مقدمة

شغلتني مشكلة البحث فيما إذا كان الإنسان حرًّا أو مُجبَرًا منذ مطلع شبابي، وقد تكون هذه هي الحال نفسها مع غيري من الناس؛ إذ يبدو أنَّ المشكلة تَفرض نفسها على الإنسان حين يدرك أنَّه مسئول أخلاقيًّا، ولم يَتوقَّف عامة الناس — تمامًا كالفلاسفة — عن إثارة هذه المشكلة ومُحاوَلة الوصول إلى حلٍّ مُقنِع لها. ولهذا ظهرت آراء كثيرة حول هذا الموضوع، حتى لقد أصبح اختياره موضوعًا لدراسة جديدة يبدو عملًا غير حكيم. فقد يُعتبَر مثل هذا الميدان الآن عقيمًا مجدبًا، قد يُقال إنَّ ثماره نفدت في عصره. ولكن ما دامت الكلمة الأخيرة فيه لم يقلْها أحدٌ بعد، وطالما أنَّ هذه المشكلة ما زالت تلحُّ على العقل البشري، فإنَّ فشلنا في الماضي في الوصول إلى حلٍّ لها، يُعتبَر حافزًا للقيام بمُحاولة جديدة، أكثر منه مبررًا للإقلاع عن دراستها، يائسين من حلها.

لقد ظهرت هذه المشكلة في عدة صور مُتباينة، خلال المراحل المختلفة التي مرَّ بها التطور العقلي للإنسان، فكانت في صورتها البدائية البسيطة مشكلة لاهوتية، هي: كیف نُوفِّق بين وجود إله قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، من ناحية. وبين حرية الإنسان المسئول أخلاقيًّا من ناحية أخرى؟ … وكانت في المرحلة الثانية من النمو العقلي للإنسان مشكلة ميتافيزيقية بصفة خاصة، هي: كيف نُوفِّق بين الحرية الأخلاقية، وبين فكرة السبَبية وعمومية القانون وشموله؟ … وأصبحت في العصور الحديثة — بعد أن سلَّم العلم بنظرية التطوُّر — أكثر دقة وأكثر عمقًا، أصبحت مشكلة الحياة نفسها: فهل الحياة حصيلة لعدة عوامل من المُمكن حسابها رياضيًّا، والتنبؤ بها بدقة، أم أنَّها حدث جديد في مجرى التطوُّر؟ وبمعنًى آخر: إذا ما حصرنا المشكلة في نطاق أضيق — وهو نطاق الإنسان الفرد الذي يُهمُّنا الآن — فإنَّ المشكلة تُصبح على النحو التالي: هل سلوك الإنسان في لحظة ما مثل «ل» ليس إلَّا نتيجة ضرورية للظروف الموجودة في لحظة «ل١»، أم أنَّ هناك احتمالًا آخر هو أن يكون السلوك الحاضر — رغم اعتماده على الماضي — حدثًا جديدًا لا يُمكن حسابه؟

إنَّ المراحل العقلية التي مرَّ بها ذهني أثناء كتابة هذا البحث لا تخلُو من مغزًى؛ فقد حاولت بادئ ذي بدء أن أدرس هذه المُشكلة مُتجنبًا الأحكام المبتسَرة قدر استطاعتي: وغمرني شعور قويٌّ بتأييد وجهة النظر التي تقول إنَّ أفعال الإنسان، كغَيره من الكائنات في هذا الكون، ليست إلَّا حصيلة لعوامل مُعيَّنة، لو عرفها أحد الرياضيين من أتباع «لابلاس Laplace» … لأمكن له أن يَتنبَّأ بسلوكه في دقَّة تامَّة. لكنِّي كلَّما أمعنت التفكير في هذا الموضوع ازداد ميلي إلى الأخذ بوجهة النظر المُضادَّة. وأخيرًا انتهيتُ إلى نتيجة اقتنعت بها جدًّا، وهي: أنَّ الإنسان حر، لا بمعنى حرية انعدام القانون أو الخضوع للعَشوائية، لكنَّه حرٌّ بحرية مُنظَّمة تنظيمًا سببيًّا، فالفعل الإرادي معلول وهو حر في آنٍ معًا، وهذا ما أُسمِّيه «بالجبر الذاتي»؛ فالفعل الحاضر لأي فرد معلول لماضي هذا الفرد، لكن الماضي نفسه من صنعه، ولهذا فإنَّ الماضي هو العامل الضروري باستمرار، لكنَّه ليس علَّة كافية للفعل الإرادي الذي يحدث في الحاضر. وبمعنى آخر: الفعل في اللحظة الحاضرة عبارة عن ناتج مُحتمَل — لا ضروري — للماضي؛ فالحاضر لا يُمكن التفكير فيه بدون الماضي، لكن الماضي يُمكن تصوُّره دون أن يَستتبِع ذلك بالضرورة تصوُّر الفعل الحاضر.

والواقع أنَّنا لو عرَّفنا بعض المُصطَلحات تعريفًا دقيقًا لقضَينا على كثير من المجادلات التي لا لزوم لها. وأنا حين أذهب إلى أنَّ الإنسان حرٌّ في أفعاله الإرادية، يجب عليَّ أولًا وقبل كل شيء أن أُحدِّد تحديدًا دقيقًا — بقَدرِ المُستطاع — ما أعنيه بكلمتي «حر»، و«إرادة». ومثل هذا التحديد ضروري كذلك لمعنى كلمة «النفس» أو «الذات» إذا ما زعمنا أنَّ الإنسان مُجبَر ذاتيًّا، أعني مُجبر عن طريق «نفسه». ولقد ذكرت في هذا البحث تفسيري الخاص لكلمة «النفس» أو «الذات»، وهو تفسير إذا ما قبله القارئ فإنَّ بقية البحث ستكون نتيجة مترتِّبة عليه. إذ لو صحَّ وكان معنى «النفس» هو: الفرد في حالة انتباه إلى شيء ما، فإنَّ الوقائع السيكولوجية سوف تردُ في هذه الحالة إلى اختلافات في موضوع الانتباه وإلى تنوُّع مثل هذا الموضوع. وسوف تكون الإرادة، بناءً على ذلك، حالة خاصة من الانتباه، أو مثلًا جزئيًّا للانتباه، يَتميَّز موضوعه بسِمات خاصَّة. ثم يبقى علينا بعد ذلك أن نُوضِّح كيف أنَّ الإنسان في حالة الانتباه يكون إيجابيًّا فعالًا، أعني أنَّه يكون مبتدئًا لا منتهيًا. وبهذا تكون وجهة النظر كلها قد اكتملت.

إنَّني كلَّما تذكرت التغير الهائل الذي طرأ على ذهني أثناء كتابة هذا البحث، لا يسعني إلَّا أن أشعر بعميق الأثر للأستاذ «ﻫ. ف. هاليت H. F. Hallett» بكلية الملك، بجامعة لندن، فأنا مَدين له بدين لا يُقدَّر، أشعر به كلَّما حاولت تقدير مساعداته القيمة وإرشاداته السديدة. وإنِّي لأعلم علم اليقين مقدار التحوُّل الذي طرأ على اتجاهي العقلي؛ ذلك لأنَّ أثره عليَّ قد جاوز النطاق الضيق لهذا البحث، فأدَّى إلى تحوُّل في طريقة تفكيري أيًّا ما كان موضوع هذا التفكير.

ولو أنَّ القارئ وجد في هذا الكتاب قدرًا من الدقة في استخدام الكلمات، أو درجة من التحليل الذي يجعل الأفكار التي نُحلِّلها تبدو واضحة — فإنَّ ذلك كله يرجع إلى شروحه الهادية، وهي شروح لو كان في استطاعتي أن أسير على هديها بدقة أكثر مما فعلت لجاء بحثي من هذه الزاوية — يقينًا — خيرًا مِمَّا هو الآن.

ز.ن.م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤