ذكرى حمية أهل الشام

هو ذا البحرُ مُزبدًا يتعالى
إثْرَ بعضٍ أمواجُه تتوالى
تلطم الصخرَ كبرياءً وعنفًا
ثم ترتدُّ للخضمّ خذالى
بضجيجٍ كأنه زجل الرَّعْـ
ـدِ، ورجفٍ تخاله زلزالا
ما ونتْ عن جهادها الدهرَ لكنْ
لَطّفَ الصبحُ كَرَّها والنضالا
وَهْي تستأنف الجهادَ بعزمٍ
كلَّ يومٍ إذا النهارُ تعالى

•••

عند ذاك الخِضمِّ بقعةُ أرضٍ
قدَّر اللهُ منحَها استقلالا
هي حدُّ السُّوريّتينِ شمالًا
وجنوبًا، وما تنوء مجالا
لستَ تلقى سوريّتين ولكنْ
قيل هذا تَفنّنًا وضلالا
يبتغون التفريقَ في الجسد الوا
حِدِ، خابت تلك الشياطينُ فالا
خَلِّ عني وذكْرَ من أعتقوا العَبْـ
ـدَ، وشدّوا من الطليقِ العقالا
عند ذاك الخضمِّ بقعةُ أرضٍ
حرس اللهُ سهلَها والجبالا
لا ترى في فِنائها آدميًّا
وَهْي آوتْ صوادحًا وصِلالا
شمسُنا دون شمسِها تتجلّى
بدرُنا دون بدرها يتلالا
وسكونُ الدجى يفكُّ عن القَلْـ
ـبِ قيودًا، ويبعثُ الآمالا
ويهبّ النسيمُ في السَّحَر الدا
كِنِ، يُحيي من الزهور تِلالا
زانها من لآلئ الطلِّ تِيجا
نٌ، زهتْ رونقًا، وفاضت جمالا
فإذا اجتاز تلكمُ الأرضَ غادٍ
يلبس الطَلُّ ساقَه خلخالا
وترى الطيرَ نافراتٍ خِفافًا
وثِقالًا ويمْنةً وشِمالا
ويلوح الصباحُ لونًا فلونًا
كلّما الشمسُ قاربتْه استحالا
وكذا البحرُ خاشعٌ مستكينٌ
وَهْو يُكْسَى من كلِّ لونٍ شالا
يا لها من مظاهرٍ تملك الحِسَّ
وتوحي لناظرِيها الخيالا
أيها السائرُ المجدُّ، رويدًا
واخفضِ الطَّرْفَ عندها إجلالا
تلك مأوى (حريّةٍ) سُلِبتْ مِنَّا
قديمًا، واليومَ عزّتْ منالا
إيهِ يا فتنَةَ الشعوبِ ويا أُنْـ
ـشُودةَ الكونِ شقتِنا أجيالا
لكِ وجهٌ ملائكيٌّ وسيمٌ
نُورُه يُفعِمُ القلوبَ جلالا
ومزاجٌ جهنّميٌّ عتيٌّ
يصدعُ الجوْرَ يصهرُ الأغلالا
صانكِ اللهُ كم فَداكِ وفيٌّ
أَوَتُحصين كم أبدت رجالا؟
أنا أستغفرُ الوَفا لم يَبيدوا
يومَ خلّدتِ بعدهم أعمالا

•••

لكِ في تُرْب «ميسلونٍ» دفينٌ
كان للذائدين عنكِ مِثالا
مات في ميعةِ الشبابِ شهيدًا
وكذا الحرُّ لا يموتُ اكتهالا
في سبيل الأوطانِ سالت دِماهُ
«ذي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ من تعالى»
فسلامٌ عليه يومَ دعاهُ
وطنٌ مُرهَقٌ فصال وجالا
وسلامٌ عليه يومَ أُريق الدْ
دَمُ منه، وضمّخَ الأجبالا
هذه روحُه أطلّتْ على الشّا
مِ، تزور الرُّبى وتَغشى الظلالا
وتحضّ الرجالَ فيها على تَضْـ
ـحِيَةِ النفسِ ما أُهينوا احتلالا
يومَ كانت قلوبُنا تتلظّى
والعِدى تُوسِع البلادَ احتمالا
برجيمٍ لمّا أتاهم وَقاحٍ
كان إتيانُه عليه وبالا
لم يبتْ غيرَ ليلةٍ كان فيها
يُبصِرُ الموتَ حوله أشكالا
وكأني به تُجاذبه الأَوْ
هامُ رعبًا، فيستوي إجفالا
قَلِقٌ يرقبُ الصباحَ فلمّا
أَنْ تجلّى شدَّ الرحالَ، وقالا
الفِرارَ الفرارَ أَلْفَيْتُ في الشَّا
مِ نَكالًا، وفتيةً أبطالا
وَلَوَ أنّ المقامَ طال ببَيْرُو
تَ؛ لكان المصيرُ أسوأَ حالا

•••

هذه شيمةُ الكرامِ بني الشَّا
مِ، سَمتْ هِمّةً، وطابت فعالا
عربيٌّ إباؤكم أُمويٌّ
لا أبادَ الزمانُ تلك الخِلالا
كلُّ جرحٍ أصابكم حلَّ منّا
في صميم القلوبِ يأبى اندمالا
يحرس اللهُ مجدَنا ما بذلنا
في سبيل الأوطانِ نَفْسًا ومالا
٢٤ مارس ١٩٢٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤