حربنا مع إمارة موناكو

١

في المرَّة الأخيرة التي زرتُ فيها إمارةَ موناكو، وجدتُ أنَّ المجتمعَ ذا الفكر المستنير حانقٌ وناقمٌ على كلِّ ما هو أمريكي، حتى إني لاحظتُ عداءً مقنَّعًا في سلوك السيد إم بيرج، أحدِ موظفي فندق «بو ريفاج»، الذي استقبلَني بحفاوةٍ ولطفٍ في السابق. بعد أن فرغتُ من طعامِ فَطوري الذي ظلَّ النادلُ خلالَه ينظرُ إليَّ شَزْرًا بوضوح لا يخفَى، ذهبتُ لأُلقيَ التحيَّةَ على ممثِّلِنا الدبلوماسيِّ وأحدِ معارفي القدامى من ولاية أوهايو. كان وجهُ القنصُلِ شاحبًا هزيلًا كأنما يُعاني من قلَقٍ متمادٍ. كان يضعُ اللمساتِ الأخيرةَ لهندامِه المنمَّقِ والأنيق.

سألتُه مستفسرًا: «ما الذي يُزعجُكَ لهذه الدرجةِ يا جرين؟»

تنهَّد القنصلُ المرَّةَ بعد المرَّةِ وهو يصوغ الإجابةَ؛ فقد كانتْ إحدى عاداتِ رفيقي المدهش هذا أن يُزيِّن حديثَه الاعتياديَّ بالأساليب البلاغية والصِّيَغ الجَزْلة كأنه يخُطُّ خطابًا رسميًّا. كانتْ هذه العمليةُ تستغرقُ وقتًا قلَّ أو كثُر، لكنَّ النتيجةَ دائمًا ما تكون ذاتَ وقْعٍ في النفس وتُثيرُ الإعجاب.

أجاب قائلًا: «لِزامًا عليَّ أن أُخبركَ أنَّ العلاقاتِ الطيبةَ التي كانت واستمرَّت بين الولاياتِ المتحدة الأمريكية وإمارةِ موناكو فيما مضى، على شفا أزْمةٍ ملغَّمةٍ بالأخطار. وأظنُّ أنَّ الأحداثَ الجاريةَ تُثبتُ صحَّةَ التخوُّفاتِ التي كنتُ أُعرب عنها بين الحين والآخر في محادثاتي مع وزارةِ الخارجية في واشنطن؛ فربما يكونُ من الحماقة أن نُخفيَ حقيقةَ أن موقف بلاط الأمير تشارلز الثالث ليس موقفًا ودودًا تجاهَ حكومتِنا بأيِّ حالٍ من الأحوال، أو نغضَّ الطَّرفَ عن أن الوضعَ الراهنَ يتطلَّبُ منَّا أعلى درجاتِ اليقظةِ وأحصفَ قدْرٍ من الدبلوماسية في التعامل. ويُشرفُني أن أُضيفَ أنني سأزنُ تصرُّفاتي بميزان الحكمة والحزْم معًا.»

قلتُ له: «عظيم! ولكنْ علامَ هذا النزاعُ أصلًا؟»

ردَّ على سؤالي وهو يُشدِّدُ على أول عبارة: «هذا التفاقُمُ تَسبَّبَ فيه أمران؛ حاشيةُ الأمير الماكرة وما تحيكُه من دسائسَ خبيثةٍ من جانب، وسلوكُ الأمريكيين هنا وفي مدينة نيس، وأخصُّ بالذِّكر تايتس.»

«ومَن هو ذا الذي تدعوه تايتس؟»

ردَّ وقد مُلِئتْ عيناه غمًّا وكآبةً: «إنه جورج واشنطن تايتس؛ رجلٌ يُنغِّص وجودُه حياتي المِهنيَّة وتُكدِّرُ أفعالُه صفْوَ مائِها. ومع ذلك ما زلتُ أنصاعُ وأَنطوي تحت وطْأةِ نفوذِه العجيب الذي يمارسُه عليَّ وعلى غيري ممَّن يحتكُّ بهم. جورج واشنطن تايتس هذا هو مصدرُ تهديدٍ لا ينضُبُ للسلام الذي تمَّ الحفاظُ عليه بين الولايات المتحدة وموناكو حتى الآن. ولكن عندما أكون بصحبته، لا أقدرُ إلا أن أنجرفَ في سَيل حماسه الطائش الذي جُبل عليه. ولْأُقحِمْ بعضَ العاميَّة في كلامي؛ منذ وصولِه وأنا في موقفٍ لا أُحسَدُ عليه! اعذرْني على ما سأقوله؛ ولكني أُحدِّثُ نفسي أحيانًا سرًّا بصفةٍ شخصيةٍ بعيدًا عن منصبي الرسمي وأَسُبُّ جورج واشنطن تايتس وأَلعنُه!»

علَّقتُ على كلامه وقلتُ: «احْكِ لي؛ فأنا ما زلتُ حصيفًا كما عهِدتَني.»

أكمَل وقال: «القصةُ يطول سرْدُها، فكما هي شيمةُ كلِّ القضايا ذاتِ الأهمية الدولية؛ التفاصيلُ كثيرةٌ ومعقَّدة. سأُجري مقابلةً بعد قليل مع وريثِ العرش، وسأطلبُ رسميًّا تفسيرًا لعدَّةِ أمور. رافقْني إلى القصر، وسأُطلعُكَ على الحقائقِ أثناء سيْرِنا.»

كان القصرُ على بُعْدِ خطواتٍ من القنصلية الأمريكية، وبدأ سرْدُ القنصلِ يتوالَى رويدًا رويدًا نظرًا لهيبة الأحداثِ وتوقيتها الحَرِج. ولفَهْمٍ أفضلَ، سأُدمِجُ فيما يلي بين ما قصَّه عليَّ في ذاك الوقتِ وما اطَّلعتُ عليه من أمور بعدئذٍ حول هذا النزاعِ.

منذ عام ١٨٦٩، عندما ألغَى الأميرُ تشارلِز الثالث الضرائبَ المفروضة، أصبحَت طاولاتُ الميسر في الملهى المصدرَ الوحيد لإيرادات حكومةِ موناكو، وازداد رعايا الأمير الذين قاربوا على السِّتَّة آلافِ شخص، رخاءً وسعادةً؛ فهم لا يدفعون الضرائب، ويسلبون المسافرين الكثيرين أموالَهم. كان إيرادُ الملهَى ضخمًا أيَّما ضخامة حتى إنه غطَّى جميع النفقاتِ الإدارية، ودعم البلاطَ الملكيَّ دعمًا يليق بعظمة أقدمِ عائلة حاكمة في القارة الأوروبية؛ فنَسَبُ الأميرِ تشارلِز كان يتصلُ اتصالًا مباشرًا بأسرة جريمالدي التي تولَّتْ مقاليدَ الحُكمِ في القرن العاشر الميلادي، وبعد هذا كلِّه، يتبقَّى من ذلك الإيرادِ فائضٌ سنويٌّ سخيٌّ كان يُقتَطعُ جزءٌ منه ويُخصَّصُ لمنظومةٍ من التحسينات الداخلية.

وعلى ضَوء تلك السياسة، عُقِد العزمُ قبل عام من الآن لتفجير جُلمودٍ ضخمٍ على ثغْر الخليجِ الواقع خلفَ القصر؛ فقد كان أسطولُ الأميرِ البحري الذي عتادُه سفينةٌ بخارية تَزِنُ قرابةَ اثنَي عشرَ طنًّا وعلى ظهرِها مدفعٌ دوَّار، يعتادُ أن يرسوَ في ذاك الخليجِ عندما لا يكونُ منخرطًا في إحدى المناوراتِ أو المهامِّ؛ وكان ذلك الجلمودُ الصخريُّ يُعيقُ حركةَ دخولِ الأسطول وخروجِه. وكان عقْدُ أعمالِ الإزالةِ الذي وُقِّعَ بيَدِ رواسيو؛ وزيرِ البحرية، من نصيبِ المهندس الأمريكي تايتس.

كان الأمريكيون، حتى خطا تايتس أولَ خطوةٍ له في موناكو، يتمتَّعون بشعبيةٍ لدى رعايا الأمير؛ فقد كانوا يُنفقون أموالَهم بسخاء، ونادرًا ما يُجادلون الفنادقَ أو المقاهيَ أو المتاجرَ في أسعار خدماتِهم، كما كانوا يُساهمون في إيرادات الملهَى مساهمةً كبيرةً. وهكذا، كان المسارُ الرسميُّ أمام صديقي القنصلِ مفروشًا بالورود. حتى تايتس نفسه حَظيَ بالكثير من الثناء والمدْحِ في البداية؛ فقد كان رجلًا وسيمًا فارعَ الطول من مدينة بالتيمور، وكبيرَ المهندسين في جيش الاتحاد. كان بصحبة الرجالِ رجلًا لطيف المعشر، صاخبًا وعِربيدًا في بعض الأحيان، وكان شهمًا متأدِّبًا في تعامُلِه مع سيدات البلاط، وبارعًا في تعامله مع تلك الصخرة المقيتة؛ فتنعَّم في موناكو بنجاحٍ باهرٍ حينًا من الزمان. تابع الناسُ بأعيُنٍ مُلئَتْ فخرًا عملياتِ فريقه من الغوَّاصين، وشُغْلَ جرَّافتِه المائية، ووصولَ وتفريغَ عُلَبِ الديناميت القصديرية المربَّعة التي أُرسلتْ إليه من مارسيليا. كان إلى حدٍّ ما، يُنظر إليه كأنه إحدى قُوَى الطبيعةِ الغامضة؛ ولذلك كان الناسُ منه في خِيفةٍ ورهبة. ومع هذا، كانت جدارتُه باحترام السُّكَّان ووُدِّهم أمرًا مسلَّمًا به.

لكنْ سرعانَ ما جلَب عليه سوءُ حظِّه سخَطَ واستياءَ عدَّةِ شخصياتٍ ذاتِ نفوذٍ وسُلطة. ورغمَ أن تايتس لم يكن يهتمُّ لذلك ولم يَطرِفْ له جَفنٌ إذا ما عبَس في وجهه أحدٌ من عِلْيةِ القوم في شبْهِ الجزيرة، فإن القنصلَ كان يَشعُرُ أنه نوعًا ما مسئولٌ عنه وعن تصرُّفاتِه، ومنذ ذلك الحينِ وهو يشعرُ كمَن يدوسُ بقدمَيه فوق أرضٍ فُرشَتْ شوكًا. كان انحطاطُ هيبةِ تايتس وانحدارُها نتيجةً لأسبابٍ عدَّة.

في ليلةٍ من الليالي كان ثَمِلًا، فطرَح القائدَ الأعلى للجيش، ويُدعَى إم دي موسلي، أرضًا بعد أن تجرَّأَ وأبدَى اعتراضَه على ما فعلَه تايتس من صِياحٍ في الميدان العامِّ أمامَ القصرِ مقلِّدًا صيحاتِ الحربِ عند هنود أمريكا. وفي الصباح التالي، تلقَّى من ذلك المحاربِ الثائرِ دعوةً للتحدِّي. فضحِك تايتس، ثم اقترح أن يتنافسَ هو ودي موسلي في سِباقِ سباحةٍ جنوبًا عبرَ مياهِ البحر المتوسط إلى أن يغرقَ أحدُهما من التعبِ. رفَع النائبُ العامُّ إم جويبت هذا النزاعَ إلى المحكمة العليا، لكن نجَح القنصلُ جرين في إخماد شَرارِ الأمرِ وإنهائِه.

ثم أعقب ذلك نكبةٌ أخرى أشدُّ وأنكى من واقعة دي موسلي؛ ففي خِضَمِّ حفْلٍ راقصٍ فخْمٍ، رفض تايتس عن عمْدٍ طلبَ الأميرة فلورستين؛ شقيقةِ الأمير الحاكم، بأن يرقُصَ معها رقصةَ البولكا للمرة الخامسة. هذه السيدةُ المبجَّلةُ هي أرملةٌ استطاعتْ أن تُحافظَ على رغباتِ ونزواتِ شابَّةٍ عذراء رغمَ سنواتِها الخمسين وجسدِها ذي المائتي رطْل. إذا صدقنا الشائعات، فلم تكن هذه المرأةُ لتميل لهذا المهندس الأمريكي الوسيم. وعندما سُئل تايتس من صديقٍ له عن سبب اختياره أن يقفَ في وجْهِ وليِّ نعمتنا، أجاب: «كنتُ قد رقصتُ معها أربعَ مرات! وعلى هذه السيدة العجوزِ أن تتذكَّرَ أن الناس تذهبُ لحفلات الرقصِ لتمرحَ وتحظى بالمتعة.» تنامى تعليقُه هذا إلى آذانِ الأميرة، ومن ذلك الحينِ فصاعدًا، سخَّرتْ كلَّ طاقتِها للقضاء على تايتس نهائيًّا.

بعد ذلك، جرَّ الأمريكي المنحوسُ على نفسه خصومةَ وعداءَ كلِّ رجالِ الإدارة ذوي النفوذِ في الملهى؛ بتقديم لُعبةِ البوكَر كلعبةٍ منافسة، في الحفلات الخاصة، للُعْبتَي الرُّولِيت والأحمر والأسود اللتين تُسيطران على اهتمام رُوَّاد الملهَى. انتشرتِ اللُّعبةُ الجديدةُ كالنار في الهشيم؛ وفي موناكو ونيس بدأ الناسُ يخسرون أموالَهم أمام بعضِهم بعضًا، بدلًا من خسارتِها لصالح الملهى كما في السابق، وانخفضتْ إيراداتُ الملهَى إلى النصفِ أو يزيد. وسعتِ الإدارةُ إلى الحصولِ على بيانٍ من السلطاتِ الكنسيَّةِ تُؤكِّدُ فيه أن هذه اللُّعبةَ منافيةٌ للأخلاق والآداب، ولكن ذهَب سعيُها أدراجَ الرياح! ظلَّ الناسُ يلعبون البوكر، والأمَرُّ من ذلك كلِّه، أن تايتس وحواريِّيه قد وجَّهوا هذه الآلةَ الجديدة الغاشمة صوْبَ رعايا الأمير وجرَّدوهم من أموالهم. كان ذلك أمرًا مُفزعًا لا سابقةَ له، وقد أثار استياءً دفينًا. كما شاع أنه لم يربحْ أحدٌ قطُّ ثلاثةَ عشرَ ألفَ فرنك في ثلاثة أدوار متتالية في لُعبة الروليت سوى صاحبِ السيادة توريه؛ كبيرِ موزِّعي الصدقات، ثم خَسِر ما ربحه كلَّه الليلةَ التاليةَ في لُعبةِ البوكر أمام تايتس. ليس هذا فحسب، بل شاعَ أيضًا أنه اضطُرَّ إلى أن يكتبَ وصْلًا بمبلغ كبير كدَين عليه للأمريكي. هذا غَيضٌ من فَيض.

وعندما كان رخاءُ سكَّانِ موناكو يعتمد كليًّا على ازدهار إيراداتِ الملهى، تنامَى على إثرِ ذلك سخطٌ شعبيٌّ عارمٌ ضدَّ الأمريكيين وبالأخصِّ تايتس. فشقَّتْ قضيةُ البوكر طريقَها بين الساسة وتداولوها، ولم يدخر أعداءُ تايتس جهدًا للطعن فيه في حضرةِ البلاط الملكي، ولم يتركوا بابًا لإشعالِ نارِ التعصُّبِ لدى العامة إلا وطرَقوه.

٢

وكما سردتُ لكم، كان ذلك هو ما حدَّثني به القنصلُ جرين عندما رافقْتُه إلى القصر.

وعلى أعتابِ القصرِ الذي توارثَه أحفادُ أسرةِ جريمالدي، قابلْنا حاجبًا بهيًّا يرتدي سلسلةً غليظةً من ذهَبٍ فوق صدر ثوبِه المُخْمَليِّ القِرْمِزيِّ اللون، قادَنا عبرَ ساحةٍ داخليَّةٍ ثم ارتقيْنا دَرَجًا من رُخام، وما إن وصلْنا إلى قِمَّتِه، حتى سلَّمْنا بانحناءةٍ جليلةٍ إلى معيَّة إم بونسار، قائدِ حرَسِ القصرِ. ثم أرشدَنا بونسار هذا بدَورِه عبرَ رُواقٍ طويل، فيه مجموعةٌ من الأجنحة الفاخرة، إلى مكتب رئيسِ الديوان الملكي الذي تأخَّر قليلًا قبلَ أن يقودَنا إلى حضرةِ كبيرِ مُوزِّعي صدقاتِ أهلِ بيتِ الأميرِ. كانتْ هذه الشخصيةُ الرفيعة مقامًا تجلسُ خلفَ مكتبٍ منخرطةً في الكتابة. وجَّه التحيَّةَ إلى جرين واستقبلَه بحفاوة، كان على علْمٍ بأن جنابَ الوزيرِ الأمريكي قد جاء في زيارةٍ رسميةٍ مُزمَعة هذا الصباح مع الأمير وَريثِ العرش، لكنْ كان سُموُّه وفخامتُه يستعرض الجيشَ آنذاك في السَّاحة أمامَ القصرِ وسيعود عمَّا قريب. وإنْ شاءَ جنابُ الوزير وصديقُه وأحبَّا أن يُشاهدَا الموكِبَ الاستعراضي، فكانت هناك إطلالةٌ رائعةٌ على ساحة القصرِ من شُرفةِ قاعةِ الفنِّ والإلهام؛ وهو الجناحُ الثالث على اليسار. سيقودُنا الحاجبُ إلى هناك.

علَّقتُ ونحن نتبعُ الحاجبَ إلى قاعة الفنِّ والإلهام: «ما ألطفَه من عجوزٍ نبيل!»

همَس جرين وقد شابَ صوتَه رهبةٌ: «ذلك الرجل الخارق هو صاحب السيادة توريه، داهيةٌ من دواهي رجال الدولة في أوروبا، ونفوذُه في البلاط الملكي لا حدودَ له تقريبًا؛ فهو يجمعُ ما بين السُّلطة الكنسية والعلمانية؛ فهو مسئول بابويٌّ ومَطْران في الكنيسة، وفي الوقت ذاتِه، هو كبير موزِّعي صدقات الأسرة الملكيَّة، ومُشرِفُ الصالة الثالثة بالملهى، وهو أحد القادة الرئيسيين للزُّمرة الكارهةِ لتايتس والناقمةِ عليه. هو أيضًا يكرهُني بشدَّة، ولكنه يهابُني ويخشاني في الوقت نفسه. أَلاحظْتَ كيف تمكَّنَ من إخفاءِ مشاعرِه؟»

قلتُ له: «ما يُدهشُني وأجدُه مضحكًا هو تعدُّدُ الأدوارِ الوظيفيةِ هذا!»

ردَّ جرين بنبرةٍ رزينةٍ تمامًا: «هذا أمرٌ ضروريٌّ هنا في موناكو، حيث إجمالي عددِ السكَّانِ ليس بالضخم؛ فإليكَ مثلًا كبيرَ أُمناءِ القصرِ الذي يسيرُ أمامنا هذا، وقائدَ حرَسِ القصر، والحاجبَ ذا السلسلةِ الذهبيَّة، إذا جَنَّ عليهم الليلُ تراهم يشتغلون كموظَّفين في الملهى. حتى النبيل فولفير؛ وزير الخارجية الحاصل على وسام جوقةِ الشرف من رُتبةِ فارس، يعملُ قائدًا لفِرقةِ الملهَى الموسيقية؛ فهو موسيقيٌّ بارعٌ ومعاملتُه لنا ولمصالحنا ودودةٌ بالنظر إلى أنِّي قد قدَّمتُ له بعضَ الخدماتِ البسيطةِ ذاتِ الطبيعةِ المالية، لكن والحقُّ يُقالُ، هذا النبيلُ متخاذل متزعزِعٌ ولا يَفقه شيئًا في شئونِ السياسة؛ فهو لا يعدو كونه أداةً طيِّعةً في يد صاحب السيادة توريه الذي لا يَعرفُ طموحُه حدودًا، تمامًا مثل قُدراتِه الشيطانية.»

غادرَنا كبيرُ أمناءِ القصر عندما وصلْنا إلى الشرفة. من تلك الشرفةِ لم نحظَ برؤيةٍ شاملةٍ للساحة أسفلنا فقط، بل بإطلالةٍ على الإمارةِ بأكملِها تقريبًا، حتى إنَّ المرءَ كان بإمكانه أن يُطلقَ رصاصةً من مسدسِه لتسقط غربًا أو جنوبًا بين أمواج البحر المتوسط، أما الحدودُ الفرنسية فقد كانت تقبعُ شمالًا وعلى بُعْد رصاصةٍ أيضًا، ولكن رصاصة من بُندقيَّة. كانت أبنيةُ القصرِ تحجبُ الجانبَ الشرقي، لكن جرين أخبرني أن حافةَ البحر، حيث الشرمُ الصغير الذي اعتاد الأسطولُ الملكي أن يرسوَ به، كانت على مقرُبةٍ مِنَّا. أمَّا أمامنا، فكنَّا نرى الملهى، والواجهاتِ الطويلةَ المزخرفة، ومنصَّةَ الفرقةِ الموسيقية المدورة، والمسرح، والمطاعم، والسوق وما به من متاجر. وفوق ذلك الموقعِ الخلَّاب، كان هناك مُنْطادٌ مقيَّدٌ بحبلٍ يمكن للزُّوَّار أن يَصعدوا على متْنِه فيرتفعَ بهم المنطادُ قدْرَ طول الحبل لقاء عشرين فرنكًا.

حوَّلتُ ناظِرَيَّ من ذاك المُنْطادِ العالي إلى المشهدِ الكبير في الساحة الواسعة أمام القصر. كانت الممرَّاتُ والسلالمُ والنوافذُ والمداخلُ مكتظَّةً برعايا الأمير تشارلز الثالث المخلصين. وتحت الشرفةِ مباشرةً، كان وريثُ العرش يجلس ساكنًا تمامًا على صَهْوة جَوادٍ أدهمَ فحْل. وكان الجيشُ الموناكي وعلى رأسِه القائدُ الجَسور دي موسلي، يزحفُ تارةً ويتقهقرُ تارةً أخرى أمام الأمير في استعراضٍ لمهاراتهم في كلِّ جانبٍ من جوانبِ العلومِ العسكريةِ الحديثة والمتطورة. قدَّم اثنان وثلاثون جنديًّا في زِيِّهم الأحمرِ ذي الأشرطة البيضاء أداءً مبهرًا في هيئةٍ مَهيبةٍ وهم يتحرَّكونَ إقبالًا وإدبارًا في تشكيلٍ رائعٍ وفعَّالٍ تحتَ قيادةِ دي موسلي؛ فقد درَّبهم القائدُ الأعلى للجيش على السير بتلك المِشيةِ العسكريةِ التي يدفعون فيها أرجلَهم للأمامِ بشراسةٍ وقوة؛ وهي الطريقةُ التي كانت تُدرَّسُ في فنِّ التنظيمِ الحربي البروسي. وعندما جاءوا يدبُّون بأقدامهم على أرض الميدان في صفوفٍ متراصَّةٍ من أربعةِ جنود، أعادوا تشكيلَ أنفسِهم على نحوٍ مفاجئٍ إلى صفَّين من ستَّة عشر جنديًّا ثم توقَّفوا أمام الأمير وريثِ العرش، بعدها خفضوا أسلحتَهم وضربوا الأرضَ بها، فعَلَا صوتُ اصطدامِ اثنتين وثلاثين بندقيةً بالبلاط في وقت واحد. ارتفعت أصواتُ الهُتاف والاستحسان من المتفرِّجين المسرورين المرَّة تِلوَ الأخرى، بينما ارتسمت فورًا ابتسامةُ فخرٍ ورِضًا على وجْه سُمُوِّه وفخامتِه.

حينها، لاحظتُ تصرفاتٍ غريبةً لشخص ما في منتصف الميدان كأنه يحاولُ أن يجذبَ انتباهَنا. وضَع أُصبعَين في فمِه وأطلق صفيرًا، ثم أخذ يُلوِّح بكلتا يدَيه في الهواء. ولمَّا أحسَّ أن أملَه قد خاب ولا طائلَ من تلك الإشارات، خطَف بندقيةً من أقرب جنديٍّ له ثم رفَع قلنسوتَه الحريريةَ ووضعها على فُوَّهةِ البندقيةِ ورفعهما عاليًا فوق رءوس الحشد. وعندما أعاد البندقيةَ إلى ذلك المقاتل المَشْدوه، عبَّر عن ازدرائِه للجيش بإيماءةٍ ساخرة صامتةٍ لحسن حظِّنا، ثم بدأ يَشُقُّ الصفوفَ بذراعَيه متَّجهًا نحونا.

قال جرين متأوِّهًا: «إنه تايتس! دائمًا ما يُسيءُ إليَّ ويُعرِّضني للأذى بمثل هذه الأفعال.»

جاهَد القنصلُ عبثًا ألا يُعيرَ أخانا المواطنَ بالأسفل أيَّ اهتمامٍ لينتهيَ، فثبَّت نظرَه في اتجاهٍ معاكسٍ له، ولكن تايتس لم يكن ليُصَدَّ ويُزدرَى هكذا، فأخَذ يصيحُ قائلًا: «مرحبًا! جرين.» ثم يُتبِعُها بصياحٍ آخرَ ويقول: «أووه! جرين.»، وهكذا حتى استرعَى الانتباهَ الكاملَ لرفيقي الشاعر بالحرج.

صاح تايتس، وقال: «احرصْ أن تعودَ إلى البيتِ قبل الثانيةِ ظهرًا يا جرين؛ فلديَّ أخبارٌ مهمَّة.» ثم لوَّح بسرورٍ شديدٍ أمام أعينِنا بشيءٍ يُشبه وثيقةً رسميَّة، بعدها أسرَع مبتعدًا.

وعندما جاء كبيرُ أمناءِ القصر ليستدعيَ جرين لمقابلتِه مع الأمير وريثِ العرش، عدتُ أدراجي إلى القنصليةِ كي أنتظرَه. بعد ذلك لَحِق بي هناك قبل تمام الثانية بقليل، فبادرتُه باستفسارٍ: «حسَنٌ، كيف صار الأمرُ؟»

ردَّ في توتُّرٍ قائلًا: «المستقبل غائمٌ وقاتم! لم يكن الاجتماعُ مُرضيًا إطلاقًا. ولكي أُلزمَ حكومةَ موناكو بأن تُحدِّدَ امتعاضَها في شكوى بعينها، طلبتُ من سُموِّه أن يُخبرَني بصراحةٍ ما الذي فعلَه المواطنون الأمريكيون ليستاءَ وينزعجَ منهم؟ رمقني الأميرُ وحدَّق في وجهي بعينَيه السوداوين الثاقبتَين، ثم تكلَّم أخيرًا، وقال: «يا ألله! أنتم الأمريكيون ترفعون أصواتَكم عاليًا إذا تحدَّثتُم وأنتم جلوسٌ على موائد الطعام، وتُضايقون موظفي الملهى، وتُرهبون رجالَ الشرطة أمام أعيننا، وتُثيرون البغضاءَ نحوكم في أنفُس الآخرين.» تنبَّهتُ على الفور لتلك الإجابةِ المراوغةِ والماكرة، ومع ذلك تمكَّنتُ من كظْمِ غيظي. بعد ذلك، طرَح سموُّه عليَّ بضْعَ أسئلةٍ جيدة عن المواردِ المالية والمادية للحكومة الأمريكية، وعن كفاءةِ جيشِها وقواتها البحرية، ثم عن الديونِ والدخل السنوي وهلمَّ جرًّا. من نافلةِ القولِ أنَّ إجاباتي على كلِّ تلك الأسئلةِ جاءتْ حَذِرةً ومتحفِّظة. بعد ذلك ضغطتُ على الأمير ليُخبرَني إنْ كان هناك أيُّ أساسٍ من الصحة لما يُقال إنَّ شخصيةً رفيعةً في البلاط الملكي لها مصالحُ ماليةٌ في إثارةِ الاضطراباتِ بين الولايات المتحدة وموناكو. أكادُ أجزمُ أن الأميرَ قد جفَل من هذا الهجوم الشخصي، لكنه أجاب بالنفي وأشار إلى تلك الشائعةِ بأنها «محض أقاويل باطلة!» عندها انتهى اللقاء، لاحظتُ على وجهِ صاحبِ السيادة توريهَ الماكرِ وأنا أهُمُّ بالخروج؛ تعبيرًا لم أفهمْه. كان الأمرُ أشبهَ بحالةٍ من البهجة التي ظهرت في توقيتٍ غير ملائمٍ كما لو كانت …»

وهنا، قاطَع حديثَ القنصل دخولُ تايتس المفاجئ غيرُ المتروِّي ويتبعه ثلاثة أو أربعةُ رجالٍ أمريكيين.

قال ذلك الإنسانُ الفظُّ: «مرحبًا يا جرين، ما لي أراكَ حزينًا مغتمًّا؟ سأزفُّ لك خبرًا تُسَرُّ له الآن!»

كانت نبرتُه بطَيْشها المعتاد يَشوبُها شيءٌ ما هذه المرَّة. شيءٌ ما أثار حفيظةَ جرين وأخرجَه عن وقارِه الرسمي.

تعجَّب القنصلُ وقال متسائلًا: «يا إلهي الرحيم! ماذا حدَث؟»

غمزَ تايتس بعينه إلى باقي رِفاقِه، ثم أخرج غليونًا من جيبه ومدَّ يدَه ليتناول علبةَ التَّبغِ من فوق الطاولة. وبينما هو يفعلُ ذلك، قلَب محتوياتِ المحبرة فوقَ كومةٍ من الأوراق الرسمية. لم يهتزَّ له جَفْنٌ إثرَ ما حدَث، فأخذ يملأُ غَليونَه بهدوءٍ وانشغل لبِضع دقائقَ في نفْثِ حلقاتٍ كبيرةٍ من الدخان؛ الحلقة تلوَ الحلقة، ثم نفَث حلقاتٍ صغيرةً لتمرَّ وسطَ الحلقاتِ الأكبر.

ثم قال في النهاية موجِّهًا نظرةً استقصائية باتجاهي: «ألسْنا جميعًا أبناءَ أمةٍ واحدة وهي أمريكا؟» فأومأتُ موافقًا. فأخرج تايتس الوثيقةَ التي رأيناه يُلوِّح بها في الساحة.

ثم قال: «إليكم دعابةً! أخذتُ هذه الوثيقةَ ظهر اليوم من فوق لوحة الإعلانات والنشرات المعلَّقة أمام مكتب وزير الخارجية؛ بابا فولفير. ليسامحني الربُّ على هذه السرقة! لكني فعلتُ ذلك لصالح بلادي.»

ثم استهلَّ القراءةَ وأخَذ يُترجِمُ نصَّ الوثيقة من الفرنسية إلى الإنجليزية. استمعْنا إليه ونحن عاجزان عن النطق، وتبلَّل جبينُ جرين عرقًا فأَطبق على الأوراق التي على المكتب دون تفكيرٍ، فتلطَّختْ أناملُ يديه بالحِبر.

كانت هذه الوثيقةُ عبارةً عن مرسومٍ وقَّعه الأميرُ تشارلز الثالث شخصيًّا، وصدَّق عليه وزير الخارجية النبيل الفارس فولفير، وقد مُهِر بخاتم الإمارة العظيم. وكان ملخَّصُ هذا المرسوم بعد حذف الحشو والإسهاب على النحو التالي:
  • أولًا: يُحظرُ على أيِّ فردٍ من رعايا الأمير أو أيِّ أجنبي مقيم على أراضي الإمارة أن ينخرطَ في اللُّعبة الأمريكية المسمَّاة بوكر؛ فهذه اللُّعبةُ المذكورة تنتهكُ الآدابَ العامة وتُهدِّدُ بخراب المؤسسات القائمة.
  • ثانيًا: كلُّ الالتزامات أو المديونيات المبرمة بين أيِّ فردٍ من رعايا الأمير وأيِّ فردٍ من رعايا الرئيس الأمريكي، في إطار هذه اللعبةِ المسمَّاة بالبوكر أو تحت أيِّ مسمًّى آخرَ، تُعدُّ من ثَم ملغاةً.
  • ثالثًا: من الآن فصاعدًا، يحظرُ دخولُ المواطنين الأمريكيين إلى إمارة موناكو لأغراضٍ تجارية أو سياحية أو ترفيهية. ويُمهَل الرعايا الأمريكيون في الإمارة أربعًا وعشرين ساعة من وقت نشْر المرسوم لمغادرة الإمارة قسرًا، وإلا كانوا عُرضةً للحبس حسبما يتراءى للمحكمة العليا، ولمصادرة ممتلكاتهم الشخصية.

توجَّهت جميعُ الأنظار إلى جرين الذي ظلَّ مشدوهًا فترةً من الوقت حتى استعادَ قُدرتَه على النُّطقِ مجدَّدًا. ثم قال متعجِّبًا: «لكن هذا قرارٌ غيرُ مسبوق! إنه لا يُعَدُّ فحسب قرارًا مهينًا في عمومه، لكنه خارجٌ عن اللياقة والأدب على المستويَين الشخصي والرسمي. فأنا الممثلُ الدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية والمعتمد رسميًّا لدى البلاط الملكي، وها هي وثيقةٌ غايةٌ في الأهمية، تُهدِّدُ العلاقاتِ بين الحكومتين تهديدًا جديًّا، وبدلًا من أن يجريَ إطْلاعي عليها حسبَ الأصولِ المتبعة، إذا بها تُعلَّق على لوحةٍ للإعلانات كأمرِ حجزٍ قضائي بائس.» ثم أكملَ وقد استشاطَ غضبُه وانتفخت أوداجُه: «وفوق كلِّ هذا، لم يكتفوا بتجاهُلي وإهانتي، بل تلاعبوا بي بتهاونٍ وبلا اكتراثٍ. لا بد أن هذا المرسومَ قد عُلِّق قبل مقابلتي مع الأمير وريثِ العرش. عارٌ عليهم!»

قال تايتس وقد تبسَّم ضاحكًا: «حسنًا يا إخوتي المواطنين، ماذا نحن فاعلون حيالَ هذا الأمر؟»

أجابه جرين قائلًا: «أمامنا خيارٌ واحد لا غير! نُرسل خطابًا مكتوبًا بعنايةٍ يَشرحُ القضيةَ من الألف إلى الياء إلى وزارة الخارجية بواشنطن؛ لكي يتخذَ الكونجرس الإجراءاتِ المناسبة.»

انفجر تايتس في الضحك ونفَث سحابةً من الدخان وقال ملحًّا في طلَب إجابة: «ماذا عن الوقت الحالي؟ لا أرى مصرفًا عن التفكير أنه بالوضع الحالي لقواتنا البحرية المجيدة، سيستغرق الأمرُ عامين وستة أشهر قبل أن نرى أسطولًا من العمالقة الحديدية يرسو على مقرُبةٍ من هنا!»

قال القنصلُ بحزن: «أظنُّ أنَّ علينا مغادرةَ موناكو إذن. فنحن الآن تحت رحمةِ قوةٍ غاشمةٍ عديمةِ الشفقةِ.» فجأرَ تايتس وزأرَ وقال: «نغادر؟»

قلتُ له أنا: «لنستمعْ إذن إلى اقتراحاتِكَ يا سيد تايتس.»

ردَّ تايتس قائلًا: «حسنًا! أقترحُ أن نُجرِّبَ طريقتي في صياغة المراسلاتِ الرسمية؛ فقلد أخذتُ على عاتقي مهمَّاتٍ أقسَى من ذلك في الأيام الخوالي. أحضِرْ ورقةً فارغةً وقلمًا جيِّدًا مسنونًا ثم اكتُبْ ورائي ما أُمليه عليك!»

ثم أملَى البيانَ الرسمي التالي:

إلى تشارلز المبجَّل أمير إمارة موناكو

عندما يصير لزامًا على أمةٍ عظيمة، في خِضَمِّ الأحداثِ الإنسانية، أن تثأرَ لجِراحٍ أصابتْها إثر فجيعتها في مجموعة من أهم أبنائها وأعظمهم شأنًا، فإن عقابها الذي سيطال المعتدي سيكون عنيفًا وساحقًا ومباغتًا.

وإذا لم يُلغَ مرسومُكَ المؤرَّخ بهذا التاريخ قبل الساعة التاسعة من صباح الغد، ويَصدر اعتذارٌ لائقٌ ووافٍ بهذا الشأن، فإننا نُعلن نحن الولايات المتحدة الأمريكية بموجب هذا المرسوم، شنَّ الحرب على إمارة موناكو برًّا وبحرًا وجوًّا؛ على الأرض وفي باطنها. وليتغمدْكم الربُّ بواسع رحمته!

(الموقِّعون)
جورج واشنطن تايتس؛ القائد الأعلى
جون جيه جرين؛ الوزير المفوَّض

ثم قال تايتس بشيءٍ من التعالي وعدمِ الاكتراث: «حسنًا يا جرين، والآن مُرْ رجُلَك جيوفاني أن يذهبَ ويُعلِّقَ هذه المقالةَ القصيرة على لوحة إعلانات وزير الخارجية وسأتولَّى أنا ما تبقَّى من أمور!»

احتجَّ القنصلُ وقال: «ولكنَّ هذا مخالفٌ للقواعد والأصول! فوفقًا للدستور، إعلانُ الحرب حقٌّ من حقوق الكونجرس؛ لذلك لا نستطيعُ إعلانَ الحرب. وإلى جانب هذا، في مثل هذه الأمور، هناك دائمًا إجراءاتٌ شكلية يجب اتِّباعُها.»

أجابه تايتس: «تبًّا لإجراءاتِكَ الشكلية! في مثل هذه الأوقاتِ العصيبة والطارئة لأمَّتِنا كما نحن الآن، هناك سُلطةٌ تعلو فوق سُلطةِ الدستور؛ ففي مثلِ هذه الأزمات، يجب أن يتقدَّمَ رجالاتُ العزمِ الصفوفَ. ثم بعد أن نَصِلَ إلى مرحلة التفاوض من أجل السلام، حينها يمكنُكَ أن تمضيَ في اتِّباع الأصول الدبلوماسية والمسودات التحضيرية وكلِّ هذا الهُراء الرسمي. أنا من الآن القائدُ الأعلى، وعليك وعلى بقيةِ هؤلاء الرجال أن ينتشروا وسطَ الأمريكيين هنا ويُخبروهم بألَّا يَفزعوا وأن يتصرَّفوا كأنَّ شيئًا لم يكن؛ هذا هو الأمرُ الأول. ولكن انتظروا لحظةً! هل يَفهمُ أيُّ أحدٍ منكم الإشاراتِ العسكرية؟»

أخبرتُ القائدَ الأعلى باحترامٍ أني على دراية بتلك الإشاراتِ والرموز.

فقال: «حسنًا! أنت تتحلَّى بالشجاعة، وتُعجبني رسمةُ ذقنِكَ. ابقَ هنا معي؛ لقد نصَّبتُكَ رئيسًا للأركان.»

ثم أردفَ وقال بعد أن غادَرَ الآخرون: «والآن، خُذْ أربعةً من مناديل القنصلِ الحريرية الحمراء واصنعْ منها راياتٍ صغيرةً كإشارات. فلديَّ خطابٌ آخرُ ذو أهميةٍ أريد أن أكتبَه.»

على ما يبدو أنَّ صياغةَ هذا الخطابِ أزعجتْه بشدة؛ فقد مرَّ حِينٌ من الزمان منذ أن انتهيتُ من صنْعِ الرايات وقبل أن يفرغ من الكتابة. وأخيرًا، مرَّر إليَّ ورقة ملاحظات صغيرة، ثم قال وهو يَفتِل شاربَه: «أكره من صميم قلبي أن أفعلَ هذا، ولكن كما يقال في الأمثال؛ في الحبِّ أو الحرب، اسلُكْ أيَّ درْب!»

لم يحملِ الخطابُ أيَّ عنوانٍ أو توقيع:

سيِّدتي، قرأتُ ما باحتْ به عيناكِ، ففرح قلبي وتراقَص على ذكراكِ. قرأتُ أيضًا على وجوهِ أقاربكِ نظراتِ الغَيْرةِ السوداء، وهم أناسٌ ذوو سلطةٍ وسلطان؛ فاعذريني إن بدَا عليَّ شيءٌ من الفتور واللامبالاة. ولا تحسبي أني خشيتُ على نفسي سوءَ المآل، بل أُقسِم سيدتي ما كنتُ أبتغي لكِ إلا راحةَ البال.

أمَا وقد جارَ علينا ذلك المرسومُ الفظُّ كالموت الزؤام، فلْتعلمي إذن أني لا أهتمُّ إنْ أُبعدتُ عن موناكو؛ فالعالمُ فسيحٌ، ولكن أن أبعُدَ عنكِ فهو عينُ هلاكي؛ ففي ثَغرِكِ الباسمِ تتعلَّق روحي البائسةُ التي تهواكِ!

فإن كانت جسارتُكِ بمثْل حُسنِك وجمالِك، وكان البَونُ الشاسعُ بين طبقتَينا لا يشغلُ بالَك، وأمام العاطفةِ الجياشة ضئيلٌ متهالك؛ إن كنتِ ستقفينَ أمامَ كلِّ شيءٍ لأجلِ رجلٍ تألَّمَ، وقاسَى في صمْتٍ دون أن يتكلَّم، فقابليني غدًا صباحًا قبل أن تُشرقَ الشمسُ بساعة عند محطةِ ضخِّ الوقود خلفَ تمثالِ جدِّكِ النبيل الفارس فينتشنزو جريمالدي، وتعالَي وحدَكِ.

علَّق تايتس وقال وهو يُحدِّثُني ويُحدِّث نفسَه في الوقت ذاتِه: «يا له من خزْيٍ وعارٍ أن نُحضرَها مبكِّرًا في ذلك الجوِّ الرطب وهي بتلك السنِّ؛ ولكن لا مفرَّ من ذلك!»

كان خادمُ القنصلِ قد عاد لتوِّه بعد أن علَّق الورقةَ على لوحة الإعلانات كما أمرَه صاحبُ السعادة وقد التفَّ حولها جمهورٌ غفير كي يُطالعوها.

صاح تايتس: «رائعٌ! والآن يا جيوفاني، لديَّ مهمةٌ أخرى لك. فأنتَ رجلٌ فطِن!» ثم أعطاه الخطابَ وهمَس له ببضع كلمات توجيهية، فأومأَ الرجلُ اللبيبُ برأسِه موافقًا ومتفهمًا.

«وبالمناسبة يا جيوفاني، أأنتَ على علاقةٍ جيدةٍ بالجيش؟»

«بلى، يا صاحبَ السعادة.»

«كم سيكلفُنا أن نجعلَ الجيشَ بأكمله يسكَر الليلة؟»

«أتقصد أن يسكَروا حتى تغيبَ عقولُهم يا صاحبَ السعادة؟»

«هذا ما أقصدُه بالفعل!»

أجرَى جيوفاني حسبةً سريعة مستعينًا بأصابعه ثم قال بابتسامة عريضة: «أظنُّ أن هذا سيُكلِّفُنا ما يُقاربُ الستين فرنكًا يا صاحبَ السعادة.» فأعطاه تايتس خمسَ عملات ذهبية.

بعد ساعة، ذهبتُ أنا والقائدُ الأعلى نمشي بمحاذاةِ السور الغربي؛ طريقِ تنزُّه رائج في موناكو في فترةِ ما بعد الظهيرة. لم يكن يرى سوى قلَّةٍ قليلة من الأمريكيين، ولكن أينما نظَر المرء، كانت هناك مظاهرُ تدلُّ على حالةٍ غيرِ معهودة من الضغينة الشعبية المتنامية. فقد قابلْنا في كلِّ خطوةٍ وجوهًا عابسةً ومتجهمة، وسمعْنا مَن يهمسون بسبِّنا وإهانتنا. ومع ذلك، كان رفيقي يُواصل المشيَ بلا اكتراثٍ بخطواتِه الواسعة ومِشيتِه المتمايلة. ثم سمعتُ مصادفةً أحدَ رعايا الأمير وهو يُحدِّثُ رفيقًا له ويقول: «مجلسُ الدولة منعقدٌ الآن. وغدًا سيكون يوم عمل مضنٍ.» أتى صوتُ قرْعٍ للطبول ورأينا دي موسلي يمرُّ بنا بهمَّةٍ ونشاطٍ على رأْسِ فرقةٍ من أربعةِ جنود، فلوَّحتِ السيداتُ للجيش بالمناديل. قال تايتس: «القائدُ الأعلى للجيش ينشرُ الحرسَ في الأرجاء. من حُسْنِ حظِّنا أن عددَ المقاهي في موناكو أكبرُ من عددِ جنودِه!» أوصدَ بعضُ أصحابِ المحال التجارية أبوابَهم في وقتٍ باكرٍ من ذلك اليوم. عدَّل تايتس فجأةً من وتيرةِ سَيرِه واعتلى تقاسيمَ وجهِه تعبيرٌ فريدٌ يُوحي باستغراقِه في التفكير الحزين. ثلاثٌ من النسوة كنَّ يقتربْنَ منَّا. بالكادِ لاحظتُ أن إحداهنَّ كانت تتقدَّم الأُخريَين في مِشيتها بدرجةٍ طفيفة. كانت امرأةً بدينةً في منتصف العمر، وكانت ملابسُها تَشِي بنوعٍ من الأُبَّهة، وقد أفرطت في استخدام أحمر الشِّفاه. وبينما هي تمرُّ بنا، رفَع تايتس قبَّعتَه وانحنى انحناءةً تشي بالحزن؛ فغضَّت المرأةُ السمينة طرْفَها ونظرت إلى الأرض على استحياء. وأظنُّ أني قد لمحتُ آثارَ تورُّدٍ على أجزاء وجهِها التي لم تكسُها حمرةُ مساحيقِ التجميل.

همَس تايتس في أُذُني قائلًا: «كلُّ شيءٍ على ما يُرام! كفَّةُ الحربِ في صالحنا.»

٣

في الساعةِ الخامسة والنصف من صبيحة ذلك اليوم المشهود، حدَث شيءٌ غريب قُربَ الملهى. حُرِّر المُنْطادُ المقيَّدُ وأُزيلتْ عنه أثقالُه التي كانت تُلصقُه بالأرض طوالَ الليل، بدأ يعلو ببطءٍ في جلالٍ وعظمة وهو يخترقُ طبقاتِ الضبابِ وقتَ الشفَقِ. تهادَى إلى اليمين وإلى الشمال مرَّةً أو مرتين، ثم ارتعشَ رعشةً كأنما أصابتْه دهشةٌ من إيقاظه في هذا الوقتِ غيرِ المعهود. شقَّتْ كرةُ المنطادِ طريقَها في كبدِ السماء باستقامة وبما أتاح له الحبلُ المرتخي من سرعة. وكان شخصٌ ما يتحكَّمُ في مكابح البكَرةِ التي كان الحبلُ ينسابُ منها. كان ذلك الشخصُ هو أنا. وحملت مقصورةُ المُنْطادِ فردَين لا ثالثَ لهما. أحدهما تايتس، والآخر كان امرأةً متدثِّرةً بالعديد من الشالات وتتوارَى وراءَ حجابٍ.

همَس تايتس إلى رفيقتِه المرتعشة وهو يأخذُ بيدها مساعدًا إياها كي تصعدَ على متْنِ مقصورةِ المنطاد، وقال: «يا حبيبتي ومُهجةَ قلبي، هذه هي فرصتُنا الوحيدةُ للهروب. فبلا شكٍّ سيُلقَى القبضُ علينا عند الحدودِ إن حاولْنا الفرارَ برًّا.» فردَّتْ بهمهمةٍ وديعةٍ مُلئَتْ بالرقَّة، وشابَها الضعفُ، وكان هذا هو الجواب الوحيد الذي حصل عليه.

راقبتُ هذه الكتلةَ الغامضةَ المعالم وهي ترتقي لتصلَ إلى أقصى طولٍ للحبل، ودفَع النسيمُ الغربي اللطيف المنطادَ إلى فوق القصر مباشرةً حيث استقرَّ بلا حَراكٍ على ارتفاعٍ يتراوحُ ما بين خمسمائة وستمائة قدَم.

وأثناءَ مغادرتي للملهى، خطوتُ فوق جسدِ أحدِ الحرَسِ وهو يَغِطُّ في النوم ويُصدر شخيرًا قويًّا على رصيف الشارع. كانت الشوارعُ خاليةً من الناس ولكني مررتُ بمقهًى كان مفتوحًا طوالَ الليل. ألقيتُ نظرةً سريعة من المدخل فرأيتُ زمرةً من محاربي دي موسلي المحنَّكين في زِيِّهم الأحمر بين درجاتٍ متفاوتة من السُّكْر. صاح هؤلاء الذين لم تذهبْ عقولُهم تمامًا وكانوا قادرين على الغناء، بنشيدٍ من أناشيد الحرب، والذي كان البيتُ الذي يتكرَّر فيه عبارةً عن تهديدٍ لوطني ووعيدٍ بدمار يعجز عنه القولُ. على ما يبدو أن العُملاتِ الذهبيةَ الخمس في يد جيوفاني قد أدَّتْ مهمتَها على أكمل وجْهٍ.

مرَّتْ ثلاث ساعاتٍ كنتُ قد انتهيتُ حينَها من فطوري الهادئ في الفندق، ثم شرعتُ في البحث عن القنصل. فقد تغيَّر الوضعُ؛ فالمدينةُ قد استيقظتِ الآن وتَعِجُّ بالحركة، وعمَّ أرجاءَها ارتباكٌ وفوضى لا يُوصفانِ. السُّكَّان عن بكرةِ أبيهم يندفعون عبرَ الشوارعِ المؤدية إلى القصر والملهى، والأنشطةُ التجارية قد توقَّفتْ في كل مكان. شُوهد بضعةُ جنودٍ في أماكنَ متفرقة، وكانت وجوهُهم متوعكةً وأرجلُهم ترتجفُ. كان القائدُ الأعلى للجيش يستميتُ ليُلملِمَ شَتاتَ جيشِه الذي وهنَت عزيمتُه، لكن بلا طائلٍ. في الشرفة الأمامية للقصر، حيثُ طالعْنا الاستعراضَ المتألِّقَ للجيش في اليوم السابق، وقف الأميرُ وبعضُ أفراد عائلته ومِن حولهم وزراءُ الإمارة. من بين هؤلاء الوزراء تعرَّفتُ على المحيا المنذر بالشرِّ لصاحب السيادة توريه. كانت الساحةُ والشوارع المحيطة بها مكتظَّةً بالناس، وكلُّ الأنظار تتَّجه للأعلى نحو المُنْطادِ الذي كان لا يزال يُحلِّق فوق القصر. فقد كان هو الشيءَ الساكنَ الوحيد وسطَ هذا المشهدِ الصاخب.

حالما أظهر تايتس وجهَه للحشد من أسفله، اندفعوا جميعًا باتجاه الرافعة وهم عازمون على شدِّ الحبل ولفِّه كي يستردُّوا المنطادَ ويُنزلوه أرضًا. لكن تايتس مالَ إلى جانب المقصورة ولوَّح مهدِّدًا بخنجر عريض تلويحًا لم يُخالطْه شكٌّ أنه ينوي قطْعَ الحبل ويستقلُّ بالمنطاد إن حاول أحدٌ أن يسحبَه للأسفل. وهكذا أصبح سيدَ الموقف. أما الأعداء فقد ظلُّوا خاملين مذبذبين حيالَ أيِّ مسار يسلكون، بينما كان أصحابُ المقام الرفيع في الشرفة بالأعلى منخرطين في مشاورةٍ انخراطًا جديًّا.

في الساحة وتحت الشرفةِ مباشرة، لمحتُ القنصلَ وسطَ عُصبةٍ من الأمريكيين، فشققْتُ طريقي إلى تلك البُقعةِ بصعوبة وبالمدافعة.

لفتَتْ غمغماتُ الحشدِ انتباهي إلى المنطاد. كان تايتس يُرسل إشاراتٍ معينة مستخدمًا رايتَين صغيرتَين حمراوين. أخرجتُ رايتَين مماثلتَين من تحت مِعطفي، وهكذا أُقيمتْ قناةٌ للتواصل بين طرفَي جيش الولايات المتحدة الأمريكية. ودقَّت ساعةُ الكنيسة معلنةً تمام الساعة التاسعة.

أرسل تايتس إشاراتٍ معناها: «سلْ عمَّا إذا كان المرسومُ قد أُلغيَ أم لا.»

ترجمتُ الرسالة إلى القنصل الذي طرَح بدَوره السؤالَ على أصحاب الشرفةِ بصوت جهورٍ وبأكثر المصطلحات الدبلوماسية استحسانًا.

ردَّ صاحبُ السيادة توريه بصفته متحدِّثًا عن حكومة موناكو باستهزاءٍ قائلًا: «المرسومُ لم يُلغَ! وبُنودُه التي تنصُّ على اعتقال الأمريكيين الموجودين على أراضينا ستكون حيِّزَ التنفيذِ خلالَ ساعة بالضبط.» ثم نقل هذا الردَّ إلى تايتس.

ثم جاء الردُّ السريع واللاذِع: «أعلِنْ حالةَ الطوارئ والأحكامَ العُرفية في موناكو!»

أحدثتْ جرأةُ هذا الإعلانِ الممزوجة برباطة الجأْشِ أثرًا بالغًا في نفوس الناس. فما هي هذه القوةُ الغريبة التي يحوزها هذا الرجلُ في السماء؟ هذا الرجلُ الذي يتحدَّثُ برايتَين صغيرتَين ويتحدَّى أميرًا وجيشَه وأسطولَه البحريَّ ببرود أعصاب على هذا النحو؟ فما الذي يُخبِّئه المستقبلُ يا ترى؟

احتفظَ توريه بحضور ذهنِه، ثم صاح قائلًا: «اقطعوا الحبلَ! حينها ستعصفُ الرياحُ بهذا الوغدِ الأمريكي الوقِح قاذفةً إياه في الأراضي الإيطالية، وسنكون قد تخلَّصْنا منه مقابلَ ثمنِ مُنْطَاد.»

اندفع الحشدُ من جديد باتجاه الحبلِ واستُلَّتْ مئاتُ الخناجر في استعدادٍ لتنفيذ المهمة، لكن توريه الذي ظلَّ محدِّقًا للأعلى، شُوهد ووجهُه قد شَحَب شحوبَ الموت، ثم اتَّكأ على سُورِ الشُّرفة ليقوَى على الوقوف.

ثم صاح: «توقَّفوا! هذا يكفي! لا يجرؤَنَّ أحدُكم على قطْع الحبل إن كان يخشى على حياته! فالأميرةُ هناك في مقصورة المنطاد!»

بالتأكيد كان وجْهُ الأميرةِ المستدير والمتورِّد ظاهرًا من فوق حافةِ المقصورة المصنوعة من القشِّ، فدوَتْ شهقةُ ذهولٍ وفزعٍ من حناجر الحشد. ثم ردَّت العصبةُ الأمريكية عليهم بالصياح والتهليل.

قال القنصل: «فاز تايتس بالحرب!»

لكنَّ غضْبَ صاحبِ السيادة توريه كان عارمًا وأكثر مما تقتضيه الظروفُ الحالية. فقد دفعَه منظرُ الأميرة في المقصورة إلى حافة الجنون؛ فأخذ ينتفُ شعرَ رأسِه ثم يضربُ الهواءَ بكلتا قبضتَيه باتجاه المنطاد وهو يصرخُ كأن السيدةَ يُمكنها سماعه، وقال: «آه منكِ يا فلورستين! أيتها الخائنةُ! لقد كانتِ الشكوكُ تُساورني. يا لكِ من غادرة لعينة! يا أسفاه على قلبي الذي مزَّقتْه امرأةٌ حقيرة!»

قال القنصلُ بصوتٍ خفيض: «لقد ساورتْني الشكوكُ أنا أيضًا. فنحن الدبلوماسيين لدينا عيونٌ في كل مكان. انظر إلى توريه! يا لها من فضيحةٍ وخِزْي!»

كان الأميرُ يرقُب عن كثَبٍ انفعالاتِ توريه ونوبةَ الغيرةِ التي كشفتِ الكثير. استدعى الأمير دي موسلي وأمرَه بصوتٍ لم يسمعْه أيًّا ممَّن كانوا أسفلَ الشرفة، ثم جاء جنديان وأخرجا صاحبَ السيادة توريه من الشرفة. صاح نفرٌ من الحشد وقالوا: «لقد اعتُقل المطران!» وكانت أفواه الجميعِ فاغرةً من فرْط دهشتِهم لهذه الواقعةِ المفاجئة.

قال الأمير مخاطبًا القنصلَ جرين: «والآن يا سيدي، ما هي مطالبُكَ؟ فعلى ما يبدو أنكم نجحتُم في خطْف شقيقتنا بطريقة غامضة. فبماذا نفتديها إذن؟»

بعد عدَّةِ إشاراتٍ من تايتس، أعلن جرين إنذارَه الأخير وعرْضَه النهائي: إلغاء المرسوم؛ واستعادة مكانة المواطنين الأمريكيين بما يُناسب كونَهم رعايا أعظمِ أمةٍ على الأرض؛ ورفْع الحظر عن لُعبة البوكر؛ والحصول على ضمانٍ من الأمير شخصيًّا بأن تُدفَع كلُّ الديون المستحقة للمواطنين الأمريكيين؛ والحصول على تعويضٍ بعشرة آلاف فرنك عن الخسائر المالية والنفسية التي سبَّبتْها هذه الحرب!

دارتْ مشاوراتٌ طويلة بين أصحاب الشُّرفة، وفي النهاية شُوهد الأميرُ وهو يهزُّ رأسَه رافضًا؛ كأنه يردُّ على اقتراحٍ ينصحُه بالعدول عن خُطَّة عزَم على تنفذيها. تقدَّم النبيلُ الفارس فولفير زمْرتَه، وقال: «لقد خُيِّر سموُّه وفخامتُه، وصاحبُ أسمَى سلطة كنسية، بين عاطفتِه الفطرية التي يُكنُّها لأختِه؛ سموِّ الأميرة، وبين واجبِه تجاه شعبِه ورعيَّتِه. لقد انتهى الصراعُ. إنه يذوق مرارةَ الندمِ على إحدى العواقبِ التي ترتبتْ على قراره. إنه يشعرُ أنه يتعيَّن عليه أن يُقدِّمَ مصالحَ شعْبِ موناكو على أواصرِه الأُسريَّة. فلقد ضحَّى بسموِّ الأميرة ليؤديَ واجبَه ومسئوليتَه؛ وبناءً على ذلك، سيدخل المرسومُ حيِّزَ التنفيذ بتمام الساعة العاشرة.» ثم أمرَ بالحبل أن يُقطَعَ وأن تجرفَ الرياحُ المُنْطادَ بعيدًا.

ألمحتُ إلى جرين وقلتُ له بعد أن نقلتُ الكلامَ إلى تايتس: «أظنُّ أن هذه هي الطريقة اللَّبِقة التي يقولُ من خلالها إنه سيكونُ ممتنًّا لو تخلَّص من هذه العجوزِ الغبية والمزعجة!»

لكنَّ مشاعرَ الخَيبة والغمِّ حلَّتْ بالقنصل وبمنَ معه من الأمريكيين بعد أن كانوا يُحلِّقون في سماء الأمل. ظنُّوا أن قائدَهم الأعلى قد ألقَى ورقتَه الأخيرةَ في هذه اللُّعبة وخسِر الحرب.

بيدَ أن تايتس كان له رأيٌ آخر؛ فلقد أخَذ يُرسِل عدةَ إشارات سريعة بالرايات لمدة قصيرة من الوقت، ثم مدَّ ذراعَه ليصلَ إلى شبكةٍ من الحِبال حولَ المقصورة وما لبِثَ أن أخرجَها حاملًا عُلبةً معدنية كبيرة كانت تتوهَّجُ وتلمعُ تحت أشعة الشمس.

كان تأثيرُ مثلِ هذه الحركة البسيطة ناجعًا وعجيبًا، فقد شَلَّت على الفور أيادي كلِّ الذين كانوا على وشك قطْع الحبل، وحوَّلتْ جميعَ الأنظارِ تجاه المجموعةِ الواقفة في الشرفة. حركة أثارتِ الذُّعرَ في الجمهور فأخَذ كلُّ واحدٍ منهم يفرُّ طلبًا للنجاة في جميع الاتجاهات، وأطلقتْ آلافُ الحناجر صرخاتِ الرعبِ والفزع. وفي خِضَمِّ كلِّ تلك الضوضاء وكلِّ هذه الفوضى، كان بمقدور الآذانِ أن تُميِّزَ كلمةً واحدة:

«ديناميت!»

كان الشعبُ الموناكي يعرفُ مما علَّمهم إياه تايتس كم هي قوية وفعَّالة فعالية مرعبة أداة التدميرِ هذه؛ حتى ولو استُخدمت بكميات قليلة. والآن هم لا يدرون كم من هذه المادة الشنيعة والغامضة معلَّقًا فوق رءوسهم وبيوتهم. حتى الأمير، ابيضَّ وجهُه خوفًا من الاحتمالات التي قد تُسفِر عنها اللحظاتُ التالية.

صِحْتُ بأعلى صوتي: «إنه يُبلغكم أنه إن لم تُقبَل شروطُه خلال ثلاث دقائقَ يعدُّهم عدًّا على ساعته ودون أيِّ نقاشاتٍ أو مفاوضات أخرى، سيُلقي بعُلبة المتفجرات ويَدُكُّ إمارتكم دكًّا ويُصيِّرها رُكامًا.»

وعمَّ السلامُ بين الدولتين في غضونِ دقيقتين لا أكثرَ.

٤

وضعتِ الحربُ أوزارَها. وبأخْذِه أغلظَ المواثيقِ وأكثرَها وضوحًا وتفصيلًا من حكومة الأمير تشارلز الثالث، سمَح القائدُ المظفَّرُ بأن يُسحبَ من عنانِ السماء لينزلَ إلى الأرض وهو ما يزال مُمسكًا بالعُلبةِ التي أرهبتِ الجميعَ بإحدى يدَيه، وباليد الأخرى كان يُساعد أسيرتَه في نُبْل وشهامة لتهبطَ من مقصورة المنطاد ثم اصطحبَها إلى شُرفةِ القصر.

قال بعد أن أودَع الأميرةَ فلورستين باحترامٍ وتوقيرٍ في معيَّة أخيها المهيب: «أعتذرُ منك يا صاحبَ السموِّ والجلالة. فلقد اضطرتْني ضروراتُ الحربِ إلى أسْرِ سموِّ الأميرة بينما كانت تمضي في طريقها هذا الصباحَ إلى زيارةٍ من زيارات أعمالِ البِر.»

انحنى الأميرُ في صمْتٍ، وكانت أعينُ الأميرة مثبتةً على الأرض.

أكمل تايتس: «كما أناشدُكَ يا سموَّ الأميرِ أن تُصدِّقَني حين أقولُ إنني لم أكنْ لأُخاطرَ بحياةٍ نفيسةٍ لسيدةٍ جليلة ورفيعة المقام بأن أضعَها قرْبَ كميةٍ كبيرة وخطيرة من الديناميت!»

وبعد أن فرَغ من كلامه، ألقى بالعُلبة من أعلى سور الشرفة، فهَوتْ على قارعة الطريق وأصدرتْ صوتَ قعقعةٍ يدل على خَوائِها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤