عالم جديد

سار الفرَّاش أمام «تختخ» و«مستور» في ممرَّاتٍ واسعةٍ باردة، على جانبَيها عنابر النوم، حيث ينام نُزلاء الملجأ. وكانت الساعة تجاوزت التاسعة مساءً و«تختخ» يشعر بالبرد والجوع معًا، فلم يكن قد تناول بعدُ طعام الغداء …

أخيرًا وصلا إلى العنبر رقم ٣، وفتح الفرَّاش بابه، ثم قال لهما: هناك فِرَاشان في آخر العنبر بجوار النافذة، كلٌّ منکما يختار واحدًا، وغدًا صباحًا ستتسلَّمان ملابس الملجأ …

ثم أغلق الباب، ووجد «تختخ» نفسه في غرفةٍ طويلة «عنبر»، وُضعت على جانبَيها أَسِرَّة الأولاد في صفَّين … وكان بعض الأولاد قد ناموا، وكان البعض الآخر ما زال مستيقظًا، وهؤلاء جلسوا في أماكنهم يرقبون القادمين في فضولٍ وحذر …

أخذ «تختخ» يتأمَّل ما حوله وهو يسير إلى فِراشه البعيد في طرف العنبر، و«مستور» يمشي خلفه، حتى وصلا إلى نهاية العنبر … وفجأةً انطفأ النور، وشمل العنبرَ ظلامٌ دامس، وكاد «تختخ» يصطدم بأحد الأَسِرة لولا أنه توقَّف عن السير في الوقت المناسب، أمَّا «مستور» فقد اصطدم فعلًا بالسرير الذي أمامه، وسمع «تختخ» صوتًا يقول: ألا ترى ما أمامك أيها الأعمى؟! …

لم يردَّ «مستور»، ولكن «تختخ» ردَّ على المتحدِّث قائلًا: ليس الخطأ منه، ولكن من النور …

قال المتحدِّث في الظلام: هل أنت الذي اصطدمت بسريري؟

تختخ: لا … ولكنه زميلي «مستور» …

المتحدِّث: وما دخلك أنت في الحديث، ما دام هو المسئول؟

وسمع «تختخ» ضحكاتٍ في الظلام، ثم سمع صوت المتحدِّث يقول: أضئ النور «یا كفتة» …

وأُضيء النور على الفور، فغشيت عينا «تختخ» لحظات، ثم رأى المتحدِّث يجلس في فراشه … كان ولدًا قوي الجسم، منكوش الشعر، تبدو على وجهه علامات الشراسة والاعتداد بالنفس …

قال الولد: من أنتما؟ …

لم يردَّ «مستور» … فقال «تختخ»: اسمي «دنجل»، وهذا «مستور».

الولد: هل أنتما من حارةٍ واحدة؟

تختخ: لا، لقد تعارفنا في سيارة الشرطة …

الولد: هل أنت معلمه، أو محاميه؟ …

تختخ: لست معلمًا ولا محاميًا، أنا صديقه فقط.

كان بعض الأولاد قد تركوا أماكنهم، واجتمعوا حول القادمَين الجديدَين، وسمع أحدهم يقول لآخر: إن «الكنجة» سيضربه …

وأدرك «تختخ» أن «الكنجة» هو الولد المتحدِّث، وأن اسمه مأخوذٌ من كلمة «کنج» الإنجليزية، ومعناها «الملك» … فهذا الولد هو ملك الملجأ، أو زعيم الملجأ، وعرف أن «الكنجة» سيُحاول ضربه، أو على الأقل السخرية منه؛ حتى يُثبت للباقين أنه الزعيم أيضًا بالنسبة للقادمَين الجديدَين.

قرَّر «تختخ» أن يتجنَّب الصدام ﺑ «کنجة» هذه الليلة؛ لأنه متعبٌ وجائع، فتحرَّك إلى الأمام ليذهب إلى فراشه، ولكن الأولاد المتفرِّجين وقفوا في شبه دائرةٍ تُحيط به، ومنعوه من التحرُّك …

قال «الكنجة»: إلى أين أنت ذاهب؟ … إنني لم أنتهِ من الحديث معك …

تختخ: سأذهب لأنام فإنني متعب …

الكنجة: لن تنام حتى أسمح لك؛ فهنا نظام وليست فوضى …

سكت «تختخ»، فتقدَّم «الكنجة» من «مستور» وأمسكه من ذراعه في خشونة وقال: أنت مقبوضٌ عليك بتهمة إيه؟ …

مستور: إنني لم أرتكب أية جريمة …

ضحك «الكنجة» وقال: هل قبضوا عليك إعجابًا بك، أم لمجرَّد الهزار؟ …

لم يردَّ «مستور»، فاتجه «الكنجة» إلى «تختخ»، وبدا أنه يتحفَّز لمضايقته، واستعد «تختخ»، ولكن حدث في تلك اللحظة ما غيَّر مجرى الأحداث؛ فقد فتح أحد المشرفين الباب وصاح: ألم تناموا بعد؟! … هيَّا كلٌّ إلى فراشه …

أسرع الأولاد كلٌّ إلى مكانه، أمَّا «الكنجة» فسار ببطءٍ وجلس على حافة فراشه في تحدٍّ، وانتهز «تختخ» الفرصة واتجه إلى فراشه، وكذلك فعل «مستور» …

أطفئ النور وساد العنبرَ الظلام …

استلقى «تختخ» على فراشه، وسحب البطَّانية، وتغطَّى بها وهو يرجو ألا يتحرَّك «الكنجة» مرةً أخرى في تلك الليلة … ولحسن الحظ مضى الوقت دون أن يحدث جديد، واستطاع بالرغم من الجوع والبرد أن ينام …

استيقظ «تختخ» صباحًا على صوت جرسٍ قوي، ففتح عينَيه، وللوهلة الأولى لم يدرك أين هو؛ فقد كان يظن أنه في البيت … ولكن سرعان ما أدرك الحقيقة، وأنه الآن في عالمٍ آخر — في ملجأ الأحداث — وسمع صوت المشرف يصيح: هيا كل واحدٍ يُنسِّق فراشه … ويغتسل ويتجه إلى الطابور.

قفز «تختخ» مسرعًا، وأخذ يُرتِّب فراشه كما يفعل الباقون، ثم اتجه إلى دورة المياه ليغتسل، واقترب «مستور» منه وهو يقول: صباح الخير. ردَّ تحية الصباح، ثم اتجها معًا إلى دورة المياه، وخرجا معًا إلى فناء الملجأ، حيث وقف الأولاد صفوفًا، وبعد تحية العلم ونشيد الصباح دخلوا إلى عنابر الأكل …

كان «تختخ» جائعًا فانقضَّ على الإفطار المكوَّن من الفول والعيش يلتهمه، وشرب كوبًا من الشاي، وأحسَّ بنشاطه يعود، وباستعداده للصراع يتزاید.

استدعاه المشرف هو و«مستور»، حيث تسلَّما ملابس الملجأ، وطلب منهما المشرف أن يختارا مهنة يتعلَّمانها، ولمَّا كان «تختخ» يهوى النجارة فقد اختارها، وكذلك فعل «مستور».

اتجها إلى الورشة معًا، وكانت مفاجأة «تختخ» أن يجد «الكنجة» هناك! كان يجلس في الشمس هو و«كفتة» بينما بقية الأولاد يعملون.

أخذ «تختخ» ينظر حوله باحثًا عن الولد الذي جاء من أجله، «عودة» ماسح الأحذية الصغير الذي حذَّره من التدخُّل في الموضوع بالنسبة للحقيبة السوداء، ولكنه لم يعثر له على أثر، وقال في نفسه: لعله في قسم الجلود باعتباره ماسح أحذية …

انهمك «تختخ» في عمله الجديد باهتمام، وكان يُساعده «مستور»، وبعد فترة خرج المشرف من عندهم … وبعد لحظات دخل «الكنجة» وخلفه «كفتة»، واتجه رأسًا إلى «تختخ» الذي تظاهر بأنه لا يراه، ولكن «الكنجة» مدَّ يده وجذب «تختخ» من كتفه قائلًا: أُريد أن أتحدَّث إليك.

توقَّف كل الأولاد عن العمل، ووقفوا ينتظرون ماذا سيحدث، وشعر «تختخ» أن «الكنجة» يُريد أن يُؤكِّد زعامته بإيذائه، وقرَّر أن يتحدَّاه. قال «الكنجة»: لماذا اخترت قسم النجارة؟ هل تقصد معاندتي؟

تختخ: ولماذا أُعاندك؟ …

الكنجة: لأنه لا أحد يدخل هذا القسم إلَّا بموافقتي.

تختخ: لم أكن أعرف هذا … ولو كنتُ أعرفه لما استأذنتك …

ابتسم «الكنجة» ابتسامةً خبيثة، وقال: أنت تتحدَّاني إذن؟

تختخ: إذا كنت تعتبر هذا تحديًا لك، فاعتبره كذلك …

وفجأةً طارت قبضة «الكنجة» في الهواء، واستقرَّت على وجه «تختخ» الذي أحسَّ بعنف الضربة، ولكنه لم يقع، بل أرسل قبضته هو الآخر كالقنبلة في وجه «الكنجة» الذي أسرع يُحاول ضرب «تختخ» بالرأس، ولكن «تختخ» كان قد أخذ حذره فانحرف يسارًا، فاندفع «الكنجة» إلى الأمام كالثور، ووقع على الأرض، ولكنه قام مسرعًا وهو يرتجف بالغضب، ومرةً أخرى هاجم «تختخ» بشراسة، ولكن «تختخ» كان مستعدًّا فضربه مرةً أخرى في بطنه … والتحم الولدان في صراعٍ مخيف، كان «الكنجة» قویًّا حقًّا، ولكن «تختخ» الذي كان يُجيد فنون الملاكمة والمصارعة كان ندًّا له … ووقف الأولاد يُحيطون بالمتصارعَين وهم يصيحون، وأسرع «كفتة» يُغلق باب الورشة حتى لا يدخل أحد …

استمرَّ الصراع بين الولدَين، ووقعا على الأرض بضع مرات، وكان «تختخ» يعرف أن هذه المعركة مهمة لإنقاذ كرامته من إذلال «الكنجة»، وهكذا صارع باستبسالٍ حتى استطاع في النهاية أن يُسقط «الكنجة» على الأرض لا حول له ولا قوة.

انسحب «الكنجة» خارجًا يتبعه «كفتة»، وأحاط الأولاد ﺑ «تختخ» يُهنِّئونه على نتيجة المعركة، وكان أكثرهم سعادةً «مستور»، الذي أحسَّ أن صديقه الجديد يمكن أن يحميه من بطش «الكنجة» ومن معه.

وعلى مائدة الغداء في العنبر الكبير انتشر خبر المعركة بين «تختخ» و«الكنجة»، وأخذ الأولاد يتناقلون خبرها بعد أن أضافوا إليها مبالغاتٍ كثيرة. وهكذا أصبح «تختخ» أو «دنجل» — وهو الاسم الذي يعرفه به الأولاد — بطلًا، وكان «مستور» أكثر الأولاد تحمُّسًا، أمَّا «تختخ» فلم يكن ما حدث يعنيه في شيء، إن ما يُهمه هو مقابلة «عودة» …

وهكذا أنهى «تختخ» غداءه مسرعًا، وقام يلف بين الصفوف باحثًا عن «عودة»، وكانت لحظةً عظيمةً عندما رآه يجلس على إحدى الموائد يتغدَّى! واقترب «تختخ» ليتأكَّد، وأحسَّ بسعادةٍ بالغة عندما تأكَّد أن «عودة» ماسح الأحذية الصغير هو الولد الجالس إلى مائدة الطعام … وفكَّر أن يتقدَّم ويُحدِّثه، ولكنه فضَّل أن ينتظر حتى يجد وسيلةً مناسبةً للحديث إليه، والحصول منه على المعلومات التي يُريدها.

بعد الغداء، وفي الشمس اجتمع الأولاد في حلقاتٍ يتحدَّثون، وكان «الكنجة» قد جمع أعوانه حوله، وأخذ يُبرِّر هزيمته بأنه كان مريضًا في الصباح، وأنه سوف يضرب «تختخ» في أقرب فرصةٍ ممكنة.

أمَّا «تختخ» الذي أحاط به عددٌ كبير من الأولاد، فقد كان يستمع في دهشةٍ إلى حديثهم عن «الكنجة». لقد كانوا جميعًا يخافونه ويرتعدون لمجرَّد ذكر اسمه … لقد كان هو وأعوانه يُسيطرون على أولاد الملجأ جميعًا، ولا يستطيع أحدٌ أن يرد له أمرًا، وفجأةً انضم إلى الأولاد الواقفين «عودة» …

كانت فرصةً طيبةً لكي يتحدَّث «تختخ» إليه، فناداه باسمه فتقدَّم «عودة» إليه مسرورًا؛ لأنه يعرف اسمه، فقال له «تختخ»: أليس لك أنت أيضًا ذكريات عن «الكنجة»؟!

قال «عودة»: إنني أعرفه أكثر ممَّا يعرفه أي ولدٍ آخر هنا؛ فقد دخلتُ هذا الملجأ ثلاث مرات، وفي كل مرةٍ كنتُ أجده هنا، حتى إنني أظن أنه لا يُغادر الملجأ أبدًا، ولكن الحقيقة …

توقَّف «عودة» عن الكلام فجأة، كأنه أحسَّ أنه قال أكثر من اللازم عن «الكنجة» …

قال «تختخ»: ولكن الحقيقة … ماذا؟

قال «عودة» وهو ينسحب في خوف: لا شيء … لا شيء مطلقًا.

لم يلحَّ «تختخ» في الحديث؛ فقد أدرك أنه لن يُكمل حديثه الآن، وترکه إلى فرصةٍ يمكنه أن يحصل منه على المعلومات التي يُريدها، والتي أحسَّ أن لها علاقةً قويةً بالزعيم أو الملك «الكنجة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤