الفصل الثالث

(عين الساحة … وقد ظهر منها جانب المسجد بمئذنته … كما ظهر جانب منزل الغانية؛ يكشف عن جزء من الحجرة ذات النافذة المطلة على الساحة … والوقت ليل.)

الوزير (في الساحة يصيح في الحراس) : ماذا تنتظر هنا كلُّ هذه الجموع، في منتصف الليل! … اطردوا الناس! … وليذهب كلٌّ إلى بيته … إلى فراشه!
الحراس (يطردون الجماهير) : إلى دُوركم! … إلى بيوتكم!
الجموع (مزمجرة) : لا … لا.
الإسكاف (صائحًا) : أريد أن أبقى هنا!
الخمار : وأنا أيضًا لن أتزحزح من هنا!
الوزير (للحراس) : ماذا يقولون؟
الحراس : يرفضون!
الوزير (صائحًا) : يرفضون؟! … ما هذا الهراء؟! … أرغموهم!
الحراس (بقوة) : كلٌّ إلى داره … كلٌّ إلى بيته … اذهبوا! … اذهبوا!
الإسكاف : إني هنا في داري … وها هو ذا حانوتي!
الخمار : أنا أيضًا حاني ها هنا أمامكم!
الحراس : ألا تطيعون الأوامر! … هلموا! … هلموا! … (يدفعونهم).
الإسكاف : لا داعي إلى العنف … أرجوكم!
الخمار : لا تدفعوني بهذه الشدة!
الوزير (للحراس) : أحضروا هذين المشاغبَين!

(الحراس يقبضون على الإسكاف والخمار ويحضرونهما بين يدي الوزير.)

الإسكاف : لم أفعل واللهِ شيئًا يا مولاي الوزير!
الوزير : لماذا تمتنع عن الذهاب إلى بيتك؟
الإسكاف : لست أريد الإيواء إلى فراشي! … بي رغبة قوية في أن أبقى هنا يا مولاي الوزير؛ لكي أشاهد؟!
الوزير : تشاهد ماذا!
الإسكاف : أشاهد خروج مولانا السلطان من هذا البيت.
الخمار : أنا أيضًا يا مولاي الوزير … دعني أشاهد ذلك.
الوزير : حقًّا إنها لجرأة! … لقد بلغت الجرأة اليومَ بالجميع إلى حد القحة! … حتى أنت وزميلك … تجسُران أن تتكلما بهذه اللغة!
الخمار : إنها ليست جرأة يا مولاي الوزير، ولكنها التماس!
الوزير : التماس؟!
الإسكاف : نعم يا مولانا الوزير … نلتمس أن تأذن لنا بالمشاهدة.
الوزير : يا للصفاقة! … وما شأنكما بهذا الأمر؟!
الإسكاف : ألسنا من المواطنين الصالحين؟! … إن مصير سلطاننا لا بد أن يهمنا!
الوزير : هذا ليس سببًا يبيح لكما عصيان الأوامر!
الإسكاف : إننا لا نعصي، ولكننا نتوسل … كيف يغمض لنا جَفنٌ الليلةَ ومصير مولانا السلطان في الميزان؟!
الوزير : في الميزان؟!
الإسكاف : نعم يا مولاي … ميزان الأهواء المتقلبة!
الوزير : ماذا تعني؟
الإسكاف : أعني أن المصير لا يبعث على الاطمئنان.
الوزير : كيف أتاك علم هذا؟!
الإسكاف : مع امرأة كهذه لا يمكن الجزم بشيء!
الخمار : لقد عقدنا رهانًا بيننا … هو يقول إن هذه المرأة ستُخلف وعدها، وأنا أقول إنها ستفي بالوعد.
الوزير : شيء جميل! … حدث خطير كهذا الحدث تجعلان منه لعبة من ألعاب الرهان!
الخمار : لسنا وحدنا في هذا يا مولانا الوزير … كثيرون مثلُنا الليلةَ بين هذه الجماهير يتراهنون! … حتى المؤذن والجلاد قد تراهنا.
الوزير : الجلاد؟! … أين هو الجلاد؟!
الخمار (مشيرًا بيده) : هناك يا مولاي! … إنه يحاول الاختفاء بين الناس.
الوزير (للحراس) : أحضروه!

(الحراس يحضرون الجلاد إلى الوزير.)

الجلاد (خائفًا) : ليس الذنب ذنبي يا مولانا الوزير! … الغلطة غلطة المؤذن … إنه هو المسئول … هو الذي لم يؤذن للفجر!
الوزير : للفجر؟! … أي فجر؟! … لسنا بعدُ في صدد الفجر أيها الأحمق! … (الخمار والإسكاف يضحكان) تجسُران على الضحك في حضرتي؟! … اغربا عن وجهي … اغربا! … (الخمار والإسكاف ينطلقان هربًا) والآن أيها الجلاد؟! … أمشغول أنت في المراهنات؟!
الجلاد : المراهنات؟! … من قال ذلك يا مولاي؟!
الوزير : أريد منك الجواب الصريح عن سؤالي.
الجلاد : ولكني يا مولاي …
الوزير : لا تخف! … وأخبرني.
الجلاد : ولكن هذا الرهان يا مولاي؟
الوزير : أعرف … أعرف، ولن أعاقبك … أجبني صراحةً عن هذا السؤال: هل ستخلف هذه المرأة وعدها في رأيك أو ستفي به؟!
الجلاد : ولكني يا مولاي الوزير؟! …
الوزير : قلت لك لا تخف وأفصح عن رأيك دون حرج! … هذا أمر … عليك طاعته!
الجلاد : أمرك مطاع يا مولاي … إني في الحقيقة لست أثق في هذه المرأة.
الوزير : لماذا؟!
الجلاد : لأنها كاذبة … مخادعة … محتالة.
الوزير : أتعرفها؟!
الجلاد : عرَفت بعض حِيَلها عندما كنت هنا ذلك اليوم، في انتظار الفجر لأُنفذ حكم الإعدام في النخاس.
الوزير : كاذبة … مخادعة … محتالة؟!
الجلاد : نعم!
الوزير : وماذا تستحق امرأة كهذه؟!
الجلاد : العقاب بالطبع!
الوزير : وما هو العقاب الذي تراه لها إذا كذَبتْ وخدعت سلطاننا المعظم؟!
الجلاد : الإعدام بلا شك!
الوزير : حسن … كن إذن على أُهْبة الاستعداد لتنفيذ هذا الحكم عند الفجر!
الجلاد (كالمخاطب نفسه) : الفجر؟! … أيضًا؟!
الوزير : ماذا تقول؟!
الجلاد : أقول إنه عند الفجر سأكون مستعدًّا لتنفيذ أمر مولاي الوزير.
الوزير : نعم … إذا أذَّن المؤذن لصلاة الفجر، ولم يخرج سلطاننا من هذا المنزل حرًّا …
الجلاد : فإني أقطع رقبة هذه المرأة!
الوزير : نعم … عقابًا على جريمة …
الجلاد : الكذب والخداع؟
الوزير : لا.
الجلاد (غير فاهم) : لا؟!
الوزير (كالمخاطب لنفسه) : لا … هذا لا يكفي … تلك جريمة قد لا تستحق الإعدام … وهذه المرأة كفيلةٌ أن تجد من العبارات الرنانة في القانون والمنطق ما تُبرر به فعلها … لا … يجب أن تكون هناك جريمة فظيعة خطيرة، لا يمكن تبريرها والدفاع عنها … جريمة تجلب السخط العام من الشعب كله … فمثلًا يمكن أن نقول إنها … جاسوسة!
الجلاد : جاسوسة؟!
الوزير : نعم … تعمل لحساب المغول! … وعندئذ سينهض الشعب بإجماعه ليطالب برأسها!
الجلاد : نعم … جزاءً وفاقًا!
الوزير : أليس هذا رأيك؟
الجلاد : وسأرفع صوتي … الموت للخائنة!
الوزير : صوتك وحده لن يكفي! … يجب أن تكون هناك أصوات أخرى غير صوتك ترتفع بهذا الهُتاف!
الجلاد : ستكون هنالك أصوات أخرى.
الوزير : أتعرف أصحابها؟!
الجلاد : ليس من الصعب إيجادهم.
الوزير : نعم … يجب إعداد الشهود.
الجلاد : سهلٌ كلُّ هذا يا مولاي!
الوزير : أظن مثل هذا التدبير يمكن أن ينجح … إني معتمد عليك إذا ساءت الأمور.
الجلاد : إني خادمك المخلص يا مولاي الوزير!

(يضيء جزء من الحجرة في منزل الغانية.)

الوزير : صه! … النور في النافذة! … فلنبتعد قليلًا!

(تُظلم الساحة … بينما تُضاء الحجرة ويظهر السلطان والغانية ويتجهان إلى مقعد وثير.)

السلطان (وهو يجلس) : إن منزلك فاخر! … ورياشك ثمينة!
الغانية (جالسة عند قدميه) : نعم … لقد قلت لك الساعةَ يا مولاي، إن زوجي كان من أثرياء التجار، وكان له ذوق، وكان به ولع بالشعر والغناء!
السلطان : كنتِ من جواريه؟!
الغانية : نعم … اشتراني ولي من العمر ستة عشر عامًا … ثم أعتقني وتزوجني قبل موته ببضع سنوات.
السلطان : إن حظك خير من حظي … فأنتِ لم ينسَ أحد أن يُعتقك في الوقت المناسب!
الغانية : إن حظي السعيد حقًّا هو في تشريفك بيتي هذه الليلة!
السلطان : ها أنا ذا في بيتك! … ماذا تنوين أن تصنعي بي هذه الليلة؟!
الغانية : لا شيء سوى أن أُرفِّه عنك قليلًا.
السلطان : أهذا كل شيء؟!
الغانية : ولا شيء غيره … لقد سبق أن قلت لك: إن عندي من البهجة ما ليس عندك … لديَّ من الجواري الحسان مَن حَذَقْن الرقص والغناء والضرب على كل آلة من آلات الطرب … ثِقْ أنك لن تسأم ولن تملَّ هذه الليلة هنا.
السلطان : حتى مطلع الفجر؟
الغانية : لا تفكر الآن في الفجر … إن الفجر لم يزل بعيدًا!
السلطان : سأفعل كل ما تطلبين حتى مطلع الفجر!
الغانية : لن أطلب إليك شيئًا غير الحديث، وتناول الطعام، والاستماع إلى الغناء.
السلطان : لا شيء غير هذا؟!
الغانية : وما تريد أن أطلب إليك أكثر من هذا؟!
السلطان : لست أدري … أنتِ أعلم!
الغانية : فلنبدأ إذن بالحديث! … حدِّثني!
السلطان : عن نفسي؟!
الغانية : نعم … عن قصتك؟! … احكِ لي قصتك!
السلطان : تريدين مني أن أحكي لك قصصًا؟!
الغانية : نعم … في الحق إنه لا بد أن تكون لديك ذخيرة من القصص الرائعة الممتعة!
السلطان : أنا الآن الذي يحكي القصص؟!
الغانية : ولِمَ لا؟!
السلطان : حقًّا … هذا ما ينبغي! … ما دمت أنا في وضع شهرزاد! … هي أيضًا كان عليها أن تحكي القصص الليل بطوله، في انتظار الفجر الذي سيقرر مصيرها!
الغانية (ضاحكة) : وأنا إذن شهريار الهائل المخيف؟!
السلطان : نعم … أليس هذا عجيبًا؟! … كل شيء اليوم يسير مقلوبًا معكوسًا!
الغانية : لا … أنت السلطان دائمًا … أما أنا فهي التي في وضع شهرزاد الجالسة دائمًا عند قدميك!
السلطان : شهرزاد القابضة على رقبة شهريارها القَلِقِ حتى يدركه الصباح!
الغانية : لا … بل شهرزاد التي تُدخل الانشراح في صدر سلطانها، والفرح والبهجة في قلبه … سترى الآن كيف أعالج قلقك وشكَّك!

(تُصفق … فإذا بموسيقى لطيفة قد تصاعدت من وراء الأستار.)

السلطان (بعد أن أصغى) : عزْفٌ جميل.
الغانية : وأنا بنفسي التي سترقص لك!

(تنهض وترقص.)

السلطان (بعد انتهاء رقصتها) : جميل! … كل هذا جميل! … أوَتصنعين هذا كلَّ ليلة؟!
الغانية : لا يا مولاي! … هذا استثناء! … لك أنت … فأنا لم أرقص بنفسي منذ عتقي وزواجي! … أما في بقية الليالي فإن الجواري يقُمْن بالرقص والغناء!
السلطان : من أجل زبائنك؟!
الغانية : بل قُل ضيوفي!
السلطان : كما تشائين … ضيوفك … لا بد أن ضيوفك هؤلاء يدفعون إليكِ في كل هذا أجرًا غاليًا … أدركت الآن لماذا أنتِ على هذا الثراء!
الغانية : ثرائي ورِثتُه عن زوجي! … وإني لأنفق أحيانًا على هذه الليالي أكثر مما أتقبَّل!
السلطان : لماذا؟ … لوجه الله تعالى؟!
الغانية : لوجه الفن … إني من هُواته.
السلطان (ساخرًا) : الفن الرفيع دون شك؟!
الغانية : أنت لا تصدق! … ولا تأخذ قولي على سبيل الجِد! … فليكن! … ظُنَّ بي السوء ما شئت … ليس من عادتي الدفاعُ عن نفسي ضد ظنون الآخرين! … إني في أعين الناس امرأة سيئة السيرة … وقد انتهى بي الأمر إلى قَبول هذا الحكم … وقد وجدت في ذلك الراحة لي … ولم يعُد من مصلحتي تصحيح رأي الناس … عندما يجتاز إنسان أقصى حدود السوء فإنه يصبح حرًّا! … وأنا في حاجة إلى حريتي!
السلطان : أنتِ أيضًا؟!
الغانية : نعم … لأفعل ما يحلو لي.
السلطان : وما هو الذي يحلو لكِ؟
الغانية : صُحبة الرجال!
السلطان : مفهوم!
الغانية : لا … إنك قد فهمت خطأً … الأمر ليس كما فهمت.
السلطان : كيف هو إذن؟!
الغانية : أتريد الباطل أم الحقيقة؟
السلطان : الحقيقةَ بالطبع!
الغانية : لن تصدق الحقيقة … ما جدوى قولي إذن؟! … إن حقيقةً لا يصدقها الناس هي حقيقة لا نفع فيها.
السلطان : قوليها على كل حال!
الغانية : سأقولها لمجرد تسليتك! … تحلو لي صحبةُ الرجال من أجل أرواحهم لا من أجل أجسادهم! … أفهمت؟
السلطان : لا … لم أفهم جيدًا!
الغانية : سأفصح … عندما كنت جاريةً صغيرة في عمر مَن عندي الآن من الجواري؛ نشَّأني سيدي على حب الشعر والغناء والعزف … وكان يجعلني أحضر ولائمه وأُحادث ضيوفه، وكانوا من الشعراء والمغنِّين، كما كانوا من أصحاب الظَّرف والروح والفكر … وكنا نسهر الليالي ننشد الشعر ونُغني ونطرَب ونتجاذب الحديث، ونتراشق بالروائع واللوامع من فنون الكلام، ونضحك من أعماق قلوبنا … كانت تلك الليالي رائعة فاخرة، كما كانت بريئةً طاهرة … وأرجو أن تصدق ذلك … فسيدي كان رجلًا فاضلًا، ولم تكن له من متعة في الحياة إلا هذه الليالي … متعة بلا خطيئة وبلا تبذُّل … على هذا نشَّأني ورباني … فلما صرت زوجتَه فيما بعدُ لم يُرِد أن يحرمني متعة هذه الليالي التي كانت تخلُب لُبِّي، فسمح لي بالاستمرار في حضورها، ولكن مِن خلف أستار من الحرير … تلك هي كل القصة.
السلطان : وبعد وفاته؟
الغانية : بعد وفاته لم أستطع التخلي عن هذه العادة، فاستأنفت دعوتي لضيوف زوجي … كنت أستقبلهم بادئ الأمر وأنا محتجبةٌ خلف أستار الحرير … لكن عندما أخذ أهل الحي في اللغط حولي وإطلاق الشائعات عني لمرأى الرجال الداخلين كلَّ ليلة بيتَ امرأة لا بعلَ لها، لم أجد معنًى للمضي في الاحتجاب خلف الأستار … وقلت: ما دام حكم الناس قد أدانني، فلأجعل من نفسي قاضيًا على تصرفاتي!
السلطان : إنه حقًّا لعجيب أن يعلن ظاهرُك كلَّ هذا الإعلان عما ليس في باطنك! … واجهة حانوتك تعلن عن بضاعة لا توجد في الداخل!
الغانية : لك أن تُصدق أو لا تُصدق ما قلت لك!
السلطان : إني أُفضِّل أن أُصدق … هذا أدعى إلى اطمئناني!
الغانية : مهما يكن من أمر فأنا لا أعتزم مطلقًا تغيير حياتي ولا عاداتي! … إذا كان طريقي قد امتلأ بالوحل فإني ماضيةٌ في خوضه والسير فيه.
السلطان : الوحل! … إنه موجود في كل طريق … ثقي من ذلك!
الغانية : لقد ذكَّرتني الآن بما فعلته بك أمام الجماهير!
السلطان : حقًّا … لقد مرغتني فيه!
الغانية : كنت وقحةً معك عن عمد، ومتبذِّلةً سليطة عن قصد … أتدري لماذا؟ … لأني كنت أتخيلك في صورة أخرى! … صورة سلطان متعجرف يزهو ويتبختر ويتعالى في خُيَلاءِ جبروته! … كأغلب السلاطين! … بل لعلك أكثرهم غرورًا وأشدُّهم غطرسة؛ بسبب حروبك وانتصاراتك … فالناس يتحدثون دائمًا عن تلك الياقوتة الخيالية التي تُزين عمامتك … تلك الياقوتة الفريدة في الدنيا التي قيل إنك انتزعتها بحد سيفك من رأس كبير المغول! … نعم … أعمالك عجيبة وعظيمة؛ لذلك كانت صورتك في رأسي مرادفةً للتكبر والتحجر والقسوة … لكن ما إن حادثْتني بهذا اللطف وهذا التواضع حتى أصابني شيء من الذهول والحيرة!
السلطان : لا تغتري! … إني لست دائمًا بهذا اللطف، ولا بهذا التواضع! … هناك لحظات أكون فيها أشدَّ قسوةً ووحشية من أسوأ السلاطين!
الغانية : لست أصدِّق هذا.
السلطان : لأنكِ واقعة تحت تأثير الظروف الحاضرة!
الغانية : تقصد أنك لطيف معي أنا بصفة خاصة؟! … إن هذا لَيملؤني فخرًا واعتزازًا يا مولاي العزيز! … لكن مهلًا! … لعلي أسأت الفهم … ما الذي يدعوك إلى هذا اللطف معي؟ … أهو شخصي؟ … أم القرار الذي تنتظره مني عند مطلع الفجر؟!
السلطان : إني أتكلف اللطف معكِ وأتصنَّعه لأستدرَّ عطفك! … أليس كذلك؟!
الغانية : وما إن تظفر بحريتك حتى تعود إلى طبعك الأصيل، وتصبح السلطان القاسي الذي يسعى إلى الانتقام لساعات إذلاله … وعندئذ تَحين ساعةُ هلاكي!
السلطان : من الحكمة إذن وبعد النظر أن تُمسكيني دائمًا في قبضتك وملكك!
الغانية : أليس كذلك؟
السلطان : هذا هو المنطق بعينه، ما دامت قد داخلتْك ريبة!
الغانية : أوَليس لي الحق أن أرتاب؟!
السلطان : لست ألومك إذا فعلتِ! … فأنا الذي ألقيت في نفسك، بكل بساطة وبغير احتياط، بذور الريب؛ بما أقوله عن نفسي!
الغانية (وهي تتأمله فاحصة) : لا.
السلطان : لا؟ … ماذا؟!
الغانية : إني أفضِّل الاعتماد على غريزة المرأة في أعماقي! … إنها لا تخدعني أبدًا!
السلطان : وماذا تقول لكِ غريزة المرأة؟!
الغانية : تقول لي إنك لست من ذلك الطراز من الرجال، إنك مختلف … وكان ينبغي أن أدرك هذا منذ اللحظة التي رأيتك فيها تتخلى عن استخدام سيفك!
السلطان : لو تعلمين كم كان يسهل الأمر لو أني استخدمت سيفي!
الغانية : أتندم على ذلك الآن؟
السلطان : إنما أتحدث عن السهولة! … لكن الانتصار الحق هو في حل العقدة بلباقة الأصابع .
الغانية : وهذا ما أنت بسبيله الآن؟!
السلطان : نعم … ولكني لست واثقًا من النتيجة!
الغانية : هَبْ أن النتيجة خيبت أملك … ماذا أنت صانع؟!
السلطان : لقد سبق أن قلت لكِ …
الغانية : تنزل عن العرش؟!
السلطان : نعم!
الغانية : لا … لست أعتقد أنك فاعل هذا حقًّا! … إني لست من البلاهة والغباء حتى أعتقد هذا أو آخُذَه مأخذ الجد … وحتى لو أردت أنت أن تفعل، فما من فرد واحد في البلاد يقبل، أو يدعك تُقدِم على هذا الفعل! … إنك ستُحمل حملًا على قَبول الحل السهل، وستعود إلى استخدام الوسيلة البسيطة!
السلطان : لم يحدث قط أني رجعت خطوةً إلى الوراء … ولا حتى في ميدان القتال … أعترف أن هذا خطأ من الناحية الحربية، فهناك أحوال يتحتم فيها التقهقر … ولكني ما فعلت هذا قط … لعل الحظ كان يحابيني … لقد اعتدت على كل حال هذه العادةَ السيئة!
الغانية : إنك مدهش!
السلطان : بل الحقيقة أني رجل عديم الخيال!
الغانية : أنت؟!
السلطان : الدليل هو أني لو كنت أملك خيالًا وتصورت ما ينتظرني في نهاية مثل هذا الطريق، لكنت صعقت!
الغانية : ما من شيء يَصعَقُك … إن لك لرباطةَ جأش، وثقةً بالنفس، وتحكمًا في أعمالك، وقدرة على صنع ما تريد بدقة وإحكام وحزم … إنك بعيد عن الضعف والمخاتلة … إنك صريح … طبيعي … شجاع … تحترم شروط اللعب بأمانة وإخلاص … هذا كل ما في الأمر
السلطان : أتتملقينني؟! … من الذي عليه تملُّقُ الآخر؟! … إنها الأوضاع مرة أخرى قد انقلبت؟!
الغانية : أتسمح لي يا سلطاني العزيز؟
السلطان : بماذا؟
الغانية : بسؤال شخصي … أودُّ أن ألقيَه عليك!
السلطان : شخصي؟! … أوَكلُّ هذا الذي نحن فيه لم يكن شخصيًّا؟!
الغانية : أريد أن أسألك عن قلبك! … عن الحب!
السلطان : الحب؟! … أي حب؟!
الغانية : الحب … لامرأة؟
السلطان : أتتصورين أنه لديَّ من الوقت ما أشغل فيه بمثل هذه الأشياء؟!
الغانية : عجيب! … قلبك لم يُفتح أبدًا لحب امرأة؟!
السلطان : وما لَكِ قد فتحتِ عينيك واسعتين هكذا من الدهشة! … أهي مسألة خطيرة إلى هذا الحد؟!
الغانية : لكنك بالتأكيد قد عرَفت نساءً كثيرات؟!
السلطان : بالضرورة … تلك طبيعة الحياة الحربية … قائد الجيش كما تعلمين، تُساق إليه في كل ليلة أسيرةٌ من الأسيرات، أو سبِيَّة من السبايا … وأحيانًا يكون بينهن جميلات … هذا كل ما في الموضوع.
الغانية : وما من امرأة واحدة بالذات نجحت في اجتذاب نظراتك؟!
السلطان : نظراتي؟! … يجب أن تعلمي أنه في نهاية اليوم أعود دائمًا إلى خيمتي بعينين محشوتين بغبار المعركة!
الغانية : وفي اليوم التالي؟! … ألا تحتفظ بذكرى واحدة من تلك الجميلات؟!
السلطان : في اليوم التالي أعود إلى امتطاء جوادي … وأفكر في شيء آخر.
الغانية : ولكن الآن … أنت السلطان … ولديك دون ريب فسحةٌ من الوقت للحب.
السلطان : أهذا اعتقادك؟
الغانية : ما الذي يمنعك؟!
السلطان : مشاكل الحكم! … وهذه إحداها؟! … تلك التي هبطت على رأسي اليوم … على غير انتظار … وأوقعتني في هذه الورطة! … أترين مشكلةً كهذه يمكن أن يصفوَ معها المزاج للحب!
الغانية (تضحك) : حقًّا.
السلطان : تضحكين!
الغانية : سؤال آخر … هو الأخير! … ثق من ذلك! … سؤال جادٌّ جدًّا هذه المرة؛ لأنه يتعلق بي.
السلطان : بك؟!
الغانية : نعم … فلنفرض أنك أُعتقت عند الفجر … ستعود طبعًا إلى قصرك!
السلطان : طبعًا … لدي أعمالي هناك تنتظرني.
الغانية : وأنا؟!
السلطان : وأنتِ ماذا؟!
الغانية : ألن تفكر فيَّ بعد ذلك!
السلطان : لست أفهم.
الغانية : لم تفهم حقًّا ما أعني؟!
السلطان : تعلمين أن لغة النساء تدِقُّ عليَّ وتغمُض في كثير من الأحيان.
الغانية : إنك تفهمني جيدًا … لأنك في غاية الذكاء والفطنة، بل وفي رقة الشعور أيضًا، على الرغم مما يبدو عليك، ومما تريد أن تتظاهر به … ومع ذلك سأوضح لك لغتي، إليك ما أريد أن أعرف: هل ستنساني كليةً وتمحوني من ذاكرتك بمجرد انصرافك من هنا؟
السلطان : لا أظن أنه في الإمكان أن أمحوَكِ كليةً من ذاكرتي.
الغانية : وهل ستحتفظ لي بذكرى طيبة؟
السلطان : بدون شك!
الغانية : وهذا هو كل شيء؟! … وهكذا ينتهي كل شيء بالنسبة إليَّ!
السلطان : أسنعود من جديد إلى ما سبق من؟!
الغانية : لا … أريد فقط أن أسألك: أهذه الليلة هي ليلتنا الأخيرة معًا؟!
السلطان : وهذا سؤال عسير الجواب!
الغانية : حسن! … لا تُجب عنه الآن!

(تظهر الخادم.)

الخادمة : العشاء مُعَدٌّ يا مولاتي.
الغانية (تنهض) : تفضل يا مولاي!
السلطان (وهو ينهض) : إنكِ لآية في الكرم والحفاوة!
الغانية : بل أنت الذي تكرَّم عليَّ.

(تقوده إلى داخل المنزل … تصاحبهما موسيقى … وينطفئ نور الحجرة، وتضيء الساحة إضاءةً خفيفة.)

الإسكاف (للخمار في ركن من الساحة) : انظر! … ها هما ذان يطفئان النور!
الخمار (ناظرًا إلى النافذة) : تلك علامة طيبة!
الإسكاف : كيف؟!
الخمار : إطفاء النور معناه الذَّهاب إلى الفراش!
الإسكاف : وإذن؟
الخمار : وإذن فالاتفاق تام.
الإسكاف : على ماذا؟
الخمار : على كل شيء!
الإسكاف : تعني أنها ستقبل التخلي عنه عند الفجر؟!
الخمار : نعم!
الإسكاف : وبهذا تكسِب أنت الرهان!
الخمار : بدون أدنى شك!
الإسكاف : أنت متفائل أكثرَ مما ينبغي يا صديقي! … امرأة كهذه تقبل بهذه السهولة أن تُلقي بمالها في البحر؟!
الخمار : من يُدريك؟! … إني أقول نعم.
الإسكاف : وأنا أقول لا.
الخمار : حسن … فلننتظر الفجر!
الإسكاف : في أي وقت نحن الآن؟
الخمار (ناظرًا إلى السماء) : بحسب النجوم … نحن الآن تقريبًا في منتصف الليل.
الإسكاف : الفجر لم يزل بعيدًا، وقد بدأ يداعبني النعاس!
الخمار : اذهب إلى فراشك!
الإسكاف : أنا؟! … مستحيل! … المدينة كلها تسهر الليلة وأنا الذي ينام؟! … بل إني أجدر الناس جميعًا بالسهر حتى الفجر … كي أشهد هزيمتك!
الخمار : هزيمتي أنا؟!
الإسكاف : بدون شك!
الخمار : سنرى من منا المنهزمُ الخاسر!
الإسكاف (ملتفتًا إلى طرف من الساحة) : انظر! … هناك!
الخمار : ماذا؟
الإسكاف (هامسًا) : الوزير والجلاد … يبدو عليهما مظهرُ من يتآمر!
الخمار : صه!

(الوزير يقطع المكان جيئةً وذَهابًا؛ وهو يستجوب الجلاد.)

الوزير : ماذا سمعت بالتحديد من الحراس؟!
الجلاد : سمعتهم يقولون، يا مولاي الوزير، إنه من المستحيل قهر الناس وإرغامُهم على الرقاد هذه الليلة! … إن الجموع لم تزل واقفةً أو جالسةً القرفصاءَ في الدروب والأزقَّة، والكل في تهامسٍ ولغط.
الوزير : لغط؟!
الجلاد : نعم.
الوزير : وفيم هذا التهامس واللغط؟!
الجلاد : في حكاية السلطان طبعًا … وفي … وفيما يصنع الليلة في هذا البيت.
الوزير : وماذا عساه يصنع في هذا البيت؟ … حسب رأيك!
الجلاد : أتسألني أنا يا مولاي الوزير؟!
الوزير : نعم … أسألك أنت … ألست من الشعب! … ورأيك يُمثِّل الرأي العام؟! … أجبني! … ماذا تتصور السلطان يصنع في هذا البيت؟!
الجلاد : في الواقع … إنه قطعًا … لا يُقيم هناك الصلاة!
الوزير : أتمزح! … وتجسر؟!
الجلاد : عفوًا يا مولاي الوزير! … إنما أردت فقط أن أقول إن هذا البيت … ليس بالمكان المُطهر!
الوزير : إذن … فاللغط يجري على هذا النحو في المدينة؟! … إن السلطان يقضي الليلة في بيت …
الجلاد : من بيوت الدعارة.
الوزير : ماذا تقول؟
الجلاد : هذا ما يقولون هم يا مولاي … إني أروي ما سمعت.
الوزير : أهذا كل ما يذكره الناس من هذه المسألة الخطيرة! … ينسَون المقصد النبيل، والهدف السامي، والفكرة الرفيعة، والغاية القومية! … حتى أنت أيضًا قد نسيت كل هذا فيما أرى.
الجلاد : لا يا مولاي الوزير … لم أنسَ شيئًا!
الوزير : سنرى! … قل لي إذن لماذا قَبِل السلطان دخول هذا البيت؟
الجلاد : كي … كي يُرضي العاهرة!
الوزير : أهذا كل ما في الأمر؟! … يا للإسفاف!
الجلاد : يا مولاي الوزير! … لقد كنت حاضرًا … ورأيت وسمعت كل شيء … منذ البداية.
الوزير : ولم تفهم شيئًا من كل ذلك إلا الجانب التافه الهابط من المسألة … أيوجد كثيرون مثلك بين الناس؟!
الجلاد : الجميع كانوا حاضرين مثلي.
الوزير : والجميع فهموا ما فهمت … فيما أظن! … ولا يدور كلامهم حول السبب العميق والمعنى الجليل لكل ما حدث … وإنما الكلام يدور حول ما تقول أنت: السلطان يقضي ليلته في بيت من بيوت الدعارة! … يا لها من كارثة! … تلك هي الكارثة الحقيقية!

(قاضي القضاة يظهر.)

القاضي : لم أنم في ليلتي!
الوزير : أنت أيضًا؟!
القاضي : كيف أنا أيضًا؟!
الوزير : المدينة كلها هي الأخرى لم تنم هذه الليلة!
القاضي : أعرف هذا.
الوزير : والكل يتهامس ويلغط!
القاضي : أعرف هذا كذلك.
الوزير : وهل تعرف ما يقولون في المدينة؟!
القاضي : أسوأ ما يمكن أن يُقال! … إن موضع الإثارة والاهتمام عند الناس هو جانب الفضيحة في المسألة!
الوزير : مع الأسف!
القاضي : إنها غلطتي!
الوزير : وغلطتي أنا أيضًا … كان ينبغي أن أكون أشد حزمًا في الدفاع عن رأيي!
القاضي : لكن من جهة أخرى … كيف كنا نستطيع أن نتوقع هذا التدخل من تلك المرأة؟
الوزير : كان ينبغي أن نتوقع كل شيء!
القاضي : أصبت!
الوزير : الآن قُضي الأمر … ولم يعُد في مقدورنا صُنع شيء!
القاضي : بل إنه في مقدورنا أن ننتزع السلطان من هذا البيت.
الوزير : يجب أن ننتظر الفجر!
القاضي : بل الآن … وفي الحال!
الوزير : ولكن الفجر لم يزل بعيدًا!
القاضي : يجب إحضاره الآن … وفي الحال!
الوزير : من؟! … ماذا؟!
القاضي : الفجر.
الوزير : معذرة! … لست أفهم؟
القاضي : ستفهم عما قليل … أين مؤذن هذا المسجد؟
الوزير (ملتفتًا إلى الجلاد) : هذا الجلاد لا بد أن يعرف.
الجلاد : إنه هناك بين الجماهير.
القاضي : اذهب وجئني به!

(الجلاد يُسرع طائعًا.)

الوزير (للقاضي) : يبدو أن لديك خطةً ما؟
القاضي : نعم!
الوزير : هل لي أن أعرفها؟
القاضي : عما قليل!

(المؤذن يظهر لاهثًا.)

المؤذن : ها أنا ذا يا مولاي القاضي!
القاضي : اقترب! … أريد أن أحدِّثك بخصوص الفجر.
المؤذن : الفجر؟! … ثق يا مولاي القاضي أني لم أرتكب خطأ … هذا الجلاد يتهمني زورًا وبهتانًا بأني …
القاضي : استمع إليَّ جيدًا.
المؤذن : أُقسم لك يا مولاي إني في ذلك اليوم …
القاضي : ألن تكُفَّ عن هذه الثرثرة الفارغة … قلت لك استمع إليَّ جيدًا … أريد منك أن تُنفذ ما سأقول بالحرف … أفاهم؟
المؤذن : نعم!
القاضي : اذهب واصعد فوق مئذنتك … وأذِّن لصلاة الفجر!
المؤذن : متى؟
القاضي : الآن.
المؤذن (مندهشًا) : الآن!
القاضي : نعم … وفي الحال.
المؤذن : الفجر؟!
القاضي : نعم … الفجر … اذهب وأذِّن لصلاة الفجر! … أواضحٌ كلامي هذا أم غير واضح؟!
المؤذن : واضح … ولكننا الآن تقريبًا في منتصف الليل!
القاضي : فليكن!
المؤذن : الفجر في منتصف الليل؟!
القاضي : نعم! … وأسرِع!
المؤذن : أليس هذا … متقدمًا عن موعده قليلًا؟!
القاضي : لا!
المؤذن (هامسًا لنفسه) : لقد احترت مع هذا الفجر … مرةً يُطلب مني تأخيره، ومرةً يُطلب مني تقديمه! …
القاضي : ماذا تقول!
المؤذن : لا شيء يا مولانا القاضي … سأذهب فورًا لأُنفذ أمرك!
القاضي : اسمع! … إياك أن تقول لأحد إن القاضي هو الذي أصدر إليك هذا الأمر!
المؤذن : تعني يا مولاي …؟
القاضي : نعم … إنك أنت الذي تصرَّف هكذا من تلقاء نفسه!
المؤذن : من تلقاء نفسي؟! … أصعد فوق المئذنة لأُؤذن الفجر في منتصف الليل؟ … إن من يتصرف هكذا لا بد أن يكون معتوهًا مخبولًا!
القاضي : دع لي أنا مهمة تفسير تصرفك في الوقت المناسب!
المؤذن : لكن يا مولاي … إني بهذا العمل سأُعرِّض نفسي لسخط الجماهير … وسيطالبون بعقابي!
القاضي : وأمام مَنْ ستقدَّم وتحاكَم؟ … أليس أمامي أنا قاضي القضاة؟!
المؤذن : وإذا أنكرتني وتخليت عني!
القاضي : لا تخف! … لن يحدث هذا مطلقًا.
المؤذن : وكيف أطمئن؟
القاضي : أعدُك … ألا تثق بوعدي؟!
المؤذن (هامسًا لنفسه) : الوعود الليلةَ كثيرة … وما من أحد متأكد من شيء؟!
القاضي : ماذا تقول؟!
المؤذن : لا شيء … أتساءل فقط: لماذا التعرُّض لكل هذا الخطر؟!
القاضي : إنها خدمة تقدمها للدولة.
المؤذن (مندهشًا) : للدولة!
القاضي : نعم، وسأفضي إليك بالأمر ليطمئن قلبك! … اسمع! … إنك إذا أذَّنت لصلاة الفجر الآن، فإن السلطان يخرج في الحال من هذا المنزل حرًّا طليقًا … هذا كل الموضوع في كلمتين … فهمت الآن؟!
المؤذن : إن هذا لعمل وطني!
القاضي : إنه بالفعل كذلك … ما قولك إذن؟!
المؤذن : سأقوم فورًا بهذا العمل … وسأكون فخورًا به طول حياتي … واسمح لي يا مولاي القاضي أن أفضي إليك أنا أيضًا، والكلام فيما بيننا …، أني سبق أن كذَبت كذبةً صغيرة من هذا القبيل لأُنقذ رأس محكوم عليه بالإعدام، فكيف لا أفعل مثلها كي أستخلص حرية مولانا السلطان المحبوب؟!
القاضي : أصبت، ولكني أوصيك بالكتمان! … إياك أن تطلق لسانك بالثرثرة! … خبِّئ فخرك هذا في صدرك … لأنك إذا جعلت تُباهي بما فعلت في ظروفنا هذه، فإن العمل كله يفسُد … أغلق فمك جيدًا إذا أردت لعملك أن يُثمِر ويُقدَّر!
المؤذن : سأغلق فمي!
القاضي : حسن … أسرع الآن وقم به!
المؤذن : أسرعُ من الريح!

(ينصرف المؤذن على عجل.)

القاضي (للوزير) : ما رأيك؟
الوزير : هل تظن حيلةً كهذه ستُصلح الأمور؟!
القاضي : نعم … وعلى أحسن ما يكون … لقد جعلت هذه الليلةَ أُقلِّب الأمر على كل وجه … إني ما عُدت أعتبر نفسي قد هُزمت! … فلم يزل في جعبتي — أو على الأصح في جعبة القانون — كثير من الحيَل!
الوزير : نسأل الله ضارعين أن تنجح لك حيلة هذه المرة! … كرامتك الشخصية أصبحت في الميزان!
القاضي : سوف ترى!

(صوت المؤذن يرتفع.)

المؤذن (من بعيد) : الله أكبر! … الله أكبر! … حيَّ على الصلاة! … حيَّ على الصلاة! … حيَّ على الفلاح! … حيَّ على الفلاح!

(الجماهير تظهر في هرج ومرج ودهشة واحتجاج وسخط.)

الشعب (صائحًا) : الفجر الآن؟ … والليل قائم؟! … نحن في وسط الليل … إنه مجنون! … هذا مجنون! … اقبضوا عليه! … أنزلوه من فوق المئذنة … أنزلوه!
الوزير (للقاضي) : الجماهير ستبطش بهذا المسكين!
القاضي : مُرْ حراسك بتفريق الجموع!
الوزير (صائحًا في الحراس) : أخلوا الساحة … أخلوا الساحة من الجميع؟

(الحراس يطردون الناس ويُخلون الساحة … بينما يستمر المؤذن في الأذان … وعندئذ يضيء النور في حجرة الغانية، وتظهر هي في النافذة يتبعها السلطان.)

الغانية : أهو حقًّا الفجر؟
القاضي : إنه الأذان لصلاة الفجر! … انزلي هنا في الحال؟!
الغانية : هذا غير معقول … انظروا إلى النجوم في السماء.
السلطان (ناظرًا إلى السماء) : حقًّا … هذا أمر غريب!
القاضي : قلت لكِ انزلي في الحال أيتها الغانية!
السلطان (للغانية) : فلننزل معًا لنرى معًا ما في الأمر!
الغانية : هلم بنا يا مولاي!

(يغادران الحجرة ويطفئان نورها، ثم يظهران خارجَين من المنزل.)

السلطان (وهو ينظر إلى السماء) : الفجر؟! … في هذه الساعة؟!
الوزير : نعم يا مولاي السلطان!
السلطان : هذا حقًّا عجيب! … ما قولك أيها القاضي؟!
القاضي : لا يا مولاي السلطان … الفجر لم يبزُغْ بعد!
الوزير (مأخوذًا) : كيف؟!
القاضي : هذا شيء واضح … نحن ما زلنا بالليل!
المؤذن (للقاضي وهو مندهش) : لكن …
القاضي : لكننا كلنا قد سمعنا المؤذن يؤذن لصلاة الفجر؟! … سمعتِ ذلك أيتها المرأة؟!
الغانية : نعم … سمعت!
القاضي : أنتِ إذن معترفة بأنك سمعت صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر؟!
الغانية : نعم … ولكن…
القاضي : لا كلام بعد ذلك! … ما دام قد صدر منك هذا الاعتراف، فلم يبقَ لكِ إلا الوفاءُ بوعدك، ها هي ذي حجة العتق، وما عليكِ إلا التوقيع.

(يقدم إليها الحجة.)

الغانية : لقد وعدت بالتوقيع عند الفجر … وها أنت ذا أيها القاضي تعترف بأننا لم نزل بالليل!
القاضي : مهلًا أيتها المرأة! … إن وعدك منقوش في رأسي كلمةً كلمة! … لقد قلتِ بالحرف: «عند سماع صوت المؤذن وهو يؤذن لصلاة الفجر.» فالمسألة كلها الآن تنحصر في هذا السؤال: هل سمعتِ أو لم تسمعي صوت المؤذن؟
الغانية : سمعت … ولكن ما دام الفجر لم يزل بعيدًا.
القاضي : لم يكن الفجر ذاته في الموضوع … ولكن الوعد انصبَّ على صوت المؤذن وهو يؤذن لصلاة الفجر … فإذا أخطأ المؤذن في التقدير أو التصرف، فهو مسئول عن خطئه … هذا شأنه هو … ولكنه ليس شأننا نحن … أفهمتِ؟!
الغانية : فهمت … لا بأس بها من حيلة!
القاضي : إن المؤذن سيحاكَم بالطبع على خطئه … ولكن هذا لا يُغير شيئًا من طبيعة الواقع؛ وهو أننا جميعًا سمعنا المؤذن يؤذن لصلاة الفجر من فوق مئذنته … وإذن فكل النتائج القانونية المترتبة على ذلك يجب أن تأخذ مجراها … وفي الحال! … هلمي إذن ووقِّعي!
الغانية : أهكذا تفسِّر شرطي؟!
القاضي : كما فسرتِ أنتِ شرطنا!
الوزير : لقد وقعتِ في عين شباك القانون … سلِّمي إذن ووقِّعي!
الغانية : ليس هذا من الأمانة! … إنه لمحض تحايل!
الوزير : تحايل بتحايل! … وأنتِ البادئة … والبادئ أظلم! … وأنتِ آخر من يجوز له الاعتراض والاحتجاج!
السلطان (صائحًا) : يا للعار! … كفى … كفى! … أبطِلوا هذا العبث! … كُفوا عن هذا الصَّغار! … إنها لن توقِّع … إني أرفض رفضًا باتًّا أن توقِّع بهذه الطريقة! … وأنت يا قاضي القضاة ألا تخجل من اللعب هكذا بالقانون؟!
القاضي : يا مولاي السلطان!
السلطان : لقد خاب ظني! … خيبت ظني فيك يا قاضي القضاة! … أهذا هو القانون في رأيك؟! … اجتهاد وبراعة في التحايل والتلاعب؟!
القاضي : إنما أردت يا مولاي أن …
السلطان : أن تنقذني … أعرف ذلك … لكن … هل تظن أني أقبل إنقاذي بمثل هذه الوسائل؟!
القاضي : مع امرأة كهذه يا مولاي … من حقنا أن …
السلطان : لا … ليس من حقك هذا على الإطلاق! … ليس من حقك! … قد يكون من حق هذه المرأة أن تتحايل … ولا لومَ عليها إذا هي فعلت … وقد تكون موضع تسامح لذكائها وبراعتها! … أما قاضي القضاة … ممثل العدالة … وحامي حمى القانون … وخادم الشرع الأمين … فإن مِن ألزم واجباته أن يحفظ للقانون نقاءه وطُهرَه وجلاله، مهما يكن الثمن! … وأنت نفسك الذي أراني في البداية فضيلة القانون وما ينبغي له من احترام، وقال لي إنه هو السيد المطاع، وإن عليَّ أنا أن أنحني أمامه … وقد انحنيت بكل خضوع حتى النهاية … لكن … هل كان يخطر لي على بال أن أراك أنت في آخر الأمر تنظر إلى القانون هذه النظرة؛ وتجرِّده من رداء قدسيته، فإذا هو بين يديك لا أكثر من حِيَل وجمل وألفاظ وألاعيب؟!
القاضي : دعني أشرح لك يا مولاي!
السلطان : لا … لا تشرح شيئًا! … اذهب الآن! … خير لك أن تعود إلى دارك وأن تأوي إلى فراشك حتى الصباح! … أما أنا فسأحترم شرط هذه السيدة بمعناه الحقيقي الذي فهمناه كلنا! … هلمي يا سيدتي! … لنعد معًا إلى بيتك! … إني طوع أمرك!
الغانية : لا يا مولانا السلطان!
السلطان : لا؟!
الغانية : لا … إن قاضي قُضاتك أراد أن ينقذك … وإني لا أحب أن أكون أقلَّ منه إخلاصًا لك! … أنت الآن يا مولاي حر!
السلطان : حُر؟!
الغانية : نعم … هات حجة العتق يا قاضي القضاة لأوقِّع عليها.
القاضي : توقعين الآن؟!
الغانية : نعم الآن!
القاضي (يقدم إليها الحجة) : اللهم اجعلها صادقة!
الغانية (توقِّع على الحجة) : صدقني هذه المرة! … هاكَ توقيعي!
القاضي (وهو يفحص بنظره التوقيع) : نعم … أنتِ رغم كل شيء امرأة طيبة!
السلطان : بل إنها لمن فُضْليات النساء! … وعلى أهل المدينة أن يحترموها! … هذا أمر أيها الوزير!
الوزير : سمعًا وطاعة يا مولاي!
القاضي (وهو يطوي الحجة) : تم كل شيء الآن يا مولاي على خير ما يرام!
السلطان : وبغير أن تُسفك قطرة دم! … وهذا هو الأهم!
الوزير : بفضل شجاعتك يا مولانا السلطان! … من كان يتصور أن السير إلى نهاية هذا الطريق يحتاج إلى شجاعة أكبر من شجاعة السيف؟!
القاضي : حقًّا!
السلطان : فلنتقدم بالثناء على كرم هذه السيدة النبيلة … اسمحي لي يا سيدتي أن أوجِّه إليكِ شكري، وأن أرجو منك أن تقبلي ردَّ مالك إليكِ؛ إذ لم يعد هناك مِن سبب يدعو إلى خسارة مالك! … أيها الوزير فليُدفع إليها من مالي الخاص ما يعادل المبلغ الذي خسرته!
الغانية : لا … لا يا مولاي السلطان! … لا تستردَّ مني هذا الشرف! … ما من ثروة في الأرض تعدل عندي هذه الذكرى الجميلةَ التي سأعيش عليها طول حياتي … إني بشيء زهيد أسهمت في حدث من أعظم الأحداث!
السلطان : حسن … ما دام للذكرى عندك هذا الشأن، فاحتفظي إذن بهذا التَّذكار.

(يخلع الياقوتة الكبرى من عمامته.)

الوزير (هامسًا) : الياقوتة الفريدة في الدنيا؟!
السلطان : إلى جانب فضلها تعتبر شيئًا بخسًا!

(يقدم إليها الياقوتة.)

الغانية : لا يا مولاي السلطان العزيز … لست أستحق … لست جديرةً بكل هذه … هذه!
السلطان (وهو يتحرك للانصراف) : وداعًا أيتها السيدة الفاضلة.
الغانية (وفي عينيها عَبرة) : وداعًا أيها السلطان العزيز!
السلطان (يلمح دمعتها) : أتبكين؟
الغانية : من الفرح!
السلطان : لن أنسى أبدًا أني كنت عبدَكِ ليلة!
الغانية : في سبيل المبدأ والقانون يا مولاي!

(تُطرِقُ لتخفي دمعها.)

(موسيقى … ويتحرك موكب السلطان.)

(ستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤