الفصل السادس عشر

بيان تفسيري ومأساة

بعدما صب ثورندايك القهوة ووزع الأكواب، قال: «ربما تتساءلون ما الذي دفعني إلى إجراء تحقيق دقيق في قضية يوحي ظاهرها بأنها بسيطة ومباشِرة. ربما كان الأفضل أن أوضح هذا أولًا، وأُريكم أين هي نقطة الانطلاق الحقيقية للتحقيق.

أيها السيد مارشمونت والسيد ستيفن، حين عرضتما القضية عليَّ، دوَّنت ملخَّصًا موجزًا للوقائع على نحو ما قدمتُما لي، وقد لفت انتباهي واقعة أو اثنتان منها. أولًا، توجد وصية. وهذه الوصية غريبة جدًّا. ولم تكن ثمة حاجة لها على الإطلاق. فهي لم تتضمَّن بنودًا جديدة، ولم تُعرِب عن تغيير في النوايا، ولم تتوافق مع ظروف جديدة، كما هو معروف لدى الموصي. باختصار، لم تكن وصية جديدة على الإطلاق، ولكنها مجرد تكرار للوصية الأولى، ولكنها صيغت بلُغة مختلفة وأقل ملاءمةً. الفرق الوحيد أنها تضمَّنت غموضًا معينًا خلت منه الوصية الأصلية. فقد جعلت من الممكن أن يصير جون بلاكمور هو المستفيد الأساسي في ظروف معينة ليست معلومةً لدى الموصي، وهذا ما يخالف رغبات الموصي الواضحة.

النقطة الثانية التي لفتت انتباهي هي الطريقة التي ماتت بها السيدة ويلسون. فقد ماتت بالسرطان. وفي الوقت الحالي، لا يموت الناس بالسرطان فجأة أو من دون توقع. فهذا المرض الخطير يتفرَّد في أنه لا تظهر أعراضه على المريض إلا بعد الإصابة ببضعة أشهر. والمصاب بسرطان لا يُرجى شفاؤه هو شخص يمكن التنبؤ بوفاته، ويمكن تحديد تاريخ وفاته ضمن حدود ضيقة نسبيًّا.

لننظر الآن إلى سلسلة المصادفات العجيبة التي يُسلَّط عليها الضوء، عند التفكير في هذه السمة المميِّزة لهذا المرض. تُوفِّيَت السيدة ويلسون في الثاني عشر من مارس هذا العام. وُقِّع على الوصية الثانية للسيد جيفري في الثاني عشر من نوفمبر العام الماضي، وحينذاك، لا بد أن طبيب السيدة ويلسون كان قد علم بإصابتها بالسرطان، وربما علم بالخبر أحدٌ ما من أقربائها الذين يصلونها.

ثم إنكم ستُلاحظون أن التغيير الكبير في عادات السيد جيفري يتزامن بطريقة فريدة مع الأحداث نفسها. لا بد أن أعراض السرطان قد ظهرت في بداية سبتمبر العام الماضي؛ وفي الحقيقة هذا هو الوقت الذي كتبت فيه السيدة ويلسون وصيتها. انتقل السيد جيفري إلى مجمع نيو إن في أول أكتوبر. وبدايةً من ذلك الوقت، تغيرت عاداته كليًّا، ويمكن أن أبين لكم أن التغيُّر — الذي لم يكن تدريجيًّا، بل مفاجئًا — قد حدث في طريقة توقيعه.

باختصار، وقعت مجموعة الظروف الغريبة هذه — التغير في عادات جيفري، والتغير في توقيعه، والتغير في وصيته — حين أصبح مرض السيدة ويلز بالسرطان معروفًا.

هذه الواقعة لفتت انتباهي وعلمتُ أنها تحمل دلالات كثيرة.

ثم تأتي واقعة التاريخ المواتي بطريقة غريبة لوفاة السيد جيفري. تُوفيت السيدة ويلسون في الثاني عشر من مارس. عُثر على السيد جيفري ميتًا في الخامس عشر من مارس، ومن الواضح أنه مات في الرابع عشر، وفي ذلك اليوم شُوهد وهو لا يزال على قيد الحياة. ولو كان تُوفِّي قبل وقت وفاته الفعلي بثلاثة أيام فقط، لمات قبل السيدة ويلسون؛ ومن ثَم ما كانت تركتها لِتئُول إليه على الإطلاق، ولو عاش لمدة يومٍ أو يومَين آخرين فقط، لربما علم بموتها، وبالتأكيد كان سيكتب وصيةً جديدةً أو ملحقًا بوصيته الأولى لصالح ابن أخيه.

ومن ثم تضافرت الظروف بطريقة فريدة لصالح جون بلاكمور.

لكن ثمة مصادفة أخرى. عُثر على جثة جيفري بمحض الصدفة في اليوم التالي لوفاته. ولكن ربما ظلت مختفية لأسابيع أو حتى شهور؛ ولو حدث ذلك، لاستحال تحديد تاريخ وفاته. عندئذٍ كان أقرب أقرباء السيدة ويلسون سيطعن في دعوى جون بلاكمور — وربما ينجح في ذلك — على أساس أن جيفري مات قبل السيدة ويلسون. لكن عدم اليقين أجْلَتْه واقعة دفع السيد جيفري إيجاره بنفسه — وقبل الأوان — للبواب في الرابع عشر من مارس؛ ومن ثم فإنه لا مجال للشك في كونه حيًّا في ذلك اليوم؛ إضافةً إلى ذلك، وفي حالة أنه لا يمكن الوثوق في ذاكرة البواب أو في إفادته، قدم جيفري وثيقة موقعة ومؤرَّخة، وهي الشيك الذي يُعَد دليلًا لا جدال فيه بأنه كان على قيد الحياة.

لأُعطِكم إيجازًا لهذا الجزء من الأدلة. نحن أمام وصية مكَّنت جون بلاكمور من أن يرث تركة رجل من المؤكد أنه لم تكن عنده النية في يورِّثها له. ويبدو أن صياغة الوصية قد عُدلت بحيث تتوافق مع الملابسات الغريبة لموت السيدة ويلسون، وكذلك وقعت وفاة الموصي في ظل ملابسات غريبة يبدو أنها تتفق تمامًا مع صياغة الوصية. أو بعبارة أخرى، صياغة الوصية وتوقيتها، وأسلوب الموصي وملابسات موته، كل ذلك يبدو وكأنه اتُّفق اتفاقًا دقيقًا، مع حقيقة أن التاريخ التقريبي لوفاة السيدة ويلسون كان معروفًا قبل بضعة أشهر من وفاتها.

والآن، لا مناص من الاعتراف بأن هذه المجموعة المركَّبة من المصادفات لها مظهر فريد للغاية؛ حيث إنها تتآمر جميعها من أجل هدف واحد وهو إثراء جون بلاكمور. المصادفات شائعة في الحياة اليومية، ولكن لا يمكن قبول حدوث العديد منها في آن واحد. وقد ساورني شعور أنها كانت كثيرة للغاية في هذه القضية، وأنه لا يمكنني قبولها من دون تحريات.»

سكت ثورندايك، وأومأ السيد مارشمونت — الذي كان ينصت بآذان مصغية — وهو ينظر إلى شريكه الصامت.

قال: «لقد عرضت القضية بإيضاح بالغ، وإني أعترف أن بعض النقاط التي ذكرتها قد غابت عن بالي.»

استطرد ثورندايك قائلًا: «فكرتي الأولى هي أن جون بلاكمور استغلَّ الضعف العقلي الناتج عن تعاطي الأفيون؛ ومن ثَم أملى هذه الوصية على جيفري؛ عندئذٍ طلبت الإذن لتفقد شقة جيفري، وكان الهدف من ذلك هو معرفة ما كنت أبحث عنه، وأن أرى بنفسي ما إذا كان مظهرها قذِرًا وغير منظم، وهو ما يميز وكر مُدخِّن الأفيون العادي. لكن حين فكرت في القضية وأنا أتمشى في المنطقة التجارية، بدا لي أن هذا التفسير لا يكاد يتطابق مع الوقائع. ومن ثَم حاولت التفكير في تفسيرٍ آخر، وحين راجعت ملاحظاتي، رصدت نقطتَين تستحقَّان التفكير. تتمثَّل الأولى في أن الشاهدَين على الوصية لم يكونا على معرفةٍ بجيفري بلاكمور، فكلاهما غريب، وقد قَبِلا هُويته بناءً على كلامه. النقطة الثانية هي أنه لا أحد ممن يعرفون جيفري مسبقًا قد رآه في مجمع نيو إن غير أخيه جون.

فما أهمية هاتَين الواقعتَين؟ ربما لا يكون لهما أهمية. وبرغم ذلك، فإنهما تُلمِّحان إلى ضرورة الإجابة عن السؤال: هل الشخص الذي وقَّع على الوصية هو جيفري بلاكمور حقًّا؟ وعلى الرغم من عدم ترجيح فكرة أن شخصًا ما انتحل شخصية جيفري وزوَّر توقيعه على وصية مزورة، لا سيما في ضوء التعرُّف على الجثة، فإن هذه ليست فكرة مستحيلة في الواقع، كما أنها تطرح تفسيرًا شاملًا للمصادفات المذكورة آنفًا التي لم يُهتدَ إلى تفسير لها.

على الرغم من ذلك، مررت بلحظات ظننتُ فيها أن هذا التفسير ليس صحيحًا، ولكن كان لديَّ إصرارٌ على ألَّا أُزيحَه من عقلي، وأن أختبرَه حين تَسنح لي الفرصة، وأن أفكِّر فيه حين تُسلَّط عليه الأضواء استنادًا إلى أي وقائع جديدة أصِل إليها.

وقد أتتني الوقائع الجديدة أسرع مما توقعت. فقد توصَّلت إليها ليلة ذهبت مع الدكتور جيرفيس إلى مجمع نيو إن، ووجدت السيد ستيفن في الشقة. فقد علمتُ منه أن جيفري كان عالمًا في الحضارات الشرقية، وكان خبيرًا في الكتابة المسمارية، وبينما يقول لي ذلك، نظرت من فوق كتفه، ورأيت لوحة نقش مسماري معلقة على الحائط في وضعية مقلوبة.

وهذه الحالة ليس لها سوى تفسير واحد منطقي. بغض النظر عن حقيقة أنه لا يمكن لأحد تثبيت لوحات داخل إطار، من دون التأكُّد من الاتجاه الصحيح للأعلى، وافتراض أن اللوحة عُلِّقت مقلوبة، كان من المستحيل أن يتجاهل جيفري الوضع الخاطئ. وعلى الرغم من ضعف بصره، لم يكُن مكفوفًا. يبلغ طول الإطار ٣٠ بوصة، ويبلغ طول الحروف بوصة واحدة تقريبًا، أي تساوي حجمَ حروف «دي ١٨» في مخطط سنيلين، وهذا الحجم يمكن أن يقرأه إنسان صحيح البصر من مسافة ٥٥ قدمًا. وأُكرر أنه لا يوجد غير تفسير واحد مقبول، وهو أن الشخص الذي سكن هذه الشقة ليس جيفري بلاكمور.

وقد لاقى هذا الاستنتاج دعمًا كبيرًا من الواقعة التي رصدتها فيما بعد، ولكن لن نتطرَّق إلى هذه النقطة الآن. عند فحص النعلين اللذين خُلعا من قدمَي المتوفَّى، لم أجِد فيهما غير الطين العادي من الشوارع. لم أجد أثرًا للطين الحصوي الغريب الذي التصق بحذائي وحذاء جيرفيس، حيث إنه التصق بهما ونحن في ساحة نيو إن. لكن البواب قال صراحةً إنه بعدما دفع المتوفَّى الأجرة، عاد إلى شقته مارًّا بالساحة؛ ومن ثَم كان ينبغي أن يلتصق طينُها بحذائه.

ومن ثم في لحظة ما، اكتسبت الفرضية الظنية تمامًا درجة عالية من الاحتمالية.

حين انصرف السيد ستيفن، فتَّشنا أنا وجيرفيس في الشقة جيدًا، وقد بانت لنا حقيقة أخرى غريبة. كان على الحائط عدد من اللوحات اليابانية الملوَّنة، وقد وُجدت في جميعها بُقع رطوبة. والآن، بصرف النظر عن فكرة أن جيفري — الذي كان يتحمَّل عناء جمع هذه المطبوعات القيِّمة ونفقتها — لم يكن ليسمح لها بالتعفُّن على جدرانه، يطرح السؤال التالي نفسه: كيف تعرضت للرطوبة؟ كان في الغُرفة موقد غاز، وهو مفيد في الحفاظ على جفاف الجو. وكان الجو شتويًّا، ومن الطبيعي أن يبقى الموقِد مشتعلًا. كيف تعرضت الجدران للرطوبة؟ وكانت الإجابة فيما يبدو أن الموقد لم يكن مشتعلًا باستمرار، ولكن كان يُشعَل من حين إلى آخر. برز هذا الاقتراح بمزيد من التفتيش في الشقة. المطبخ قد خلا حرفيًّا من أي خِزانات، وكاد يخلو من أي ترتيباتٍ قد يحتاجها حتى العازِب البسيط من أجل الطهو، وينطبق الأمر نفسه على غرفة النوم، كان الصابون الموجود في حوض الغسل جافًّا ومُتشققًا؛ لم أرَ ثمة بياضات منزوعة، وعلى الرغم من نظافة القمصان الموجودة في الأدراج، كان لها مظهر غريب مُصفَرٌّ باهت يكتسبه الكتان، عندما لا يُستخدَم لفترة طويلة. باختصار، يوحي مظهر الشقة أنها لم تُسكن على الإطلاق، بل تُزار على فترات متقطعة.

لكن ثمة ما يخالف هذا الرأي وهو إفادة بوَّاب النوبة الليلية بأنه كثيرًا ما رأى المصباح مضاءً في غرفة الجلوس بشقة جيفري كل يومٍ في الساعة الواحدة صباحًا، ويبدو أن هذا يشير ضِمنيًّا إلى أن المصباح أُطفئ حينذاك. والآن، يمكن ترك النور مضاءً في غرفةٍ فارغة، لكنَّ انطفاءه يعني ضمنيًّا أن شخصًا أطفأه، إلا إذا توافر جهاز أوتوماتيكي مضبوط على أن يطفئه في وقت محدد. هذا الجهاز بسيط للغاية، مثل حركة المنبه عند رأس الساعة بإرفاق شيء مناسب، ولكني بحثت في الشقة ولم أعثر على شيء من هذا القبيل. إلا أنني حين بحثت في الأدراج بغرفة النوم، وجدت صندوقًا كبيرًا به كمية كبيرة من شمع الستيراين الصلب. اكتشفت أنه لا يتبقَّى من الصندوق الكثير، ولكن الشمعدان المسطح، الذي يحتوي على العديد من الفتيلات في تجاويفه، يفسِّر أين ذهب الباقي.

لكن هذه الشموع تبدد الصعوبة. لم تكن ثمة حاجةٌ إلى الإضاءة العادية؛ حيث إن تجهيزات الغاز ثُبِّتت في الغُرف الثلاث. إذن، ما الغرض الذي استُخدم من أجله الشمع بهذه الكمية الكبيرة؟ فيما بعد، حصلت على بعض الشموع من العلامة التجارية نفسها — شمع الستيراين من برايس، وكل ستٍّ منها تزن رطلًا — وجربتها. يبلغ طول كل شمعة سبع بوصاتٍ وربعًا، من دون المخروط العلوي، ووجدت أنها تحترق في الهواء الساكن بمعدلٍ يزيد على البوصة الواحدة بقليل في غضون ساعة. وبذلك يمكننا القول إن الشمعة الواحدة ستظل مشتعلةً في الهواء الساكن، لمدةٍ تزيد على ست ساعات بقليل. ومن ثم من الوارد أن مَن سكن الشقة ذهب في الساعة السابعة مساءً، وترك شمعةً يمكن أن تحترق إلى ما بعد الواحدة صباحًا، ثم تنطفئ من تلقاء نفسها. بالطبع، هذا مجرد تخمين، ولكنه يَنسِف أهمية إفادة بواب النوبة الليلية.

لكن إذا لم يكن الشخص الذي سكن هذه الشقة هو جيفري، فمَن يكون؟

الإجابة عن هذا السؤال واضحة تمامًا. ليس ثمة شخصٌ لديه دافع قوي لارتكاب عملية احتيال من هذا النوع سوى شخصٍ واحد، وليس ثمة شخص يمكنه فعل ذلك سوى شخص واحد. وإذا لم يكن هذا الشخص هو جيفري، فلا بد أن يكون شخصًا يُشبهه؛ ولا بد أن يكون الشبه قويًّا لدرجة أن يخلط المرء بين جسد أحدهما بجسد الآخر. فجسد جيفري كان جزءًا أساسيًّا في الخطة ويجب التفكير فيه منذ البداية. والشخص الوحيد الذي تنطبق عليه الشروط هو جون بلاكمور.

علمنا من السيد ستيفن أن جون وجيفري كان بينهما شبهٌ كبير، وهما في سن الشباب، على الرغم من اختلاف المظهر في السنوات الأخيرة. لكن حين تباعد الشبه في السنوات الأخيرة بين الأخوَين اللذَين كانا متشابهَين في صِغَرهما، سنجد أن الاختلاف ناتجٌ عن فروقٍ ظاهرية، وأن الشبه الأساسي لا يزال باقيًا. ومن ثم في هذه الحالة، نجد أن جيفري حليق الذقن وبصره ضعيف ويستعمل نظارة، ويظهر انحناء في ظهره حين يمشي، أما جون فعنده لحية وشارب وبصره جيد ولا يرتدي نظارة، ومِشيته سريعة وقامته مُنتصِبة. لكن لو افترضنا أن جون حلق ذقنه وشاربه وارتدى نظارة وتظاهر بالانحناء في مشيته، فهذه الفروق الواضحة والظاهرية في الوقت نفسه ستختفي، وسيظهر الشبه الأصلي من جديد.

ثمة شيء آخر يجب أخذه في الحسبان. كان جون مُمثِّلًا وعنده بعض الخبرة في التمثيل. والآن، بإمكان أي شخص أن يختلق تمويهًا إذا كان لديه قدر من العناية والخبرة، ولكن الصعوبة الأكبر تتمثَّل في دعم ذلك التمويه بما يناسبه من الأسلوب والصوت. ولكن بالنسبة إلى ممثِّل متمرِّس، لا مكان لهذه الصعوبة. فتقمُّص الشخصية أمرٌ هيِّن عنده، كما أن الممثِّل على وجه التحديد هو الشخص الذي يمكن أن تتبادر إلى ذهنه فكرة التمويه وتقمُّص الشخصية.

ثمة أمرٌ بسيط يتعلَّق بهذه النقطة، وهو صغير جدًّا لدرجة أنه لا يستحق استدعاء الأدلة، ولكنه يستحق الإشارة إليه. في جيب الصدرية التي نُزِعت من على جثة جيفري، وجدت عُقب قلم رصاص من نوعية كونتاجو، وهذا القلم يُباع للتجار والوسطاء في البورصة. جون كان سمسارًا خارجيًّا، والأرجح أنه استخدم هذا القلم، في حين أن جيفري لا يربطه شيء بأسواق البورصة، وليس ثمة سببٌ يجعله يحوز قلمَ رصاصٍ من هذه النوعية. ولكن هذه الواقعة موحية فقط وليس لها قيمة استدلالية.

ثمة استنتاج أهم مُستمَد من التوقيعات التي حصلنا عليها. لاحظت أن التغيير في التوقيع حدث فجأة منذ سبتمبر الماضي؛ إذ وقع تغير أو تغيُّران في طريقة التوقيع، وأن ثمة شكلين مميَّزين من دون تباينات متوسطة. وهذا في حد ذاته لافت للنظر وداعٍ إلى الشك. ولكن الملاحظة التي أبداها السيد بريتون تُعطينا دليلًا قيمًا للغاية بشأن النقطة التي نتحدث فيها الآن. فقد اعترف أن طبيعة التوقيع حدث فيها تغيير، ولكنه لاحظ أن ذلك التغيير لا يؤثر في السمة الفردية أو الشخصية للكتابة. وهذه الملاحظة بالغة الأهمية؛ حيث إن خط اليد — إن جاز التعبير — امتدادٌ لشخصية صاحبه. وكما أنه يمكن أن يتشارك إنسان بعض السمات الشخصية مع أقاربه الذين من دمه في شكل تشابهات بين أفراد العائلة، فإن خطَّه في كثير من الأحيان يُبرز تشابهًا دقيقًا مع خط أقاربه المقربين. ولا بد أنكم لاحظتم — كما لاحظت — كم يَشيع أن يتشابه خط أخٍ مع خط أخيه، وبهذه الطريقة العجيبة والدقيقة. إذن، أقول إنه استنتاجًا من إفادة السيد بريتون، إذا كان التوقيع على الوصية مزوَّرًا، فربما زوَّره أحد أقارب المتوفَّى. والقريب الوحيد الذي تحوم حوله الشكوك هو أخوه جون.

ولذلك تشير كل الوقائع إلى أن جون بلاكمور هو الشخص الذي سكن الشقة، وبناءً عليه فأنا أتخذ هذا الرأي باعتباره فرضية منطقيَّة.»

اعترض السيد وينوُود: «ولكن هذا كله تخمين.»

قال ثورندايك: «ليس تخمينًا. بل فرضية. إنه استدلال استقرائي كالذي نستخدمه في البحث العلمي. بدأت بفرضية تجريبية بَحتة مفادها أن الشخص الذي وقَّع على الوصية ليس جيفري بلاكمور. افترضت هذا، ويمكن القول إنني لم أُصدقه حينذاك، ولكني اعتبرته رأيًا محتمَلًا يستحق أن يمر باختبار. وبناءً على ذلك، أخضعته للاختبار مع كل واقعة جديدة لأَتَبين: هل الاقتراح «صحيح أم خطأ؟» ولما أشارت كل الوقائع إلى أنه «صحيح» ولم تُشر أي واقعة إلى أنه «خطأ»، زادت نسبة الاحتمالية بوتيرة سريعة للغاية. فقد تضاعفت نِسَب الاحتمال. إنها طريقة سليمة تمامًا؛ لأن المرء يعلم أنه إذا كانت الفرضية صحيحة، فإنها ستقوده — عاجلًا أم آجلًا — إلى حقيقةٍ حاسمةٍ يمكن من خلالها إثبات صحتها.

نستأنف عرض الحجة. الآن، نحن أمام افتراض أن جون بلاكمور كان المستأجِر في مجمع نيو إن، وأنه انتحل شخصية جيفري. لنبدأ التفكير من هذه النقطة ونرَ ما الذي تؤدِّي إليه.

إذا كان المستأجر في مجمع نيو إن هو جون، فلا بد أن جيفري كان في مكان ما؛ حيث إن اختفاءه في مجمع نيو إن واضح أنه مستحيل. لكنه لا يمكن أن يكون بعيدًا؛ لأنه يجب التمكُّن من إظهاره في مدة قصيرة متى تطلَّب موت السيدة ويلسون إظهار جثته. ولكن إذا كان إظهاره ممكنًا، فلا بد أن يكون شخصه في يد جون وتحت تحكُّمه. ما كان ليتحرك بحرية؛ لأن من المحتمل أن يراه أحد أو يتعرَّف عليه. وما كان يُترك في مؤسسة أو مكان يمكن أن يتواصل فيه مع غرباء. ومن ثم، يجب أن يكون في مكان أشبه بالسجن. ولكن يصعب حبس رجل بالغ في منزل عادي. فهذا الإجراء ينطوي على مخاطر اكتشاف المكان واستخدام العنف الذي يترك آثارًا على الجسم، وهو ما قد يُكتشف ويعلَّق عليه في التحقيق. فما الطريقة البديلة التي يمكن استخدامها؟

الطريقة الأكثر بداهةً هي إبقاء السجين في حالة ضعف تُلزمه فراشه. ولكن هذا الضعف لا يمكن تحقيقه إلا بمجاعة، أو تقديم طعام غير مناسب، أو تجرُّع سمٍّ بطيء المفعول. من هذه البدائل، السم هو الأنسب والأكثر قابليةً لحساب التأثير، وتزيد هذه القابلية حين يكون بجرعات محسوبة. ومن ثَم فإن الاحتمالات تصُبُّ في كفة التسمُّم البطيء المفعول.

بمجرد الوصول إلى هذه المرحلة، تذكرت حالة فريدة ذكرها جيرفيس لي ورأيت أنها توضِّح هذه الطريقة. ففي طريق عودتنا إلى المنزل، سألته عن بعض التفاصيل الإضافية؛ ومن ثَم أعطاني وصفًا تفصيليًّا للمريض والملابسات التي أحاطَت به. كانت المحصِّلة مذهلةً إلى حدٍّ بعيد. فقد نظرت إلى تلك الحالة على أنها مجرد مثالٍ توضيحي، ورجوت أن أدرسها بهدف استنباط الاقتراحات التي تنطوي عليها. لكن حين سمعت روايته، بدأت أشكُّ أن ثمة شيئًا أبعد من مجرد التماثُل في الطريقة. بدا وكأن مريضه — السيد جريفز — هو جيفري بلاكمور بالفعل.

التشابُه بينهما كبير. والمظهر العام لمريضه يتوافق تمامًا مع وَصْف السيد ستيفن لعمه جيفري. فالمريض مصاب بالقزحية الرعاشة في العين اليُمنى، وواضح أنه تعرَّض لخلع العدسة البلورية. ولكن بناءً على رواية السيد ستيفن، فإن عمه فقد بصره في العين اليُمنى فجأة بسبب سقوط، فقد رأيت أن جيفري أيضًا تعرض لخلع العدسات؛ ومن ثَم أصيب بالقزحية الرعاشة في العين اليمنى. لا يخفى أن المريض — جريفز — يعاني ضعفًا في عينه اليسرى، وهذا ما أثبتته العلامات خلف أذنه التي تركتها ذراع نظارته الخطَّافية؛ حيث إن الأذرع الخطَّافية ليست موجودة إلا في النظارات المخصصة للارتداء الدائم. ولكن جيفري يُعاني ضعفًا في إبصار عينه اليسرى ويستعمل نظارة على الدوام. وأخيرًا، كان المريض جريفز يعاني تسمُّمًا مُزمنًا بالمورفين، وعُثر على المورفين في جثة جيفري.

ومرة أخرى، بدا لي أن المصادفات كثيرة جدًّا.

يمكن الإجابة عن سؤال ما إذا كان جريفز وجيفري شخصًا واحدًا أم لا بمنتهى السهولة؛ حيث إنه لو كان جريفز حيًّا، فلا يمكن أن يكون هو جيفري. إنه سؤال مهم وعزمت على التقصِّي في الإجابة عنه من دون تأخير. وفي تلك الليلة، رسمنا أنا وجيرفيس الخريطة، وفي الصباح التالي حددنا مكان المنزل. ولكننا وجدناه خاليًا ومعروضًا للإيجار. لقد هربوا، ولم نعرف أين ذهبوا.

لكننا دخلنا المنزل واستكشفناه. أخبرتكما عن البراغي والمسامير الكبيرة التي وجدناها في أبواب غرفة النوم ونوافذها، ما يدل على أن الغرفة كانت بمثابة سجن. وأخبرتكما أيضًا عن الأشياء التي وجدناها في كومة الرماد تحت شبكة المدفأة. لا أحتاج إلى التحدث الآن عن العلامات الموحية التي تُظهرها الفُرشاة اليابانية، وزجاجة الصمغ السريع المفعول، أو مادة التثبيت، ولكني سأزعجكما ببعض التفاصيل عن النظارة المكسورة. وهنا، وصلنا إلى الحقيقة الحاسمة التي — كما قلت — كل الاستدلال الاستقرائي السليم يقود المرء إليها عاجلًا أم آجلًا.

كانت النظارة ذات نمط غريب. فالإطارات من النوع الذي ابتكره السيد ستوبفورد من مورفيلدس، ومعروف أن هذا الإطار من ابتكاره. العدسة اليمنى ذات زجاج عادي، وهذا الأمر طبيعي في حالة إصابة العين بالعمى أو عدم الحاجة إليها. كانت العدسة مهشَّمة، ولكن خصائصها واضحة. وجدنا أن عدسة العين اليسرى ذات سُمك أكبر، ولحسن الحظ أنها لم تكن مهشمة كثيرًا؛ ومن ثم تمكنت من اختبار انكسار الضوء فيها.

حين وصلت المنزل، جمعت شظايا النظارة مع بعضها، وقست الإطارين بعناية كبيرة، واختبرت زجاج العدسة اليسرى، وكتبت الوصف الكامل وكأن جرَّاحًا هو الذي كتبه إلى صانع النظارات. وقد توصلت إلى نتيجة، وسأطلب منكما أن تدوِّناها.

النظارة مخصَّصة لأن تُستعمَل بشكل دائم. الإطار من المعدن، من نمط ستوبفورد، والحوافُّ مقوَّسة، والجسر عريض بطلاء ذهبي. المسافة بين المركزَين ٦٫٢ سنتيمترات، وأقصى طول للأذرع ١٣٫٣ سنتيمترًا.

زجاج العدسة اليُمنى زجاج عادي.

العدسة اليُسرى كُروية بمقاس −٥٫٧٥ ديوبتر، وذات محور أسطواني بمقدار ٣٥ درجة ومقاس −٣٫٢٥ ديوبتر.

تَرَون أن النظارة ذات صفاتٍ خاصة، ويبدو أنها تمنحنا فرصة جيدة للتعرُّف على هُوية صاحبها. وأظن أن إطارات ستوبفورد لا تصنعُها سوى شركة بصريات واحدة في لندن، وهي باري آند كوكستون الكائنة في شارع ريجينت. ولذلك كتبت إلى السيد كوكستون؛ حيث إنه يعرفني، وسألته إن كان قد ورَّد نظارة إلى الراحل جيفري بلاكمور المحترم — وها هي نسخة من خطابي — وإن كان قد ورَّد له واحدة، طلبت منه أن يعطيني مواصفاتها بدقة، بالإضافة إلى اسم طبيب العيون الذي وصفها له.

رد في هذا الخطاب الذي أرفقته مع نسخة خطابي، وقال إنه ورَّد نظارة إلى السيد جيفري بلاكمور منذ قرابة أربع سنوات، ووصفها على النحو التالي. النظارة مخصَّصة للاستخدام الدائم وإطارها معدني بنمط ستوبفورد، وحوافها مقوَّسة، وطول الذراع شاملًا الأطراف المقوسة يبلغ ١٣٫٣ سنتيمترًا. الجسر عريض وذو طلاء ذهبي، وقد تشكَّل حسب الرسم التخطيطي المرفَق بالروشتة الطبية. المسافة بين المركزين ٦٫٢ سنتيمترات.

«زجاج العدسة اليمنى زجاج عادي.

العدسة اليسرى كُروية بمقاس −٥٫٧٥ ديوبتر، وذات محور أسطواني بمقدار ٣٥ درجة ومقاس −٣٫٢٥ ديوبتر.

أوصاف النظارة حددها السيد هيندلي القاطن في شارع ويمبول.»

ترون أن وصف السيد كوكستون يتطابق مع وصفي. ولكن حتى أتأكد أكثر، كتبت إلى السيد هيندلي أسأله أسئلة محدَّدة، وقد أجاب عنها على النحو التالي:

أنت على حق. أصيب السيد جيفري بلاكمور بحالة القزحية الرعاشة في عينه اليمنى (ما يعني أنها عمياء عمليًّا)، نتيجة لخلع العدسة. كان بؤبؤ العين كبيرًا للغاية، وبالتأكيد لم يصغر حجمُه.

من ثم أصبح أمامنا ثلاث حقائق مُهمة. الحقيقة الأولى هي أن النظارة التي عثرنا عليها في كينينجتون لين لا شك أنها نظارة جيفري؛ لأنه من غير المحتمل أن يكون هناك نظارة متطابقة تمامًا مع نظارة جيفري، ولا أن يكون هناك وجه متطابق تمامًا مع وجه جيفري. الحقيقة الثانية هي وصف جيفري يتطابق تمامًا مع وصف الرجل المريض المدعو جريفز على حد وصف الدكتور جيرفيس، والحقيقة الثالثة هي أنه حين رأى السيد هيندلي جيفري، لم يرَ عليه علامات إدمان المورفين. وسوف تتفقان معي أن الحقيقتين الأولى والثانية تحدِّدان هوية صاحب النظارة تمامًا.»

قال مارشمونت: «نعم، أظن أنه يجب الاعتراف بهُوية صاحب النظارة بأنها حاسمة، على الرغم من أن الدليل من النوع الذي يلفت انتباه رجل الطب أكثر مما يلفت انتباه رجل القانون.»

قال ثورندايك: «ستتخلَّى عن هذه الشكوى حين تعلم الدليل التالي. إنه مما يلفت انتباه رجل القانون، كما ستسمع. منذ بضعة أيام، كتبت إلى السيد ستيفن أسأله إن كانت معه صورة لعمه جيفري. ووجدت معه صورة، وقد أرسلها لي بدوره. ثم عرضت الصورة على الدكتور جيرفيس وسألته إن كان قد سبق له أن رأى الشخص الذي فيها. بعدما تفحصها منتبهًا، ومن دون أي إشارة مني، تعرف على صاحب الصورة بأنه الرجل المريض المدعو جريفز.»

تعجب مارشمونت: «حقًّا! هذا الدليل بالغ الأهمية. هل أنت مستعدٌّ للحلف على هوية صاحب الصورة يا دكتور جيرفيس؟»

أجبته: «ليس عندي أدنى شك بأن صاحب الصورة هو السيد جريفز.»

قال مارشمونت وهو يفرك يده مبتهجًا: «ممتاز! هذا سيُقنع هيئة المحكمة أكثر. أرجوك استمر يا دكتور ثورندايك.»

قال ثورندايك: «هنا ينتهي الجزء الأول من تحرياتي. لقد وصلنا الآن إلى حقيقة محدَّدة يمكن إثباتها؛ وهذه الحقيقة — كما ترون — تجيب من فورها عن السؤال الأساسي وهو: هل الوصية أصلية؟ لأنه لو أن الرجل الذي كان في كينينجتون لين هو جيفري بلاكمور، فإن الرجل الذي كان في مجمع نيو إن ليس جيفري. ولكنه كان الرجل الآخر الذي وقَّع الوصية. ومن ثم فإن الوصية ليست موقعة من جيفري بلاكمور؛ أعني أنها مزوَّرة. اكتملت كل عناصر القضية من الناحية المدنية، وقد أشارت بقية التحريات إلى أنه لا مفر من الملاحقة الجنائية. هل أستمر أم أن اهتمامكم مقتصر على الوصية؟»

صاح ستيفن: «اللعنة على الوصية! أريد أن أسمع كيف توصَّلت إلى النذل الذي قتل عمي العجوز البائس … وهل أفترض أنه قتل عمي؟»

أجاب ثورندايك: «أحسب أنه فعل ذلك من دون شك.»

قال مارشمونت: «إذن، سنسمع منك باقي الحجة إذا سمحت.»

قال ثورندايك: «جميل جدًّا. بالاستناد إلى الأدلة، أثبتنا أن جيفري بلاكمور كان سجينًا في المنزل الواقع في كينينجتون لين، وأن شخصًا ما انتحل شخصيته في مجمع نيو إن. وقد رأينا أن كل الاحتمالات تشير إلى جون بلاكمور. يجب الآن أن نفكر في المدعو فايس. من هو؟ وهل يمكن أن نجد رابطًا بينه وبين مجمع نيو إن بأي حال من الأحوال؟

يمكن أن نشير إلى أن فايس ذاك وسائق العربة من الواضح أنهما شخص واحد. فهما لم يُرَيا معًا قط. فحين يحضر فايس، يغيب سائق العربة حتى في الحالات التي تتطلب خدمات عاجلة مثل الحصول على ترياقٍ للسُّم. ودائمًا ما كان فايس يظهر بعد وصول جيرفيس بمدةٍ طويلة، ويختفي قبل مغادرته بمدة طويلة، وهذا الوقت في الحالتَين كافٍ لأن يتنكَّر. لكننا لا نحتاج إلى الخوض في هذه النقطة؛ لأنها ليست ذات أهمية جوهرية.

لنعد إلى فايس. من الواضح أنه أتقن التنكُّر، وهذا ما تُبيِّنه عدم رغبته في أن يُظهر نفسه حتى في ضوء الشمعة. ولكنْ ثمة دليل إيجابي في هذه النقطة، وتكمن أهميته في أنه يحمل دلالات أخرى. هذا الدليل مصدره النظارة التي استعملها فايس، وقد سمعت وصفها من جيرفيس. هذه النظارة لها خصائص بصرية غريبة حقًّا. فحين تنظر منها، ترى أن العدسة من الزجاج العادي، ولكن حين تنظر إليها، ترى أنها تتخذ شكل العدسات. وليس ثمة زجاج له هذه الخاصية سوى نوع واحد؛ وأقصد هنا خاصية أن يكون مثل زجاج الساعة العادي، بأن يكون له سطح منحنٍ ومُتَوازٍ. ولكن ما الغرض من أن يستعمل شخصٌ نظارةً عدساتُها من زجاج الساعات؟ من الواضح أن الهدف ليس تحسين الرؤية. البديل الوحيد هو التنكُّر.

تُقدم مواصفات النظارة هذه سمةً بالغة الغرابة والأهمية إلى القضية. بالنسبة إلى الغالبية العظمى ممن يستعملون النظارات بهدف التنكر أو انتحال شخصية ما، فهذا أمر بالغ البساطة والسهولة. لكن صاحب النظر السليم، لن يرى الأمر سهلًا البتة. ذلك لأنه إذا استعمل نظارةً تصلح للمصابين بطول النظر، فلن يرى من خلالها بوضوح البتة، وإذا استعمل نظارة تصلح للمصابين بقِصَر النظر، فإن الجهد الذي سيبذله كي ينظر من خلالها سيضغط على عينيه ويجهدهما، لدرجة أنه لن يرى على الإطلاق. على خشبة المسرح، يُتغلَّب على هذه الصعوبة باستخدام نظارات مصنوعة من زجاج النافذة العادي، ولكن في الواقع قد لا تصلح هذه الخدعة، فالنظارة التي تُستخدم على المسرح يمكن كشفها على الفور وتثير الشكوك.

ومن هنا يقع منتحِل الشخصية في معضِلة؛ إذا وضع نظارة حقيقية، فلا يمكنه أن يرى من خلالها، وإن وضع نظارةً مزيفةً ذات زجاج عادي، فسينكشف تنكُّره. وليس ثمة سبيل للخروج من هذه المعضلة إلا سبيل واحد، وهذا السبيل ليس مُرضيًا تمامًا، ولكن يبدو أن السيد فايس سلك هذا السبيل لأنه لا يوجد سبيل أفضل. لجأ إلى استخدام نظارة ذات زجاج ساعة مثل الذي وصفته.

والآن، ما المعلومات التي نستمدها من هذه النظارة الغريبة؟ في المقام الأول، يتأكد عندنا الرأي بأن فايس كان متنكرًا. وحين تُستخدم في غرفة منخفضة الإضاءة للغاية، فإن نظارة المسرح العادية ستَفي بالغرض. الاستدلال الثاني أن هذه النظارة صُنعت بحيث تُستعمل في ظروف إضاءة أصعب، كأن تُستعمل بالخارج على سبيل المثال. الاستدلال الثالث هو أن فايس رجل صحيح البصر، ولو كان غير ذلك، لوضع نظارة حقيقية تتناسب مع حالة بصره.

هذه استنتاجات بالمناسبة، ولعلنا نعود إليها. لكن هذا الزجاج يوحي بشيء أهم بكثير. على أرضية غرفة النوم في مجمع نيو إن، وجدت بعض شظايا لزجاج داسته أقدام. وعندما أُلصِقت قطعة أو قطعتان معًا، استطعنا أن نرسم صورة عامة للشيء الذي كان جزءًا منه. سبق أن عمل مساعدي في صناعة الساعات، وقال إن هذا الشيء هو زجاج كريستال رفيع مخصص لساعات السيدات، وكان هذا رأي جيرفيس على ما أظن. لكن الجزء الصغير المتبقي من الحافة الأصلية يقدم دليلًا من ناحيتَين على أن هذه الشظايا ليسَت من زجاج ساعة. أولًا: عند تتبع هذه القطعة من الحافة بعناية، وجدت أنَّ مُنحنَاها كان جزءًا من شكل بيضاوي، لكن زجاج الساعات اليوم أصبح دائريًّا دائمًا. ثانيًا: تُشطَف حافة زجاج الساعة من جانب واحد بحيث تُطبق عليه حافة أو إطار، أما حافة هذا الشيء فمشطوفة من الناحيتين، مثل حافة عدسة النظارة، بحيث تُثبَّت بداخل تجويف في الإطار وتثبَّت ببُرغي في الذراع. والاستنتاج الحتمي هو أن هذا الزجاج كان عدسة نظارة. ولكن إذا كان الزجاج لعدسة نظارة، فقد كان جزءًا من نظارة تتطابق مع خصائص النظارة التي وضعها السيد فايس.

تبرز أهمية هذا الاستنتاج حين ندرس الخصائص الاستثنائية لنظارة السيد فايس. فإنها لم تكن نظارة غريبة أو تسترعي الانتباه فحسب، بل ربما كانت نظارة فريدة. وربما لا توجد نظارة مماثلة لها في العالم أجمع. ومن ثم فإن العثور على شظايا الزجاج هذه في غرفة النوم، يشير إلى احتمالٍ كبير بأن السيد فايس كان في وقتٍ ما في الشقة الكائنة بمجمع نيو إن.

والآن، لنجمع أطراف هذا الجزء من الحجة. إننا نتساءل عن هوية المدعو فايس. مَن هو؟

في المقام الأول، نجده يرتكب جريمة سرية المستفيد الوحيد منها هو جون بلاكمور. وهذا يعطينا اقتراحًا مُرجحًا بأن هذا الشخص هو جون بلاكمور.

ثم نجد أن بصر ذلك الرجل كان سليمًا وكان يضع نظارة بهدف التنكُّر. المستأجر في مجمع نيو إن — الذي نكاد نجزم بأنه جون بلاكمور، وسنفترض في الوقت الحالي أنه جون بلاكمور — كان بصره طبيعيًّا وكان يضع النظارة بهدف التنكر.

لم يسكن جون بلاكمور في مجمع نيو إن، ولكن في مكان قريب منه. ولكن فايس سكن في مكان قريب من مجمع نيو إن.

لا بد أن جون بلاكمور جعل جيفري في حوزته وتحت تحكُّمه. ولكن فايس جعل جيفري في حوزته وتحت تحكُّمه.

كان فايس يرتدي نظارة محدَّدة ذات خصائص غريبة وربما فريدة. ولكن أجزاء هذه النظارة وُجدت في الشقة بمجمع نيو إن.

ومن ثم فإن الاحتمال الأكبر هو أن فايس والمستأجر في مجمع نيو إن شخص واحد، وذلك الشخص هو جون بلاكمور.»

قال السيد وينوُود: «هذه حجة منطقية إلى حد بعيد. ولكن تلاحظ يا سيدي أن ثمة شيئًا ما ينقصها.»

ابتسم ثورندايك ابتسامة لطيفة. أظنه سامح وينوُود على ما بدر منه مقابل هذا التعليق.

قال: «أنت على حق يا سيدي. ثمة شيء ما ينقصها كي تكتمل. ولهذا السبب، فإن عرض الحجة لم ينتهِ بعد. لكن يجب ألَّا ننسى شيئًا يبدو أن أهل المنطق يغفلونه في بعض الأحيان، وهو أنه على الرغم من أن نقصان شيء ما يتداخل مع البرهان المطلَق، فإنه يمكن أن يتَّسق مع درجة احتمال تكاد تبلغ حد اليقين. فكلٌّ من نظام بيرتيلون ونظام بصمات الأصابع الإنجليزي يتضمَّنان سلسلة استنتاج منطقي قد ينقصها حلقة بسيطة. ولكن الاحتمالات الأكبر تُقبَل عمليًّا على أنها مكافئة لليقين.»

وافقه السيد وينوُود على مضض، ومن ثم استأنف ثورندايك حديثه:

«وصلنا الآن إلى دليل قاطع إلى حدٍّ ما بشأن ثلاث نقاط وهي: أثبتنا أن الرجل المريض المدعو جريفز هو جيفري بلاكمور، وأن المستأجِر في مجمع نيو إن كان جون بلاكمور، وأن المدعو فايس كان أيضًا جون بلاكمور. والآن، علينا أن نثبت أن جون وجيفري كانا معًا في الشقة بمجمع نيو إن ليلة وفاة جيفري.

نعلم أن شخصين فقط لا ثالث لهما أتيا من كينينجتون لين إلى مجمع نيو إن. ولكن أحدهما هو المستأجِر في مجمع نيو إن؛ أي هو جون بلاكمور. فمَن يكون الآخر؟ معروف لنا أن جيفري كان في كينينجتون لين. وقد عُثر على جثته في صباح اليوم التالي في الشقة بمجمع نيو إن. وليس ثمة شخص معروف أنه أتى من كينينجتون لين، وليس ثمة شخص معروف أنه وصل إلى مجمع نيو إن. نستدل من ذلك — عبر الاستقصاء — أن الشخص الثاني — أي المرأة — كان جيفري.

أقول مرة أخرى، جيفري أجبره جون على المجيء من كينينجتون إلى مجمع نيو إن. ولكن جون كان مُنتحِلًا شخصية جيفري، وقد أتقن التنكُّر حتى يشبهه إلى حد كبير. وإذا لم يتنكَّر جيفري، فلن يكون ثمة فرق في الشبه بينهما، وهذا من شأنه أن يُلحَظ بمنتهى السهولة ويثير الشكوك بعد موت أحدهما. ولذلك يجب أن يتنكَّر جيفري بطريقة ما، وهل من تنكُّر أبسط أو أكثر فاعلية من الطريقة التي أشرت إلى استخدامها؟

لم يكن هناك مفر من تلك الطريقة؛ حيث لا بد لشخص — وهو سائق العربة — أن يعلم أن جيفري كان بمفرده حين أتى إلى مجمع نيو إن في تلك الليلة. ولو تسرَّبت الحقيقة وعلم أحد أن رجلًا رافقه إلى الشقة، فربما تُثار الشكوك، وهذه الشكوك من شأنها أن توجه أصابع الاتهام إلى جون؛ حيث إنه المستفيد المباشر من موت أخيه. لكن إذا شاع أن جيفري كان برُفقة امرأة، فستقِل الشكوك، ولن تشير أصابع الاتهام إلى جون بلاكمور.

ومن ثم فإن كل الاحتمالات العامة تُشير إلى فرضية أن تلك المرأة هي جيفري بلاكمور. لكن ثمة دليل إيجابي يدعم هذا الرأي بقوة. حين تفحَّصت ملابس المتوفَّى، وجدت في سرواله تجعيدًا أفقيًّا في كل ساق وكأن السروال شُمر حتى الركبة. ويُفهَم لماذا كان الأمر كذلك إذا افترضنا أن السروال لُبس تحت تنورة وشُمرت ساقاه للأعلى حتى لا تُرى بالصدفة. وإلا، فما كان لتشميرهما أي معنًى.»

قال مارشمونت: «أليس غريبًا أن يسمح السيد جيفري لنفسه أن يرتدي ملابس بهذه الطريقة اللافتة للنظر؟»

أجاب ثورندايك: «لا أظن ذلك. لا يوجد سبب يجعلنا نفترض أنه كان يعلم الطريقة التي كان يرتدي ملابسه بها. فقد سمعت وصف جيرفيس لحالته؛ إنه أشبه بإنسان آلي. وتعرفون أنه لا يكاد يرى من دون النظارة، ولا يمكن أن يكون قد وضعها؛ حيث إننا وجدناها في المنزل الكائن بكينينجتون لين. ربما كان رأسه ملفوفًا بالحجاب، ثم ارتدى التنُّورة والعباءة بعد ذلك، ولكن على أي حال، فقد جردته حالته من قوة الإرادة عمليًّا. ليس معي غير هذا الدليل على أن المرأة المجهولة كانت جيفري. الدليل ليس قاطعًا، ولكنه مُقنِع بالقدر الذي يخدم غرضنا، حيث إن رفع قضية ضد جون بلاكمور لا يعتمد على هذا الدليل.»

قال ستيفن: «هل أقول إن القضية التي ترفعها ضده بتُهمة القتل؟»

«لا شك. وستُلاحظون أن الأقوال التي أدلى بها الشخص المفترض أنه جيفري باتت دليلًا بالغ الأهمية؛ حيث إنها تشير إلى الانتحار. وبناءً على ما نعرف، الإعلان عن تبييت النية للانتحار يصير إعلانًا عن تبييت النية لارتكاب جريمة قتل. إنه يَنفي نفيًا قاطعًا ما كان يهدف إلى إثباته؛ وهو أن جيفري مات بيده.»

قال ستيفن: «نعم، أفهم ذلك»، وبعدما سكت للحظات سأل: «هل تعرفت على السيدة شاليبام؟ فأنت لم تذكر لنا شيئًا عنها.»

أجاب ثورندايك: «لقد اعتبرتها خارج القضية؛ لأنها لا تهمني كثيرًا. فقد كانت مجرد مساعد؛ ومن ثم صببت اهتمامي على المجرم الأساسي. ولكن بالطبع ستُسحَب رجلُها إلى القضية. فالدليل الذي يُدين جون بلاكمور سيدينها. ولذا لم أشغل نفسي بهُويتها. إن كان جون بلاكمور متزوجًا، فربما تكون زوجته. هل نما إلى علمك أنه تزوَّج؟»

«نعم، ولكن السيدة جون بلاكمور لا تشبه السيدة شاليبام، إلا في الحوَل الطفيف في عينها اليسرى. إنها امرأة سمراء البشرة وحاجباها كثيفان.»

«هذا يعني أنها تختلف عن السيدة شاليبام في صفاتٍ يمكن تغييرها اصطناعيًّا، وتشبهها في صفةٍ واحدةٍ لا يمكن تغييرها. هل تعرف أن اسمها الأول هو بولين؟»

«نعم، إنه هو. كانت تُسمَّى الآنسة بولين هاجنبيك، وكانت عضوة في فرقة مسرحية أمريكية. لماذا تسأل؟»

«الاسم الذي سمعه جيرفيس حين كان جيفري البائس يكافح كي ينطقه، يبدو لي أنه يشبه الاسم بولين أكثر من أي اسم آخر.»

قال مارشمونت: «ثمة نقطة صغيرة تحيِّرني. أليس من اللافت أن البواب لم يلاحظ الفرق بين حجم جسم جيفري وجسم الرجل الذي رآه بعينيه؛ حيث إنه لا بد من وجود فرق بين مظهرهما في النهاية؟»

أجاب ثورندايك: «يسرُّني أنك طرحت هذا السؤال؛ حيث إنني واجهتُ هذه الصعوبة نفسها في بداية القضية. لكن بعد التفكير في المسألة، ارتأيت أنها صعوبةٌ خيالية، وهذا على افتراض — كما نفعل الآن — أن الشبه بين الرجُلين كان كبيرًا. ضع نفسك مكان البواب وتتبَّع عملياته الذهنية. يأتيه خبر أن رجلًا ميتًا مستلقيًا على الفراش في شقة السيد بلاكمور. من الطبيعي أن يفترضَ أنَّ الميت هو السيد بلاكمور، الذي — بالمناسبة — لمَّح إلى الانتحار ليلة البارحة فقط. وبهذه الفكرة، يدخل إلى الشقة ويرى رجلًا شديد الشبه بالسيد بلاكمور، ويرتدي ملابس السيد بلاكمور، وينام على فراش السيد بلاكمور. وفكرة أن الجثة ربما تكون لشخصٍ آخر لم تَرِد على ذهنه مطلقًا. وإن لاحظ فرقًا في المظهر، فسيَعزيه إلى تأثيرات الموت؛ حيث إن الكل يعلم أن مظهر الإنسان ميتًا يختلف قليلًا عن مظهره حيًّا. وأنا أعدُّها دليلًا على الدقة البارعة من جانب جون بلاكمور في أنه حسب لكل شيءٍ بمنتهى الذكاء؛ حيث إنه لم يحسب العملية الذهنية من جانب البواب فحسب، بل أيضًا التفكير الخاطئ الذي قد يبنيه أيُّ شخصٍ على استنتاجات البواب. نظرًا لأن الجثة كانت في الواقع لجيفري، وقد تعرَّف عليها البواب على أنها جثة المستأجر لديه؛ فقد افترض الجميع أنه لا يوجد أيُّ شكٍّ ممكن حول هُوية جيفري بلاكمور ومستأجِر مجمع نيو إن.»

خيَّم صمت للحظات ثم سأل مارشمونت:

«هل أعتبر أننا سمعنا الدليل كاملًا؟»

قال ثورندايك: «نعم. انتهت القضية.»

سأل ستيفن مُتلهِّفًا: «هل أعطيت الشرطة أي معلومات؟»

«نعم. بمجرد أن حصلت على إفادة سائق العربة المدعو ريدلي، وشعرت أن الأدلة صارَت كافيةً لرفع دعوى، اتصلت بشرطة سكوتلاند يارد وتحدَّثت مع مساعد المفوض. والقضية صارت بين يدَي المشرف ميلر، من قسم التحقيقات الجنائية، وهو ضابط شديد النشاط والحيوية. لقد كنت أتوقع أن أسمع أن أمر الضبط والإحضار قد نُفذ؛ لأن السيد ميلر عادةً ما يكون دقيقًا جدًّا في إبقائي على علمٍ بتقدُّم القضايا التي أقدمها له. ولا شك أننا سنسمع خبرًا في الغد.»

قال مارشمونت: «في الوقت الراهن، يبدو أن القضية قد خرجت من أيدينا.»

قال السيد وينوُود: «ولكني سأقدم إنذارًا قضائيًّا.»

حاجَّه مارشمونت: «يبدو أنه لا حاجة إلى هذا الإجراء. الأدلة التي سمعناها كافية لضمان الإدانة، وسيظهر الكثير حين تتحرى الشرطة في القضية. وبالطبع فإن الإدانة بجريمتَي القتل والتزوير ستُبطل الوصية الثانية.»

كرر السيد وينوود: «ولكني سأقدم إنذارًا قضائيًّا.»

عندما أبدى الشريكان ميلًا للتجادل بشأن هذه المسألة، اقترح ثورندايك أن يناقشاها فيما بعدُ بناءً على ما ستُبينه الأحداث اللاحقة. بناءً على هذا التلميح — حيث كاد الوقت يبلغ منتصف الليل — تأهَّب زوَّارنا للمغادرة، وكانوا في الواقع يشقُّون طريقهم نحو الباب عندما دق الجرس. فتح ثورندايك الباب على مصراعيه وتعرف على الزائر وحيَّاه بحرارة ظاهرة.

«أها! السيد ميلر، كنا نتحدث عنك لتوِّنا. دعني أعرفك على السيد ستيفن بلاكمور ومحاميَيه السيد مارشمونت والسيد وينوُود. أظنُّك تعرف الدكتور جيرفيس.»

أومأ الضابط لأصدقائنا وعلق قائلًا:

«يبدو أنني أتيت في الوقت المناسب. ولو تأخَّرت بضع دقائق، لما لحقت بهؤلاء السادة. لا أعرف ما تقولون بشأن ما لديَّ من أخبار.»

صاح ستيفن: «أتمنى أنك لم تسمح لهذا النَّذل بالهرب.»

قال المشرف: «للأسف، إنه ليس بيدي ولا بيدكم، وكذلك المرأة. ربما الأفضل أن أخبركم بما حدث.»

قال ثورندايك وهو ينقل الكرسي للضابط: «تفضل بالجلوس.»

جلس المشرف في الكرسي وكأنه مر بيوم طويل ومجهِد؛ ومن ثم بدأ يسرد قصته.

«بمجرد أن حصلنا على المعلومات التي لديك، حصلنا على أمر ضبط وإحضار لكلَيْهما، ثم ذهبنا من فورنا أنا والمفتش بادجر ورقيب إلى شقتهما. وعلمنا من الخادم أنهما خارج المنزل، ولا يُتوقَّع عودتهما قبل ظهر اليوم. أبقينا المبنى تحت المراقبة، وفي الوقت المحدد تقريبًا من صباح اليوم، وصل إلى الشقة رجل وامرأة تنطبق عليهما الصفات. دخلنا في عقبهما ورأيناهما يدخلان المصعد، وكدنا ندخل نحن أيضًا، ولكن الرجل ضغط على الزر وصعد. حينئذٍ لم يسعنا إلا الركض على السلم، وبالطبع ركضنا بسرعة وكأننا في سباق، ولكنهما وصلا إلى طابق شقتهما أولًا، وقد وصلنا في الوقت المناسب كي نراهما وهما يدخلان ويغلقان الباب من خلفهما. بدا لنا أننا حبسناهما؛ حيث إنه لا مَهرَب لهما من النوافذ من هذا الارتفاع؛ ومن ثم أرسلنا الرقيب كي يأتيَ بصانع أقفالٍ حتى يفتح القفل أو الباب بالقوة، ونحن ظللنا ندقُّ جرس الباب.

بعدما غادر الرقيب بنحو ثلاث دقائق، وجدت نافذة عند البسطة، نظرت منها ورأيت عربةً متوقفة في الاتجاه المقابل للمبنى. أخرجتُ رأسي من النافذة، وللأسف رأيت صاحبَينا يركبان العربة. وكأن الشقة بداخلها مصعد صغير متصل بالمطبخ، وقد نزلا منه واحدًا تلو الآخر.

بالطبع نزلنا على السلم مُسرعَين وكأننا بهلوانان، ولكن حين وصلنا إلى الطابق الأرضي، وجدنا أن العربة قد انطلقت مسرعة. ركضنا في شارع فيكتوريا ورأينا العربة في منتصف الشارع وهي تسرع وكأنها في سباق. تمكنَّا من أخذ عربة أخرى، وأخبرنا السائق أن يُبقيَ العربة التي أمامنا في مرمى بصره، وانطلقنا بسرعة كبيرة، وبدأنا بطول شارع فيكتوريا وبرود سانكتشواري، ثم عبرنا ساحة البرلمان، ثم إلى جسر ويستمِنستَر ثم بطول طريق يورك، وأبقينا العربة الأخرى في مرمى بصرنا، ولكننا لم نتمكَّن من الاقتراب منها ولو حتى قيد بوصة. بعد ذلك، انعطفنا إلى محطة وُوتَرلُو، وبينما نصعد المنحدَر قابلنا عربة أخرى تَنزله، وحين قبَّل السائق يده وابتسم لنا، خمَّنا أنه سائق العربة التي كنا نتعقَّبها.

لكن الوقت لم يتَّسع لطرح الأسئلة. إنها محطةٌ غريبة؛ حيث إنها مليئةٌ بعددٍ كبير من المخارج، وبدا لي أن طريدتنا قد هربت. ولكني بذلت محاولة. تذكرت أن القطار السريع المتجه إلى ساوثامبتون سيقوم في هذه الساعة؛ ومن ثم أخذت طريقًا مختصرًا وعبرت خطوط السكك الحديدية، ووصلت إلى الرصيف الذي سيقوم منه. وحين وصلنا أنا وبادجر عند بداية الرصيف، وكانت مؤخرة القطار أمامنا بمسافة ٣٠ ياردة، رأينا رجلًا وامرأة يركضان أمامنا. ثم أطلق الحارس صفارته وبدأ القطار يتحرك. تمكَّن الرجل والمرأة من التشبُّث بإحدى العربات الخلفية وأسرعنا أنا وبادجر على الرصيف كالمجانين. حاول حمَّال أن يعترض طريقنا ولكن بادجر طرحه أرضًا، وأسرع كلانا أكثر من ذي قبل، وقفزنا على عتبة عربة الحارس حين بدأ القطار يأخذ سرعته. لم يستطع الحارس أن يغامر بإنزالنا؛ ومن ثَم سمح لنا بالدخول إلى عربته، وقد ناسبنا هذا الموقع كثيرًا حيث استطعنا مراقبة جانبَي القطار من نقطة المراقبة. وقد راقبنا بالفعل، ولكن رآنا صاحبُنا الذي في العربات الأمامية. فقد كان رأسه خارج النافذة حين قفزنا على عتبة العربة.

ولكن لم يحدث شيء حتى توقَّف القطار في محطة ساوثامبتون ويست. وهناك، أؤكد أننا لم ندَّخر وقتًا في القفز من العربة، حيث من الطبيعي أن نتوقَّع أن صاحبَينا سيخرجان بسرعة. ولكنهما لم يفعلا. راقب بادجر الرصيف وظللت أنظر كي أتأكد من أنهما لم ينزلا من الجانب الآخر، عبر خطوط السكك الحديدية. ولكن لم نرَ أي علامة لهما. ثم ركبت القطار إلى العربة التي رأيتهما يدخلانها. وقد وجدتهما، ولكن خُيِّل لي أنهما نائمان في الزاوية بجوار النافذة الجانبية، الرجل يميل إلى الخلف فاغرًا فاه والمرأة تستند إليه ورأسها على كتفه. لقد شعرت بالخوف حين اقتربتُ كي أنظر إليهما؛ حيث إن عينيها كانتا مُغمَضتَين قليلًا، وخُيِّل إليَّ أنها تنظر نحوي بنظرة مُرعبة، ولكني اكتشفت فيما بعد أن نظرتها تلك سببها الحوَل في عينها.»

قال ثورندايك: «هل أفترض أنك وجدتهما ميتَين؟»

«نعم يا سيدي. كانا جثتَين هامِدتَين، ووجدت هذَين في أرضية العربة.»

أخرج أُنبوبَين زجاجيَّين صغيرَين وأصفرَين، وكلٌّ منهما عليه مُلصَق مكتوب عليه «أقراص تحت الجلد. نترات الأكونيتين بتركيز ١ / ٦٤٠  قمحة».

تعجَّب ثورندايك: «أها! يبدو أن هذا الرجل كان على علمٍ واسعٍ بالسموم القَلَوية، ويبدو أنهما كانا مستعدَّين لحالات الطوارئ. احتوى كل أنبوب من هذَين الأنبوبَين على ٢٠ قرصًا، ويبلغ تركيزها جميعًا ٣٢ حبة؛ ومن ثم يمكننا افتراض أنهما ابتلعا جرعةً تُساوي ١٢ ضعفًا من الجرعة الطبية. ولا بد أنهما ماتا في غضون دقائق، وبطريقة رحيمة أيضًا.»

صاح ستيفن: «موت رحيم أكثر مما يستحقَّان حين أُفكر في المأساة التي ألحقوها بالعم البائس العجوز جيفري. ولو بيدي لسلمتُهما إلى حبل المشنَقَة.»

قال ميلر: «هكذا أفضل يا سيدي. والآن، لا حاجة إلى طرح أي أسئلة تفصيلًا في التحقيق. فانتشار خبر المحاكَمة بتهمة القتل لن يسرَّك. ليت الدكتور جيرفيس قد أبلغني بالأمر بدلًا من ذلك الضابط المرتبِك والمفرِط في الحذر، ولكن يجب ألَّا أنتقد زملائي الضباط، فمن السهل أن يتحلَّى المرء بالحكمة بعد مرور الموقف.

تُصبحون على خيرٍ أيها السادة. هل أقول إن هذا الحادث يقدِّم لك حلًّا بشأن الوصية؟»

وافقه السيد وينوُود: «أجل، إنه يقدم الحل بالفعل. ولكني سأرفع إنذارًا قضائيًّا إلى المحكمة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤