حديقة الحيوان

مسودات الحياة

تأملْ تَرَ الأحياءَ عُجمًا كأنها
مسودةٌ للخلق لمَّا تُنَقَّحِ
ويا رُبَّ سرٍّ في كلام مسودٍ
يعود فيخفى في الكلام المصححِ
أراها كإخوانٍ تفاوت حظهم
وميراثهم، من سابقين ورُزَّحِ
فمن حائزٍ نُعمى أبيه وأمه
ومن خاسر رفديهما أو مطرَّحِ
ومن يلقهم يلق الحياة كأنها
حَبَتْ طفلة من مهدها المترجِّحِ

رأيٌ واحدٌ

في وضعين مختلفين
زعموا الإنسان قردًا
قد ترقى وتحلَّى
وأناس يزعمون الـ
ـقرد إنسانًا تدلَّى
هو رأيٌ نقلـ
ـبه علوًا وسفلا

خنزير أعجف

فيه خنزيريةٌ ظاهرة
ما نفاها عنه ذاك العجفُ
هو خنزيرٌ ولكن شانه
جسدٌ في وضعه منحرفُ

خمارويه وحارسه

(كان لخمارويه بن أحمد بن طولون أسد عَوَّدَهُ أن يجلس بين يديه إذا أكل، وأن يسهر إذا نام، وقد سافر مرة وتركه بمصر فقتل في دمشق، فَأَعْجِبْ لرجل حرسته السباع واغتاله الناس!)

ركنتَ إلى السباع خمارويه
ولم تركن إلى أحدٍ سواها
تحوطك نائمًا وتبيت تخشى
قلوب الناس أن يطغى أذاها
أليس من العجائب أن ليثًا
يذود رعيةً عمن رعاها
وأن يحمي ابن آدم من أخيه
سباعٌ جَلَّ أن يُدعى أخاها
وثقت بذي حفاظ ليس يرشى
ولا ينسى الحقوق لمن حباها
وهم قتلوك حين وثقت منهم
وكم حفظ العهود فما اعتداها
ولو شهد اغتيالك في دمشق
لضرَّج بالجناية مَنْ جناها

العُقاب الهرم

يهم ويعييه النهوض فيجثم
ويعزم إلا ريشه ليس يعزمُ
لقد رنَّق الصرصور وَهْوَ على الثرى
مُكِبٌّ وقد صاح القَطَا وهو أبكم
يُلَمْلِمُ حدباء القدامى كأنها
أضالع في أرماسها تتهشم
وأثقله حمل الجناحين بعدما
أقلاه وَهْوَ الكاسر المتقحم
جناحين لو طارا لنصت فدومت
شماريخ رضوى واستقل يَلَمْلَمُ
ويلحظ أقطار السماء كأنه
رجيم على عهد السموات يندم
ويغمض أحيانًا فهل أبصر الردى
مقضًّا عليه أم بماضيه يحلم
إذا أدفأته الشمس أغفى وربما
توهمها صيدًا له وَهْوَ هيثم
لعينيك يا شيخ الطيور مهابةٌ
يفر بغاثُ الطير عنها ويُهزمُ
وما عجزت عنك الغداة وإنما
لكل شبابٍ هيبةٌ حين يهرم

عيش العصفور

حطَّ على الغصن وانحدر
أقلَّ من لمحة البصرْ
مغردًا قَطُّ ما توانى
مرفرفًا قَطُّ ما استقر
يلمس أيكًا بُعَيْدَ أيـ
ـكٍ كأنما يلمس الإبر
مطاردًا لا إلى طري
مسابقًا لا إلى وطر
كخفة الطفل في صباه
لكنها خفة العُمُرْ
وروده نغبة فأخرى
مَنْ خَوَّفَ الطائرَ الصَّدر؟
يقارب السُّحْبَ ثم يهوي
يبشر الروض بالمطر
أصدق من سار في سرار
بين الحيا العذب والشجر
ويستحث الرياح ضربًا
بخافقيه فَتُبْتَدَرْ
لله ما أهول المطايا
وأضعف الراكب الأشر
طار وليدًا شيخًا
بين البساتين والغُدُر
لا أعين الماء ناضباتٌ
ولا خلا الروض من ثمر
أَخْبَرُ بالنضج مقلتاه
ممن سقى الحب أو بذر
سَلْهُ عن الجند والزمر
سله عن الملك والسُّرَرْ
لم يأته عنهمُ بلاغٌ
ولا دليلٌ ولا خبر
هذا هو العيش فاغبطوه
عليه يا أيها البشر
هذا هو العيش فارحموه
عليه واستخبروا الغير
فإنْ سألتم فسائلوه
عن صَوْلة الصقر إن كسر
وحيلة الدَّبْقِ في ثراه
وغيلة الحية الذكر
هناك يَنْزُو له فؤادٌ
لا يجهل الريب والحذر
لم يخف عن أعين الليالي
ولا توارى من الصغر
حبائل الدهر قانصات
مَنْ طار أو غاص أو خطر
من عاش يومًا أو بعض يومٍ
يعلم ما ضربة القدر
أليس هذي الحياة ذخرًا
وحارس الذخر في خطر؟

الكروان

هل يسمعون سوى صدى الكروان
صوتًا يرفرف في الهزيع الثاني
من كل سارٍ في الظلام كأنه
بعض الظلام تضله العينانِ
يدعو إذا ما الليل أطبق فوقه
موج الدياجر دعوة الغرقان
ويشبُّ في الجو السحيق كأنه
يبغي النجاة إلى حمى كيوان
عاف التجمل فَهْوَ في جلبابه
فان يرتل كالأبيل الفاني
ما ضَرَّ مَنْ غنَّى بمثل غنائه
أنْ ليس يبطشُ بطشةَ العقبان
إن المزايا في الحياة كثيرةٌ
الخوفُ فيها والسُّطَا سِيَّانِ

•••

يا محيي الليل البهيم تهجُّدًا
والطير آويةٌ إلى الأوكان
يحدو الكواكب وَهْوَ أخفى موضعًا
من نابغ في غمرة النسيان
قل يا شبيه النابغين إذا دعوا
والجهل يضرب حولهم بجران
كم صيحة لك في الظلام كأنها
دقات صدرٍ للدجنَّة حان
هُنَّ اللغاتُ ولا لغات سوى التي
رفعت بهن عقيرة الوجدان
إن لم تقيدها الحروف فإنها
كالوحي ناطقة بكل لسان
أغنى الكلامَ عَنِ المقاطعِ واللُّغَى
بثُّ الحزين وفرحةُ الجذلان
… … … … …
… … … … …

ما أحب الكروان

ما أحب الكروان!

هل سمعت الكروان؟!

موعدي يا صاحبي يوم افترقنا
حيث كانت جيرةٌ أو حيث كنا
هاتفٌ يهتف بالأسماع وهنا
هو ذاك الكروان وَهْوَ هذا الكروان!

•••

الكراوين كثير أو قليل
عندنا أو عندكم بين النخيل
ثَمَّ صوتٌ عابرٌ كلَّ سبيل
هو صوت الكروان في سبيل الكروان
لي صدى منه فلا تنس صداك
هو شاديك بلا ريب هناك
فإذا ما عسعس الليل دعاك
ذاك داعي الكروان هل أجبت الكروان؟
مفردٌ لكنه يؤنسنا
ساهرٌ لكنه ينعسنا
صدحت في نفسه أنفسنا
فتسامعنا سواء وسمعنا الكروان

•••

واحدٌ أو مائة ترجعه
عندنا أو عندكم مطلعه
ذاك شيء واحد نسمعه
في أوان وبيان هو صوت الكروان

•••

واحدٌ بين عصور وعصور
نحن نستحيي به تلك الدهور
لم يفتنا غابر الدنيا الْغَرُورْ
في أوان الكروان، ما أحب الكروان

على الجناح الصاعد

حادي الظلام على جناحٍ صاعد
يا أرض أصغي يا كواكب شاهدي!
يا آنسين بصحبة من وجدهم
نُصُّوا المسامع للأنيس الواجد
يا ساهدين على انفراد في الدجى
ردوا التحية للفريد الساهد
المستعز بعرسه وكأنه
منها نجيُّ مغاور وفراقد
لهجت طيورٌ بالضحى وتكفَّلَتْ
بالليل حنجرة المغني الخالد
يحدو ويشدو لا مساعد حوله
أبدًا وما هو آمنٌ لمساعد
أنا صائدٌ لصداكَ لستُ بصائدٍ
لك أنت يا كروان فَأْمَنْ صائدي
بينا أقول هنا إذا بك من هنا
في جنح هذا الليل أبعد باعد
ووددت يا كروان لو ألقيت لي
صوتين منك على مكانٍ واحد
إن كنت تشفق أن أراك فلا تَزَلْ
في مسمعي وخواطري وقصائدي
عاهدت هذا الصيف لستُ بواهب
سمعي سواك فهل تراك معاهدي؟
من كان قد أغنى الطبيعة كلها
مُغْنِيَّ عن شادٍ سواه وشائد

شدو لا نوح

شدو القماري لا نوح القماريِّ
هل يعبر الحزن بالشادي الصباحيِّ؟
أو الربيعي في أنس وفي أمل
وفي غرامٍ على الإلفين مطوي؟
يا حسنها من بشيراتٍ على دعة
كأنها أمنت فوت الأماني
محببات إلى الإنسان تألفه
وتعتلي من ذراه كلَّ علوي
تهوى الديار وفي الآفاق مطلعها
ما بالها هل سباها حسن إنسي؟
وللأناسي حسنٌ لا أبوح به
هل تعرف الطير ما حسن الأناسي؟
غَنَّتْ لزهر وسلسال ولو رشفت
زهر المباسم جُنَّتْ بالأغاني
أَوْلى لقُمْرِيِّنَا ألا يحوم على
يأس الهوى بين إنسي و«طَيْرِي»
غَرِّدْ على الدور يا قمريُّ في دعةٍ
واسلم هنالك من باكٍ ومبكي
واتل الرجاء على هذا وذاك ولا
تسألهما عن جوى في القلب مخفي
حَسْبُ المغاني التي يبكي الحزين بها
من سلوةٍ أنَّ فيها شَدْوَ قمري

شفاعة للغراب

حيا الغراب الفجر بالنعيب
تحية التهليل والترحيب
وافترَّ نور الفجر كالمجيب
في غير ما لومٍ ولا تثريب
لهاتفٍ ناداه من قريب

•••

ما ذنب ذاك الناعب المسكين
ألا يحيي النور باليقين
تحية العصفور والشاهين
ألا تدين كلها بدين؟
فما له يعذل كالرقيب؟

•••

شفاعة الأنوار والأحباب
في الأسود المهجور في الخراب
ما الصَّدح الهاتفُ بالعجاب
أصدق حبًّا لك من غراب
فاعذره يا فجر على التشبيب

•••

أسمعه والطير في أوان
وقبلة الصبح وقد ناجاني
صوت حبيبي بادي الحنان
لذلك الموعود بالحرمان
وما له في الحسن من نصيب!

•••

أمنتُ منه لوعةَ الفراقِ
وكلَّ (غاق) عنده وفاق
فلا يزل ينعم بالإشفاق
من الرياض الفيح والآفاق
ومنك يا فجر ومن حبيبي

أسبوع فلورة

أو تكريم الكلاب

(لا أعني تكريم كلاب المجاز، فليس تكريم الكلاب بالأمر الطارئ أو البدع الغريب! وما خلا زمان ولا مكان من كلب من كلاب الإنس علا به الجد إلى حيث باتت تتزلف إليه الأسود وتمشي بين يديه السباع! فإن المرء ليجد كيف صار إنسانًا له خسة الكلب ونذالته وليست له نظرته وإهانته، والناس تظلم الكلاب بحشره في زمرتها، ويرون نهاية الزراية وصفه بصفتها، وإن الكلبية لتبرأ براءة الإنسانية منه … ولكني عنيت الكلاب ذات الأذناب وقد وصفها العرب ورثوها ومدحوا خفتها وسرعتها ولكنهم لم يسبقونا إلى الاحتفاء بها، والاحتفال بولادتها وتسميتها! وإن حقًّا على الناس أن يمجدوا الأمانة حيث كانت وأين ظهرت، فهل نلام إذا نحن مجدناها في مخلوق من مخلوقات الله؟!

اجتمعنا في رهط من الأدباء ليلة من الليالي، وجعلنا مناسبةَ اجتماعنا مُضِيَّ أسبوعٍ على ولادة كلبة لبعض أصدقائنا، فقلت أبارك للنفساء وأحيي المولود!):

أعلني «يا فلورة» الأفراحا
واملأ الأرض والسماء نباحا
ما حبا الدهر بنت كلبٍ بأعلى
من ذراريك عنصرًا ولقاحا
أبشري دولة الكلاب بجرو
سوف ينفي عن جيله الأتراحا
ما تقضَّى الأسبوعُ إلا تمشَّى
يذرع الدار جيئة ورواحا
خلع الليل والنهار عليه
فتوارى عن العيون ولاحا
حَرَّكَ الدهر ذيله حين وافى
وعوى الكون بهجةً وانشراحا!
سوف يدعى على الكلاب أميرًا
يفزع الأسد وثبةً وصياحا
يلبس الطوق من نضارٍ ودرٍّ
ويحوك الخزَّ الثمين وشاحا

•••

وأراه يُعِيدُ سيرةَ قطـ
ـمير وقارًا وفطنةً وصلاحا
لا أصابت عصا لئيمٍ قفاه
أو ثوى في الطريق ليل صباحا
لا ولا عضه من الجوع نابٌ
يُثْخِنُ الناس والسباع جراحا
أو ترامى على الموائد يومًا
يرقب العظم سائلًا ملحاحا
أو براه داء الكلاب فأخفى
بين جفنيه عسجدًا لماحا
كان إيواؤها حرامًا فأضحى الـ
ـيوم إيواؤها حلالًا مُباحا
قد فرحنا في عيده وطربنا
وشربنا في نخبه الأقداحا
يا كليبًا أزرى بذكر «كليب»
لا تظنن ما نقول مزاحا
ما مدحتُ الأنامَ يومًا وإني
لستُ آلوك يا كليب امتداحا
أعجمَ الناس في الوداد وما زا
ل بنو الكلب في الوداد فصاحا
إن عِيَّ اللسانِ خيرٌ من النطـ
ـقِ إذا كان للأذاة سلاحا
وسعارُ الكلابِ أهونُ شرًّا
من سعارٍ يمرق الأرواحا

أبو العيد

طائر يأكل دود القطن
أبا العيدِ لو جئتَ بينَ الأُول
لصلَّى إليك عباد الجُعلْ
ولاتَّخذوك إلهًا لهم
له ملة بين تلك الملل
وقالوا إلهٌ رحيمٌ بنا
فمن يَدْنُ منه بسوء قُتِلْ
وأبدلت من شَرك بِيعَةً
على الأرض شاهقة كالجبل
وكان لعيدك في أرضهم
أبا العيد يومٌ عميمُ الجذل

وعل كردفان

بحديقة الحيوانات
يا وعل القفر كيف أسرى
إلى حماك العزيز أسرُ
ساقُك يثنيها العوادي
والضأن عدَّاءة تكرُّ
سهوت عنا وعن أناس
يعجبهم سجنك الأمرُّ
تذكر دارًا نأيت عنها
والعمر غض الإهاب نضر
والأرض قد ملَّكتك فيها
ساقٌ لها كالرياح مر
ترودُ منها سهلًا ووعرًا
يرضيك مرجٌ منها وقفر
لو فر من حتفه وليدٌ
لكنت في رحبها تفر
هذي ديارٌ وتلك أخرى
هيهات من كردفان مصر!
وربما خلتها قريبًا
لها وراء الحديد عبر
لو زحزحوا بابه قليلًا
حواك من كردفان عُقْرُ!
تبلغها طفرة فأخرى
ولا يئود الوعول طفر
وكل ذي حاجةٍ جهولٌ
وكل راجي الخلاص غِرُّ

•••

قضاؤك الحتم فاحتمله
واصبر وإن لم يُفِدْكَ صبر
أنت بحسن العزاء أحجى
وبعض حسن العزاء كبر
تِرْبُكَ تسليك والروابي
حولك رفافة تسر
ألفت زأر الأسود فيها
وكان للسمع منه وقر
وكنت إن همهمت تَمشَّى
قلبٌ بجنبيك مقشعر
أمَّنك الذلُّ وهو خوفٌ
وحاطك الأسر وهو شر
عِشْ مفرد القيد إنَّ أصلًا
نماك بين الأصول حر
وما وجدنا الإنسان إلا
مضاعف القيد لا يقر
للضيم فيه وفي ذويه
حز بفوديه مستسر
نحنُ بني آدم أسارى
لنا بوشم الإسار فخر

الطير المهاجر

علَّمتني مواسمُ الروض أنَّ الطـ
ـير شتى: مهاجرٌ ومقيمُ
أتراني لا أسمع الطير إلا
في رياضي معششًا لا يريم؟
رُبَّ شادٍ في هجرةٍ يتغنى
وعليه السلام والتسليم
من جنوبٍ إلى شمالٍ وحينًا
من شمالٍ إلى جنوبٍ يحوم
فله حين يستقلُّ وداعٌ
وله حين يقبل التكريم
خذ من الطير كل يوم جديدًا
فسواءٌ جديدُه والقديم
كم مُوَلٍّ وصفوُه لا يولي
ومقيمٍ وصفوه لا يقيم!

حديقة حيوانات آدمية

(هذه الحديقة لا تجمع إلا الفنان أو المحب للفنون، سُمِّيَ كل زميل من زملائها باسم حيوان يلاحظ في اختياره اتفاق الشبه في الملامح والعادات، وقد جمعها الفن كما كان أورفيوس المعروف في أساطير اليونان يجمع الأحياء حين يغني ويعزف، فتقبل عليه من كل فصيلة، وهي لا تشعر بخوف أو تهم بعدوان):

أورفيوس الفن سوَّى بينها
فتلاقى الدُّبُّ فيها والقرودْ
وتَغَنَّى فرسُ البحر بها
يا له من فرسٍ طَلْقِ النشيدْ!
ومشى الأرنب والحوت لها
صاحبا القاعين من لُج وبيد
وتآخى الجدي والضبع وما
بين هذين سوى الثأر اللدود
وجرى «السيسيُّ» فيها شوطه
وهو ناهيك بسيسي عنيد
ولغا «البطريق» فيها لغوه
وهو من قطب جنوبي بعيد
وكأني بالزَّرَافى اجتمعت
وحمير الوحش منها في صعيد
وأوى السنور والجرو إلى
نمر فيها على غير الوصيد
والسُّلحفاة تجاري عندها
أرنب البيداء والكلب الصَّيود
فُتحتْ أقفاصُها واختلطت
لا سدود لا قيود لا حدود
حيواناتٌ نماها آدم
وهي من أبنائه نسلٌ فريد
حيواناتٌ ولكن بينها
كلُّ ذي لبٍّ سماويٍّ رشيد
أورفيوس الفن سَوَّى بينها
فاستوى المنشد فيها والمعيد

رثاء كلب

حزنًا على كلب طاهرٍ
فإنه طاهرُ الكلابْ!
تشابها في خليقةٍ
واتفقا؛ شيمة الصحاب
وربما عَيَّ طاهرٌ
وكلبه حاضر الجواب
فليس يوفيه حقه
من اكتئاب أو انتحاب
إلا إذا بات نابحًا
نبح المساعير في الخراب
عوْعوْ، عَوَوْوَوْ، بلا وبى
ولا انقطاع ولا اقتضاب

•••

لا تسألوا رحمةً له
قد رحم الله واستجاب
لعله مات قانطًا
من «أزمة» الأكل والشراب
منتحرًا في شبابه
وهكذا يفعل الشباب
أراحه الله من ضنًى
أنقذه القبر من عذاب
فليحمد الله ربه
من جاع فليرض بالتراب

كلبٌ ضائعٌ

أو ديوجين الكلبي
أمست كلابك شتى
وأنت يا صاح أنتا
كلبٌ نجا وهو حي
وآخرٌ فرَّ ميتا
ما بين تارك دنيا
وتارك لك بيتا
قل لي بربك ماذا
على الكلاب جنيتا
حتى «ديوجين» قل لي
يا شيخ ماذا صنعتا؟
والله ما كان يأبى
لو صادف الخبز بحتا
أو جُدْتَ يومًا عليه
فصادف الأدْمَ زيتا
زعمته راح يهوى
من قومه الغر بنتا
لا تلزم الحب ذنبًا
من الصيام تأتى
فاحمل رغيفًا تجده
في أي صوبٍ نظرْتا
مصباحه ليس يجدي
فلا تُضِعْ فيه وقتا
أَنْعِمْ به من حكيمٍ
إلى ديوجين مَتَّا
رأى السلامة حقًّا
ومن رأى الحق أفتى

أمام قفص الجيبون

في حديقة الحيوان

(القرود العليا هي الشمبانزي و«الأرانغ أتانغ» و«الغورلا» و«الجيبون» وهو فرع وحده في رأي كثير من النشوئيين؛ لأنه صغير الحجم مختلف التركيب بعض الاختلاف.

ومن هذه القرود العليا ما يصلح — من الوجهة الشعرية — أبًا للفلاسفة والحكماء وهو «الشمبانزي»؛ لتأمله، وسكونه، واشمئزازه من الحياة!

ومنها ما يصلح أبًا لرجال المطامع والوقائع وهو «الغوريلا»؛ لبطشه، وهياجه، وقوة عضله.

ولكن «الجيبون» وحده هو الذي يصلح من الوجهة الشعرية أبًا للفنانين والراقصين؛ لأنه لعوب، طروب، رشيق الحركة، خفيف الوثوب، يقضي الكثير من أوقاته في الرقص والمناوشة، ويحب أن يعرض للناس ألاعيبه وبدواته، وإذا صعد أو هبط في مثل لمح البصر فإنما يصعد ويهبط في حركات موزونة متعادلة كأنما يوقعها على أنغام موسيقية لا تخطئ في مساواة الوقت ولا في مضاهاة المسافة، فإذا شهدته فاسأل نفسك:

ما بال هذا القافز الماهر قد وقف حيث هو في «سلم الرقي»، ولم يأت على درجات السلم كلها صعودًا ووثبًا في بضعة ملايين من السنين؟! هذا سؤال، وسؤال آخر تعود فتسأله: ماذا يفيد من الصعود إن كان قد صعد؟ الطعام المطبوخ؟ هو يأكل طعامه الآن نيئًا وذلك أنفع، أو يأكله مطبوخًا على يد غيره، وذلك أدنى إلى الراحة!

أو يفيد العلم؟ قصاراه إذن أن يقول: «لست أدري.» كما يقولها الإنسان كلما واجه معضلات الوجود.

أو يفيد وزن الشعر؟ هو الآن يزن الحركة كما توزن التفاعيل والأعاريض، وغاية مسعاه إذا أتقن وزن الكلام أن تعجز يداه وقدماه عن رشاقة الوثب ورقصات اللعب؛ لتستعيض منه بترقيص الكلمات وتوقيع المعاني، وهو قاعد حسير! أمام قفص الجيبون مجال واسع لأمثال هذه الأسئلة وأمثال هذه الموازنات):

أيهذا الجيبون أنعم سلامًا
يا أبا العبقري والبهلوان
كيف يرضى لك البنون مقامًا
مُزْرِيًا في حديقة الحيوان؟

•••

العب الآن وانتظر بعد حقبًا
ترقَ في «سلم الرقي» وتعلُ
كيف لم تصعد السلالم وثبًا
أيها الصاعد الذي لا يملُّ

•••

يا عميد الفنون صبرًا ومهلًا
وارض حظَّ الهتاف والتهليل
مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا
والهدايا ما بين لب وفول

•••

انتظر يا صديقُ شيئًا فشيئًا
تطبخ القوت كله بيديكا
غير أني إخال ما كان نيئًا
منه أجدى في الحالتين عليكا

•••

انتظر يا صديقُ مليون عامٍ
أو ملايين لست والله أدري!
إن تدانيت بعدها من مقامي
فقصارى المطاف أن لست تدري

•••

واصطبر إن عناك نثر ونظم
سوف تتلو نثرًا وتنظم شعرا
وغدًا يطفر الخيال ويسمو
والذراعان لا تطيقان طفرا

•••

وجمال الوجوه سوف تراه
في المرايا بعد الطواف الطويل
سوف تحلو في ناظريك حلاه
فتهيأ للضم والتقبيل!
وإذا ما درست أوزانَ رقصٍ
بعد لَأْيٍ فالرقص فيك انطباع
هل تنال الكمال من بعد نقصٍ
إن أقلَّتك فكرةٌ لا ذراع؟

•••

قفصٌ أنت فيه أرحب جدًّا
من فضاءٍ نقيم فيه أسارى
قد ضللنا فيها وهيهات نهدى
ونجوم السماء فيه حيارى

•••

قفصٌ أنت فيه أرحب جدًّا
من فضاءٍ نقيم فيه أسارى
قد ضللنا فيها وهيهات نهدى
ونجوم السماء فيه حيارى

•••

انتظر سوف تفهم الشيء باسمٍ
بعد رسمٍ وغابرٍ بعد حال
فإذا ما طلبت باطن فهمٍ
يا صديقي طلبت أي محال

•••

أين بالأمس كنت يوم ابتدأنا
والتقينا بآدم في الطريقِ
قد بلغنا فأين تبلغ أينا
حين تمضي وراءنا يا صديقي؟

•••

الْهُ والعب واضحك كما شئت منا
أنت طفل الزمان والطفل غرُّ
سوف تبكي حزنًا وتضحك حزنًا
حين يمضي دهرٌ ويقبل دهر

عتب على الجيبون

(ذهب بعض الأدباء إلى حديقة الحيوان بعد نشر القصيدة السابقة، وقصدوا إلى قفص «الجيبون» فإذا هو في تلك الساعة كاسف البال صادف «المزاج» عن الرقص واللعب، فجاءوا إلى صاحب الديوان يطالبونه بتعويض أجر الدخول إلى الحديقة، كأنه هو الذي يعرض الجيبون ويتكفل للمتفرجين بتمثيل ألاعيبه، وفي الأبيات التالية رجاء لذلك الفنان ألا يكذب شهادته ولا يخيب ظنون الأدباء في مدحه وتقريظه):

أيها الجيبون لا تفـ
ـضحْ تقاريظي وشكري
أنت بعد اليوم محسو
بٌ على نقدي وشعري
أنت إن لم تحسن الرقـ
ـص فمن يحسن عذري
أنت إن قصرت قالوا
شاعرٌ بالزور يطري
ما لِذَا العقادِ والتقريـ
ـد و«التقريظ» يغري
إنه يهرف بالمد
حِ ولكن ليس يدري
فاملأ الأقفاص يا جيـ
ـبون طفرًا أي طفر
وقُلِ العقادُ لا يخطـ
ـئُ في تعريف قدر

بيجو

رثاء
حزنًا على بيجو تفيض الدموعْ
حزنًا على بيجو تثور الضلوعْ
حزنًا عليه جهدَ ما أستطيعْ
وإنَّ حزنًا بعد ذاك الولوعْ
واللهِ يا بيجو لحزنٌ وجيعْ

•••

حزنًا عليه كلَّما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حينًا ومستقبلي
وسابقي حينًا إلى مَدْخلي
كأنه يعلم وقت الرجوعْ

•••

وكلما داريت إحدى التحفْ
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألا يصيب اليوم منها الهدف
ذلك خيرٌ من فؤادٍ صديعْ

•••

حزني عليه كلما عزَّني
صدق ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنيًا أو غانيًا بالقنوعْ

•••

وكلما ناديته ناسيا
بيجو ولم أبصر به آتيا
مداعبًا مبتهجًا صاغيا
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صدى فيه ولا من سميعْ

•••

نسيت؟ لا بل ليتني قد نسيتُ
أحسبني ذاكره ما حييت
لو جاءني نسيانه ما رضيت
بيجو معزي إذا ما أسيت
بيجو مناجيَّ الأمين الوديعْ

•••

بيجو الذي أسمع قبل الصباح
بيجو الذي أرقب عند الرواح
بيجو الذي يزعجني بالصياح
لو نبحةٌ منه وأين النباح؟
ضيَّعتُ فيها اليومَ ما لا يضيعْ

•••

خطوته يا برحَها من ألم
يخدش بابي وهو ذاوي القدم
مستنجدًا بي ويحَ ذاك البكم!
بنظرةٍ أنطق من كل فم
يا طول ما ينظر هذا فظيع!

•••

نم لا أرى النوم لعيني يطيب
أنتم خبيرون بنهش القلوب
يا آل قطمير هواكم عجيب
غاب سنا عينيك عند الغروب
تنقضي الدنيا ولا من طلوع

•••

نم واترك الأفواج يوم الأحدْ
والبحر طاغ والمدى لا يُحد
عيناي في ذاك وهذا الجسد
بوحشة القلب الحزين انفرد
والليل والنجم وشعب خليع!

•••

أبكيك أبكيك وقلَّ الجزاء
يا واهبَ الود بمحض السَّخاء
يكذب من قال طعامٌ وماء
لو صح هذا ما محضت الوفاء
لغائبٍ عنك وطفلٍ رضيع

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤