مقدمة

١

يمكن لمتتبِّع أعمال إدوار الخراط (١٩٢٦–٢٠١٥م) الروائية أن يلحظ فيها نوعًا من وحدة الموضوع أو وحدة التجربة؛ إذ يكاد المؤلف — في معظم أعماله — يعزف لحنًا واحدًا، أو يستكمل الناقص منه. وعلى سبيل المثال، يُمكن للقارئ أن يكتشف أن ثلاثة من أعمال إدوار الخرَّاط الروائية، ألا وهي: رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش١ تتناول موضوعًا واحدًا هو قصة علاقة الحب بين ميخائيل ورامة في مرحلة كهولة الراوي ميخائيل قلدس، على حين تتناول روايته طريق النسر٢ قصة العمل الثوري والنضال الذي قام به ميخائيل قلدس في مطالع شبابه. وأما روايته صخور السماء٣ — وهي موضوع الدراسة الحالية — فتتناول مرحلة طفولة ميخائيل قلدس ومقتبل شبابه، بكل ما تنطوي عليه هاتان المرحلتان من بذور التكوين الأولى التي أثَّرت في شخصيته لاحقًا، سواء على مستوى العمل الثوري والنضال في مرحلة الشباب وهو موضوع روايته طريق النسر، أو على مستوى علاقة الحب التي مَرَّ بها مع رامة، وهي العلاقة التي تناولتها الثلاثية الروائية سالفة الذكر.٤ (ونظرًا إلى وحدة الشخصية في الروايات الخمس سالفة الذكر، يمكن القول إننا إزاء ما يمكن تسميته «خماسية ميخائيل»).

ولعل من أهم ملامح بذور التكوين الأولى المعتقدات الدينية التي تشرَّبها ميخائيل قلدس في طفولته، وأثر هذه المعتقدات في أخلاقياته وتكوينه الشخصي من حيث تفاعله مع العالم حوله، سواء في العمل الثوري أو في علاقات الحب التي مَرَّ بها، وبصفة خاصة مع رامة. وفي الوقت نفسه، يندرج ضمن بذور التكوين الأولى علاقة الحب التي مَرَّ بها في طفولته مع محبوبته الطفلة مارينا.

ومن هذه الزاوية، تنبع أهمية دراسة رواية صخور السماء، إذ أرى أنه العمل المفتاحي الذي يفكُّ شفرة الكثير من أعمال إدوار الخراط الروائية. ولا أقصد أن الدراسة ستنصبُّ على التحليل النفسي لشخصية ميخائيل قلدس، بل المقصود أن دراسة التعدُّد الدلالي — في هذا النص الغني — سوف تُعِين على تعرُّف طبيعة التشكيل الدلالي في نصوص إدوار الخراط الأخرى، وبخاصة لو سلَّمنا بحقيقة أن رواية صخور السماء تمثِّل النص المفتاحي الذي يُتيح للقارئ الدخول إلى عالم إدوار الخراط الروائي.
ومن ناحية أخرى، تُقدِّم رواية صخور السماء — كما يُشير المؤلف نفسه فيها (انظر: ص٤١٤)٥ — لمحة مكثفة أحيانًا، وتفصيلية أحيانًا أخرى، عن العقيدة الدينية في المجتمع المسيحي الذي لا نعرف عنه شيئًا، أو إذا كنَّا نعرف فمعرفتنا مختلطة، أو تفتقر إلى الوضوح. وبطبيعة الحال، يُقدِّم النص هذه اللمحة مشفوعة بتصور الراوي ميخائيل قلدس — الخاص — عن هذه العقيدة الدينية، عبر المواقف والأحداث المتباينة في النص، ووجهة نظره فيها، وهي وجهة النظر التي يصوغها النص في كل مستوى من مستوياته. وأرى أن هذه اللمحة على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية في تيسير الدخول إلى عالم إدوار الخراط الروائي بوجهٍ عام؛ إذ تكشف عن الأسس الأولى التي يَتحدد وَفْقًا لها التنازع بين الجسد والروح، وهو التنازع الأساسي في هذا النص. غير أنه لا بد أن نضع في الحسبان أن إدوار الخراط في نصِّه صخور السماء يُقدم كتابة روائية تسعى إلى التشكيل الدلالي من خلال واقعها اللغوي في المقام الأول.

٢

وعليه، تتمثَّل إشكالية هذه الدراسة في معرفة الكيفية التي يؤدِّي بها النصُّ دلالاته عن طريق عمليات من النَّسْج اللغوي والدلالي. وستقود هذه الإشكاليةُ الدراسةَ إلى إثارة السؤال الآتي: هل بمقدور النص أن يمضي من خلال مستوياته الدلالية المختلفة إلى دلالةٍ واحدةٍ تتجاوب مع ما يمكن أن نسمِّيه بنية النص الكبرى فينغلق النص على معناه الأخير متوحِّدًا معه، أم أن عمليات الصياغة الدلالية تفضي إلى تعددٍ في الدلالة يؤدي إلى عدم استقرار بنية النص الكبرى وانعدام تمركزها حول دلالةٍ واحدةٍ أو معنى نهائي؟ وما المبدأ الذي يؤدي إلى التعدد الدلالي في النص؟ وهل هذا التعدد الدلالي متوترٌ أم أنه منسجم في النص؟

ولذا، تتحدد أهداف هذه الدراسة على النحو الآتي: محاولة التوصُّل إلى الطرائق التي يُنتِج بها النصُّ دلالاته في مستوياتها المختلفة، وهي الدلالات التي تتجلَّى للقارئ عبر مستويات رمزيةٍ وأسطوريةٍ متضافرةٍ؛ الأمر الذي يقتضي — في النهاية — قراءة النص قراءة محايثة من حيث هو عملية ظهور تستلزم تعرُّفًا وفَهْمًا وتأويلًا. وتقوم هذه المحايثة على تحليل النص إلى مستوياته الدلالية الرمزية والأسطورية، من أجل الوقوف على طريقة إنتاج الدلالة، وعلاقة هذه الطريقة المخصوصة ببنية النص.

ومن الضروري الإشارة إلى اعتداد هذه الدراسة بنظرية التأويل عمومًا، مع مراعاة البعد الأنطولوجي في اللغة بوصفه مرتكزًا أساسيًّا في الممارسة التأويلية ذات الأبعاد الوجودية؛ الأمر الذي يفرض النظر إلى النص بوصفه نسيجًا دلاليًّا يُنتج من خلال الصوغ اللغوي دلالته الكبرى من حيث هي — أولًا وأخيرًا — عملية ظهور تقتضي التأويل وتعدد التأويل.

وتتطلب وجهة النظر الوجودية طريقة مخصوصة في القراءة، تنطلق من مرتكزات التأويلية الوجودية، كما أوضحها جادامر Hans-Georg Gadamer (١٩٠٠–٢٠٠٢م) ومصطفى ناصف (١٩٢١–٢٠٠٨م) استنادًا إلى مفهوم هايدجر Martin Heidegger (١٨٨٩–١٩٧٦م) الوجودي عن اللغة. وبهذه الطريقة في القراءة والتحليل، يتجاوب الدرس مع النص، وبخاصة أن نص صخور السماء ينطلق من مفهوم التجربة الداخلية في الكتابة الأدبية، وتفرض التجربة الداخلية وجهة نظر وجودية بالضرورة. فالنص يُثير مجموعة تساؤلات تجعله منفتحًا على مشكلات جوهرية، لعل من أهمها المشكلات ذات الطابع الوجودي كمشكلة عنف الحياة والموت، ومشكلات أخرى ذات طابعٍ ميتافيزيقي مثل التوتر الدائم بين الجسدي والروحي.

والنص إذ يُثير هذه المشكلات الوجودية والميتافيزيقية يسعى إلى صياغة الحياة والوجود من خلال اللغة؛ على الرغم من آراء إدوار الخراط نفسه عن العلاقة بين التجربة الحية واللغة، بين الحياة وجوهرها واللغة. صحيح أن المؤلف يبثُّ آراءه عن قصور اللغة على طول النص — تقريبًا — بشكلٍ غير مباشرٍ غالبًا وبشكل مباشر أحيانًا، وبصفة خاصة في ختام الفصل الأول، فينتصر للتجربة الحية التي يمكن للموجود أن يعانق من خلالها الوجود في كليَّته، غير أن هذه التجربة لا تنكشف لنا إلا من خلال مستويات اللغة في تعددها الدلالي الذي ينطوي، بدوره، على تعددٍ في الخبرة والتجربة.

ومن هذه الفرضية، سيبدأ هذا الدرس، سيبدأ من حقيقة أن اللغة هي مسكن الوجود ومقرُّه كما يقول هايدجر، ذلك أن «الكلمات واللغة» — فيما يشرح مصطفى ناصف مقولة هايدجر — «ليست غلافًا أو وعاءً تُحفظ فيه الأشياء ويَعبُّ منه الكتَّاب والقُرَّاء. في الكلمات واللغة تتجلَّى الأشياء لأول مرة؛ وهذا هو معنى عبارة هايدجر «اللغة منزل الوجود».٦
وإذا كانت اللغة منزل الوجود ومستقره، فلا شك أنها ستكون متوترةً؛ لأن الوجود متوتر بطبعه، ويُعاني الموجود الإنساني دائمًا من هذا التوتر. ولذا، فدرس نصٍّ شديد التوتر مثل صخور السماء لا يمكن له أن يُعاين توتر الوجود إلا من خلال معاينة توتر اللغة التي هي المرتكز الأساسي في إنتاج الدلالة. فالنص «هو كشفٌ لوجود العالم».٧ والوجود نفسه ما هو إلا عملية مستمرة من التلقي والتأويل.

يقول الراوي: «فهل كنَّا مجرد صبيين ساذجين نفعل شيئًا مبتذلًا قرأناه في الروايات وتوهَّمنا أنه جادٌّ وخطير وفي غاية الرصانة بل القداسة، أم كان الأمر بالفعل قدسيًّا على كل سذاجته؟» (ص٣٠). يكشف هذا التوتر الذي تخلقه الأسئلة، وهذه الصلة المتوترة بين الماضي والحاضر، عن إشكالية التساؤل في النص بوصفه المحرك الأساسي لعمليات إنتاج الدلالة، وهي عمليات تتسم بالتوتر الشديد؛ الأمر الذي يعني تجاوزًا مستمرًّا لأي عملية تأويلية تقف عند حدود الجملة أو العبارة. فهناك الراوي الصبي، والشيخ المتأمِّل الذي يكتب ويتدخل ويعلِّق، والواقع الذي يحياه الناس في أخميم، ورسائل الأب، والطقوس الدينية، والصراعات داخل الكنيسة، والطفولة الأليمة التي يصاحبها الموت دائمًا، وحضور التاريخ المصري القديم، والعادات والمعتقدات القبطية، وتاريخ مصر الحديث، والحب والموت والحياة؛ كل هذا الوجود الغني ينكشف في النص من خلال اللغة وحدها؛ فاللغة هي التي تضطلع بعبء الوجود، الأمر الذي يقتضي عمليات مستمرة من التأويل من أجل معاينة توترها.

ولن تتم هذه المعاينة إلا من خلال التلقي والتأويل لما ينطوي عليه النص من دلالات في مستوييها الرمزي والأسطوري بوصفهما جزءًا من عناصر دلالية تتبع نظام النص الداخلي الذي من شأنه أن يُحدد طبيعة هذه العناصر والعلاقة بينها، تلك العلاقة التي تفضي إلى بنية النص الكبرى على نحو ما تظهر للقارئ؛ مع ملاحظة أن كل عنصر من هذه العناصر يكتسب معناه من خلال الجدل المتوتر بغيره من العناصر، وهذه العلاقة هي التي تؤدي إلى انكشاف بنية النص الكبرى عبر استكشاف طبيعتها المخصوصة في النص.

وكما أشرت سابقًا، يعتد هذا الدرس بالنظر إلى نص صخور السماء بوصفه نسيجًا دلاليًّا يُنتج عبر الصوغ اللغوي دلالته الكبرى من حيث هي — أولًا وأخيرًا — عملية ظهور يقتضي التأويل وتعدُّد التأويل. غير أن السؤال المضمن في هذا الدرس: هل يمضي النص حقًّا نحو دلالة وحيدة ونهائية تفضي إليها بنيتُه الكبرى، أم أن هذه البنية النصية غير مستقرةٍ، وتتصف بالازدواج بسبب تعددٍ دلالي تولِّده طرائق التعبير التي تحُول دون انغلاق البنية على مركزٍ واحدٍ ووحيدٍ؟
وقبل الدخول إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال، سيقف الدرس — أولًا — عند استكشاف طرائق تصنيف الكتابة الأدبية الروائية، حتى تتضح السمات العامة التي تتصف بها طريقة الكتابة الأدبية الروائية التي يفضِّلها إدوار الخراط، أو التي يمكن إدراج أعماله الروائية تحتها. وبعد استيفاء هذه النقطة، يتطرق الدرس إلى إيضاح الخطوط المنهجية العريضة التي تنضوي تحتها عمليات التحليل التي يعتمدها الدرس في معالجته نص صخور السماء.

٣

وأخيرًا، لا بد من التنويه إلى أن هذا الكتاب قد صدر في طبعته الأولى عن دار أزمنة للنشر والتوزيع بالأردن عام ٢٠١١م، ولكن هذه الطبعة الجديدة التي أخصُّ بها مؤسسة هنداوي قد تعرضت للتنقيح على طول الكتاب، فضلًا عن الإضافة في الفصل الأول والخاتمة على وجه التحديد.

انتصار شوقي
القاهرة، مايو ٢٠٢٢م
١  إدوار الخراط، رامة والتنين (القاهرة، دار ومطابع المستقبل، ط٢، ١٩٩٣م)؛ الزمن الآخر (القاهرة، دار شهدي للطبع والنشر، ١٩٨٥م)؛ يقين العطش (القاهرة، دار شرقيات، ١٩٩٦م).
٢  إدوار الخراط، طريق النسر (القاهرة، مركز الحضارة العربية، ٢٠٠٢م).
٣  إدوار الخراط، صخور السماء (القاهرة، مركز الحضارة العربية، ٢٠٠١م).
٤  للاطلاع على قراءةٍ تفكيكية للثلاثية وتحديد موقع إدوار الخرَّاط في تيار ما بعد الحداثة، انظر كتاب حسام نايل بعنوان دروس التفكيك: إدوار الخراط: ما بعد الحداثة والعدمية الصادر عن مؤسسة هنداوي.
٥  سأشير من الآن فصاعدًا إلى الإحالات أو الاقتباسات من رواية صخور السماء داخل متن الدراسة، وأي تسويد في الاقتباسات لاحقًا سيكون من عندي.
٦  مصطفى ناصف، نظرية التأويل (السعودية، النادي الثقافي الأدبي بجدة، ٢٠٠٠م)، ص٨٠.
٧  المرجع السابق، ص٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤