المعراج الأخير

عاش محيي الدين يجوب بروحه آفاق السماء، ويعرج بهمته إلى معارف الملأ الأعلى، عاش مُعَلَّق القلب أبدًا بربه، عاش في مقامات النور وأحوال الصفاء، تتنزل عليه هبات خالقه مبشرات ومرشدات. عاش محبًّا محبوبًا، راضيًا مرضيًّا، فلمَّا اكتملت رسالتُه، وأحسَّ بقرب الأجل، والرحيل إلى الرفيق الأعلى، أقبل على القرآن يصوغ له تفسيرًا جديدًا على هدى كشوفاته وفتوحاته وإلهامات قلبه.

figure
ضريح محيي الدين بن عربي «بدمشق» الشام.

وفي دمشق في ليلة الجمعة، في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمانٍ وثلاثين وستمائة، والمحابر والأوراق بين يديه، والقلم في يمناه منطلقًا بالفتح الأكبر، مُفَسِّرًا لآي القرآن والذكر الحكيم، فلما وصل إلى قوله — تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا، وقف القلم واهتز الجسد، ومال الرأس الكبير، وهرع إليه صحبه؛ فإذا بنور يتصاعد إلى السماء، يحمل معه سر تلك الحياة الخالدة.

ذهب محيي الدين إلى ربه، فتحطمت تلك المحجة التي كانت تهدي إلى الله — أستغفر الله، بل زادت تلك المحجة وضوحًا وإشراقًا؛ فقد غدا تراثه شرعةً ومنهاجًا وساريةً تضيء وتضيء في الطريق الرباني، تهدي إلى الإيمان والتقوى.

أما خصوم محيي الدين الذين ملئوا الدنيا حوله صياحًا ورعودًا؛ فلم أرَ وصفًا لهم أبلغ من قول اليافعي: حكمهم حكم ناموسة نفخت على جبل تريد إزالته من مكانه، وتذهب الريح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، بها تثبث الأرض، وبها يُحفظ ميزان الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤