاد : يا مولاي الوزير! … (يحاول أن يشرح الأمر ولكن الوزير يبعده بإشارة).

(السلطان يظهر في موكبه، وفي صحبته قاضي القضاة.)

المحكوم عليه (صائحًا) : يا مولانا السلطان! … العدل! … ألتمس العدل!
السلطان : أهذا هو المتهم؟
المحكوم عليه : يا مولانا السلطان! … إني لم أرتكب ذنبًا ولا جُرمًا!
السلطان : سنرى!
المحكوم عليه : ولم أحاكَم بعد … لم أحاكم!
السلطان : ستحاكَم المحاكمةَ العادلة … وَفقًا لرغبتك … وسيتولى محاكمتَك قاضي القضاة في حضرتنا!

(يصدر السلطان إشارةً إلى قاضي القضاة ليشرع في المحاكمة، ثم يجلس في مقعد أُعدَّ له، ويقف الوزير إلى جواره.)

القاضي (يجلس على مقعد له) : فكُّوا قيود المتهم! … (يفك أحد الحراس أغلال المحكوم عليه) اقترب يا هذا! … ما هي جريمتك؟
المحكوم عليه : لم أرتكب جُرمًا!
القاضي : وما هو الاتهام المنسوب إليك؟
المحكوم عليه : سل الوزير عنه!
القاضي : إني أسألك أنت!
المحكوم عليه : ما فعلت شيئًا قط سوى أني لفَظت كلمةً بريئة، لا خطر فيها ولا ضرر!
الوزير : إنها كلمة مروعة أثيمة!
القاضي (للمحكوم عليه) : ما هي هذه الكلمة؟
المحكوم عليه : لست أحب أن أعيدها.
الوزير : الآن لا تحب … أما في وسط السوق وبين جموع الناس …
القاضي : ما هي هذه الكلمة؟
الوزير : قال إن مولانا السلطان النبيل العظيم إن هو إلا عبد رقيق.
المحكوم عليه : كلُّ الناس يعلم هذا … وما هو بالأمر الخافي.
الوزير : لا تقاطعني … وزعم أنه هو النخَّاس الذي تولى بيع سلطاننا في صباه إلى السلطان الراحل!
المحكوم عليه : هذا صحيح … وأُقسم بالأيمان المغلَّظة … وإنها لوثيقةُ فخارٍ لي أعتزُّ بها أبدَ الدهر.
السلطان (للمحكوم عليه) : أنت بعتني إلى السلطان الراحل؟!
المحكوم عليه : نعم!
السلطان : متى كان ذلك؟
المحكوم عليه : منذ خمس وعشرين سنةً خلت يا مولاي … كنتَ صبيًّا صغيرًا في السادسة، ضالًّا متروكًا في قرية شركسية دهمها المغول … وكنت غايةً في الذكاء والحكمة أكثرَ مما ينبغي لسنِّك … ففرحت بك وحملتُك إلى سلطان هذه البلاد، فمنحني ثمنًا لك ألف دينار.
السلطان (ساخرًا) : ألف دينار؟! … فقط؟!
المحكوم عليه : كنت تساوي أكثر من ذلك بالطبع … ولكني كنت حديث عهد بالمهنة … لم أكن قد جاوزت السادسة والعشرين، وكانت تلك الصفقة هي بداية عملي، وقد فتحتْ لي طريق المستقبل!
السلطان : لك ولي!
المحكوم عليه : حمدًا لله!
السلطان : أهذا مما يستحق الموت؛ أن تأتي بي إلى هذه البلاد؟ … إني أرى الأمر على النقيض.
الوزير : إنه يستحق الموت لثرثرته وانفلات لسانه.
السلطان : لست أرى ضررًا بالغًا في أن يقول أو يذيع أني كنت عبدًا رقيقًا … السلطان الراحل نفسه كان كذلك … أليس هذا صحيحًا أيها الوزير؟
الوزير : هذا صحيح … ولكن …
السلطان : أليس الأمر كذلك يا قاضي القضاة؟
القاضي : حقًّا أيها السلطان!
السلطان : إنها لَأسرة برمَّتها من قدماء العبيد الأرقاء، سلاطين المماليك … الجميع جُلبوا من نعومة أظفارهم إلى القصور، حيث نشئوا التنشئة القوية القويمة؛ ليصبحوا فيما بعدُ حُكامًا وقادة للجيوش وسلاطين على البلاد … وما أنا إلا واحد من هؤلاء … لم أشِذَّ عنهم ولم أختلف.
المحكوم عليه : بل أنت من خيرهم حكمةً وسدادًا … أبقاك الله ذُخرًا لرعيتك!
السلطان : ومع ذلك … لست أذكر وجهك … بل إني لست أذكر بوضوحٍ أيامَ طفولتي في تلك القرية الشركسية التي تتحدث عنها وتقول إنك وجدتني فيها، كل ما أستطيع تذكره وتبيُّنَه هو: طفولتي بالقصر في كنف السلطان الراحل … لقد كان يعاملني كأني ابنه الحقيقي؛ إذ لم تكن له ذرية … وقد رباني ونشَّأني لأتولى الحكم، وكنت أعلم حقًّا علمَ اليقين أنه لم يكن أبي.
المحكوم عليه : أبواك قُتلا بيد المغول!
السلطان : ما حدثني أحد قط عن أبوَيَّ … كنت أعلم فقط أنه قد جيء بي إلى القصر وأنا في سن صغيرة.
المحكوم عليه : وأنا الذي جاء بك!
السلطان : ربما!
المحكوم عليه : وإذن يا مولاي … ما هي جريمتي؟
السلطان : لست والله أدري … سَلْ من اتهمك!
الوزير : ليست تلك هي جريمتَه الحقيقية!
السلطان : أهناك جريمة حقيقية؟
الوزير : أجل يا مولاي … القول بأنك كنت عبدًا رقيقًا ليس فيه حقًّا ما يَشين ولا ما يَدين؛ كل السلاطين المماليك كانوا كذلك … ليست هنا الجريمة، ولكن السلطان المملوك كان يعتق عادةً قبل جلوسه على العرش.
السلطان : وبعد؟
الوزير : وبعدُ يا مولاي … هذا الرجل يزعم أنك لم تعتق حتى الآن، وأنك لم تزل رقيقًا، وأن صفة العبودية ما تزال لاصقةً بك، وأن العبد لا يجوز له أن يحكم شعبًا حرًّا.
السلطان (للمحكوم عليه) : أقلت ذلك حقًّا؟!
المحكوم عليه : لم أقل كلَّ ذلك؛ إنهم الناس في السوق يحلو لهم دائمًا هذا النوع من اللَّغَط والثرثرة.
السلطان : ومن أين جاءك أني لم أعتق؟
المحكوم عليه : لست أنا الذي قالها … إنهم ينسُبون إليَّ كل قبيح من القول!
السلطان : ولكنهم يثرثرون ويلغطون على كل حال!
المحكوم عليه : لست أنا!
السلطان : أنت أو غيرك … لم يعُد هذا يهم … المهم الآن هو أن يعلم الناس جميعًا في كل مكان أن تلك محضُ أكذوبة … أليس الأمر كذلك يا قاضي القضاة؟
القاضي : الواقع يا مولاي …
السلطان : هذا محض زور وبهتان … هذا محض اختلاق لا يستقيم معه عقل ولا منطق … لم أعتق بعد؟ … أنا؟! … أنا الذي كان قائدًا للجيوش وقاهرًا للمغول … الذراع اليمنى للسلطان الراحل، والخَلف الذي أعدَّه ليحكم مِن بعده … كل هذا وما فكر السلطان قبل وفاته في عتقي؟! … أهذا معقول؟ … اسمع أيها القاضي! … ما عليك الآن إلا أن تطلق المنادين يعلنون في المدينة التكذيبَ الرسمي، وينشرون على الناس نصَّ الوثيقة المسجلة بعتقي، وهي، ولا شك، محفوظة في خزائنك … أليس كذلك؟!
القاضي (يُمشط لحيته بأصابعه) : تقول يا مولاي …
السلطان : ألم تسمع ما قلت؟
القاضي : بل إني …
السلطان : كنت مشغولًا بمداعبة لحيتك بأصابعك!
القاضي : يا مولاي السلطان! …
السلطان : ماذا؟ … مولاك السلطان يكلمك بلغة بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى طويلِ تأمل، ولا عميق تفكير … كل ما في الأمر هو أنه قد أصبح من الضروري إعلان تلك الوثيقة … أفهمت؟
القاضي : نعم.
السلطان : ما زلت تداعب لحيتك بأصابعك؟ … هلَّا تركتها وشأنها الآن قليلًا؟!
الوزير (يتدخل) : مولاي! … أتأذن لي في أن …
السلطان : ماذا بك؟ … أنت أيضًا؟!
الوزير : إني أسأل مولاي السلطان أن …
السلطان : ما كل هذا الارتباك؟! … أنت وهو على السواء!
القاضي : يحسُن تأجيل هذه المحاكمة إلى وقت آخر … فإذا صرنا على انفراد يا مولاي …
الوزير : نعم … هذا هو الأفضل!
السلطان : بدأت أدرك …

(يأمر الوزير بإشارة منه أن يبتعد الجميع بالمحكوم عليه.)

السلطان : ها نحن قد صرنا على انفراد … ماذا لديكم من القول! … وإن كنت أرى على سحنتيكما ما يوحي ويفصح.
القاضي : أجل يا مولاي … لقد أدركت بفطنتك … في الواقع لا توجد وثيقة عتق لك في خزائني.
السلطان : لعلك لم تتسلمها بعد، ولكنها لا بد أن تكون موجودةً في مكان ما … أليس كذلك أيها الوزير؟!
الوزير : في الحقيقة يا مولاي …
السلطان : ماذا؟!
الوزير : الحقيقة أنه …
السلطان : تكلم!
الوزير : ما من وثيقة هناك تُثبت عتقَك يا مولاي!
السلطان : ماذا تقول؟
الوزير : لقد سقط السلطان الراحل فجأةً على أثر أزمة في القلب، وتوفاه الله قبل أن يُعتقك.
السلطان : ما هذا الذي تزعمه أيها الشقي؟!
الوزير : إني شقي حقًّا يا مولاي … ومجرم أثيم … هذا ما لا أنكر … كان من واجبي تدبُّرُ هذا الأمر في حينه … لكن موضوع العتق هذا لم يخطر لي على بال … كان رأسي ممتلئًا بأمور أخرى جِسام؛ لقد كنت أنت يا مولاي وقتئذ بعيدًا … في حومة القتال … ولم يكن أحد غيري قائمًا قُربَ فراش السلطان الذي يحتضر … لقد نسيت هذا الموضوع تحت وطأة الموقف وجلال الحدث وشدة الأسى … وما كان شيء يشغلني في تلك اللحظة إلا تأدية اليمين — بين يدي المحتضر — أن أخدمك يا مولاي بعين الإخلاص الذي خدمته به طول حياته.
السلطان : حقًّا … ها أنت ذا قد خدمتني!
الوزير : إني مستحق للموت … أعرف ذلك؛ فهذا جُرم لا يُغتفر … إن السلطان الراحل ما كان يستطيع أن يفكر في كل شيء، أو يذكر كل شيء، إنه لمن صميم عملي أنا أن أفكر له، وأن أذكِّره بالخطير من الأمور … كان من واجبي أنا حقًّا أن أعرض عليه موضوع العتق؛ بما له من أهمية خاصة، وأن أُعد ما يقتضيه من إجراءات شرعية … ولكن مقامك العالي يا مولاي ونفوذك وهيبتك ومنزلتك العظيمة في النفوس؛ كل تلك الصفات في سموِّها جعلتنا نسهو عن حالة الرق والعبودية بالنسبة إليك، وعن حاجة من كان في مثل ارتفاعك إلى مثل هذه الحجج والوثائق … ما فطنتُ والله لهذا الأمر إلا فيما بعد … عندما جلست يا مولاي على العرش … عندئذ اتضح لي الموقف بأكمله … وتملَّكَني الهلع وكدت أجنُّ … لولا أني هدَّأت من روعي وتماسكت؛ معللًا النفس بأن هذا الموضوع لن يُتاح له يومًا أن يُفتح أو يُثار.
السلطان : ها هو ذا قد فُتح وأثير!
الوزير : وا أسفاه! … ما كان لي أن أعلم أن رجلًا مثل هذا سيأتي يومًا يُثرثر ويلغط.
السلطان : ولهذا أردت أن تغلق فمه بإسلامه إلى الجلاد!
الوزير : نعم!
السلطان : وتدفن غلطتك بدفن هذا الرجل.
الوزير (مُطرقًا) : نعم.
السلطان : وما فائدة ذلك الآن … والجميع يثرثرون ويلغطون؟!
الوزير : إذا قُطع رأس هذا الرجل، وعُلق في الساحة أمام الناس، فما من لسان بعدئذ يجرؤ على الكلام!
السلطان : أتظن؟
الوزير : إن لم يستطع السيف قطع الألسنة فماذا يستطيع إذن؟!
القاضي : أتأذن لي يا مولاي بكلمة؟
السلطان : إني مُصغٍ.
القاضي : إن السيف قاطع حقًّا للألسنة والرءوس … ولكنه ليس بقاطع في المشاكل والمسائل.
السلطان : ماذا تعني؟
القاضي : أعني أن المسألة ستظل دائمًا قائمة … وهي أن السلطان يحكم دون أن يعتق، وأنه عبد رقيق على شعب حُر طليق!
الوزير : ومن يجرؤ على قول هذا؟ … إن من يجرؤ يُقطع رأسه!
القاضي : تلك مسألة أخرى!
الوزير : ليس من الضروري لمن يحكم أن يحمل في يديه الوثائق والحجج! … لدينا أروع مَثل وأقواه في الأسرة الفاطمية … وكلنا يذكر ما فعل «المعز لدين الله الفاطمي» يومَ جاء يزعم أنه من نسل رسول الله ، وأنه بهذا النسب له حق الحكم في أرض مصر؛ فلما لم يصدقه الناسُ قام فيهم شاهرًا سيفه، وفاتحًا صناديق ذهبه؛ وهو يقول: هذا حسبي … وهذا نسبي! … فسكت الناس، وحكم هو وذريته من بعدُ هادئين هانئين الأجيالَ الطويلة!
السلطان : ما تقول في هذا أيها القاضي؟
القاضي : أقول إن هذا صحيح من الوجهة التاريخية … ولكن …
السلطان : ولكن ماذا؟
القاضي : تريد إذن أيها السلطان العظيم أن تحل مشكلتك بهذه الطريقة!
السلطان : ولِمَ لا؟!
الوزير : حقًّا! ولِمَ لا! … ما من شيء أيسر من هذا، وبخاصة في مسألتنا هذه … يكفي أن نعلن على الملأ أن مولانا السلطان قد أُعتِق عتقًا شرعيًّا … أعتقه السلطان الراحل قبل وفاته … وأن الوثائق والحجج مسجَّلة ومحفوظة لدى قاضي القضاة، والموت لمن يجرؤ على تكذيب ذلك!
القاضي : هنالك شخص سوف يُكذِّب ذلك.
الوزير : من هو؟
القاضي : أنا.
السلطان : أنت؟!
القاضي : نعم … أنا يا مولاي … إني لا أستطيع أن أشترك في هذه المؤامرة!
الوزير : إنها ليست مؤامرة … إنها خطة لإنقاذ الموقف.
القاضي : إنها مؤامرة ضد القانون الذي أُمثِّله …
السلطان : القانون؟!
القاضي : نعم أيها السلطان … القانون … أنت في نظر الشرع والقانون لست سوى عبد رقيق … والعبد الرقيق يعتبر — قانونًا وشرعًا — شيئًا من الأشياء ومتاعًا من الأمتعة … وبما أن السلطان الراحل المالك لرقبتك لم يُعتقك قبل وفاته، فأنت لم تزل شيئًا من الأشياء ومتاعًا مملوكًا لآخر؛ وعلى هذا فأنت فاقد لأهلية التعاقد في المعاملات العادية التي يزاولها بقية الناس الأحرار.
السلطان : أهذا هو القانون؟!
القاضي : نعم!
الوزير : مهلًا يا قاضي القضاة! … نحن الآن لسنا في صدد رأي القانون، ولكنا في صدد البحث عن الطريقة التي نتخلص بها من هذا القانون … وطريقة التخلص هي في افتراض أن العتق قد وقع وتم، وما دام الأمر سِرًّا بيننا نحن الثلاثة، وما من أحد سوانا يعرف الحقيقة؛ فمن الميسور أن نحمل الناس على تصديق …
القاضي : الأكذوبة.
الوزير : قُل الحل … هذا اللفظ أليق وأنسب!
القاضي : الحل بواسطة الكذب.
الوزير : وما الضرر في هذا؟
القاضي : بالنسبة إليكما ما من ضرر.
الوزير : وبالنسبة إليك؟
القاضي : بالنسبة إليَّ الأمر يختلف … فأنا لا أستطيع أن أكذب على نفسي، ولا أستطيع التخلص من القانون وأنا الذي أُمثِّله … ولا أستطيع الحِنْثَ بيمين عاهدت فيها نفسي على أن أكون الخادم الأمين للشرع والقانون!
السلطان : عاهدت فيها نفسك أمامي!
القاضي : وأمام الله وضميري.
السلطان : معنى ذلك أنك لن تسير معنا!
القاضي : في هذا الطريق … لا.
السلطان : ولن تضع يدك في أيدينا!
القاضي : على هذه الخطة … لا.
السلطان : إذن … تستطيع في هذه الحالة أن تُنحِّيَ نفسك جانبًا … ولا تتدخل في شيء، وتتركنا نحن نفعل ما نشاء … بهذا تصون يمينك وتُرضي ضميرك.
القاضي : إني آسف يا مولاي السلطان!
السلطان : لماذا؟
القاضي : لأني الآن — وقد علمتُ أنك في نظر القانون فاقد لأهلية التعاقد — أراني مضطرًّا إلى الحكم ببطلان كل تصرفاتك.
السلطان : إنك مجنون … هذا مستحيل!
القاضي : لا أستطيع، مع الأسف، أن أصنع غير ذلك، ما لم …
السلطان : ما لم؟
القاضي : ما لم تأمر بعزلي من منصبي، أو طردي من البلاد … أو قطع رأسي! … بهذا أتحلل من يميني، وتنطلق أنت على هواك تفعل ما تشاء!
السلطان : أهو تهديد؟!
القاضي : بل هو حل.
الوزير : إنك تُعقِّد لنا المشكلة يا قاضي القضاة!
السلطان : بدأت أضيق بهذا الرجل!
الوزير : إنه يعلم أننا في قبضته؛ إذ إن أقل عنف معه يفضح كلَّ شيء أمام الشعب!
السلطان (للقاضي) : خلاصة القول: إنك لا تريد معاونتنا.
القاضي : بل إن ما أتمناه يا مولاي هو أن أكون لك مُعينًا … ولكن ليس على هذا الوجه.
السلطان : ماذا تقترح إذن؟
القاضي : تطبيق القانون.
السلطان : إذا طبقتَ أنت القانون فقدتُ أنا عرشي.
القاضي : ليس هذا فقط!
السلطان : أهناك ما هو أسوأ؟!
القاضي : نعم.
السلطان : ماذا هناك أيضًا؟!
القاضي : باعتبارك في نظر القانون متاعًا مملوكًا للسلطان الراحل، فقد أصبحت جزءًا من ميراثه، وبما أنه توفي عن غير وريث فقد آلت تَرِكتُه إلى بيت المال … وعلى هذا فأنت الآن متاع من الأمتعة المملوكة لبيت المال … متاع عقيم، لا يُدِرُّ ربحًا ولا يأتي بغلَّة، وإني بصفتي أيضًا خازنًا لبيت المال، أقول إنه قد جرت العادة في مثل هذه الأحوال على التخلص من المتاع العقيم ببيعه في المزاد، حتى لا تُضارَّ مصلحة بيت المال، وحتى يُنتفع بحصيلة البيع فيما يعود على الناس عامةً والفقراء خاصةً بالنفع!
السلطان : متاع عقيم؟! … أنا؟!
القاضي : إني أتكلم بالطبع من الوجهة الشرعية.
السلطان : حتى الآن لم أتلقَّ منك حلولًا … إنما أتلقى إهانات!
القاضي : إهانات؟! … عفوًا أيها السلطان العظيم! … إنك لَتعلم حقَّ العلم كم أُجلُّك وأُكْبرك، وفي أي مكان مرتفع أضعك … وإنك لَتذكر — ولا ريب — أني منذ اللحظة الأولى كنت أول من بادر إلى مبايعتك والمناداة بك سلطانًا آمرًا على بلادنا … إن ما أفعله الآن إن هو إلا عرض صريح للموقف من وجهة نظر الشرع والقانون.
السلطان : خلاصة الموقف إذن هي أني شيء ومتاع، ولست رجلًا ولا إنسانًا!
القاضي : نعم!
السلطان : وأن هذا الشيء أو المتاع مملوك لبيت المال!
القاضي : حقيقة!
السلطان : وأن بيت المال يتصرف فيما يملك من متاع لا غلَّة له بعرضه للبيع في المزاد؛ للمصلحة العامة!
القاضي : تمامًا.
السلطان : يا قاضي القضاة! … ألا ترى معي أن كل هذا عجيب وغريب؟!
القاضي : حقًّا … ولكن …
السلطان : وأن كل هذا فيه كثير من الغلو والمبالغة والإغراق!
القاضي : ربما … ولكن باعتباري قاضيًا فإن الذي يهمني هو مركز الوقائع بالنسبة إلى نصوص القانون.
السلطان : اسمع أيها القاضي! … قانونك هذا لم يأتني بالحل؛ في حين أن حركةً صغيرة من سيفي كفيلةٌ بأن تقطع عقدة المشكلة في الحال!
القاضي : إذن … افعل!
السلطان : سأفعل … ماذا يهم سفْكُ قليل من الدم في سبيل صلاح الحكم؟!
القاضي : يجب البدء عندئذ بسفك دمي!
السلطان : سأفعل كل ما أراه ضروريًّا لصيانة أمن الدولة، وسأبدأ فعلًا بك … وأُلقي بك في السجن … أيها الوزير! … اقبض على القاضي!
الوزير : يا مولاي السلطان، إنك لم تستمع بعدُ إلى جوابه عن سؤالك.
السلطان : أي سؤال؟
الوزير : السؤال عن الحل الذي يراه للمشكلة.
السلطان : لقد أجاب عن هذا السؤال.
الوزير : إن ما قاله لم يكن هو الحل، إنما هو عرض للموقف.
السلطان : أصحيح هذا أيها القاضي؟
القاضي : نعم!
السلطان : لديك حل إذن لمشكلتنا هذه؟
القاضي (بنفس النبرة) : نعم!
السلطان : إذن … تكلم! … ما هو الحل؟
القاضي : لا يوجد غير حلٍّ واحد.
السلطان : قُل! … ما هو؟
القاضي : تطبيق القانون.
السلطان : أيضًا؟! … مرة أخرى؟!
القاضي : نعم … مرة أخرى … ودائمًا … إذ لست أرى حلًّا آخر غير هذا.
السلطان : أسمعت أيها الوزير؟ … هل يخامرك بعد ذلك أملٌ في التعاون مع هذا الشيخ المخرف العنيد؟!
الوزير : اسمح لي يا مولاي أن أستجوبه قليلًا!
السلطان : افعل ما شئت!
الوزير : يا قاضي القضاة! … المسألة دقيقة، وتحتاج منك إلى أن تشرح لنا بتفصيل ووضوح وجهة نظرك.
القاضي : وجهة نظري واضحة بسيطة، أشرحها في كلمتين: لحل هذه المسألة أمامنا طريقان؛ طريق السيف، وطريق القانون، أما السيف فلا شأن لي به، وأما القانون فهو ما ينبغي لي وما أستطيع أن أُفتي فيه … والقانون يقول: إن العبد الرقيق لا يملك عتقَه غيرُ مولاه؛ مالكِ رقبته … وفي حالتنا هذه المولى مالك الرقبة توفي بغير وريث، فآلت ملكية العبد إلى بيت المال، وبيت المال لا يملك عتقه بغير مقابل؛ إذ ليس من حق أحد التصرف بغير مقابل في مال أو متاعٍ مملوك للدولة … ولكن من الجائز لبيت المال التصرف بالبيع، وبيع مال الدولة لا يكون صحيحًا قانونًا إلا بمزاد مطروح في العلن … فالحل الشرعي إذن هو أن نطرح مولانا السلطان للبيع في المزاد العلني، ومن رسا عليه المزاد يعتقه بعد ذلك … بهذا لا يُضارُّ ولا يُغبَن بيت المال في ملكه، ويظفر السلطان عن طريق القانون بعتقه وتحريره!
السلطان (للوزير) : سمعت هذا؟!
الوزير (للقاضي) : نطرح مولانا السلطان العظيم للبيع في المزاد العلني؟! … إن هذا هو الجنونُ بعينه!
القاضي : هذا هو الحل القانوني الشرعي!
السلطان (للوزير) : لا تُضيع وقتًا! … لم يبقَ مِن ردٍّ على هذا الأحمق الوقح إلا الإطاحة برأسه، ولتكن النتيجة ما تكون! … وأنا الذي سيفعل ذلك بيده … (يستل سيفه).
القاضي : إنه لشرف عظيم لي يا مولاي أن أموت بيدك، وأن تذهب روحي في سبيل الحق والمبدأ!
الوزير : صبرًا يا مولاي صبرًا! … لا تصنع من هذا الرجل شهيدًا … ما من ميتةٍ أروعَ من هذه يتمناها مثلُ هذا الشيخ المُهدَّم! … سوف يُقال إنك حطمت القانون والشرع فيه … وسوف يصبح هو الرمز الحي لروح الحق والمبدأ … ورُب شهيد مجيد له من التأثير والنفوذ في ضمير الشعوب ما ليس لملك جبار من الملوك!
السلطان (يكظم) : لعنة الله!
الوزير : لا تُنلْه هذا المجد يا مولاي على حساب الموقف!
السلطان : وما العمل إذن؟ … إن هذا الرجل يضعنا في مأزق … ويخيِّرُني بين أمرين، كلاهما مُر: القانون الذي يُظهرني ضعيفًا ويصيِّرُني أضحوكة، أو السيف الذي يَصِمُني بالوحشية ويجعلني بغيضًا!
الوزير (يتجه إلى القاضي) : يا قاضي القضاة! … كن ليِّنًا ميسرًا … ولا تكن صلبًا معسِّرًا! … قف معنا في منتصف الطريق، وأوجِدْ لنا حلًّا وسطًا، واجتهد معنا في البحث عن مخرج معقول! …
القاضي : ما من مَخرج معقول سوى القانون.
الوزير : نطرح السلطان للبيع في المزاد؟!
القاضي : نعم!
الوزير : والذي يرسو عليه المزاد ويشتريه؟
القاضي : يعتقه في الحال … في مجلس العقد … هذا هو الشرط؟!
الوزير : ومن ذا الذي يقبل أن يخسر ماله على هذا النحو؟!
القاضي : كثيرون … أولئك الذين يفتدون حرية السلطان بأموالهم!
الوزير : إذن … لماذا لا نقوم نحن بأداء هذا الواجب … أنا وأنت … ونفتدي سلطاننا بأموالنا الخاصة سرًّا … ونفوز نحن بهذا الشرف؟! … أليست فكرة صائبة؟! …
القاضي : كلا مع الأسف … سِرًّا لا يجوز … القانون صريح … إنه ينص على أن كل بيع لأملاك بيت المال يجب أن يتم علنًا، وفي مزاد عام!
السلطان (للوزير) : لا تتعب نفسك معه! … إنه مُصرٌّ على فضيحتنا!
الوزير (للقاضي) : وأخيرًا يا قاضي القضاة؟ … أمَا من حيلة تخرجنا من هذه الورطة!
القاضي : حيلة؟! … لست أنا الذي يُطلب إليه البحث عن الحيل!
السلطان : بالطبع! … هذه الرجل لا يبحث إلا عما فيه تحدِّينا وإذلالنا!
القاضي : لست أنا بشخصي يا مولاي! … إن شخصي الضعيف لا شأن له في الأمر كله! … ولو كان الأمر بيدي ومتعلقًا برغبتي، لَمَا كان أحب إليَّ من أن أُخرجكم من هذا الموقف على خير ما تشتهون!
السلطان : يا للضعيف المسكين! … الأمر ليس بيده … بيدِ مَن إذن؟
القاضي : القانون.
السلطان : نعم! هذا الشبح الذي تختفي وراءه لتُخضعني، وتفرض عليَّ إرادتك، وتُظهرني أمام الناس في هذا المظهر المضحك الواهن المهين!
القاضي : بل لتظهر بمظهر الحاكم المَجيد!
السلطان : أترى من علامات المجد أن يعامَل سلطانٌ معاملة السلعة والمتاع، ويُباع في الأسواق؟!
القاضي : إنها لمن علامات المجد فعلًا يا مولاي أن يخضع سلطان للقانون كما يخضع له بقيةُ الناس.
الوزير : إنه لجميل حقًّا يا قاضي القضاة أن يطيع الحاكم القانون كما يطيعه المحكوم … ولكن في هذا مجازفة كبرى … إن سياسة الحكم لها أساليبها، وحكم الناس يتطلب وسائلَ أخرى.
القاضي : إني لا أفقه شيئًا في السياسة ولا في مهنة حكم الناس!
السلطان : إنها مهنتنا نحن … دعنا إذن نمارسها بوسائلنا الخاصة!
القاضي : إني لم أَغُلَّ يديك يا مولاي … إن لك مُطلق الحرية في أن تمارس حكمك كما تشاء! .
السلطان : حسن! … إني أرى الآن ما يجب عليَّ فعله!
الوزير : ماذا أنت صانع يا مولاي؟
السلطان : انظر إلى الشيخ! … أتراه يحمل سيفًا في منطقته؟ … كلا بالطبع … إنه لا يحمل غير لسان في فمه يديره بكلمات وعبارات، وإنه لَيُحسن استخدام ما يملك بحذق وبراعة، ولكني أنا أحمل هذا! … (يشير إلى سيفه)؛ وهو ليس من خشب، ولا هو لعبة من اللعب! … إنه سيف حقيقي، وينبغي أن يصلُح لشيء، ويجب أن يكون لوجوده سبب … أتفهمون كلامي؟! … أجيبوا! … لماذا قُدِّر لي أن أحمل هذا؟! … ألِلزينة أم للعمل؟!
الوزير : للعمل!
السلطان : وأنت أيها القاضي … لماذا لا تجيب؟ … أجب! … أهو لِلزينة أم للعمل؟! …
القاضي : لأحدهما.
السلطان : ماذا تقول؟
القاضي : أقول لهذا أو لذاك!
السلطان : ماذا تعني؟
القاضي : أعني أن لك الخيار يا مولاي السلطان … لك أن تجعله للعمل، ولك أن تجعله للزينة … إني معترف بما للسيف من قوة أكيدة، ومن فعل سريع وأثر حاسم، ولكن السيف يعطي الحق للأقوى، ومن يدري غدًا من يكون الأقوى؟ … فقد يبرُز من الأقوياء من ترجُح كفَّتُه عليك! … أما القانون فهو يحمي حقوقك من كل عدوان؛ لأنه لا يعترف بالأقوى … إنه يعترف بالأحق! … والآن فما عليك يا مولاي سوى الاختيار: بين السيف الذي يفرضك ولكنه يعرضك وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك!
السلطان (مفكرًا لحظة) : السيف الذي يفرضني ويعرضني، والقانون الذي يتحداني ويحميني؟!
القاضي : نعم.
السلطان : ما هذا الكلام؟!
القاضي : الحقيقة الصريحة.
السلطان (يفكر مردِّدًا) : السيف الذي يفرض ويعرض؟! … والقانون الذي يتحدى ويحمي؟!
القاضي : نعم يا مولاي!
السلطان (للوزير) : يا لهذا الشيخ اللعين! … إن له عبقرية نادرة في أن يوقعنا دائمًا في الحيرة!
القاضي : إني ما صنعت يا مولاي غير أن طرحتُ عليك وجهَي المسألة، وعليك أنت الاختيار!
السلطان : الاختيار! … الاختيار! … ما رأيك أنت يا وزير؟!
الوزير : أنت الذي يبتُّ في هذا يا مولاي!
السلطان : إنك لا تعرف أنت أيضًا فيما أرى؟!
الوزير : في الواقع يا مولاي، إن …
السلطان : إن الاختيار صعب؟!
الوزير : حقًّا!
السلطان : السيف الذي يفرضني على الجميع، ولكنه يُعرِّضني للخطر … أو القانون الذي يتحدى رغباتي ولكنه يحمي حقوقي!
الوزير : نعم!
السلطان : اختر لي أنت!
الوزير : أنا؟! … لا … لا يا مولاي!
السلطان : مِمَّ تخاف؟
الوزير : من العواقب … عواقب هذا الاختيار … إذا اتضح يومًا أني اخترت الطريق الخطأ! … ويا لها يومئذٍ من كارثة!
السلطان : لا تريد تحمُّلَ التبعة؟!
الوزير : لست أجرؤ … وليس من حقي!
السلطان : لا بد من البتِّ في النهاية.
الوزير : ما من أحد غيرك يا مولاي يملك حق البت في مثل هذا الأمر.
السلطان : حقًّا … ما من أحد غيري! … ولن أستطيع التهرب من ذلك … أنا الذي يجب عليه أن يختار ويتحمل تبعة الاختيار!
الوزير : أنت مولانا وحاكمنا!
السلطان : نعم، وتلك ساعتي المخيفة! الساعة المخيفة لكل حاكم! … ساعةَ يُصدر القرار الأخير، القرار الذي يُغيِّر مجرى الأمور! … ساعةَ ينطق بذلك اللفظ الصغير، الذي يبتُّ في الاختيار الحاسم! … الاختيار الذي يقرر المصير!

(يفكر مليًّا، وهو يقطع المكان جيئةً وذَهابًا، والكل ينتظر نطقه … والصمت يُخيِّم لحظة.)

السلطان (وهو مُطرق في تفكيره) : السيف أم القانون؟! … القانون أم السيف؟!
الوزير : إني مُقدِّرٌ يا مولاي دقة موقفك!
السلطان : ولا تريد مع ذلك أن تعينني برأي؟!
الوزير : لا أستطيع … أنت في هذا الموقف صاحبُ الرأي وحدك!
السلطان : لا مفر إذن من أن أُقرر بنفسي!
الوزير : هو ذاك.
السلطان : السيف أم القانون؟! … القانون أم السيف؟! … (يفكر لحظة، ثم يرفع رأسه بقوة) حسن … لقد قررت.
الوزير : أوامرك يا مولاي!
السلطان : قررت أن أختار … أن أختار …
الوزير : ماذا يا مولاي؟
السلطان (صائحًا في عزم) : القانون! … اخترت القانون!
(ستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤