الخاتمة

تناولتُ في هذا الكتاب نص إدوار الخراط الروائي صخور السماء، بالدرس والتحليل، انطلاقًا من القراءة المحايثة التي تعتني اعتناءً أساسيًّا بالنص الأدبي نفسه من حيث هو الطرف الأساسي في عملية القراءة؛ وذلك بغرض الوصول إلى كيفيات التشكيل الدلالي في النص، عبر إطار هرمنيوطيقي يُسمى الممارسة الوجودية التأويلية. وقاد هذا التحليلُ الكتابَ إلى التوصُّل إلى أن النص — من أوله إلى آخره — يقع أسير التعارض بين الجسد والروح، وهو تعارض محكوم بقانون الإيمان المسيحي الأرثوذكسي؛ الأمر الذي كان له أثره العميق في عمليات التشكيل الدلالي. إذ انطلاقًا من ثنائية الجسد والروح، توصل التحليل — أولًا — إلى تفسير حالة التوتر الدلالي السائدة في رواية صخور السماء، على مستوى الصورة الأدبية بأبعادها الرمزية والأسطورية.

ومن ناحية ثانية، أظهر التحليل أهمية الاستناد إلى الممارسة الوجودية التأويلية، ومدى نفعها في التحليل الدلالي؛ لأنها ممارسة تركز على النص الأدبي بوصفه عملية ظهور وانكشاف، أثناء فعل القراءة نفسه، وأثناء التلقي الذي يحدوه عطف واهتمام وإنصات إلى صوت الآخر: صوت النص نفسه، ويقتضي هذا الإنصات قدرًا كبيرًا من التواضع أمام النص بدلًا من الاستعلاء عليه.

ولعل هذه الدراسة تفتح بابًا جديدًا لتحليل رؤية العالم في مجمل أعمال إدوار الخراط الأدبية، وتحديد العناصر الفاعلة في هذه الرؤية، وبخاصة أن رواية صخور السماء تُعد نصًّا مفتاحيًّا؛ نظرًا إلى أنه يتناول — أدبيًّا — المؤثرات الدينية والقيمية التي تأثر بها ميخائيل قلدس منذ طفولته: البطل الظاهر في النص، بوضوحٍ أحيانًا، والمتخفي خلف شخصيات أخرى، في أحايين كثيرة. فلعل ما توصل إليه هذا الدرس يُعد أساسًا يمكن البناء عليه في تناول «خماسية ميخائيل»،١ بل في تناول أعمال إدوار الخراط كلها.
وأخيرًا، من الممكن رسم المخطط العام الذي اتبعه درسي لرواية صخور السماء على النحو الآتي:
المقدمة: أوضحتُ فيها، أولًا، موقع رواية صخور السماء ضمن خماسية ميخائيل. فهي تُعد عملًا مفتاحيًّا يفك شفرة الخماسية ومجمل أعمال إدوار الخراط الأدبية الأخرى. ثم حدَّدت، ثانيًا، الإطار النظري والمنهجي الذي يتبنَّاه درسي لهذا العمل الروائي، والذي تَمثل في الهرمنيوطيقا بوجه عام، والممارسة التأويلية الوجودية بوجه خاص التي تَعتد بعبارة هايدجر القائلة إن اللغة هي منزل الوجود، وفيها ينكشف.
  • (١)
    الرواية الجديدة واسترتيجيات التأويل: وفيه حاولتُ، أولًا، تحديد موقع كتابة إدوار الخراط الروائية وفق التصنيف الذي يُقدمه شكري عزيز الماضي في كتابه أنماط الرواية العربية الجديدة، مع الوضع في الحسبان مفهوم إدوار الخراط عن «الحساسية الجديدة». ثم انتقلتُ، ثانيًا، إلى إيضاح طبيعة الممارسة الوجودية التأويلية التي أتبناها في قراءة الأعمال الأدبية، بالاستناد إلى التصور الأنطولوجي للغة عند هايدجر الذي عرضه في مقاله «هيلدرلن وماهية الشعر»، والخطوط العريضة لنظرية التأويل عند جادامر في كتابه الحقيقة والمنهج، وأخيرًا مصطفى ناصف في كتابه نظرية التأويل.
  • (٢)
    عن مفهوم اللغة والنص: وفيه تناولتُ وجهة نظر الراوي ميخائيل قلدس عن اللغة والعلاقة بينها وبين التجربة، عبر تحليل فقرات ومشاهد من النص، وبخاصة الفصل الأول منه. وكشفتُ عن أن الراوي ميخائيل قلدس يمثِّل قناعًا واضحًا للمؤلف إدوار الخراط، ولا سيما في المناقشة النظرية التي ينتهي بها الفصل الأول من الرواية، والتي تدور حول العلاقة بين اللغة والتجربة، ومدى وفاء اللغة بالتعبير عن التجربة. وهي مناقشة تتجاوب إجمالًا مع تصورات إدوار الخراط التي يقدمها في كتاباته النظرية عن اللغة بوجه عام والعمل الأدبي بوجه خاص.
  • (٣)
    ازدواج الدلالة الرمزية وتوترها: وفيه حلَّلتُ الدلالات الرمزية التي تنطوي عليها صورتان أساسيتان في النص: الأولى هي الصورة الأدبية الافتتاحية التي تُعد مفتاح الدخول إلى عالم نص صخور السماء، من حيث هو عالم استدعاء الذكريات. والثانية هي الصورة الأدبية الختامية التي أرى أنها امتداد للصورة الأدبية الافتتاحية. وما بين الصورتين الأدبيتين الافتتاحية والختامية، يكشف التحليل عن التوتر الدلالي الذي يتحكم فيهما معًا بوجه خاص، وفي النص بوجه عام. وفي ثنايا هذا التحليل، ناقشتُ العلاقة بين الذاكرة والرمز والخيال. ومن أجل تأكيد سلامة النتيجة المتعلقة بأن هاتين الصورتين الأدبيتين، الافتتاحية والختامية، تفرضان على النص كله نوعًا من التوتر الدلالي الرمزي، انتقلتُ إلى تحليل شخصية «سالومة» الواردة في الفصل الرابع من الرواية الذي يحمل اسمها، بوصفها رمزًا كونيًّا تتوتر دلالاته بين القداسة والفجور.
  • (٤)
    الدلالة الأسطورية (حامل الخطايا): وفيه تناولتُ المعتقد الديني المسيحي من حيث هو أسطورة، بالمعنى الذي يتبناه أحمد شمس الدين الحجاجي عن الشعيرة، أو المعتقد الديني، بوصفه أسطورة. فحلَّلتُ، أولًا، مشهد معمودية ميخائيل قلدس في الطفولة، بوصفه وعدًا بالخلاص من العذاب، وهو الوعد الديني الذي يتأسس على المستوى الأسطوري. ثم انتقلتُ، ثانيًا، إلى تحليل التصور الأسطوري الخاص بعودة المسيح الأبدية، كما تمارسه الجماعة المسيحية التي ينتمي إليها الراوي في صعيد مصر.
  • (٥)
    التعدد الدلالي وازدواج بنية النص: وفيه حاولتُ تأكيد النتائج التي توصَّل إليها الدرس على مدى الفصول السابقة، فتناولتُ طبيعة النص التكوينية المتوترة، وما تفرضه هذه الطبيعة المتوترة من ضرورة وجود ازدواج يُعاني منه المركز البنيوي في النص. ثم انتقلتُ إلى تحليل المناقشة اللاهوتية التي دارتْ في الدير الكبير حول طبيعة المسيح وقانون الإيمان الذي تعتنقه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والتي يتضح من خلالها العامل الأساسي في حدوث التوتر الدلالي والازدواج البنيوي الذي يُعاني منه النص، متمثلًا في ثنائية الجسد والروح. وتأكيدًا لهذه النتيجة، انتقلتُ إلى تحليل شخصية لعازر/أغابيوس في تحولها المتوتر بين الجسد والروح، الذي يمثِّل وجهًا أساسيًّا من وجوه الصراع الدائم بين الجسد والروح عند الراوي ميخائيل قلدس؛ إذ تجسِّد شخصية لعازر/أغابيوس وجهًا نموذجيًّا من وجوه الراوي ميخائيل قلدس. وأخيرًا، أنهيتُ هذا الفصل بتحليل موجز لبنية المكان والزمان في النص، اتضح منه انقسام المكان إلى مكان واقعي هو بلدة أخميم ومكان خيالي هو بلدة أباهور. ولكن المكان الواقعي، أخميم، يكتسب أبعادًا أسطورية بفضل الزمكانية التي يضفيها عليه الراوي ميخائيل عبر التذكُّر والاستدعاء التاريخي الموغل في القدم.
خاتمة: وفيها استعرضتُ أهمَّ النتائج التي توصَّلتُ إليها من خلال الممارسة الوجودية التأويلية لرواية صخور السماء. ثم عطفتُ باستعراض المخطط العام لدراستي على نحو ما سلف أعلاه.
١  انظر المقدمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤