الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

(١) اسْتِقْبَالُ الرَّبِيعِ

جَاءَ أَوَّلُ أَيَّامِ «أَبْرِيلَ/نِيسَانَ»، وَكَانَ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — يَوْمًا مُعْتَدِلَ الْهَوَاءِ صَحْوًا، أَعْنِي: أَنَّ سَمَاءَهُ صَافِيَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الْغَيْمِ.

وَقَدْ سَطَعَتِ الشَّمْسُ؛ فَمَلَأَتِ الْكَوْنَ بِنُورِهَا وَبَهَائِهَا (حُسْنِهَا)، وَسَخَّنَتْ بَرَاعِيمَ الشَّجَرِ، أَعْنِي: كِمَامَاتِ الزَّهَرِ، وَالْبَرَاعِيمُ هِيَ: زَهْرُ النَّبَاتِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَتَّحَ.

وَأَيْقَظَتْ حَرَارَةُ الشَّمْسِ الْحَشَرَاتِ النَّائِمَةَ فِي مَخَابِئِهَا؛ فَخَرَجَتْ تَسْتَقْبِلُ الْحَيَاةَ، وَتَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ (تَمْشِي عَلَيْهَا فِي مِشْيَةٍ بَطِيئَةٍ كَمِشْيَةِ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ)، زَاحِفَةً، تَسْعَى إِلَى رِزْقِهَا.

(٢) شِجَارُ الصَّدِيقَتَيْنِ

وَامْتَلَأَ الْجَوُّ بِأَصْوَاتِ الْخَطَاطِيفِ، بَعْدَ أَنْ أَتَمَّتْ رِحْلَتَهَا الطَّوِيلَةَ، وَعَادَتْ إِلَى وَطَنِهَا الْقَدِيمِ. وَجَاءَ خُطَّافَانِ، فَوَقَفَتَا عَلَى مَخْزَنِ غِلَالٍ قَدِيمٍ مَهْجُورٍ نَسَجَتِ الْعَنَاكِبُ بُيُوتَهَا فَوْقَ سَطْحِهِ. وَظَلَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي أَنَّ الْعُشَّ مِلْكٌ لَهَا وَحْدَهَا. فَقَالَتْ «أُمُّ هِنْدٍ» — وَهِيَ، شَقْرَاءُ الرَّقَبَةِ، مُلْتَمِعَةُ الرِّيشِ: «لَيْسَ لِهَذَا الْعُشِّ مِنْ صَاحِبٍ غَيْرِي. فَقَدْ وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَكِ، وَلَا حَقَّ لَكِ فِيهِ إِنَّهُ يُعْجِبُنِي، وَيَسُرُّنِي أَنْ أَعِيشَ فِيهِ. وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى امْتِلَاكِهِ رَضِيتِ أَمْ أَبَيْتِ — فَهَلْ تَفْهَمِينَ؟»

(٣) زَوَّارَةُ الْهِنْدِ

فَصَاحَتْ صَدِيقَتُهَا «أُمُّ سِنْدٍ» قَائِلَةً: «شَدَّ مَا ظَلَمْتِنِي وَظَلَمْتِ نَفْسَكِ — يَا «أُمَّ هِنْدٍ» — وَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَغْتَصِبِي عُشِّي، بَغْيًا وَعُدْوَانًا. أَلَا تَعْلَمِينَ أَنَّ ابْنَةَ عَمِّي — الَّتِي كُنَّا نُلَقِّبُهَا بِـ «زَوَّارَةِ الْهِنْدِ» — قَدْ وَهَبَتْ لِي هَذَا الْعُشَّ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فِي رِحْلَتِهَا الْأَخِيرَةِ؟

(٤) وَصَيَّةُ بَنْتِ الْعَمِّ

أَلَا تَعْلَمِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لِي، قُبَيْلَ مَوْتِهَا: «لَيْسَ لِي أَوْلَادٌ يَرِثُونَ عُشِّي، مِنْ بَعْدِي. وَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ؛ فَاتَّخِذِيهِ دَارَكِ (مَنْزِلَكِ)، مَتَى عُدْتِ إِلَى الْوَطَنِ الْعَزِيزِ. وَلَيْسَ عَلَيْكِ إِلَّا أَنْ تُغَيِّرِي الرِّيشَ الْقَدِيمَ الَّذِي فِي دَاخِلِهِ. وَسَتَرَيْنَ الْعُشَّ — بَعْدَ ذَلِكِ — وَفْقَ مَا تُحِبِّينَ.»

(٥) عِنَادٌ وَخِصَامٌ

فَرَفَعَتْ «أُمُّ هْنْدٍ» رَأْسَهَا، وَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا «أُمِّ سِنْدٍ»، وَهِيَ مُهَتَاجَةٌ غَضْبَى (ثَائِرَةٌ غَاضِبَةٌ): «لَيْسَ لِهَذِهِ الْحُجَجِ أَقَلُّ قِيمَةٍ عِنْدِي. وَلَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْعُشَّ؛ فَهُوَ مِلْكٌ لِي — كَمَا قُلْتُ لَكِ — وَقَدْ بَلَغْتُهُ قَبْلَكِ. فَكُفِّي عَنْ هَذِهِ الثَّرْثَرَةِ الْعَابِثَةِ (الْكَلَامِ الْهَازِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ).»

وَتَمَادَتْ «أُمُّ هِنْدٍ» الصَّغِيرَةُ فِي عِنَادِهَا، وَفَتَحَتْ جَنَاحَيْهَا لِتَمْلَأَ الْعُشَّ، فَلَا تَدَعُ فِيهِ مَكَانًا لِصَاحِبَتِهَا. وَظَلَّتْ تَدْلُكُ رِيشَهَا (تَفْرُكُهُ)، غَيْرَ مُلْتَفِتَةٍ إِلَى عِتَابِ «أُمِّ سِنْدٍ».

فَاقْتَرَبَتْ «أُمُّ سِنْدٍ» مِنَ الْعُشِّ، وَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ، تُحَاوِلُ الدُّخُولَ قَسْرًا (غَصْبًا مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَتِهَا وَرِضَاهَا)، وَتَقُولُ: «كُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّنِي آخِذَةٌ مِنْكِ هَذَا الْعُشَّ، رَضِيتِ أَمْ أَبَيْتِ، وَأَنَّنِي لَنْ أَتْرُكَهُ لَكِ أَبَدًا!»

(٦) عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ

وَإِنَّهُمَا لَتَتَشَاجَرَانِ — وَقَدِ اشْتَدَّ لَجَاجُهُمَا (زَادَ عِنَادُهُمَا وَتَمَادِيهِمَا فِي الْخُصُومَةِ)— إِذْ جَاءَ «عُصفُورُ الْأَمَانَةِ»: وَهُوَ خُطَّافٌ مُهَذَّبُ الطَّبْعِ، جَمِيلُ الشَّكْلِ، كَثِيرُ التَّبَصُّرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.

فَسَأَلَ زَوْجَهُ «أُمَّ سِنْدٍ»: «مَاذَا حَدَثَ، يَا عَزِيزَتِي؟»

فَقَالَتْ «أُمُّ سِنْدٍ»، وَهِيَ غَضْبَى ثَائِرَةٌ: «إِنَّ «أُمَّ هِنْدٍ» قَدِ اغْتَصَبَتْ عُشِّي (أَخَذَتْهُ قَهْرًا وَظُلْمًا). وَهُوَ عُشُّ ابْنَةِ عَمِّي «زَوَّارَةِ الْهِنْدِ»، وَقَدْ وَهَبَتْهُ لِي (أَعْطَتْنِي إِيَّاهُ بِلَا مُقَابِلٍ) كَمَا تَعْلَمُ. وَقَدْ أصَرَّتْ «أُمُّ هِنْدٍ» عَلَى عِنَادِهَا، وَأَمْعَنَتْ فِي لَجَاجِهَا (أَسْرَفَتْ فِي خُصُومَتِهَا). فَرَأَيْتُ أَنْ أُعَاقِبَ تِلْكَ الْمُعْتَدِيَةَ الْمُغْتَصِبَةَ، وَ…» فَقَاطَعَتْهَا «أُمُّ هِنْدٍ» قَائِلَةً: «لَقَدْ وَصَلْتُ إِلَى الْعُشِّ قَبْلَكِ، وَلَنْ أَبْرَحَهُ (لَنْ أَتْرُكَهُ) عَلَى أَيِّ حَالٍ. وَسَتَرَيْنَ مَاذَا يَحِيقُ بِكِ مِنَ النَّكَالِ (مَا يُحِيطُ بِكِ مِنَ الْعَذَابِ)، حِينَ يَجِيءُ زَوْجِي: «عُصْفُورُ الْجَنَّةِ».»

(٧) صَاحِبُ الْعُشِّ

فَصَاحَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» قَائِلًا: «الرَّأْيُ عِنْدِي أَنَّ «أُمَّ هِنْدٍ» عَلَى حَقِّ فِيمَا تَدَّعِيهِ (فِيمَا تَزْعُمُ أَنَّهُ حَقٌّ لَهَا)؛ فَقَدْ سَمِعْتُ — مُنْذُ نَشْأَتِي — أَنَّ الْعُشَّ يُصْبِحُ مِلْكًا لِأَوَّلِ مَنْ يَحُلُّ فِيهِ. وَلَسْتِ — يَا زَوْجِي — مُحِقَّةً فِيمَا تَزْعُمِينَهُ. وَلَنْ تَضِيقَ بِنَا الْأَرْضُ الرَّحِيبَةُ (الْوَاسِعَةُ). وَلَيْسَ يَجْدُرُ بِنَا (لَا يَحِقُّ لَنَا) أَنْ نَخْتَصِمَ فِي سَبِيلِ عُشٍّ. فَهَلُمِّي (تَعَالَيْ) — يَا «أُمَّ سِنْدٍ» — نَبْحَثُ عَنْ عُشٍّ غَيْرِهِ، فِي مَكَاَنٍ آخَرَ.»

(٨) مَشِيئَةُ الزَّوْجِ

وَلَمْ يُعْجِبْ «أُمَّ سِنْدٍ» رَأْيَ زَوْجِهَا. وَلَكِنَّهَا — إِلَى ذَلِكَ — لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُخَالِفَ نَصِيحَتَهُ وَشُورَاهُ (مَشُورَتَهُ)، وَلَا أَنْ تَعْصِيَهُ فِيمَا نَصَحَهَا بِهِ وَارْتَآهُ (رَآهُ). فَبَقِيَتْ مُتَفَجِّعَةً مُتَحَسِّرَةً، حَزِينَةً مُتَكَدِّرَةً؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ شَدِيدَةَ الرَّغْبَةِ فِي امْتِلَاكِ الْعُشِّ وَالظَّفَرِ بِهِ. ثُمَّ أَذْعَنَتْ لِمَشِيئَةِ زَوْجِهَا (خَضَعَتْ لِرَأْيِهِ)؛ فَفَتَحَتْ جَنَاحَيْهَا. — وَهِيَ مَحْزُونَةُ الْقَلْبِ — وَطَارَتْ فِي الْهَوَاءِ، لِتَلْحَقَ بِزَوْجِهَا، الَّذِي سَبَقَهَا؛ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤