الفصل الرابع

الدلالة الأسطورية (حامل الخطايا)

تدور أحداث رواية صخور السماء في الصعيد بين بلدتَي أخميم وأباهور، ومحورها عائلة قلدس الذي كان قد هاجر منذ زمنٍ بعيدٍ من أخميم إلى الفيوم أولًا، ثم إلى الإسكندرية (انظر: ص١٢٥)، وتحت تأثير الغارات الألمانية والإيطالية على الإسكندرية اضطرت العائلة أن تعود مرةً أخرى إلى أخميم، الموطن الأصلي لها، على حين ظلَّ الأب قلدس في موطن الهجرة الثاني الإسكندرية:

«كانت الغارات الألمانية والإيطالية على الإسكندرية قد ألجأت عائلة قلدس إلى اللواذ بالصعيد، بينما ظلَّ الرجل يُناضل — كالعادة — من أجل لقمة العيش، بين الإسكندرية نهارًا وبلدة المحمودية ليلًا عند عائلة المنشاوية، يكدح في وكالة البيض التي يملكونها، كاتبًا بالأجر الزهيد، بعد أن كان زميل تجارة لهم منذ سنين.» (ص٤٠)

ويبدو أن تجارة الوالد قد تأثَّرت بالأزمة الاقتصادية العالمية الشهيرة عام ١٩٣٠م. كما يتضح أيضًا — من أحد خطابات الوالد — الذي ظلَّ مُقيمًا في الإسكندرية — في ردِّه على ابنه — أن العائلة عادت إلى أخميم مع بداية الحرب العالمية الثانية (انظر: ص٤٣). ومع مطالع عام ١٩٤٢م، سوف تنتقل عائلة قلدس من أخميم إلى دمنهور حتى يواصل الابن، ميخائيل، دراسته في الجامعة:

«سوف يعود مع أسرته إلى دمنهور في العام القادم، ويواصل الدراسة في جامعة فاروق الأول بالإسكندرية نهارًا، وبعد الكلية يعود إلى دمنهور، ويلحق بهم أبوه كلما استطاع، دمنهور قُرَيِّبة.» (ص٤٤)

ويُشير النص إشارةً واضحة إلى أن عائلة قلدس ليست عائلة مسيحية عادية، بل عائلة يرتبط اسمها بحدوث معجزة، هي معجزة نقل الجبل على يد سمعان الخراز، ففي الشعائر المسيحية يصوم المسيحيون ثلاثة وأربعين يومًا بدءًا من ١٦ هاتور، وفي هذا السياق يقول النص:

«رحلة يصوم فيها المؤمنون ثلاثة وأربعين يومًا بدءًا من ١٦ هاتور، استشرافًا لسماع هتاف الملائكة: «أنه وُلِد لكم في مدينة داود مخلصٌ هو المسيح» أربعين يومًا كما صامها موسى كليم الله قبل أن يتلقَّى لوحة الوصايا العشر مكتوبة بإصبع الله، وثلاثة أيام في الأوَّل أضافها الأنبا أبرام بن زرعة البطريك الثاني والسبعون في القرن العاشر تذكارًا لمعجزة نقل الجبل على يد سمعان الخراز، وتبرُّكًا به كان اسم عائلة ميخائيل قلدس الخراز.» (ص٤٤-٤٥)

وإذا كان النص يعتمد استدعاء الذكريات فإن هذه الذكريات هي — في حقيقة الأمر — ذكريات العائلة والأقارب الذين كان ميخائيل قلدس — راوي النص — على علاقةٍ مباشرة بهم. ولا تخلو هذه الذكريات من أبعادٍ ودلالاتٍ دينية واضحة.

وليس المقصود — بطبيعة الحال — أننا أمام نصٍّ فولكلوري يقدم العادات والتقاليد والمعتقدات والأخلاقيات الدينية، بقدر ما نحن أمام نصٍّ يقدم سلوكات العائلة الكبيرة وتصرفاتها انطلاقًا من مجموعة المعتقدات الدينية الراسخة، وفي الوقت نفسه يقدم اختراقات الشخصيات لهذه المعتقدات.

ومن ناحية أخرى، يقدم النص الخبرة الدينية التي عاشها الراوي أثناء الطفولة، وهي الخبرة نفسها التي عاشتها — وتعيشها — الجماعة التي ينتمي إليها، غير أنه مع تقدُّم الراوي في العمر، من الطفولة إلى مرحلة الصبا، ثم مرحلة المراهقة والشباب، بدأ يتساءل حول حقيقة هذه المعتقدات والخبرات الدينية التي عاشها وتلقَّاها أثناء الطفولة، والتي عاشتها، وتعيشها، الجماعة البشرية التي ينتمي إليها؛ الأمر الذي يجعلني أرى أن النص لا يقدم الخبرات الدينية، والمعتقدات التي تعتنقها الجماعة المسيحية في صعيد مصر، بقدر ما يضع هذه المعتقدات والخبرات الدينية موضع التساؤل.

وانطلاقًا من هذه الرؤية، يبدو من المناسب رصد — وتحليل — العناصر الدينية — ذات الطابع الشعبي — التي تتحكَّم في سلوكات العائلة والأقارب والممارسات اليومية، حتى نقف على حقيقة المعتقد الديني الذي يتحكم في النص من جهة، وحتى يتسنَّى الوقوف على الطريقة التي ينتقد بها الراوي — ويسائل — هذا المعتقد من جهة أخرى. وتتجلى أهمية هذه الحركة التحليلية المزدوجة في أنها تُمهِّد الطريق أمام تحليل البنية النصية الكبرى والوقوف على طبيعتها.

(١) المعتقد الديني المسيحي: الدلالة الأسطورية

من الواضح أن المعتقد الديني المسيحي يلعب دورًا قويًّا على امتداد النص، من أوله إلى آخره. وفي حقيقة الأمر، يبدو أن هذا المعتقد يُمثِّل مشكلة النص الأساسية التي تتحكَّم تحكُّمًا كبيرًا في توجيه النص من ناحية، وتوجيه الراوي الذي لا يكفُّ عن مساءلة هذا المعتقد في خطوطه العريضة من ناحية أخرى. وقبل إيضاح أبعاد هذه المشكلة، أودُّ — أولًا — إلقاء الضوء على العلاقة بين الأسطورة والمعتقد الديني، بوجهٍ عامٍّ.

لقد استعمل عرب الجاهلية لفظة الأساطير بمعنى الأباطيل. ويقصد عرب الجاهلية بالأسطورة القصص والمرويات التي لا يوثق في صحتها. وفي الوقت نفسه، يؤكد القرآن الكريم المفهوم الجاهلي للفظة أسطورة؛ فذكرها تسع مرات حاملة هذا المعنى نفسه، «وليس مفهوم اللفظة بهذه الصورة فريدًا في اللغة العربية؛ ففي جميع اللغات ارتبطت لفظة أسطورة بما لا يُصدَّق أو بما هو مَحْض خيال.»١
وقبل إيضاح أبعاد مفهوم آخر للأسطورة في علاقتها بالمعتقد الديني، لا بد من إلقاء نظرة على المجال الدلالي الذي تتحرك فيه لفظة «أسطورة» من خلال معجم لسان العرب. يقول صاحب اللسان:
«سطر: السَّطْرُ والسَّطَرُ: الصَّفُّ من الكتاب والشجر والنخل ونحوها …
والجمع من كل ذلك أَسْطُرٌ وأَسْطارٌ وأساطيرُ …
والسَّطْرُ: الخط والكتابة …
«وقالوا أساطير الأولين» … معناه سَطَّرَهُ الأولون، وواحد الأساطير أُسْطُورَةٌ … وسَطَرَ يَسْطُرُ إذا كتب …
يقولون للرجل إذا أخطأ فكنوا عن خطئه: أَسْطَرَ فلان اليوم، وهو الإِسْطَارُ بمعنى الإخْطاءِ.
والأساطير: الأباطيل. والأساطير: الأحاديث لا نظام لها …
وسَطَّرَها: ألَّفها. وسَطَرَ علينا: أتانا بالأساطير … يُقال سَطَّرَ فلان علينا يُسَطِّرُ إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل. يقال: هو يُسَطِّرُ ما لا أصل له أي يُؤلف … يقال: سَطَّرَ فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمَّقها، وتلك الأقاويل الأساطير والسُّطُرُ.
والمُسَيْطِرُ: والمُصَيْطِرُ: المُسَلَّطُ على الشيء ليُشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السَّطْر لأن الكتاب مُسَطَّرٌ والذي يفعله مُسَطَّرٌ ومُسَيْطِرٌ.»٢

ويمكن من واقع هذا المقتبس تحديد المجال الدلالي الذي تتحرك فيه كلمة «أسطورة» على النحو الآتي: الدلالة على الترتيب وإحداث النظام في غير المُرَتَّبِ أو المنتظم؛ الدلالة على الخط والكتابة؛ الدلالة على الخطأ والباطل والأحاديث التي لا نظام لها؛ الدلالة على التأليف والزخرفة والتنميق؛ الدلالة على التسلُّط والتحكُّم والتوجيه.

وفي حقيقة الأمر، يمكن اختزال هذه الدلالات في دلالتين هما: التأليف والكتابة وفق نظامٍ معين، وقد يكون بغرض تنميق الباطل وزخرفته لترويجه، وقد لا يكون، غير أنه في الحالتين — سواء كان المقصود باطلًا أم غير باطلٍ — لا بد من إرادة مسيطرة. ولهاتين الدلالتين أهمية نسبية عند تحليل تصور الراوي ميخائيل قلدس للمعتقد الديني المسيحي وتجربته معه، سواء في مرحلة الطفولة أو في مرحلة الشباب.

أما عن أبعاد المفهوم المصطلحي الذي يتبنَّاه أحمد شمس الحجاجي عن الأسطورة فيمكن إجماله على النحو الآتي: المقصود بالأسطورة اصطلاحًا هو القصة السردية المرتبطة بالشعيرة، ولا تنفصل هذه القصة عن هذه الشعيرة المعينة؛ فالشعيرة هي التي تُفرق بين الأسطورة وغيرها من ألوان القصص الأخرى، ولذلك فإن ارتباط القصة بالشعيرة لا يجعلها — بالنسبة إلى معتنقيها — مجرد قصة تُقَصُّ وإنما هي حقيقةٌ معيشة، يعيشها هؤلاء الذين يعتنقونها فتتجلَّى في سلوكاتهم الحياتية اليومية وتتحكَّم فيها. ولا يفرق الحجاجي — في مفهومه الذي يتبنَّاه عن الشعيرة أو الأسطورة — «بين شعيرة اندثرت بانتهاء الاعتقاد فيها مثل أديان الفراعنة وأديان الإغريق، أو بين شعيرة ما زالت باقية ببقاء الاعتقاد فيها مستمرًّا حيًّا إلى الآن وما زال معتنقوها يؤدون طقوسها مثل الديانة اليهودية والمسيحية والإسلام.»٣
ويذهب الحجاجي إلى أن تلك الشعائر — التي كان يعتنقها الإنسان القديم ولا يزال الإنسان الحديث يعتنق بعضها — كانت تنمو مع النمو الوظيفي للأسطورة؛ نظرًا إلى أنها كانت تؤدي للإنسان حاجات حياتية تُفيده وتفيد بقاءه؛ فهي فعل يُنتظَر منه تحقيق فعل آخر. ومن خلال هذا الفعل الأول، كان الإنسان يحاول أن يصنع المعجزات، وكان هذا الفعل أولى محاولات الإنسان القديم من أجل السيطرة على الموضوعات التي تُحيط به، فيخضعها محققًا حاجاته التي يريد الانتفاع بها. وكان الإنسان القديم يتصور أن الفعل الشعائري يقدر على منحه الفعل الحقيقي؛ فعن طريق ممارسة بعض الطقوس اعتقد الإنسان أن في إمكانه الحصول على غذائه. وكما أدَّت هذه الطقوس إلى تحقيق ربح حياتي فإنها، أيضًا، كانت تُستخدم من أجل دفع الضرر عن طريق المحاكاة وتقليد النتائج المتوقعة، على أمل أن تخدع هذه الممارسة الشعائرية القدر المحتوم؛ فيتم استبدال الكارثة الوهمية بالنكبة الحقيقية. وكان هذا الأسلوب في خداع الأقدار يجري بطريقةٍ منهجية منظمة.٤ ويرى الحجاجي أنه
«ليس هناك شعب من الشعوب لم يعرف هذا النوع من الأداء الشعيري، كما أن هذا الأداء الشعيري تعددت أنواعه لدى هذه الشعوب. وكانت هذه الشعائر تُؤدَّى بإيمان صادقٍ لا ينفصل فيه الفعل الشعيري عن الفعل الواقعي … وتتطور الشعيرة بعد ذلك إلى حدٍّ يصبح معه الأداء التمثيلي فعلًا بديلًا للفعل الحقيقي … والحقيقة أن الإنسان القديم وهو يعيش الأسطورة ويؤديها لم تكن غايته أن يُعيد تمثيل الطبيعة أو التشابه معها، وإنما كان يعيش في الطبيعة محاولًا احتواءها.»٥
وكانت هذه المرحلة هي المرحلة التي ارتبطت فيها الشعيرة بالسحر والقوى السحرية، وقد جعل هذا الارتباطُ الإنسانَ متحدًا مع الطبيعة. أما الشعيرة التي ترتبط بالدين — فيما يقول الحجاجي — فهي تمثِّل قدرة الإنسان وقوته في مواجهة قوة أخرى؛ إذ حين أخذ الدين يُسيطر على الإنسان تحوَّل أداؤه الشعيري من الفعل الحقيقي إلى فعلٍ تمثيلي. ومع هذا التحول تتجلَّى عناصر الفعل الدرامي، ويصبح عالم الأسطورة عالمَ أعمالٍ وقوى متصارعة وقدرات؛ فترى الأسطورة هذا الاصطدام بين تلك القوى في كل ظاهرةٍ من ظواهر الطبيعة. وكانت أكمل صورة ترسمها الأسطورة لهذا الصراع هو الصراع الدائر بين النبات والموت، الذي اتخذ شكله الكامل في عقيدة الخصب الأوزيريسية وعقيدة ديونيسيوس، ووصل إلى التكامل في العقيدة المرتبطة بالسيد المسيح.٦

واستنادًا إلى تصور الحجاجي عن العلاقة بين الأسطورة والشعيرة والمعتقد الديني، يمكن القول إن أي حديثٍ عن المعتقد الديني يمثِّل حديثًا عن الأسطورة، بهذا المعنى الاصطلاحي الذي يتبنَّاه الحجاجي، ولذا، يُعد تحليل عناصر المعتقد الديني تحليلًا للدلالة الأسطورية التي تنشر ظلالها على النص وعلى طرائقه في تشكيل المعنى وإنتاج الدلالة.

(٢) المعمودية: وعد الخلاص من العذاب

يحكي الراوي ميخائيل خبرته الدينية الأولى التي تلقَّاها — لأول مرة — وهو في سنِّ الخامسة من عمره، وقد تمثَّلت هذه الخبرة في تجربة العذاب الذي أحسَّ به، وهو يستمع إلى حكاية القديس مرقص البشير، الذي أدخل المسيحية إلى مصر. وكان يحكي الحكايةَ منصور أفندي للأطفال الذين تجمَّعوا حوله في فناء روضة الكرمة القبطية الأرثوذكسية، وكانت مِسْ كاترين تقف إلى جانب الطفل ميخائيل وهو يستمع إلى الحكاية:

«منصور أفندي يحكي، وأنا في الخامسة، ورعًا أنتظر المعمودية ووعد الخلاص. فناء روضة الكرمة مزدحم بصفوف التلاميذ، بعد «أبانا الذي …» قد سقطت عليه فجأة رهبة، وصمت، وما يشبه الرعب الطفولي.

قبضوا على القديس وجرُّوه على أحجار الشوارع وعلى رخام السلالم، تهرَّأ لحمه وسالت دماؤه، وبالليل أودعوه السجن الضيق العفن، فنظر إليه الملاك، وقال له: افرح يا مرقص عبد الإله هو ذا اسمك كُتِب في سفر الحياة، وتوارى الملاك لكي يظهر له المسيح ويعطيه السلام.

وفي الصباح أخرجوه من السجن، ربطوه بالحبال المتينة إلى أربع [كذا] خيول تحمحم وتتململ متوفِّزة للانطلاق، كل ذراعٍ بحصان وكل ساقٍ بحصان، صرخ الوثنيون بالخيل الأربعة وضربوها بالسياط فانطلقت، كل حصان منها في اتجاه، تمزق جسد القديس الطاهر أربعة أشلاء. أضرموا النار أمام الكنيسة الصغيرة — هي في نفس مكانها الآن يا أولاد، في شارع المسلة، قسم العطَّارين، اسمها الآن على اسمه «المرقسية» — وراحوا يرقصون جذلًا وابتهاجًا … سوف يحرقون أشلاء المقدس بالنار … ولكن …

لكن عين يسوع ساهرةٌ لا تغفل ولا تنام.

زُلزلت الأرض زلزالها، تمايلت الأبنية العالية، والأعمدة، والقصور المحيطة بالساحة، قعقع الرعد وهطلت أمطار غزيرة.

كان ذلك سنة ٦٨ من ميلاد المسيح.

ارتاع الوثنيون وفرُّوا هاربين، لاذوا ببيوتهم ومعابدهم وتضرعوا إلى آلهتهم.

أما المؤمنون [كذا] آباؤنا فقد أخذوا الجسد الطاهر إلى كنيسته وصلُّوا عليه ووضعوه في قبوٍ تحت هيكل الكنيسة، تحت قدس الأقداس.

كنت أرتجف، وكان عذاب مرقص القديس في جسدي.
منصور أفندي، مشتعل العينين، يقف شامخًا هناك، على رأس صفوف التلاميذ الصامتين، الشيخ البرادعي الذي علَّمني ألف باء يقف معنا يستمع بأدبٍ وخشوعٍ لا شبهة فيه، ومِسْ كاترين أخذت يدي المرتعدة بين يديها الناعمتين المُطَمْئنَتين.

قال لنا منصور أفندي إن القديس مرقص كان أول بطريرك من بطاركتنا، وأن بطريرك الإسكندرية كان هو قاضي المعمورة كلها، وأن بيته كان أول كنيسة مسيحية.

وقال إن أم القديس مرقص كانت إحدى المريمات القديسات.» (ص٤٦-٤٧)

وسوف يترك هذا الارتجاف، الذي أحسَّ به الطفل ميخائيل، أثره في كل شيء في النص، ولن يقف العذاب عند حدود الجسد فقط، بل سيتعدَّاه إلى الروح أيضًا. ويبدو أن أثر حكاية القديس مرقص شاملٌ من حيث تأثيره في نفس هذا الطفل؛ فإدوار الخراط — المؤلف — يذكر الحكاية في أكثر من موضعٍ. وعلى سبيل المثال، يذكرها المؤلف في كتابه مواجهة المستحيل: مقاطع أخرى من سيرة ذاتية للكتابة:
«الظلال التي ما زالت قائمةً حتى يومنا هذا، من تلك المرحلة المبكرة — مرحلة الصبي المنضوي تحت جناح المسيح — هي النذْر والالتحاق بروضة الكرمة القبطية الأرثوذكسية، ومنصور أفندي ناظر المدرسة الذي لا أنساه أبدًا، وكيف كان يبدأ الصبح بقصص الشهداء المسيحيين، وبخاصة قصة القديس مرقس وربطه في أربعة خيول حتى تمزَّق جسده، قصص الشهداء بوجه عام أثرت فيَّ تأثيرًا عميقًا جدًّا، قصص الفداء والتضحية في سبيل العقيدة والإيمان الحق، تحت ظل المسيح.»٧
وبسبب هذا الإحساس بالعذاب الذي انتقل إلى نفس الصبي ميخائيل — راوي صخور السماء — تكتسب تجربة المعمودية التي سوف يمرُّ بها الراوي، وهو في سن السابعة، قيمتها الكبرى من حيث أثرها في النص، بالإضافة إلى قيمتها الدينية. وفي حقيقة الأمر، تمثِّل تجربة المعمودية تجربة أسطورية بالمعنى السالف الذي سبق إيضاحه.
ومن الواضح أن أسطورة التعميد تلعب دورًا قويًّا في النص، وفي هذا السياق يقول إدوار الخراط: «أتصور أن ثمَّ بؤرة مركزية في قلب «صخور السماء» … هي خبرة لا أقول «واقعية» فقط بل هي «خبرة حقيقة»، ومثل كل حقيقة — فيما أظن — فهي مراوغةٌ، متعددة الجوانب، متعددة التأويلات.»٨ ويخصِّص المؤلف فصلًا بأكمله من روايته صخور السماء للحديث عن هذه التجربة الأسطورية — أو «خبرة الحقيقة» كما يسمِّيها — تحت عنوان «المعمودية».

يبدأ الفصل بحادثة موت ونذْر، فقد مات أخوه منير بعد أن وُلد الطفل ميخائيل بأربع وعشرين ساعة، في ٣٠ مارس ١٩٢٦م بعد منتصف الليل بنصف ساعة. وحتى يعيش المولود الجديد نَذَرَ الأب أن يكون تَنْصِيره في دير الملاك ميخائيل بأخميم. يقول الراوي: «عشت طفولتي الباكرة في ظل ذلك النَذْر، ذلك الطقس السحري.» (ص١٩٠)

وقبل أن يبدأ الراوي في رواية تجربة التعميد، يُشير مرةً أخرى إلى منصور أفندي ناظر مدرسة روضة الكرمة القبطية الأرثوذكسية ومِسْ كاترين التي كان يحبها، والقسس والرهبان الذين كانوا يَفِدون إلى بيته في غيط العنب أحيانًا، ويخصُّ من أثر كل هؤلاء في نفسه أثر مِسْ كاترين التي كانت ترتل «ترانيم تُسَبِّحُ بنور مريم العذراء أم الإله، وتمجد المسيح في معجزاته وعطائه وموته على الصليب وقيامته من بين الأموات بعد ثلاثة أيام» (ص١٩١). وقد تأثر الصبي ميخائيل بهذه النشأة الدينية الصارمة إلى الحد الذي يقول معه:
«كنت أحيا مع المصلوب بكل روحي وقلبي، أتعذَّب لعذابه الأليم في بستان الألم والوحدة يوم خميس العهد وقد أنكره وخانه محبُّوه، وفي يوم الجمعة الحزين أُهين وجُلل رأسه الدامي بإكليل الشوك، وحمل الصليب الثقيل صاعدًا إلى الجلجثة، سقط مرتين تحت حمله الرازح على جسده النحيل، وهلاكه — وهو الإله — على الخشبة، بعد أن دقُّوا يديه ورجليه عليها بالمسامير، حتى إذا طلب ماءً سقوه خلًّا وطعنوه بالرمح في جنبه، كنت أبكي معه عندما قال «أبتي ارفع عني هذه الكأس».
لم تكن كل تلك الحكاية عندي مجرد واقعة، أو أمثولة، أو حتى أسطورة، بل عشتها بجسمي نفسه وفي صميم روحي.
ما زلت أحتفظ بالصور الملونة التي كانت توزعها مدارس الأحد، تصوِّر قصص التوراة والإنجيل من آدم وحواء إلى إسحق ويعقوب إلى موسى، ثم ميلاد المسيح ومعجزاته وأسبوع الآلام والقيامة، وعليها كتابة باللغة القبطية والعربية، وكانت هي أثمن كنوز الطفولة والصبا، ولعلَّها ما زالت من أثمن كنوز الروح.» (ص١٩١)

هذه المعايشة الحقيقية والحية ﻟ «أسطورة صلب المسيح» بكل تفاصيلها المتمثِّلة في إيمان الأتباع به ثم إنكارهم له، وقيامته من جديدٍ بعد الصلب بثلاثة أيام، تترك أثرها القوي في نفس الصبي ميخائيل إلى الدرجة التي تصبح معها «أثمن كنوز الروح». كما تمهِّد هذه المعايشة الطريق أمام «خبرة الحقيقة»، أو أسطورة الحقيقة، التي صاحبت الراوي منذ الطفولة، ألا وهي أسطورة التعميد.

ويحكي الراوي قصة الرحلة من أخميم حتى دير الملاك ميخائيل، من أجل الوفاء بالنذْر الذي نَذَرَه أبوه. وأهم ما يُميز دير الملاك ميخائيل الذي سوف تجري فيه معمودية الراوي هو أنه دير الشهداء:
«جاءني أبونا باخوميوس، وضع يده على رأسي بخفةٍ، وسمعته يقول:
ربنا يباركك يا بن قلدس قلادة الخراز وينولك مقاصدك، ثم أحنى رأسه قليلًا ناحيتي وقال:
هل تعرف يا وليدي أن هذا الدير اسمه أيضًا «دير الشهداء»، رُفات مئات من الشهداء من عصر دقلديانوس وأريانوس محفوظة هنا في قبو الدير، برعاية الله، بعضها كأنهم تنيَّحوا أمس فقط، أجسامهم ما زالت طرية.» (ص٢٠٣)

ويلفت النظر أيضًا بعد الوصول إلى دير الملاك ميخائيل، وجود أسدٍ كان يتجول حول أسوار الدير، وقد استطاعوا قتله بالرصاص، ثم ظهور هدهد رآه الصبي ميخائيل على آخر سور الدير يتهادى ببطء (انظر: ص٢٠٤–٢٠٦).

وتأتي اللحظة الحاسمة في رحلة المعمودية، ألا وهي الذهاب إلى هيكل كنيسة الدير الذي أوقدت فيه الشموع الكبيرة، الكائن في قلب جبل أخميم، حيث ستجري طقوس المعمودية. ويبدأ القدَّاس الإلهي والأب باخوميوس يُصلي على الزيت ويرشم به الصبي ميخائيل — صاحب هذا العيد — وهو ينفخ في وجهه قائلًا ثلاث مرات: «اخرج عنه أيها الروح الشرير»، ثم يدهن جسمه بالزيت المقدس على حين تعلو موجات القداس الإلهي بالعربي والقبطي (انظر: ص٢١٢-٢١٣). ثم يبدأ طقس التغطيس في ماء المعمودية:

«وفي لمحة خاطفة انحنى أبونا باخوميوس بوجهه الحنون ولحيته الشهباء وتونيَّته الكهنوتية البيضاء، وصدرته المتدلية من الأمام ومنطقته الحريرية تدور حول وسطه، ونزع عني جلابيتي وقد شمرَّ عن أكمامه، وبمساعدة بشارة ابن عمتي ومرقص ابن عمي رفعني، عاريًا مستسلمًا لا مناعة عندي ولا تمنُّع بل سعيدًا ومأخوذًا، وألقاني بكل جسدي في ماء المعمودية بسرعة مرة ومرتين وثلاثًا، وأنا أخرج برأسي كل مرة وأغطس دون أن أحسَّ.

في الغطسة الثالثة حدث ما لا يمكن أن أنساه أبدًا.

بدلًا من أن أشهق أو أغصَّ بالماء أو أغمض عيني، انفسح حولي أفقٌ براح لا نهاية له، وسطع في عينيَّ وفي العالم كله نورٌ لم أرَ لبهائه وسطوعه وجماله مثيلًا من قبل ولا من بعد، نور غامر بهيج ملأ السماء والأرض، وسمعت رفرفة أجنحة ضخمة فوقي وهبَّت عليَّ نسمات رقيقة عذبة استنشقتها ملء صدري.

عندما جذبوني من الماء هتفتُ:

النور … النور.

سألوني بلهفة: أي نورٍ؟

قلت لهم: جاء نورٌ عظيم ملأ عليَّ السماء والأرض وكانت الدنيا واسعة واسعة وسمعت رفرفة أجنحة الحمام.» (ص٢١٣-٢١٤)

إن خبرة معمودية الراوي ميخائيل خبرة هائلة، ويكاد لا يصدقها عقل، وبخاصة أنها تستدعي معمودية مؤسِّس الدين المسيحي، النبي عيسي. ويكاد هذا الاستدعاء أن يكون حرفيًّا، ففي نهاية الإصحاح الثالث من إنجيل متَّى، تُروى الواقعة الآتية:
«حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه. ولكن يوحنا منعه قائلًا أنا محتاجٌ أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ. فأجاب يسوع وقال له اسمح الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برٍّ، حينئذٍ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء. وإذا السموات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه. وصوت من السماء قائلًا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.»٩

ولا تختلف رواية هذه الواقعة في إنجيل مرقس عنها في إنجيل متَّى. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما حدث للطفل ميخائيل هو معجزةٌ بكل المقاييس؛ الأمر الذي يجعلنا أمام حالة توحد مع شخصية المسيح، إذ من خلال أسطورة المعمودية يصبح الراوي ميخائيل في علاقة مباشرة مع السيد المسيح. ولهذه العلاقة أثرها الكبير في النص، كما سوف يتضح مع نهاية هذا الفصل.

ولعلَّه من المناسب — في هذا السياق — أن أقتبس من كلام إدوار الخراط النظري ما يقوله عن أسطورة المعمودية وأثرها في نفسه:

«أتصور أن ثم بؤرة مركزية في قلب «صخور السماء» … هي خبرةٌ لا أقول «واقعية» فقط بل هي «خبرة حقيقة»، ومثل كل حقيقة — فيما أظن — فهي مراوغة، متعددة الجوانب، متعددة التأويلات.

هي خبرة التعميد، أو ما نُسميه عادة التنصير — في المسيحية — عندما كنت في السابعة من العمر، ويعرف الأقباط أن أطفالهم يُعَمَّدون — عادةً — في سن مبكرة جدًّا، في السنة الأولى أو الثانية على أكثر تقديرٍ، لكن ذلك لم يحدث معي.

كان لي أخ لم أعرفه قط، وُلِد قبلي بثلاث سنوات، يوم السبت ١٦ يونيو ١٩٢٣م الساعة السادسة مساءً؛ وبعد أن ولدت أنا بأربعة عشر يومًا، مات في ٣٠ مارس ١٩٢٦م بعد منتصف الليل بنصف ساعة.

وخشيةً من أبي أن أموت أنا أيضًا نَذَرَ للملاك ميخائيل، رئيس الملائكة، أن يكون تنصيري في ديره بأخميم، حتى لا يلحق بي ملاك الموت. عشت طفولتي الباكرة في ظل ذلك النذْر، ذلك الطقس السحري. ولم يكن السفر من الإسكندرية — حيث وُلِدت في غيط العنب — إلى أخميم في الصعيد الجواني أمرًا ميسورًا، ظلَّ يؤجل عامًا وراء عام، حتى بلغت السابعة، وقد احتدَّ وعيي مرتقبًا ساعة الخلاص بالتَّعْميد في دير الملاك ميخائيل.

حتى جاءت الساعة الموعودة وسافرنا إلى أخميم، وإلى دير الملاك ميخائيل، وفي اللحظة التي أغرقتني فيها مياه الجرن المقدسة لم أشهق ولم أغُص بالماء، بل انفتح أمامي أفق لا نهاية لشساعته وسطع عليَّ نور باهر لم أرَ لبهائه وجماله مثيلًا من قبل ولا من بعد: نور غامر بهيج ملأ السماء والأرض، وسمعت رفرفة أجنحة الروح القُدُس.

ما أريد أن أقوله من هذه الحكاية أنني منذ تلك اللحظة كأنما أريد أن أثبتها — لا أقول أخلدها ولا شيء من هذا القبيل — ولكن عمق الخبرة وما قد أسميه إعجازيتها كانت دائمًا تغل يدي عن كتابتها، وإنْ ظلَّت تراودني بلا انقطاع.

فيما بعد، عندما برئت من سطوة الأسطورة (هل حقًّا برئت منها؟) كان بإمكاني أن أفسِّر هذه الخبرات تفسيرات «عقلية» أو إنْ شئت «مادية جدلية» أو «سيكلوجية» وهكذا، لكن هل يقلِّل ذلك من روع الخبرة وروعتها؟

وبعد أن كنت مضطرم الإيمان محتدم التدين، فقدت ذلك — ولعلَّني ما زلت أفتقده — تحت سطوة أسطورة أخرى وإيمان آخر هو الإيمان بالعقل، ولكنه العقل الذي ينبض بحرارة القلب والحياة دون أن يفقد نأمة من قوامه العقلي الصلب.

لعلَّ أحد الحوافز على كتابة «صخور السماء» هو على وجه الدقة مساءلة هذا الإيمان المزدوج: الإيمان المفقود والمفتقد والإيمان الماثل المخايل الذي لا ملاذ غيره، على [أن] هشاشة هذا الملاذ قريبة الصلة جدًّا بهشاشة الحياة نفسها.»١٠
ومِن ثَمَّ، يمكن القول إن الراوي تتنازعه أسطورتان: الأولى هي أسطورة المعمودية بكل ما تحمله من توحُّد إعجازي مع شخصية المسيح وتكرارها، وما يترتب على ذلك من التزامٍ دينيٍّ وأخلاقي. أما الأسطورة الثانية فهي الإيمان بالعقل، بكل ما يترتب على هذا الإيمان الآخر من تبعات ونتائج، تكاد تكون على النقيض من تبعات الأسطورة الأولى ونتائجها. ويجد هذا التنازع بين الأسطورتين صداه القوي على نص صخور السماء في كل بُعد من أبعاده تقريبًا، وما يهمُّ أغراض الدرس حاليًّا هو تحليل صدى هذا التنازع على شخصية الراوي ميخائيل قلدس. يوجد العديد من الشواهد في النص من الممكن أن تُفيد في هذا السياق، ولعلَّ من أبرزها هذا الشاهد:
«كم من مرة سقطتُ على السلالم!
كم من مرة أُغلقت دوني البيبان!
قضيت ليل عمري أصارع الملاك تحت السلم!
هل هو نفسه التنين؟
صحيح أنه لم يستطع أن يصرعني، لكنني لم أصرعه، أيضًا.
قلت له، كما يقول يعقوب: «لا أطلقك حتى تُبرئني» فهل أنا الرجيم أم المغبوط بالنعماء؟» (ص١٤)
تنطوي لفظة السلالم على جدلية الصعود والسقوط، فالسلالم تُشير إلى إمكان صعود محتمل؛ السلالم طريق إلى شيء أعلى، ويبدو أن هذا الطريق ليس ممهدًا أو سهلًا، بدليل أن الراوي في حالة صراعٍ مع طرف آخر؛ هذا الطرف هو الملاك، ويتساءل الراوي هل هذا الملاك هو التنين؟ ولا يقدم إجابة. ومع نهاية الفقرة، نعرف أن هذا الملاك قوة سلبية كانت تقف أمام النبي يعقوب في صعوده إلى الملأ الأعلى. إن الملاك قوةٌ سلبية خارجية، أما التنين فهو قوةٌ سلبية داخلية؛ إذ يشير شيتوايند إلى أن التنين يرمز إلى «خوف من الوحوش ترسَّب في الأعماق منذ القدم يستعصي على الفَهْم، غالبًا شيء يهدد الفرد من داخله، وليس من الخارج»، وفي الوقت نفسه يرمز التنين إلى رحلة البحث عن الخلود،١١ وتنطوي رحلة البحث عن الخلود دائمًا على صراعٍ بين الروح والجسد.
وأيًّا كانت طبيعة الصراع فالعواقب غير مضمونةٍ: هل استطاع الراوي أن يصعد سلالم الروح، أم أنه سقط في بئر الجسد. يستمر النص مباشرةً بعد هذه الفقرة المقتبسة على النحو الآتي:

«وعلى رغم الأبواب الثقيلة حلقتُ في آفاق لا نهاية لاتساعها وبراحها، اخترقت الطابوهات، عبرت من عالمٍ إلى عالمٍ، عرفتُ مذاقات من السكر نادرة الحدوث، نفخت في مزمارٍ من صنع يدي، وضربت صنوج موسيقى الكلم، تمرغت على جسد العالم، أحاطتني أذرعة أخطبوط الشبق والجنون واعتصرتْ منِّي نخاع الحلم، شارفتُ القداسة وضربتُ في حمأة الدنس ولوثات هوس النشوات المباحة والمحرمة على السواء.» (ص١٤)

يكاد هذا الشاهد يكشف عن علاقة الراوي الصراعية بالأسطورتين معًا، أسطورة الإيمان الديني الذي ترمز إليه خبرة المعمودية أثناء الطفولة، وهي خبرةٌ راسخة في وعي الراوي؛ وأسطورة الإيمان بالعقل الذي آمن به في مرحلة التفتح والشباب، ويزيد من وطأة الإيمان العقلي أنه إيمان من منطلق المادية الجدلية في جناحها التروتسكي على وجه الخصوص، وتعتني المادية الجدلية عناية بالغة ﺑ «الجسد». هناك، إذن، صراع بين نوعين من الإيمان: إيمان بالروح وإيمان بالجسد، ويبدو أن محصلة الصراع مزدوجة؛ فالراوي شارف القداسة وضرب في حمأة الدنس في الوقت نفسه. هذا الازدواج الذي يعيشه الراوي، وينشر ظلاله على النص، هو من صنع يديه؛ إنه نتاج مساءلة أسطورة الجماعة المتعارف عليها ثم محاولة إنشاء أسطورة خاصة به.

وتتمثَّل النتيجة التي يمكن الوصول إليها من التحليل — حتى الآن — في أن الراوي استطاع من خلال استدعاء الذكريات — التي تشكِّل النص من أوله إلى آخره — أن ينسج أسطورته الخاصة؛ إذ من خلال الخطِّ والكتابة (والنص خطٌّ وكتابة، والخطُّ والكتابة إحدى دلالات لفظة «الأسطورة») استطعنا أن نتعرَّف إلى أسطورته الخاصة التي هي مزيجٌ من القداسة والدنس، مزيج من الإيمان الديني الروحي والإيمان العقلي الجسدي.

ولا تتضح أبعاد هذه الأسطورة الخاصة المزدوجة بهذا المعنى إلا في سياق أسطورة الجماعة الكبيرة التي ينتمي إليها الراوي؛ وعبر الجدل بين هاتين الأسطورتين يتشكَّل النص في بنيته الكبرى. ولعله من المناسب الآن الانتقال إلى تحليل أبعاد أسطورة الجماعة في سياق النص وموقف الراوي منها.

(٣) أسطورة العودة الدائمة

يُشير النص إلى أن عائلة الراوي ارتبط اسمها بحدوث معجزة، هي معجزة نقل الجبل على يد سمعان الخرَّاز، وتبركًا به كان اسم عائلة ميخائيل قلدس الخرَّاز (انظر: ص٤٥). إذن، نحن — منذ البداية — أمام حالة إعجازية خارقة للمألوف ارتبط بها اسم العائلة، ويبدو أن هذه المعجزة تركت أثرها في العائلة، فهذا هو الأب قلدس يبدأ أولى حكاياته التي يسجلها لنا النص، وقد كان حكَّاءً عظيمًا، يقول الراوي:

«كان أبي حكَّاء من الطراز الأول، يعرف كيف يطرز حكاياته وينمقها ويستثير شوقنا لمعرفة ماذا يحدث، بلهجته الصعيدية التي لم يغيرها، لم يلحق بها أي عَوَار من شوْب لهجة إسكندرية، حتى مات.» (ص١٥)

وإلى هذا الحكَّاء العظيم يهدي إدوار الخراط كتابه صخور السماء:

«إهداء

إلى قُلْته فَلْتس الخراط
الحكَّاء المكافح العظيم،
الذي عرف كيف يعيش وكيف يموت،
وُلد في أخميم في العقد التاسع من القرن التاسع عشر
ومات في الإسكندرية في ليلة ٢٢ ديسمبر ١٩٤٣م.
هذا الكتاب تكريمًا له.
إدوار الخراط»
وعلى يد هذا الحكَّاء العظيم تأتي أول حكاية أسطورية يسجلها كتاب/رواية صخور السماء. ولا بد من ملاحظة أن حكايات الوالد تحمل أسطورة الجماعة التي ينتسب إليها الراوي، والتي لا يَرضى عنها؛ فيصنع — من خلال نصِّه — أسطورته المزدوجة الخاصة كما سلفت الإشارة. وتؤكد الحكاية أسطورة أساسية في الدين المسيحي، ألا وهي أسطورة عودة المسيح الدائمة، الذي يظهر لأتباعه أبد الدهر، كما يقول إنجيل متَّى في خاتمته.١٢ وتأتي حكاية الوالد على النحو الآتي:
«حكى لنا أبي إن ابن عمه سلوانس قال له وهو صغير، في أخميم، إنه كان عائدًا من الشونة ليلًا، بعد جمع محصول البصل، ورصِّ الشوالات وتشوينها وكتابة الحساب في «دفتر الأستاذ» وكان الوقت قد تأخر عليهم في الشغل ومحاسبة الأنفار ونَهْو اللازم. في شارع عزيزة المقفر الخاوي كانت الليلة غير مقمرة، وكانت السماء مضيئة بنورها العميق داكن الزرقة وبما تبعثر على صدرها من حبَّات النجوم، نسمة هواء الليل لم تكد تهبُّ بعد حرِّ النهار الخانق في بئونة، صادفه عند مفارق درب أشعيا قبل السويقة الكبيرة رجل يبدو أنه عريق في السن، صغير الجسم لكنه مَمْشوق ومتسق الأعضاء، وجهه على شيخوخته وتجاعيده الخفيفة يبدو نضرًا وضيئًا، يعتمر عمامة بيضاء مشعثة الأطراف كبيرة كأنها تُخفي وفرة من الشعر الغزير لا يظهر منها شيء. قال أبي إن ابن عمه سلوانس خُيِّل إليه أن أطراف القماش الممزق في العمامة صلب وحادٌّ كأنه أسنان الشوك، وكان يلبس عباءة قاتمة اللون تنسدل على جسمه فلا يبين منه شيء، وكان واقفًا على المفارق، وكأنه في بقعةٍ منيرةٍ، بعيدًا عن حيطان البيوت، بين تقاطع الشوارع. وقال له بصوتٍ خفيضٍ ولكن فيه عذوبة لا تُتصور ولا مثيل لها: يا عم سلوانس يا وْليدي، تعالَ، جرَّبْ جرَّبْ إهْنا.

قال له ابن عم أبي، كأنه قد حدس أنه لا بد أن يكون قد دخل أورشليم وقدَّس فيها: إنت عَم بتعرفني يا مجدِّس؟

– بجولك جرِّبْ … ما عُدتش جادر أخطِّي خطوة عادْ يا وليدي، تجدر تحملني لغاية آخر الطريج؟

كان سلوانس ابن عم أبي قويًّا متين العضل قائم العود وفخورًا بنفسه، فقال له: باه يا بويْ … تعالَ عادْ.

انحنى وبحركة واحدة رفعه إلى كتفيه فجاءت رجلاه على جانبي عنق ابن عم أبي، وإن كانت العباءة تغطيهما، بينما كان يسند جسم الشيخ بيديه، كأنه لا يحمل شيئًا. كان في خفة الريشة أو النسمة.
لكنه ما أن [كذا] سار بضع خطواتٍ حتى أحس الثقل يزداد على كتفيه، ويزداد، وتشتد وطأته.
ورأى سلوانس أن مصابيح الغاز المقامة حديثًا على جانبي الشارع تنطفئ واحدًا بعد واحدٍ، كلما تقدم خطوة، وفي الوقت نفسه يغمر الشارع كله نورٌ غريب ساطع بدائرة وهَّاجة تحيط به هو وحِمْله في مركزها.
كان الثقل في كل خطوة يتضاعف، ويتضاعف حتى لم يَعُد يُطاق.
ولمح ابن عم أبي قدمي الرجل وقد سقط عنهما مركوبه، ورأى فيهما ندبة عميقة سوداء نافذة من الظهْر للبطن، كاد يتعثَّر، انحنى، وركع على الأرض وقد أشرق ذهنه فجأةً، وصاح:بَجَى لا السما تحملك ولا الأرض تحملك وأنا سلوانس الضعيف الخاطي أجدر على حملك!
وعندئذٍ لم يحس سلوانس ابن عم أبي إلا بخطفة نورٍ وهاجٍ كأنَّ البرق قد مزَّق السماء والأرض، والصوت العذب يقول له من قلب النور:

– بشراك يا سلوانس بن قلادة هرمينا الخرَّاز، ونذير. سوف يُولد لك ولد يُدعى لعازر أغابيوس أبُ المحبة، سوف تثقل عليه أعباء الحب فلا يستطيع أن يحملها.

قال سلوانس: أنت قلت إنك سراج للعالم، حِمْل نورك لا يستطاع.

هكذا حكى لنا أبي وهو يمتصُّ لحسة من عجينة سوداء صغيرة، رفعها إلى فمه بعود كبريت، بعد أن دوَّرها وملَّسها بأصابعه ثم وضعها تحت لسانه وهو يشرب قهوته السادة الثقيلة.» (ص١٦-١٧)

يتصف الرجل العريق في السنِّ الذي طلب المساعدة بالآتي: ممشوق ومتسق الأعضاء ووجهه على شيخوخته وتجاعيده يبدو نضرًا وضيئًا، يرتدي عمامة قماشها الممزق كأنه أسنان الشوك وهو تشبيه يُذكِّرنا — على الفور — بإكليل الشوك الذي وُضِع على رأس المسيح عند الصلب، صوته عذب عذوبة ليست من هذا العالم، وزنه خفيف مثل الريشة أو النسمة، ويتحوَّل هذا الوزن الخفيف — فجأةً — إلى ثقلٍ لا يُطاق ولا يقدر أحد على حمله، قدماه فيهما ندوب عميقة غائرة من أثر الصلب، النور الذي يشعُّ منه يُغطي على أي نور دنيوي آخر. وهذا الرجل العريق في السنِّ هو نفسه المسيح الذي قام من بين الأموات: المسيح العائد من الموت والظاهر لأتباعه المؤمنين أبد الدهر.

أما البشارة التي بَشَّر بها المسيحُ تابعَه المؤمن الخاطئ، سلوانس، الضعيف، فهي بشارةٌ لها مغزى في سياق الحكاية وفي سياق النص كله. إن دعوة المسيح هي دعوة المحبة والحب، وعلى خفَّة هذه الدعوة وبساطتها فإنها ثقيلة لا يقدر أي أحد على تحمُّلها. ومع ذلك، استطاع سلوانس، العبد الضعيف الممتلئ بالذنوب والخطايا، أن يحمل المسيح على كتفيه، أيًّا كان الأمر. ومِن ثَمَّ، توحي الحكاية بأن دعوة الحب تنبع من قلب الخطأ؛ أي لا بد أن تشوبها خطيئة، لأنه لا يوجد حبٌّ خالص، فالخير ممزوجٌ بالشر على الدوام. ويمثِّل لعازر أغابيوس هذا الوضع الملتبس خير تمثيل.

والظاهر من الحكاية أن عودة المسيح عودة دورية على الدوام، وتمثِّل هذه العودة عقيدة راسخة في الكنيسة المصرية الأرثوذكسية؛ فالمسيح حاضر حضورًا فعليًّا عند إجراء «طقوس القداس»:
«جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق.»
تؤمن كنيستنا الأرثوذكسية أنه بعد تقديس سرِّ الشكر واستدعاء حلول الرُّوح القدس على القرابين يستحيل الخبز والخمر استحالة سرية إلى جسد المسيح ودمه الأقدسين. وتؤمن أن ربنا يسوع المسيح حاضر في هذه الخدمة لا بوجه الرمز أو الإشارة أو الرسم أو الصورة أو المجاز بل حضورًا فعليًّا. (ص٢٥١)
ومن ناحية أخرى، فشهر كياك هو «شهر الأعياد الميلادية، أوان الظهور الإلهي في جسد المسيح» (ص٤٠)، إنه شهر «اجتماع الأرواح» (ص٤٤). غير أن الراوي سرعان ما يُضفي على «اجتماع الأرواح» صبغة مادية جسدية واضحة:

«قال لنفسه: الظهور الإلهي في كل شيء، من رقة جناح العصفور إلى قعقعة رعد تداعي الجبال، من رقرقة مياه النيل في الفجر الصامت المهيب إلى اشتعال قيظ بئونة الحَجَر. من لمعة عين مارينا الواسعة الخضراء إلى توفُّز نهد مِنَّة المشتهاة، من رشفة كأس عرقي البلح الزهم الثقيل إلى القبلة واللقمة وصرخة طفل في اللفة.» (ص٤٠)

وليس هذا مجرد إضفاء لصبغة جسدية على الظهور الإلهي الذي هو — أساسًا — فعلٌ روحاني، وإنما الفعل الروحاني لا يمكن تصوُّره دون الجسد. فالراوي لا يسلم بأسطورة الجماعة ويتقبَّلها تقبُّلًا مثاليًّا، وإنما يحاول بناء أسطورة الروح من خلال الجسد والاعتناء بحاجات الجسد، وهو بذلك يُعارض تعاليم الرهبنة ومبادئها التي تمثِّل العقيدة المسيحية في شكلها المثالي المتجرد من حاجات الجسد.

ولعل أفضل مثلٍ على الأسطورة المثالية، التي يُعارضها الراوي، ما يرد في الصلاة التي تلاها الأب متياس في الكنيسة حين مات الأب باخوميوس:

«الذين يبتهجون بقيامة المسيح من بين الأموات يجب أن يغادروا قبور شهواتهم حيث تَرْبُض الوحوش الرديئة، والملذات الخادعة، أنِرْنا يا يسوع بالنور الباطن، أخرجْ من قلوبنا الظلمات، مرْ رياح الشكوك وعواصف الظنون السيئة لتسكت، قلْ لبحر الشرور الهائج أن يصمت، انضَحْ على قلوبنا المَكْلُومة بنداك الذي من الأعالي، انزع عنها صخور السماء كما دحرج ملاك الرب الصخرة من على باب قبرك يا يسوع. انظرْ بعين الرحمة إلى حالة نفوسنا الثقيلة بالحزن اعتقنا من رباطات الاسترابة ومن عبودية الأفكار السوداء ومن عادات القلب الكريهة يا رب لا توبِّخنا بسخطك ولا تؤدبنا بغيظك، اخلعْ عنَّا سهامك التي انتشبت في أرواحنا. ليست في عظامنا سلامة من جهة خطايانا لأن آثامنا طَمَتْ فوق رءوسنا يا رب اطرحْ عنَّا كل تأوهنا. تنهُّدنا ليس بمستورٍ عنك. قوتنا فارقتْنا برحيل أبينا الطوباوي باخوميوس عنَّا ونور عيوننا أيضًا ليس معنا. فلا تتركنا يا رب شدِّد أزرنا. إلهنا لا تبتعد عنَّا وامنحنا أن نلحق بملكوتك وأن نلتقي بأبينا عبدك المحبوب باخوميوس في جنات النعيم المقيم.» (ص٥٧-٥٨)

والحقَّ إن هذه الصلاة تتضمن كل ما يخالفه الراوي ميخائيل: ضرورة الابتعاد عن الشهوة الجسدية والتلذذ، ظلام القلب المليء بالشكوك والظنون والاسترابة، وأخيرًا صخور السماء الرابضة في دخيلة الراوي. ولا بد، أيضًا، أن نضع في الحسبان — في هذا السياق — ضفيرة القداسة والفجور التي ترمز إليها سالومة، والتي يتعاطف معها الراوي تعاطفًا كبيرًا. يقول ميخائيل:

«قال لنفسه: في ظهورك الدائم يا إلهي المنكور الكامن في داخلي في كل لحظة وطرفة عين، حياة أبدية لا حسبان فيها للزمن، فما من وجودٍ لك إلَّا في دخيلتي. أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ أليس كذلك يا إلهي؟» (ص٤٥)

من الواضح أن ميخائيل ممتلئ القلب بالشكوك والهواجس والظنون في عقيدته القديمة التي تمثِّل أسطورة الجماعة التي ينتسب إليها، وأما عن الشهوة والتلذذ الجسدي فيقول:

«هل نقاء الحب ممكن أم لا مفرَّ من أن تغرقه الأمواج الملوثة، لكنها لن تشوبَه ولن تضيرَ جوهره، الحب إذ يقترن بشهوات الرُّوح والجسد إنما يحيا. مَن قال إن الشهوة آثمة ومحرمة؟ لعل فيها خيرًا أسمى من كل أقوال وأفعال المترصِّنين وسَدَنَة التحريم والتأثيم، لعل فيها بهجة هي في صميمها نشوة لا يمكن أن تُغالب بل تكتسح كل شيء، كل شيء، نشوة فعل الحياة.» (ص٢٨١)

وأما الحكاية الثانية من حكايات الوالد، الحكَّاء العظيم، فهي عن عمِّه المعلم منقريوس، والمعلم منقريوس هو أب الأنبا باخوميوس — الذي قام بطقوس تعميد ميخائيل — وزكري أفندي، والمرحوم أسطفانوس زوج الست كيريا أم سالومة. وتواصل هذه الحكاية — كسابقتها — تأكيد أسطورة الجماعة المتعلقة بعودة المسيح الدائمة، وظهوره المتكرر، أبد الدهر.

كان المعلم منقريوس من العارفين بفنون الكيمياء والسيمياء والعرافة والسحر الأبيض الطيب:

«وكانت عنده سحَّارة كبيرة ملآنة بكتب القدماء، ويُقال إنه كان يعرف أيضًا طرفًا من اللغة الهيروغليفية ويقرأ بعض كتاباتها المحفورة على البرابي.

وفي ذات يومٍ من الأيام والمعلم منقريوس جالسٌ في أول العصرية، نسمة الطراوة بدأت تهبُّ على شارع السويقة … حينما جاءه رجلٌ غريب عن البلدة يرتدي عباءة أرجوانية داكنة وعمامة بيضاء مثل التي يعتمر بها أهل الصنايع من النجارين والخرَّاطين، ومركوبًا شاميًّا، وفي يده اليسرى سبحة كهرمان طويلة مما يُباع في أسواق أورشليم.
الرجل الغريب الذي بدا لعيني المعلم منقريوس معروفًا وقريبًا جدًّا، مدَّ إلى المعلم منقريوس يده اليمنى، فصافحه جالسًا قائمًا نصف قومة، وأحسَّ رعشة تهزُّ جسمه كله هزًّا، لحظة خاطفة، ولمح في ظهر يده ندبة مدورة عميقة سوداء، استغرب فقط من عمقها وسوادها.

قال له الرجل الغريب: يا عم منقريوس، يا رجل يا طيَّب. اعمل لي حجابًا — إذا استطعت — يسهل لي عودتي إلى موطني، ويقرب لي موعدها.

قال له المعلم منقريوس: أهلًا وسهلًا يا بويْ، على عيني ورأسي، أريد فقط أن أعرف أول حرف من اسم الوالدة، وأول حرف من اسمك.

قال الغريب: ألف، ياء. الألفا والأوميجا.
وأول حرف من اسم الوالدة.
ميم.

لكن المعلم منقريوس لم يفهم، مرة أخرى.

فتح كتابه الكبير، رسم مربعات متعاقبة، أخرج من وراء حزامه العريض الملفوف على بطنه الدواة الصغيرة ذات البئرين، ورفع الغطاء المعدني المدور عنهما، وغمس ريشته مرةً في الحبر الأسود ومرةً في الحبر الأحمر، وكتب فيها الحروف الألفا والأوميجا والميم بترتيب مخصوص، وراح يضرب ويقسم ويجمع ويطرح وتتجه به الأسهم المكتوبة شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، فلا تصل إلى شيء، والحجاب لا ينضبط، المكان الذي يوجد فيه صاحب الحجاب والمكان الذي سوف يصل إليه كلاهما لا يتحدد، المعلم منقريوس يضرب ويحسب ويعود يقرأ الكتب وينظر إلى الغريب صاحب الوجه الوسيم الوضيء بلحية منسرحة ضاربة إلى اللون الكستنائي الجميل، والعينين النقيتين نقاءً لا يوصف، ويرجع إلى كتبه فلا يعرف لهذا الإنسان مكانًا في حسابات العرافة وتقاسيم الكشوف عن المحجوبات.

فجأةً سطع الفَهْم في روح المعلم منقريوس،

وقف على رجليه — وهو الذي يقف له الناس وله القومة، وقال:

– أنت تأتي إليَّ أنا العبد المسكين لكي أعرف لك متى تعود، أنت العليم بكلِّ شيء في ملكوتك، أنت لا مكان لك يا سيدي لأنك في كل مكان، في الأرض وفي السماء، في البحار والأنهار، على الجبال وفي الصحراوات والغيطان، أنت تملأ عليَّ كل أماكن هذا العالم وما بعد هذا العالم، لك المجد إلى أبد الآبدين.

نظر المعلم منقريوس إلى حيث كان الزائر يقف منذ لحظة، فإذا مكانه هالة من النور الساطع الباهر الذي لا يُطاق النظر إليه، عشي لها بصره أيامًا حتى عادت إليه صحوة العينين.» (ص١٣٠–١٣٢)

تؤكد هذه الحكاية عودة المسيح الدائمة، غير أنها — وعلى خلاف الحكاية السابقة (حكاية سلوانس) — تضع المسيح في تعارضٍ مع علوم الكتب التي أتقنها المعلم منقريوس؛ فالمعلم منقريوس لم يستطعْ أن يتوصَّل من خلال كتبه، التي يعرفها حق المعرفة، إلى تحديد المكان الذي يقف فيه المسيح، ولا تحديد المكان الذي سوف يذهب إليه. ولا غرض لهذه الحكاية سوى تأكيد أن المعرفة الدنيوية المحفوظة في الكتب لا تستطيع التوصُّل إلى معرفة الروح.

وما يؤكد هذا الاستنتاج حكاية أخرى يرويها والد ميخائيل، الحكَّاء العظيم، وهي أيضًا حكاية عن المعلم منقريوس، غير أنها هذه المرة حكايته مع الملاك ميخائيل رئيس الملائكة.

يروي النص أنه في ذات يوم من الأيام جاء رجلٌ غريب عن البلد إلى المعلم منقريوس، رجل وضيء الوجه، يشعُّ النور حوله من فرط وسامته. تتميز خطواته — وهو مقبل على المعلم منقريوس — بأنها خطوات قوية منضبطة عسكرية. جلس الغريب، بعد أن رحَّب به المعلم منقريوس،
«وقال له: يا عم منقريوس طارت لك سمعة أن لك معرفة بالكتب وكشف الحجب وإظهار الخبيء، يا ليتك تطفئ غلَّتي أن أعرف شيئًا طالما حيرني وشغل بالي.
قال له عم منقريوس باسمًا وجادًّا: خير عادْ، إيه الخبر؟
قال الغريب: في أي رُبْع من أرباع السماء يوجد الملاك ميخائيل؟ قل لي ولك الثواب من العلي القدير.» (ص١٧٤)
وكما حدث في الحكاية الأولى، فتح المعلم منقريوس كتابه الأصفر القديم، واستخرج دواة الحبر المزدوجة، ورسم الحجاب، وأخذ يحسب ويضرب ويقسم، ولكن الحسبة لا تنضبط؛ ففي كل مرة يجد أن كل رُبع من أرباع السماء خالٍ من الملاك ميخائيل، وهذا بالنسبة له أمرٌ مستحيل، فيعيد حساباته ورسوماته، مرة أخرى، ولا تزال السماء كلها خالية من الملاك ميخائيل. وفي النهاية، أدرك المعلم منقريوس أن الغريب الماثل أمامه هو الملاك ميخائيل نفسه؛ فهو لم يجده في أي رُبع من أرباع السماء لأنه كان أمامه، على أرض أخميم، وعندئذٍ:
«قال له الغريب على الفور: لا تقم لي يا عم منقريوس، القومة لك، الآن تعرف أن كتبك وأسحارك لا تحيط علمًا بكل شيء.
ونهض.
مرةً أخرى في حياة منقريوس توهُّج نور خاطف كاد يُعشي بصره، ولكنه هذه المرة سمع ما يُشبه خفق أجنحة ضخمة بينما رأى العباءة الزرقاء تتطاير في الهواء والعصا القصيرة تشعُّ منها ألسنة اللهب، وهناك في السماء رفرفة عظيمة، ولما فتح عينيه لم يجد أثرًا للغريب.» (ص١٧٥)

وكان من نتيجة هذا الموقف أنْ جمع المعلم منقريوس كل كتبه في صندوق، ومضى به إلى «غيطه»، ودفن الصندوق بما يحويه من كتب هناك.

إن الكتب التي تحتوي علومًا دنيوية لا تنفع مع علوم الروح؛ فهي لا تستطيع أن تصمد في وجه الأسطورة. أما إدوار الخراط فهو يدوِّن، ويكتب، في محاولة منه لاحتواء أسطورة الجماعة وصياغتها صوغًا جديدًا يجمع بين الدنيا والآخرة، بين الجسد والروح، بين الإنسان والرب، كما رأينا في صياغته شخصية سالومة التي جاءت جامعة للمقدَّس والمدنَّس؛ بل يصل به الأمر إلى إعادة كتابة أسطورة الجماعة بطريقة عكسية تمامًا، على نحو ما نرى في حكاية «تاسوني إيريني الراهبة التي كان اسمها مريوم قبل الرهبنة، أخت مارتا وهيلانة وأجيَّة بنات المرحوم سيداروس» (ص١٧٦). وتأتي الحكاية على النحو الآتي:

«روى أبي أن تاسوني إيريني كانت نذرت نفسها عروسًا للمسيح وترهبنت في دير للراهبات على اسم القديس أبي سيفين …

صلَّت تاسوني إيريني بلجاجة أنْ ترى عريسها هنا على هذه الأرض قبل أن تلحق بالأمجاد السماوية، ولما استمرت لجاجة صلواتها حنَّ لها قلب عريسها وسمح للملاك أن يصعد بها إلى السماء.

رأت تاسوني إيريني ثلاث قباب كبيرة، تقع إحداها فوق الأخرى بمسافة بعيدة، بيضاء تلمع كاللؤلؤ فوق السحاب.

سمعت تحت القبة الأولى ترانيم طغمات الملائكة وتهاليل القديسين والأبرار، لمحت من بينهم أب الآباء إبراهيم وولديه يعقوب وإسحاق، والنبي داود الذي كان ينشد على المزمار، كما رأت اللص اليمين المغفورة له خطاياه لأنه آمن وهو مصلوبٌ إلى جانب يسوع، وحشود القديسين من كل الملل والألوان والأجناس يغنون بألحان متناسقة شجيَّة يرقص لها الفؤاد.» (ص١٧٦-١٧٧)

وفي القبة الثانية، تنعَّمت تاسوني بمرأى الحدائق الفسيحة التي تمرح فيها الحيوانات والطيور، والتي لم ترها عين ولا خطر على قلب بشر. ولما اقتربت من القبة الثالثة، وهي أعلى مكان في السماء، قال لها الملاك:

تاسوني إيريني، يا عروس المسيح، لا تقتربي أكثر، أنت ما زلت بعد في جسدك الأرضي، ناسوتك لا يحتمل نور المسيح.

لكن تاسوني إيريني كانت قد لمحت وجه يسوع الوضيء.

وعندما اقتربت قليلًا أحسَّت صهد النار وعرفت أن نصف وجهها قد احترق، لكنها لم تحس له ألمًا بل سعادة غامرة أنستها كل شيء.

وعندما نزلت إلى الأرض مكثت في قلايتها ثلاثة أشهر عددًا، حتى شفي وجهها من غير علاجات أرضية ولا مراهم ولا أدوية، وعادت إلى بشرتها نضارة بنت السادسة عشرة. هكذا روى لنا أبي حكاية تاسوني إيريني.

قال لنا إن «تاسوني» معناها بالقبطي «الأخت». (ص١٧٧)

وتلخص هذه الحكاية المبادئ الأساسية في الأسطورة المسيحية: إفناء الجسد بالتغلُّب على شهواته، تغذية الروح من خلال الفناء في الصلاة والرهبنة التي تعني الانقطاع عن الدنيا كلها وملذاتها من أجل الظفر بانتصار الروح في العالم الآخر؛ فقد نذرت تاسوني إيريني نفسها عروسًا للمسيح طمعًا في الخلود الروحي بعد الموت، وطريق هذا الخلود هو إماتة الجسد في الحياة الدنيا.

غير أن النص، بعد هذه الحكاية مباشرة، يقدِّم لنا الأسطورة الأخرى المخالفة، تمامًا، لأسطورة الجماعة التي ينتسب إليها الراوي:

«أما تاسوني الأخرى، قرينة ذاتي، فقد انطلقت من شرنقة الجسد تصعد إلى قبابها الثلاث. في القبة الأولى عانقت ديونيزيوس، احتضنت بان وقبَّلت اللحية الهائشة الشقراء والوجه الباسم الضحوك والصدر المشعر المفتول والظلف المشقوق، ضاجعت القرد الإلهي صاحب القضيب المقدس المهول الذي اخترقها كالرمح المشتعل بما فيه من دماء الشبق غير المحكوم، تحوَّل وهو عليها فإذا هو الإله مين الذي تفيض خصوبة منيَّه على العالمين، ضربها بالعشق حتى أوشكت أن تموت، وهي تئنُّ وتشهق وتنخر وتغنُج حتى إذا انهدَّت في أورجازمها آبَتْ إلى الموت الصغير في انتظار الموت الكبير الذي هو حياة متصلة لا خلود فيها، فما الخلود إلا لحظة. أما في القبة الثانية فقد كانت فوضى العالم … هوامُّ الأرض وأسراب كثيفة من فراشات السماء ترتطم بصرخات اللذة من وَجَع المتعة التي لا تُحتمل، الحدأ الصارخة والخفافيش الزاعقة ونسور الرُخِّ والبُغاث معًا تنقضُّ على تاسوني أنا الأخرى دون إشفاقٍ وتنهش من جسدها البضِّ المبذول وفَرْجها المبلَّل المفتوح، محتومٌ، عُقاب الفجور شاهق التحليق في عَنان البهجة بالحياة هو نفس الموت الذي هو لانهائية الحياة.

أما في القبة الثالثة السُّفلى فقد احترق نصف جسدها بنار العشق … أما النهد الآخر فما زال مُنتصبًا كامل التدوير دمث البضاضة حلمته الطويلة ينزُّ منها نِكتار الخلود المخايل الموعود الذي لن يجيء أبدًا.» (ص١٧٨-١٧٩)

وهكذا، يُقلب النص أسطورة الجماعة بمبادئها الكبرى، من أجل إنشاء أسطورة أخرى، تعطي الجسدَ — وشهواته وملذاته الدنيا — القيمة الأساسية. وكأن النص يحاول، بشكلٍ صريح، إضفاء القداسة على الفجور.

ومِن ثَمَّ، نكون — مع نص صخور السماء — أمام ما يمكن تسميته بالفجور المُقدَّس، أو البِغاء المقدس: أسطورة النص وراويه — الجديدة — التي يناقض بها أسطورة الجماعة التي ينتسب إليها.
وفي النهاية، يمكن القول إن تحليل الدلالة الأسطورية في النص يكشف عن أن النص ينبني، على المستوى الأسطوري، بشكلٍ مزدوج. كما يمكن ملاحظة أن النص الذي يكتبه الابن، إدوار الخرَّاط، يتبنَّى أسطورة خاصة، تتعارض مبادئها وعناصرها المكونة لها، مع أسطورة الجماعة التي يقدم الأب خطوطها العريضة، من خلال حكاياته التي يحكيها، ويحرص النص على تسجيلها. هكذا يدخل الابن من خلال نصِّه — صخور السماء — في علاقة تعارض مع الأب الذي يحرص الابن على إهداء نصه له اعترافًا بجميله وتكريمًا له وتخليدًا لذكراه.
١  أحمد شمس الدين الحجاجي، الأسطورة في المسرح المصري المعاصر (القاهرة، دار المعارف، سنة الإيداع ١٩٨٤م)، ص٩.
٢  ابن منظور، لسان العرب (سبق ذكره)، الجزء السادس، مادة «سَطَرَ»، ص٢٥٦-٢٥٧.
٣  أحمد شمس الدين الحجاجي، الأسطورة في المسرح المصري المعاصر (سبق ذكره)، ص٩.
٤  انظر: المرجع السابق، ص١٠-١١.
٥  المرجع السابق، ص١٢-١٣.
٦  انظر: المرجع السابق، ص١٣-١٤.
٧  إدوار الخراط، مواجهة المستحيل: مقاطع أخرى من سيرة ذاتية للكتابة (القاهرة، الأردن، دار البستاني ودار أزمنة، ٢٠٠٥م)، ص١٠٤.
٨  إدوار الخراط، «كتابة على الكتابة، صخور السماء: صخور الروح» (سبق ذكره)، ص٢١٦.
٩  الكتاب المقدس، العهد الجديد، إنجيل متَّى، الإصحاح الثالث، الآيات من ١٣: ١٧.
١٠  إدوار الخراط، «كتابة على الكتابة، صخور السماء: صخور الروح» (سبق ذكره)، ص٢١٦-٢١٧.
١١  انظر: شيتوايند، معجم تفسير الأحلام في ضوء علم النفس الحديث (سبق ذكره)، ص١١٥.
١٢  انظر: الكتاب المقدس، العهد الجديد، إنجيل متَّى، الإصحاح الثامن والعشرون، الآية ٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤