الشاهد الوحيد

في صباح اليوم التالي كانت السماء تُمطر، ولكن «تختخ» قرَّر أن يخرج، لقد كان يُحب المطر، ويتمتع برؤيته وهو يتساقط على الأشجار والشوارع والبيوت … وهكذا ارتدى ملابس ثقيلة، وخرج متجهًا إلى المقهى.

لم يكن المطر شديدًا، فاستمتع «تختخ» برحلته … ولم يُضايقه عندما اقترب من المقهى إلَّا أن حذاءه قد اتسخ …

دخل «تختخ» المقهى ونظر حوله … كان صاحب المقهى يجلس على منصةٍ عاليةٍ يقبض ثمن المشروبات ويُدخِّن الشيشة … واثنان من الجرسونات يقومان بتقديم الطلبات إلى رُوَّاد المقهى … كان رجلًا ضخمًا يرتدي الملابس البلدية، ذا شاربٍ كبير، ووجهٍ تبدو عليه علامات الخشونة، فتردَّد «تختخ» قليلًا، ولكنه في النهاية تقدَّم إليه، وبعد أن حيَّاه سأله عن الحقيبة السوداء والرجلَين، فنظر إليه المعلم في ضيقٍ وسخريةٍ وقال: حقيبة! … أيُّ حقيبةٍ يا أستاذ! … سوداء ولها ماركة! … هذا آخر شيءٍ كنتُ أتصوَّره في حياتي … حقيبة لها ماركة … بتقول حضرتك «سامو»؟ هل تتصوَّر أنني تاجر حقائب حتى أعرف أنواعها؟! يا أستاذ أنا لم أرَ شيئًا في تلك الليلة … وقهوتي قهوة محترمة لا تقع فيها سرقات ولا حوادث!

وسحَب المعلم نفَسًا من الشيشة، ثم عاد يقول: وأنت ما هو دخلك في سرقة الحقائب أو غيرها … أنت ما زلت تلميذًا فانتبه لدروسك ودعك من السرقات والماركات.

وترك «تختخ» المعلم وهو في غاية الضيق، ولكنه قرَّر برغم كل شيء أن يسأل الرجلَين اللذين يعملان في المقهى، ولكنه لم يتلقَّ منهما ردًّا مفيدًا؛ فقد سخرا منه كما سخر المعلم، وطلبا منه أن يلتفت إلى دروسه. وبدلًا من أن يُغادر «تختخ» المقهى ويكتفي بما حدث، قرَّر أن يبقى عندًا في المعلم ومساعدَيه. فاختار کرسیًّا قرب الشرفة الزجاجية، وطلب كوبًا من الشاي … وأخذ يتفرَّج على الطريق، والمطر … ويُفكِّر في لغز الحقيبة السوداء … وخيبة الأمل التي أصابته في المقهى.

خلال الدقائق التي قضاها «تختخ» في المقهى لم ينتبه أن هناك شخصًا كان يراقبه … كان هذا الشخص ولدًا صغيرًا ممزَّق الثياب، يحمل صندوقًا لمسح الأحذية … راقب هذا الولد «تختخ» منذ دخوله إلى المقهى، وسؤاله المعلم والجرسونَين، واستطاع أن يسمع الأسئلة التي سألها لهم …

اقترب الولد الصغير من «تختخ» قائلا: أتمسح حذاءك يا أستاذ …؟

قال «تختخ» دون أن ينظر إليه: لا … شكرًا.

ألحَّ الولد قائلًا: إن حذاءك متسخٌ، ويحتاج إلى مسح.

تختخ: سأمسحه الآن، ويتسخ بعد خروجي!

ابتسم الولد قائلًا: إنك تُذكِّرني بالرجل الذي لا يمسح حذاءه في الشتاء أبدًا؛ لأنه سيتسخ كل يوم … إنها نكتة.

تختخ: ليست على كل حال نكتةً مضحكة …

قال الولد بإلحاح: في إمكاني أن أقول لك نكتةً مضحكة …

تختخ: إنني لست على استعدادٍ لسماع نكت الآن …

الولد: إنها نكتة عن حقيبةٍ سوداء …

التفت «تختخ» إلى الولد في اهتمامٍ وقال: ماذا تقصد؟ هل تعرف شيئًا عن الحقيبة السوداء؟ …

الولد: نعم … لقد سمعتك تسأل عن حقيبةٍ سوداء كانت موجودةً في المقهى مع شخصَين منذ أربعة أيام …

تختخ: وماذا تعرف عنها؟

الولد: هل أمسح لك الحذاء؟ …

تختخ: طبعًا … طبعًا …

ثم مدَّ قدمه للولد الذي أسرع يجلس أمامه، ويضع الصندوق، ويبدأ العمل بهمةٍ ونشاط.

مال «تختخ» إلى الأمام قائلًا: قل لي ماذا تعرف عن الحقيبة السوداء؟ هل رأيتَها في تلك الليلة؟ …

قال الولد: نعم … لقد …

وقبل أن يُتم جملته حضر الجرسون يحمل الشاي إلى «تختخ»، فسكت الولد قليلًا حتى انصرف الجرسون، ثم عاد إلى الحديث قائلًا: لقد شاهدتُ كل شيء في تلك الليلة.

خفق قلب «تختخ» بشدة وهو يسأل: قل لي ماذا شاهدت بالضبط؟

ردَّ الولد في صوتٍ هامسٍ وهو مستمرٌّ في عمله: لقد شاهدتُ الرجلَين عندما دخلا المقهى. كان أطولهما يحمل حقيبةً سوداء من نوعٍ فاخر.

أدرك «تختخ» أن الولد يقول الصدق؛ فأحد الرجلَين كما وصفه «عاطف» كان طويلًا … فقال له: ثم ماذا؟

الولد: جلس الرجلان قرب التليفون، وأخذا يتحدَّثان باهتمام، أحدهما إلى الآخر، ثم قام أحدهما للاتصال بالتليفون، وبعد لحظاتٍ أشار إلى زميله ليتحدَّث هو الآخر، فقام.

وسكت الولد لحظات، فقال «تختخ» ليدفعه إلى الحديث: قل كل شيء، وسأعطيك عشرة قروشٍ كاملة …

الولد: وفي هذه اللحظة اقترب ولدٌ متشرِّدٌ من الحقيبة وحملها في هدوء، ثم خرج مسرعًا من المقهى … والتفتَ أحد الرجلَين فشاهد الولد وهو يخرج من الباب، فاندفع خلفه، وكذلك اندفع الرجل الآخر، وخرجا من الباب مسرعَين دون أن يشعر أحدٌ بما حدث؛ فقد كان الموجودون بالمقهى مشغولَين بلعب الطاولة والكوتشينة، وكنتُ الوحيد الذي رأى كل شيء؛ فقد كنت أتقدَّم من الرجلَين لأمسح لمن يشاء منهما حذاءه …

صمت الولد … وصمت «تختخ» وقد أخذت الأفكار تدور برأسه مسرعة … لقد صحَّ استنتاجه في أن الرجلَين فقدا الحقيبة، وعندما خرجا إلى الطريق وشاهدا «عاطف» ظنَّا أن الحقيبة التي يحملها هي حقيبتهما المسروقة.

انتهى الولد من مسح الحذاء، فمدَّ «تختخ» يده وأعطاه العشرة القروش، فتناولها في ابتهاجٍ ثم جمع حاجيَّاته واستعدَّ للخروج، ونظر «تختخ» في وجهه يتأمَّله، فبدا له أن عنده كلامًا آخر يُريد قوله، ولكنه متردِّدٌ فقال له: أليس هناك شيءٌ آخر تود أن تقوله لي.

تردَّد الولد قليلًا، ثم قال وهو ينظر حوله في خوف: أنصحك لا تتدخَّل في هذا الموضوع … ثم انصرف خارجًا من المقهى.

أحسَّ «تختخ» أن ما لم يقله الولد له أهمية كبيرة، فاستدعى الجرسون بسرعة ثم أعطاه الحساب … واندفع خارجًا خلف الولد.

كان المطر قد توقَّف منذ فترة … وعادت الحركة النشطة إلى الشوارع، فأخذ «تختخ» ينظر حوله هنا وهناك، دون أن تقع عيناه على الولد؛ فشعر بالضيق إذ ترك هذه الفرصة الذهبية تضيع من بين يدَيه. فمشى يتلفَّت حوله لعله يجد الولد مرةً أخرى، ولكنه كان قد اختفى تمامًا.

لم يجد «تختخ» فائدةً من البقاء في الشوارع، وقرَّر أن يعود إلى البيت، ويُقابل بقية الأصدقاء، على أن يعود للبحث عن الولد مرةً أخرى …

اتصل «تختخ» ببقية الأصدقاء، واتفقوا على اللقاء في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد، ولم تمضِ دقائق حتى كانوا يستمعون إلى «تختخ» وهو يروي لهم ما حدث … وكانت «لوزة» أسعدهم جميعًا؛ فهي التي نصحت أن يذهب أحدهم إلى المقهى لعله يعثر على أثرٍ ما يُرشدهم في هذه المغامرة، وقد صدق ظنها … وبدلًا من أن ينتهي اللغز قبل أن يبدأ كما قال «عاطف»، أصبح عندهم لغز كامل …

وعندما انتهى «تختخ» من روايته … قال «محب»: ولكن ماذا يقصد الولد من تحذيرك ألَّا تتدخَّل في هذا الموضوع؟ …

تختخ: لا أدري … ولكن من المؤكَّد أنه يعلم أشياء هامة … كأن تكون هناك عصابة كبيرة وراء هذه الحادثة … أو شيء من هذا القبيل …

نوسة: على كل حال إن مهمة البحث عن هذا الولد مهمة سهلة؛ فهو في المعادي، ويتردَّد على المقهى، ومن الممكن مراقبته حتى نعثر عليه … وفي إمكاننا أن نُقنعه بأن يروي لنا ما يعرفه …

تختخ: هذا صحيح … وهذه مهمتنا من الآن …

قالت «لوزة» متحمِّسة: إنني على استعدادٍ لأن أذهب حالًا، وسآخذ «زنجر» معي …

تختخ: ليس بهذه السرعة. و«زنجر» لا يُحب الخروج في الشتاء، إنه يجلس في المطبخ بجوار الأكل والدفء … وعلى كل حال سوف نُقسِّم أنفسنا إلى فِرقٍ للمراقبة، حتى نعثر على الولد … وستكون مهمتكم في الصباح، وسأذهب أنا في المساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤