الفصل السابع عشر

الفضيحة

١

ظلَّت تغريدات طائر السُّمَانى تنساب من فوق تلال بارادايس، طيلة الخريف والشتاء، دون أن تجد آذانًا تصغي إليها. لم يَشَأ باني الذهاب إلى هناك. لكن طرأ للأب بعضُ الأمور الهامة التي تتطلب عنايتَه الخاصة، ولم يكن سائقه متاحًا؛ إذ زُج به في السجن لمتاجرته في الكحول بصورةٍ غير مشروعة خارج أوقات العمل. كما كان الأب يمُر بوعكةٍ صحية لا تسمح له بقيادة السيارة، ولأن اليوم هو الجمعة عرَض ابنه أن يُوصلَه إلى هناك.

فقدَت قطعة الأرض المملوكة لروس الابن كل لمساته الشخصية، فلم تعُد ترتبط به إلا بالقانون. تولَّت مدبرةٌ غريبة إدارةَ منزل المزرعة، ونُقلَت كابينة العجوز راسكوم من مكانها، وحلَّ برج الحفر محل عريشة نباتات الجهنمية. ورحل جميعُ مَن كانوا قد التقَوا ببول عن المكان، وتوقَّفَت المناقشاتُ الفكرية. وصارت بارادايس مكانًا يكدَح فيه الرجال لاستخراج النفط، ملتزمين الصمت. كان هناك مئاتٌ من الوجوه الجديدة، لم يرَها باني من قبلُ، وساد مُناخٌ جديد في المكان. كان هؤلاء يدعمون المتاجرة غير الشرعية في الكحول، وصالات الرهان، والأماكن السرية لممارسة القمار واحتساء الخمر. أطلَق عمال النفط القدامى لقب «قطَّافي البرتقال» على العمال الجُدُد؛ إذ لم يمتلكوا الخبرة الكافية، ما شكَّل مصدرَ إزعاج لا ينتهي؛ فقد كانوا ينزلقون في أبراج الحفر المُتسخة بالشحم، أو يتعرَّضون للسحق من الأنبوب الثقيل، فاضطُرت الشركة إلى بناء توْسِعة للمشفى. كان ذلك أرخص، بلا شك، من دفع رواتب الاتحاد للعمال ذوي الخبرة!

وقعَت حادثةٌ مؤسفة لباني؛ زارته زوجة جيك دوجان، وهو أحد المسجونين في سجن المقاطعة، فيما كان يختلي بكِتابه. أصرَّت على رؤيته، وأبَتْ إلا أن تغرق المكان بدموعها، وهي تقصُّ قصصًا مروِّعة عن زوجها والسجناء الآخرين. توسَّلَت إليه أن يتفقد المكان بنفسه، فلم يجد في نفسه قدرةً على الرفض، مع ما في قراره من حُمق، بالنظر إلى أنه أميرُ نفطٍ شابٌّ يحاول اكتساب صفة الصلابة؛ ليتسنى له مساعدة أبيه العجوز وقضاء حياةٍ ممتعة مع محبوبة العالم. كان باني يدرك خطأه، وأظهَر شعوره بالذنب من خلال عدم إخبار والده بوجهته المنشودة، غداةَ ذاك السبت الماطر.

سمحوا له بدخول السجن دون اعتراض؛ إذ ألِف القائمون على المكان مِثل هذه الزيارات، كما عَجزوا عن توقُّع الانطباع الذي سيتركه المكان على شابٍّ حالم. كانت الزنازين القديمة من صُنع مهندسٍ معماري ذي عبقريةٍ خاصة في إصابة إخوته من البشر بالجنون. فعلى عكس السجون الأخرى صمَّم المهندس «الخزَّانات» على شاكلة أبراجٍ دوَّارة، بلا أبوابٍ أو مفاتيح، تُدار حتى تتلاءم فتحات القضبان مع فتحات الجهة المقابلة، عند إرادة إيداع سجين داخلها أو إخراجه. يقع هذا الدوران بواسطة رافعةٍ يدوية، ويحدث صوت صريرٍ وأزيزٍ مرعب، بسبب احتكاك الحديد الصدئ. كانت هناك ثلاثُ حُجيرات من هذا النوع، مُصطفَّة بشكلٍ عمودي، فكان الضجيج يصل إلى كل المسجونين عند دوران أيِّ حجرةٍ منها. وعلى مدار تاريخ السجن ذي الأربعين عامًا، أُصيب الكثيرون بالجنون بسبب سماع هذه الأصوات ليلَ نهار.

هل اختبرتَ من قبلُ شعورَ رؤية شخصٍ تعرفه وتُحبه مسجونًا خلف قضبان مثل وحشٍ مفترس؟ هزَّ المشهد باني بعنف، وأصابه بالضعف والوهن. فقد وجد أمامه سبعة أشخاص، في نفس عمره باستثناء اثنَين، يتدافعون مثل غزلانٍ ودودةٍ رقيقة الحس، فيما يمرِّغون أنوفهم بالقضبان، في انتظار قطعة سكَّر أو فتات خبز. عَلَت صيحاتهم الترحيبية المثيرة للشفقة، وأشرقَت وجوهم في امتنان؛ لأنهم حظوا بزيارة بل ببضعِ دقائقَ من وقت شابٍّ غني!

كان هؤلاء من عمال المزرعة أو عمال العراء، الذين عملوا في الشمس والمطر طيلة حياتهم، واكتسبوا ضخامةً في الجسم، وصبغةً داكنة في البشرة، وقوة في البنية، لكن صارَت بشرتهم شاحبة، وأجسادهم متسخة، وشعورهم شعثاء، ووجناتهم خالية من اللحم، وأعينهم غائرة. كان جيك دوجان يسعل، مثلما قالت زوجتُه، ولم يكن بينهم رجلٌ في حالة صحةٍ جيدة. لو استطاع باني إقناع نفسه بوضاعة ما اقترفه هؤلاء الرجال وأن هذا العقاب تكفيرٌ لذنوبهم، لربما وجد تبريرًا لهذا العقاب، وإن كان يتساءل عن جدواه، لكن هؤلاء الرجال قد سُجنوا بسبب تجرُّئِهم على الحُلم بالعدالة لأصدقائهم، وعلى الحديث عنها، في تحدٍّ ﻟ «الجماعة المناهضة للاتحادات» من كبار رجال الأعمال!

أرسل باني إليهم بعض الكتب؛ حيث كان مسموحًا لهم اقتناءُ الكتب على ألَّا تبدو راديكالية للسجَّانين المتسمين بالجهل المطبق، وأن تُرسل من الناشرين مباشرة، حتى لا يُضطَروا إلى تفتشيها بدقة؛ بحثًا عن أغراضٍ مخبَّأة مثل المناشير والماريجوانا. أرادوا أن يُخبروه عن مدى نفع هذه الكتب وطلب المزيد. سألوه ماذا إذا كان يعرف أي شيءٍ عن فُرص خضوعهم للمحاكمة. وسألوه ما إذا كان قد رأى بول أو سمع عن رأيه في الأحداث. سألوه أيضًا عن مستجدَّات الاتحاد وعما تبقى منه. لم يُؤذن لهم في الحصول على أي صحيفةٍ «راديكالية» من أي نوع؛ لذا كانوا متأخرين عن أخبار عالمهم بحوالَي ستة أو سبعة شهور.

٢

خرج باني لأشعة الشمس يغمره شعورٌ جديد باليأس. كان والده مريضًا نوعًا ما، لكن لا مفَر من إثقال كاهله بهذا العبء المرير! ففي آخر مرة تناقشا في هذا الشأن، أخبره أبوه أن ينتظر، وأن فيرنون روسكو «سيرى ما يمكنه فعله.» لكن باني لن يطيق الانتظار أكثر من هذا؛ يجب أن يُجبر أبوه فيرن على التصرُّف، وإلا فسيتولَّى المهمة بنفسه.

قاد باني السيارة عائدًا بأبيه إلى إنجِل سيتي، وعلم بتنظيم الراديكاليين «لجنة دفاع»، وبعقد لقاءٍ احتجاجيٍّ جماهيري لجمع التبرُّعات للمحكمة الوشيكة. كان من المفترض أن يكون بول متحدثًا رئيسيًّا في هذا اللقاء، رغم احتمالية حرمانه من امتياز الكفالة بسبب مشاركته. علم باني بهذه الأخبار، وأصدَر إنذاره الأخير لأبيه؛ فقد كان من المقرَّر أن يُعقد الاجتماع في الأسبوع القادم، ولو لم يتصرَّف فيرن في هذه الفترة، فسيكون باني أحد هؤلاء المتحدثين، وسيُعبِّر عن رأيه كاملًا في القضية.

احتجَّ الأب بطبيعة الحال. لكن فاجأه ابنُه بأن تصرَّف ﺑ «غلظة». وتمادى في غلظته من فَرْط يأسه. قال: «ربما تشعُر أنه لا يحقُّ لي التصرُّف بهذه الطريقة، لا سيما وأنا أستخدم مالك، وربما يجدُر بي أن أترك الدراسة في الجامعة وأبحث عن وظيفةٍ لنفسي.»

قال الأب: «لم أقُل أيَّ شيء من هذا القبيل يا بني!»

ردَّ باني: «لكني أضعك في موقفٍ حرج مع فيرن، والأسهل لك أن تقول إنني يجب ألَّا أعيش عالةً عليك.»

قال: «لا أريد أن أقول أي شيء من هذا القبيل يا بُني. ومع ذلك أريدك أن تفكِّر في وضعي.»

قلتُ: «لقد فكرتُ في كل شيءٍ يا أبي، وتأمَّلتُ المسألة من جميع الأوجه حتى لم أجد مخرجًا. كل ما في الأمر أنه لا يمكنني أن أدَع حُبي لشخصٍ يتغلب على إحساسي بالعدالة. نحن نرتكب جريمةً بإبقاء هؤلاء الرجال في السجن، ولا بد أن يُطلِق فيرن سراحهم، وإنْ لم يفعل ذلك فسأسبِّب له المشكلات.»

كان فيرن في طريق عودته من الشرق، وطلب باني أن يخبر محامي المقاطعة برغباته هاتفيًّا، كما يمكنه الاتصال بالقاضي إن تطلَّب الأمر؛ فلن تكون هذه المرة الأولى بحسب تخمينه. ولو لم يفعل ذلك، فسيُعلَن عن اسم باني متحدثًا في هذا الاجتماع الجماهيري. ومَض في ذاكرة الأب الاجتماعُ المخيف لهاري سيجر، تخيَّل ابنه العزيز، ينضم لصفوف الجماهير المتوحشة علنًا، ويعانق ذلك السيل من الوجوه الغاضبة والأيدي المرتفعة والأصوات العالية!

أيضًا كرَّر باني تهديده بخصوص آنابيل. قال: «أخبر فيرن، مع تحياتي، أنني سأحاصِر فتاته، وسأصحبها إلى الاجتماع. سأبلغها بمحاولته حبسَها في قفصٍ ذهبي، ما سيدفعُها للحضور، ولو سمعَت قصة المسجونين السياسيين كاملةً بأي شكلٍ من الأشكال، فستجعلُه يندم على عدم الاستسلام!» وجد الأب صعوبةً في منع ابتسامةٍ عريضة من الارتسام على شفتَيه. كان الرجل المسكين، في أعماق قلبه، فخورًا بشجاعة ابنه!

لا أدري إذا كان الأب قد استخدم ورقة آنابيل، ولا أعرف الكلام الذي قاله تحديدًا، لكن ما سجله التاريخ هو التالي: بعد يومَين من عودة فيرنون روسكو من واشنطن في سيارته الخاصة، يحمل في يدَيه الوثائق الثمينة ذات الأختام الحمراء الكبيرة لوزارة الداخلية، وقف محامي مقاطعة سان إليدو أمام قاضي المحكمة العليا باتن، و«أسقط التهم» في قضايا الحركة النقابية الإجرامية الثمانية. وهكذا استعادت في تريسي عشرة آلاف دولار، وأُخرج عمال النفط السبعة إلى السطح؛ حيث أصابتهم أشعَّة الشمس القوية بشبه عمًى، وأجَّل باني ظهوره الأول في دور السفيه — أو أيًّا كان وصفه — الذي يجلب الهلاك على نفسه.

٣

تلقى باني الأخبار، قبل أن تنشُرها الصحف، وأسرع في نقلها إلى بول وروث. كان بول يعمل نجارًا، واستأجر هو وأختُه كوخًا صغيرًا في الجزء الخلفي من قطعة أرض. بدأَت روث الدورة التدريبية في مجال التمريض في أحد المستشفيات الكبيرة، وحصل بول على بعض الكتب، ونُقلت صورةٌ مصغرة من بارادايس إلى ذلك الجزء من إنجِل سيتي، الذي تعيش فيه الطبقة العاملة. فرحَت روث أيما فرحٍ عندما قَدِم باني بالأخبار! بعد ذلك تحدَّث بول بذلك المزيج من الألم والفخر: «كان لطفًا منك، يا بُني، أن تكبَّدتَ كل هذا العناء، وأشكر لك هذا، لكن أخشى أنك ستراني ناكرًا للجميل إن سمعتَ ما أنوي فعله بحريتي.»

سأل باني: «ماذا تريد فعله يا بول؟»

أجاب: «لقد قررتُ الانضمام إلى حزب العمال.»

هتف باني وأمارات الأسى واضحة على وجهه: «أوه، بول! لكن لماذا؟»

أجاب بول: «لأنني أُومِن بفاعلية أساليبهم. لقد آمنتُ بها دائمًا منذ ذلك الوقت الذي أمضيتُه في سيبيريا. انتظرتُ فحسب لأني لم أشأ الإضرار بالإضراب، وبعدما قُبض عليَّ ما كان بوسعي فعل شيءٍ دون الإضرار بالآخرين. لكن الآن الضرر هو ضرري وحدي؛ لذا سأفصح عما أعرفه.»

قال باني: «لكن، بول! سيقبضون عليك مرةً أخرى!»

أجاب بول: «ربما. لكنهم هذه المرة سيقبضون عليَّ بصفتي شيوعيًّا، وسيُحاكمونني على هذا الأساس.»

قال باني: «لكنهم أدانوا الكثيرين بالفعل!»

ردَّ بول: «هذا هو السبيل الوحيد للقضايا التي لا تجذب الرأي العالم. ها هو أنا، عاملٌ مغمور، لا يأبه أحدٌ لأفكاره أو أقواله، لكنهم إذا حاكموني بصفتي شيوعيًّا، فسأحضُّ الآخرين على الحديث، وسأحثُّهم على تأمُّل أفكارنا.»

اختلس باني نظرةً إلى روث، وأخذَته بها شفقةٌ شديدة؛ فقد كانت عيناها مثبتتَين على أخيها، ويداها مشبكتَين في خوف. كانت نفس النظرة التي كانت على وجهها عندما كان بول يتهيأ للخروج للحرب. كان قدَرها أن تراه يذهب للحرب!

سأل باني: «هل أنتَ متأكد من أنه لا يُوجَد شيء تفعله أهم من ذلك يا بول؟»

أجاب: «فيما مضى كنتُ أحسب أنني سأفعل الكثير من الأمور العظيمة. لكن علَّمتني السنوات الأخيرة أن العامل ليست له أهميةٌ كبيرة في هذا العالم الرأسمالي؛ لذا لا بد أن يتذكر مكانته. يُزج بالكثير منا في السجن، ويخسر عددٌ أكبر حياتهم. الشيء الوحيد الذي يجب أن نحرص على فعله هو المساهمة في صحوة العبيد.»

تلا ذلك صمتٌ. «هل أنت متيقن أنه لا يُوجَد حلٌّ سلمي لهذه القضية؟»

أجاب: «هذا ما سيُقرِّره الطرف الآخر يا بُني. أتظن أنهم لم يستخدموا العُنف في أثناء الإضراب؟ ليتكَ كنتَ هناك!»

سأل باني: «هل فقدتَ أمَلَك في الديمقراطية؟»

ردَّ بول: «مطلقًا! الديمقراطية هي الغاية؛ إنها الشيء الوحيد الذي يستحق العمل من أجله. لكنها لن تتحقق دون تحطيم قبضة الشركات الكبرى. وهذه مهمةٌ تتطلب القتال، ولا سبيل لتنفيذها بواسطة الديمقراطية. تخيَّل لو أن الحمقى الذين جمعهم إيلاي في معبده اندفعوا للنَّيل من فيرنون روسكو!»

لم يستطع باني كبح ابتسامته. قال: «هذه مقولةُ فيرنون بالضبط.»

علَّق بول: «حسنًا، إنه رجلٌ عملي، وأكنُّ له الكثير من الاحترام. لو أراد فعلَ شيءٍ معين، فإنه يبحث عن الوسيلة لتحقيقه ويأخذ بها. ولا يسمح للحكومة بالوقوف في طريقه بالتأكيد. بل يطيح بالحكومة بالرشوة. على ذكر ذلك، هل قرأتَ خطاب واشنطن لدان إيرفينج الذي صدر هذا الأسبوع؟»

أجاب باني: «الصحيفة في المنزل، لكن لم أقرأها بعدُ.»

قال: «حسنًا، ستجده مسليًا. يقول دان إنه معروف بين الصحفيين في واشنطن أن روسكو وأورايلي عقدا صفقةً مع المدعي العام، بشأن شراء ترشيح هاردينج، على أن يحصلوا على عقود إيجار الاحتياطي البحري تلك. وقد قاما برشوة الكثيرين من مسئولي الحكومة بالإضافة إلى الصحفيين. وهناك مطالبة بالتحقيق في الأمر، لكن العصابة لن تسمح بأن يحدث ذلك.»

أعقب ذلك صمتٌ. راقب بول صديقه، ورأى أمارات القلق مرتسمة على وجهه، فأضاف: «لا تحدثني عن الأمر يا بني؛ فلا أريد معرفة ما لا يمكنني البوح به. أنا وأنتَ نفهم أن هذه حكومةٌ رأسمالية، فما شأنها بالديمقراطية؟»

مرةً أخرى لم يُجب باني، وقال بول: «أفكِّر في فيرن، كما تُحب أن تناديَه؛ لأنني اختلفتُ معه للتو، وهو يمثِّل لي النظام. أريد أن أنتزع نفوذه منه، لكن كيف سأفعل هذا؟ لقد طرقتُ كل الأبواب، في محاولةٍ للعثور على طريقةٍ قانونية لتحقيق ما أريد. فوجدتُ القضاء في يده، وسيحظى بغطاءٍ شرعي متى أراد، وسينتهي بي الأمر عالقًا في شبكة من التفاصيل المعقَّدة. ولديه آلية الوصول إلى الجماهير، فلا يمكنك إخبار العامة إلا بما يريده هو. والسينما في قبضته أيضًا؛ لأن عشيقته نجمةٌ سينمائية حسبما يُقال، ولعلك لا تجهل هذه الحقيقة. لقد التحقتَ بالجامعة؛ حيث يسيطر أورايلي على نظام التعليم، بحسب ما تناهَى إلى علمي. ولا يمكننا الحصول على الأغلبية في التصويت؛ لأن فيرن لديه صناديقُ ممتلئة بأصوات الناخبين، حتى لو رشَّحنا أحدًا، لاشترى ولاءه قبل استلامه لمنصبه. كلما فكَّرتُ في احتمالية إذعانه لصناديق الاقتراع، بدَت لي الفكرة غير قابلة للتصديق.»

سأل باني: «إذن ما الذي تطمح إليه يا بول؟»

قال: «سأذهب إلى العمال! عمال النفط هم مصدرُ قوة فيرن؛ فهم مَن يصنَعون ثروته، ويمكننا الوصول إليهم بسهولة؛ لأنهم ليسوا مبعثَرين في الأرجاء. هؤلاء يجمعهم هدفٌ مشترك ومصلحةٌ مشتركة، وهي الحصول على الثروة التي يأخذها فيرن من أيديهم. بطبيعة الحال لا يدركون هذه الحقيقة بشكلٍ واضح؛ لأنهم يقرءون الصحف ويذهبون إلى دور السنيما. لكننا سنُعلِّمهم، وإذا استولَوا على آبار النفط، فكيف سيستطيع فيرن استردادها؟»

أجاب باني: «سيرسل قواتٍ ويستردُّها يا بول!»

ردَّ بول: «لن يرسل قواتٍ؛ لأننا سنحصل على دعم عمال السكة الحديدية. وسينضم إلينا عمَّال البرقيات الذين سيُرسلون رسائلنا بدلًا من رسائله. وسيكون لدينا رجال في الصناعات الهامة — حيث سنعمل على تنظيمهم وسنُخبِرهم بكيفية أداء الأمر بالضبط — وبهذا تصير السلطة الكاملة للاتحادات.»

كان باني يتأمل مجددًا في الرؤية التي جلبها صديقُه من سيبيريا. وواصل بول كلامه بذلك التشامخ، الذي أثار إعجاب باني وحنقَ أخته دائمًا. قال: «يبدو لك الأمر مريعًا؛ لأنه ينطوي على القتال، وأنتَ لا تريد القتال، بل لا يتعيَّن عليك القتال أصلًا. رجال هذه المهمة هم الذين يتمتَّعون بإرادة من حديد، وتعرَّضوا للضرب والسحق، وأُلقي بهم في السجن حيث تضوَّروا جوعًا. هكذا يصنع فيرن الثورة؛ أن يقذف بنا في السجن ويتركنا نتعفَّن. فنقبع هناك وتراودنا أفكارٌ سوداءُ مريرة. لقد تدرَّب جميع البلاشفة في الزنازين تحت الأرض، والآن يعقد السادة نفس الدورة التدريبية في أمريكا. ولا يقتصر الأمر على جرِّنا إلى هذا الطريق ولا على الصلابة التي اكتسبناها، بل إننا نُصبِحُ معروفين ولا تجهلنا الطبقة العاملة، ويتعلم أولئك العبيد المساكين — الذين لا يجرءون على الدفاع عن أنفسهم بأدنى وسيلة — أن هناك أشخاصًا يمكنهم الثقة بهم، ولن يتخلوا عنهم من أجل فيرنون روسكو! سأعود إلى بارادايس يا بُني، وأنشُر أفكار الشيوعية، ولو قبض عليَّ فيرن مرةً أخرى، فسيُدرج مشروع موسكو في سجلات محكمة مقاطعة سان إليدو!»

٤

أعلنَت الصحف حدثًا اجتماعيًّا بالغَ الأهمية، وهو خِطبة الآنسة ألبيرتا روس، الابنة الوحيدة للسيد جيه أرنولد روس، إلى السيد إلدون بورديك، سليل أعرق عائلات المدينة، الذي اختِير في الفترة الأخيرة رئيسًا لهيئة دفاع كاليفورنيا. بعد أيامٍ قليلة، أُذيع نبأ تعيين السيد بورديك سكرتيرًا للسفارة الأمريكية في باريس، فصار العُرس حدَثًا دوليًّا، وفاضت الكنيسة بالزهور مثلما لم يحدُث من قبلُ، وتأنَّق باني شاهدًا للعروس، وبدا الأب وسيمًا مثل مدير حلبة سيرك، ووقفَت العمة إيما — التي تعتبر نفسها المسئولة عن هذه الزيجة — وعلى وجهها ذلك الشعورُ المختلط من البهجة والحزن الملائم لهذه المناسبة. «كانت السيدة إيما روس، عمة العروس، ترتدي فستانًا حريرًا ورديًّا مزدانًا بالخرز الملوَّن بألوان الباستيل، وتحمل زنابقَ وردية في يدَيها ...» هكذا أوردَت الصحف، التي استعرضَت مكانة عائلة بورديك المرموقة، وملايين روس، دون أن تتطرق إلى عمل الأخير سائقَ بغال في الماضي، ولا إلى امتلاكه متجرًا عامًّا في كوين سينتر في كاليفورنيا!

بعدما انقضَت الأفراح، وانطلَق العروسان لمهامهما، حدث أمرٌ طريف؛ فقد وجَّهَت العمة إيما جهودَها لباني، بعدما ارتفعَت معنوياتُها بنجاحها في تدبير زواج ابنة أخيها! كانت المناسبة هي العرض الأول العالمي ﻟ «أميرة باتشولي» (ذا برنسيس أوف باتشولي)، وهو حدَثٌ عائلي نوعًا ما. ألم يحضُر الأب وباني انطلاقة هذا العمل الفني الفاخرة؟ ألم يكن الأب ملكًا؟ ربَّاه — بلى — وحدَّث العمة إيما بذلك عدَّة مراتٍ على الأقل، أليس طبيعيًّا إذن أن يرافقها ممسكًا بذراعها، وخلفهما مباشرة نجم الحدث الصغير باني؟ أليس طبيعيًّا أن تقابل العمة إيما فِي تريسي، وأن تقع في غرامها من أول نظرة، وأن تخبر ابن أخيها بمشاعرها؟

خلاصة القول، أدرك باني أن عمَّته تتلاعب به ببراعتها الشهيرة، ليرى في تريسي أميرةً مثالية على الشاشة؛ لأنها امرأةٌ أرستقراطية بالفطرة في كلٍّ من مظهرها وسلوكها. فجزءٌ من القوى الحَدْسية الشهيرة لعمته هو قدرتُها على الوصف الدقيق للأرستقراطي في مظهره وأقواله، مع أنها لم تغادر ولاية كاليفورنيا قط، ولا حطَّت عيناها على أرستقراطيٍّ واحد طيلة سنواتها الخمسين.

قال باني، أجل، فِي لا بأس بها؛ فهي حسنة المظهر. ولم يستجب لتلميحاتِ عمته، بفتور الذَّكَر الأناني الشهير، ولا أخبَرها بعلاقته الغرامية. في الحقيقة كان مصدومًا نوعًا ما؛ لأنه ظنَّ أن سنَّ عمته الكبيرة ستحول دون معرفتها لأمورٍ غير لائقة. ولهذا اضطُرَّت عمته إلى الحديث بصراحة: «لِمَ لا تتزوجُها يا باني؟»

أجاب: «حسنًا، لكن يا عمتي إيما، لا أعرف إذا كانت ستقبل بي أم لا.»

قالت: «هل عرضتَ عليها الزواجَ من قبلُ؟»

قال: «في الواقع، ألمَحتُ نوعًا ما إلى الأمر.»

ردَّت: «توقَّف عن التلميح واسألها مباشرةً. إنها فتاةٌ رائعة، وقد أصبحتَ رجلًا راشدًا، ويمكنك أن تأخذ الأمر بجدية، وأظنه سيكون زواجًا مميزًا جدًّا، وأعلم أن والدك سيُسَر به، بل أعتقد أنه سيطلب يدها لنفسه إن لم تفعل.» كانت العمة إيما سعيدةً للغاية بهذه الشقاوة، في إشارةٍ واضحة للجيل الأصغر سنًّا أنه لم يأتِ أوان إقصاء كبار السن بعدُ!

يُحب باني التعاون مع الآخرين دائمًا؛ لذا ذهب وفكَّر في الأمر، وتوصَّل إلى ما يشبه القرار في شأن عرض الزواج على فِي. لكن وا أسفاه، في لقائهما التالي، دخلا في أحد النقاشات التي تحول دون سعادتهما. كانت قد قدمَت لتوها من عند آنابيل إيمز، وأبلغَته أن آنابيل في محنةٍ صعبة؛ لأن صحفيًّا وغدًا يكتب خطابات من واشنطن، يتهم فيها فيرن برشوة رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، ويصف عقد إيجار ساني سايد بأكبر عملية سرقة في القرن، ويطالب بمحاكمة فيرن بتهمة الرشوة. وقد قصَّ صديقٌ وفيٌّ نسخةً من هذه المقالة المطبوعة مبرزًا التهم بخطٍّ أحمر، ثم أرسلها إلى منزل آنابيل بوسم «شخصي». كانت المقالة مهينةً للغاية، وبدا اسم الكاتب مألوفًا لفِي — دانيال ويبستر إيرفينج — وتساءلَتْ أين سمعَت بهذا الاسم من قبلُ. بطبيعة الحال اضطُر باني أن يخبرها مباشرة؛ لأنها كانت ستكتشف الحقيقة حتمًا، وستظُن أنه تعمَّد إخفاءها عنها، كان دان إيرفينج معلمه السابق في الجامعة، وعميد كلية العمال التي كانت قد أخفقَت في مساعيها.

حينئذٍ فقدَت فِي صوابها. وأخبرَتْه أن هذا الشخص كان يحتال عليه لاستخلاص الأسرار منه! وعندما صرَّح باني بحزمٍ أنه لم يبُح بهذا السر لدان أو لأيٍّ من أصدقائه الراديكاليين، هتفَت: «أوه، يا إلهي! يا إلهي! يا لك من طيب، ساذج، مسكين!» وواصلَت على هذا المنوال، وقالت إن في ذلك دليلًا قاطعًا على خُبث الشيوعيين الخطِرين، وعلى قدرتهم على إخفاء المعلومات عنه، وفي نفس الوقت استغلاله واستنزافه مثل بئر نفط! وكان من وجهة نظر فِي أنه من الضروري للغاية ألَّا يعلم فيرن وآنابيل علاقتَه بذلك الصحفي الوغد، وعن مساعدتِه له في الحقيقة. فلو علما بذلك فستنتهي صداقتهم، وسيتيقَّنان من أنه خانهما بدناءة، أو على الأقل سيصفان باني بتشتُّت الفكر، وسيتخليان عن صحبته لعدم شعورهما بالأمان في وجوده. أرادت فِي أن تكون وفية ورومانسية وميلودرامية مثل أحد أعمالها «المتسلسلة». وشعر باني بالضجر، وقال لها إنه ربما يكون أبوه قد أخبر فيرن بالأمر، بعدما أخبر هو أباه به.

لم يطلب أمير النفط الشاب من «الأرستقراطية بالفطرة» أن تتزوَّجه. ورحل من عندها، وهو في غاية التعاسة؛ إذ كان يشتاق إليها كلما غاب عنها، لكنهما كانا يمُران دائمًا بأزماتٍ عاطفية تتطلب حلَّها بالدموع. لم يكن أمامه طريقٌ آخر لتجنُّب المشكلات سوى التخلي عن الحركة الراديكالية، لكنها تغريه فكريًّا أكثر من أي شيءٍ آخر. أراد أن يرى بول ويجادله ويستعرض أمامه عددًا كبيرًا من الاعتراضات الجديدة على حزب العمال! ودَّ أن يأخذ رايتشل لمقابلة بول وروث، ويسمع الردود السريعة الغاضبة، ما إن تستعرض رايتشل رأيها في جنون الحزب اليساري! وأحب حضور لقاءات «واي بي إس إي إل إس»، وهو الاختصار الإنجليزي لاتحاد الشباب الاشتراكيين؛ حيث كانت رايتشل قد تقلَّدَت منصب السكرتير حديثًا؛ فهي منبعُ العلم الحقيقي، ومعقِلُ الشباب الراغبين حقًّا في استخدام عقولهم والتعامل مع الأفكار بجدية، في وقتٍ اقتصرَت فيه مناقشاتُ الطلاب الآخرين على كرة القدم وسياسات الأخوية!

٥

بدا أن الشخص الوحيد الذي كان في غاية النجاح والسعادة، مِن بين جميع معارف باني، هو إيلاي واتكينز، نبي الوحي الثالث. فقد حقَّق له الرب الوعدَ الذي كشف عنه للراكضين في مارثون الإنجيل؛ كان قد دفع المصرفي العظيم، مارك أيزنبرج، المسئول عن شئون إنجِل سيتي المالية، للنظر في التأثير السياسي الهام لإيلاي، وإلى تخصيص مقدارٍ كبير من المال لبناء المعبد الجديد. واكتمل بناء المعبد، وافتُتِح في تمجيدٍ عظيم للرب، لم يشهَده هذا الجزء من العالم من قبلُ.

تتشكَّل غالبية كاليفورنيا الجنوبية من المزارعين المتقاعدين، الذين قد قَدِموا من الغرب الأوسط للموت وسط أشعة الشمس والزهور. بطبيعة الحال، يريدون الموت بسعادة، راجين التنعُّم بأشعة الشمس والزهور في الحياة الأخرى؛ لهذا صارت إنجِل سيتي موطنَ طوائف ومِللٍ غريبة، ولا يمكن تشكيل أي تصوُّرٍ عنها دون القدوم إليها وفَحْصها. ولو تصفَّح قارئٌ العُروض المُعلَن عنها في صحيفة «سانداي»، لانفجر ضاحكًا أو باكيًا، على حسب مزاجه. فكلما تجمَّع ثلاثة أو أكثر، باسم المسيح أو بوذا أو زرادشت أو الحقيقة أو النور أو الحب أو الفكر الجديد أو الروحانية أو العلم الباطني، نشأ وحيٌ جديد بحالاتٍ روحانيةٍ داخلية من النعيم، وطُرقِ خلاصٍ معروفة للخاصَّة فحسب.

تمتَّع إيلاي بمزايا لا تتوفَّر لغالبية المؤسسين الروحانيين. بادئ ذي بدء، كان راعيًا حقيقيًّا للقطعان والأسراب، وهناك تقاليدُ قديمةٌ مرتبطة بهذه المهنة. كما أنها مهنةٌ مفيدة بطريق المجاز؛ إذ عامَل إيلاي سكَّان إنجِل سيتي، كما عامَل قطعان المَعْز في الماضي، حيث كان يجمعُهم في الكنيسة ويحميهم من الشيطان المفترِس الظالم. وكان يحمل عصا الراعي على المنبر — وهو يرتدي رداء الكاهن الأبيض وتعلو نجمةٌ متلألئة شعره الأصفر — ويبدأ في دعوة الحاضرين، مثلما كان يدعو القطعان من أعلى التلال، وعندما يمرِّر طبق التبرُّعات يضع الحاضرون الأموال طواعية، كما تدخُل القطعان آلة جز الصوف طواعية.

امتلك إيلاي حسًّا مسرحيًّا، ترك له العِنان في ابتكار اللوحات والاستعراضات البدائية الصغيرة، باعثًا البهجة في نفوس أتباعه البسطاءِ العقول. فكان إذا حكى عن إغواء الشيطان له، دخل الشرير إلى المسرح بحوافره وقرونه وذيله، تحت ضوء المسرح الأحمر، ويرفع إيلاي الصليب عاليًا، فيسقط الشيطان وترتطم جبهته بأرضية المسرح، وتُدوِّي الأبواق الفضية، وتعلو أصواتُ الأتباع بهتاف «هوشعنا». وفي بعض الأحيان كان إيلاي يُصدِر الأمر: «دعوا الأولادَ يأتُونَ إليَّ»، فيستجيب له مئاتٌ من الأطفال في أرديةٍ بيضاء، وعندما يرفع إيلاي عصا الراعي ويدعوهم إلى المنبر، يأتون مندفعين وأصواتهم الصغيرة الطازجة تلهج بالدعاء: «المجد للرب!» وبالطبع كانت هناك دكةُ مُتلقِّي العزاء وإجراءات التعميد في الخزَّان المصنوع من الرخام. ولم يكن مسموحًا للمرء نسيانُ روحه أو نسيان أهميتِها البالغة عنده وعند المسيح، وأنه ينقذُها بمساعدة إيلاي. ولن يُترك المرء وسبيله؛ إذ سيطلب إيلاي منه الوقوف من أجل الرب، أو التصفيق من أجل الخلاص، أو رفع يده اليمنى إذا كان وافدًا جديدًا على المعبد.

لكن أكبر ميزة تفوَّق بها إيلاي على الأنبياء الآخرين هي البوق الجلدي الذي كان قد ابتكَره في تلال بارادايس. فلم يُسمع مِثل هذا الصوتِ الحماسي من قبلُ، بل لم يضاهِه صوتٌ آخر في القدرة على الصمود لفترةٍ طويلة دون كلل. كان صوته يجلجل ويدوِّي في الصباح وفي الظهيرة وفي المساء يومَ الأحد، ويُعقد القدَّاس كلَّ مساء على مدار الأسبوع باستثناء السبت، وتُجرى اجتماعات الصلوات ومدارس الإنجيل، وخدمات الأغاني والمباركات الشفائية، واحتفالات التعميد وقرابين الشكر والأعراس الجماعية، وإهداءات عروس الحَمْل في الصباح وفي الظهيرة، ما يجعل من الصعب تتبُّع ما يحدُث في الغرف الكثيرة وقاعات الاجتماعات للمعبد الذي يساوي نصف مليون دولار.

كما أتى العلم باختراعٍ عجيب في الآونة الأخيرة؛ فقد أصبح الصوت البشري مُكبرًا مائة مليون مرة، وينتشر في كل بقاع الأرض. أثار الميكرفون جنون سكان القارة الأمريكية، واندفع الجميع لشرائه. واستُخدم هذا الاختراع العجيب لأول مرة على الملأ في إنجِل سيتي، في افتتاح فندقٍ جديد للأغنياء بقيمة ثلاثة ملايين دولار، وأُذيعَت حفلات الافتتاحِ وفاضَت الصحف بالحديث عنه، لكنه أثبت فداحتَه عندما أُصيب الجميع بالسُّكْر، ومن بينهم مدير الفندق الذي وقف أمام الميكروفون، وانهال بسيل من الكلام الفاحش خدشَ حياء زوجات المزارعين في آيوا. شعَر الجميع أن هذا الاختراع الجديد بحاجةٍ إلى تقديسه وحمايته، فباشر إيلاي تركيب واحدةٍ من أكبر محطات البث وأضخمها. كان يهدفُ إلى أن تبلغ كلماته أربعة ملايين ميلٍ مربع، بمشيئة الرب، وشعَر أن الأمر يستحقُّ هذا العناء لدعوة ذلك الحجم الكبير من البشر!

أصبح وعظ إيلاي من سمات حياة كاليفورنيا الجنوبية. ولا يُمكن الابتعاد عنه حرفيًّا مهما حاول المرء. وقد نصح الطبيب أبي بممارسة المزيد من التمارين، فكان يسير مسافة نصف ساعةٍ قبل العشاء، وقال إنه كان يسمع خُطَب إيلاي طيلة جولاته، دون أن يفوِّت كلمةً واحدة! كانت منازل الجميع مفتوحةً على مصراعَيها في طقس الربيع الدفيء، في المناطق السكنية التي يعيش فيها الفقراء المتوسطو الدخل الذين يشكِّلون تسعين بالمائة من السكان. وكلما سار المرء في تلك المناطق، سمع ذلك الصوت الجَهْوري المألوف، فلا يخرج من نطاق مذياعٍ حتى يدخل في نطاقِ مذياعٍ آخر، في أثناء تنقُّله من شارع لآخر ومن حي لآخر! وفي تلك البيوت جلس الأزواج المسنون، والكتاب المقدس العائلي بين أيديهم، ودموع الفرحة في أعينهم، وربما انهمكَت الأم بغسل ثياب طفلها الرضيع أو إعداد البودينج لعَشاء زوجها، فيما حلَّقَت رُوحُها على جناحَي بلاغة النبي العظيم! كان الأب يسير بالخارج، فرحًا هو أيضًا؛ لأنه المسئول عن ظهور الوحي الثالث؛ إذ كان هو الذي تسبَّب في هذه النداءات، عندما حاول أن يمنع العجوز آيبل واتكينز من ضرب ابنته روث في ذلك اليوم!

٦

تلقَّى باني من دان إيرفينج خطابًا يخبره فيه بوظيفته الجديدة. في الآونة الأخيرة في واشنطن صار من السهل أن يعمل المرء مراسلًا للصحف الراديكالية؛ فقد حُمِّل الصحفيون العاديون بمعلوماتٍ غير مسموح لهم بمعالجتها. وكان الجميع، باستثناء عددٍ قليل من «الرجال الأشداء»، في حالةِ غضبٍ شديدة مما شاهدوه، وراحوا يزوِّدون دان بسيلٍ من المعلومات كلما التقَوا به. المشكلة الوحيدة كانت أنَّ خدمة الصحافة العمالية ليست لديها مساحةٌ كافية لهذه الأخبار، وبقية الصحف الراديكالية الأخرى، باستثناء واحدة أو اثنتَين، رفضَت النظر إلى هذه المواد.

وقد أحضر الرئيس هاردينج معه سربًا من أتباعه أو حرَّاسه السياسيين في وطنه، وأسماهم الصحفيون «عصابة أوهايو»؛ إذ كانوا ينهبون كل ما تقع عليه أعينُهم. وأعطى بارني بروكواي أحد أنصاره منصبًا في إدارة الخدمة السرية، فكان «المُصلح» الذي يعالج جميع الأزمات، في مقابل أن تدفع له أتعابه. وقد سمنَت إدارة ويلسون في السابق من استغلال الممتلكات المغتصبة من الأجانب المعادين، ثم خلفَتها إدارة هاردينج وسمنت من إعادتها! ونصَّت «القسمة» العادية على الحصول على خمسة بالمائة من الممتلكات المُستعادة؛ فإذا أراد المرء استعادة ملكية قدرها عشرة ملايين دولار، يجب أن يعطي «المُصلح» نصف مليون دولار في صورة سنداتٍ حرة. كما بِيعت امتيازات المتاجرة غير المشروعة في الكحول بالملايين، وأُجريَت الصفقات في ردهات الكابيتول مباشرةً. وعرَفَ دان من بعض المصادر المُطلعة أنه سُرِق ما يزيد عن ثلاثمائة مليون دولار من الأموال المخصَّصة لإعانة المحاربين القدامى؛ إذ كان رئيس المكتب فردًا من أفراد «عصابة أوهايو». المدهش في الأمر أنه مهما كشَفتَ عن فضائح، فلن تجد صحيفةً أو مجلةً واحدة في البلاد تقبل نشرها!

أخذ باني ذلك الخطاب إلى أبيه الذي فسَّره كالعادة عكس ما فسَّره هو. أجل، السياسة قبيحة، وهذه نتيجة حماقةِ ائتمانِ الحكومة على الشئون التجارية. لو أُبعد السياسيون عن التجارة، وقُصرَت على التجاريين، لسيَّروا أمورها بلا فساد. فلو أُعطيت أراضي النفط للأب وفيرن من البداية، على سبيل المثال، ما قدَّموا الرشوة للمسئولين قطعًا. إن الأب وفيرن محبان للوطن لأنهما يضعان حدًّا لسياسةٍ عامةٍ شريرة!

هل كان الأب يُصدِّق حقًّا ما يقوله؟ احتار باني في الجواب. ففي جعبة الأب أكاذيبُ يقُصُّها على العامة، وربما كانت لديه أكاذيبُ يقُصُّها عليه، وأكاذيبُ أخرى يقولها لنفسه. وخيِّل إليه أنه لو أُمسك بياقة الأب، ونُفِضَت الأكاذيب منه، لَمَا تحمَّل النظر إلى حقيقته المجردة.

وقد انهمك خصومه «السريعو الغضب» في الكونجرس في تجريده من أغطيته الروحانية تلك. في واشنطن كان هناك سيناتور عجوز، اسمه لافولت، يُكنُّ له العداوة منذ أربعة عقود بلا أي أمل للشفاء منها. انشغل هذا السيناتور في الآونة الأخيرة بالتشهير بعقود إيجار النفط مطالبًا الحكومة بالتحقيق فيها. وقد منعَتْه عصابة هاردينج من تحقيق مأربه، لكنها لم تستطع تكميم فمه، فكان يخطب لثماني ساعاتٍ بلا توقُّف وتمتلئ الشرفات بالحاضرين، ثم يُرسل خطاباتِه بالختم الرسمي للحكومة. وما كان للأب أمام هذه الانتقادات إلا أن يتبرَّم ويتذمَّر، ليتذكَّر، في وسط هذه الضجة، أن ابنه العزيز يدعم مثيري المتاعب أولئك! فقد انتقد أكاذيب أبيه، بدلًا من أن يتعاطف معها، وأصابه بالخزي!

تلَت ذلك الأمر حادثةٌ مؤسفة. كان هناك ناشرٌ صحفي في مدينةٍ غربية، وهو أحد القراصنة القدامى من الاستعماريين الغربيين، الذي بدأ حياته ساقيًا ووجد متعتَه في الحديث عن مهارته في قذف عملةِ دولارٍ فضية إلى السقف، فإذا ارتطمَت بالسقف أخذها المدير، وإذا سقطَت في يده أخذها هو. وقد حقَّق الغنى بهذه الوسيلة، وصار مالكًا لصحيفة، وانخرط في فضيحة عقود إيجار النفط. وأتى إليه رجلٌ يزعم أن له حقًّا في عقدِ إيجارِ ساني سايد، فاتفق معه على اقتسام ما سيحصُل عليه مناصفةً، ثم أرسل إنذارًا إلى فيرن لإعطائهما مليون دولار. لكن فيرن أخبره أن يفعل ما يحلو له، وكانت النتيجة أن افتتحَت الصحيفةُ صفحتَها الأولى بفضح أكبر عمليةِ سرقةٍ للموارد العامة في التاريخ. هذه الصحيفة لم تكن اشتراكيةً مغمورة، بل شعبية ذات قاعدةٍ جماهيريةٍ واسعة، وأُرسلَت نسخُها لجميع أعضاء الكونجرس وللصحف الأخرى بالبريد، وحدثَت ضجةٌ كبيرة! ونجم عن ذلك أن عقد الأب وفيرن والبقية مؤتمراتٍ عاجلة، ومرُّوا بفترةٍ عصيبة، وفي النهاية اضطُروا للإذعان للقرصان القديم، وإلى دفع مليون دولار على الفور، ففقَدَت الصحيفة اهتمامها بالصالح العام!

كان باني قد قرأ قصصَ القبطان ماين رِيِد في طفولته، لكنه كان يتذكَّر منها مشهدًا واحدًا بعينه، عندما أمسك العُقاب النسري بسمكة، ثم انقضَّ عليه عُقاب من السماء بسرعة البرق، وسرق غنيمته. هذا ما حدث بالضبط مع مسألة النفط في عالم من البشر على هيئة طيور العقاب النسري وطيور العقاب.

٧

لم يعُد باني يشعر بالراحة بشأن الذهاب إلى الموناستري. لكن فِي لم تدَعْه وشأنه، وراحت تناقشه وترجوه؛ لأن آنابيل في غاية الرقة والطيبة، وستنجرح مشاعرها بشدة إذا ترك الخلافات السياسية تُنهي صداقتهما! وأخبرها باني أن فيرن في غاية الاستياء بلا شك، ولا يُتصوَّر منه أن يتصرَّف بلباقةٍ أو بلُطفٍ مع ضيفه!

إذا ذهب المرء إلى مناسبةٍ اجتماعية ورفضَ تناول الكحول، فهو بذلك يثير الكلام عن مسألة تحريم الكحول. وبالطريقة نفسها، إذا لم ينتقد المرء أعضاء مجلس الشيوخ «المتمردين» في واشنطن، فهو يثير الكلام حول تعاطُفه مع قاذفي القنابل. في هذه الآونة، كانت هناك حفنة «الشيوعيين» في الكونجرس تُعيق تنفيذ التشريعات التي يريدها الأغنياء؛ لذا فهي تتعرض للنقد على كل موائد العشاء ومن بينها موائد فيرنون روسكو. سأل العظيم شمولسكي: «ما الذي يسعَون وراءه بحق الجحيم؟» وأجاب فيرن: «اسأل جيم الابن؛ فهو صديقهم»، اضطُرت آنابيل إلى مقاطعته، وهتفَت: «ممنوع الحديث في السياسة! لن أسمح لك بمضايقة صديقي باني!»

ثم لاحقًا في ذلك المساء، بعدما ثمل هارفي مانينج، جلس على ركبة باني في رقةٍ بالغة كما هي عادته، وحرَّك إصبعه محذرًا قائلًا: «لن تخبرهم عني، أليس كذلك؟» وعندما سأل باني: «مَن تقصد يا هارفي؟» أجاب: «أصدقاءك صيادي الفضائح. لن أتركهم يبلِّغون عني! إذا علم عمي العجوز بأنني ثملتُ، فسيُخرجني من وصيته.» وهكذا علم باني أن صداقته مع العدو قد أصبحَت موضعَ نقاشٍ في الموناستري!

كانت هناك سلسلةٌ من الأحداث العنيفة في إنجِل سيتي. فقد اقتحم أعضاء رابطة المحاربين القدامى مقرَّ الاتحاد العالمي للعمال الصناعيين، وألقَوا بأعضائه من فوق الدرَج ثم بآلاتهم الكتابية ومكاتبهم، في ردَّة فعلٍ ﻟ «هذيان الثوريين الشيوعيين». كان هؤلاء الشباب قد قرَّروا الاعتناء بالأمر بأنفسهم، بعدما شَهِدوا عجز المحاكم عن فرض القانون والنظام. وأغاروا على المكتبات التي تُباع فيها الكتب الثورية، وألقَوا بالكتب في الشوارع، وأحرقوها. وأشبعوا تجار الصحف الراديكالية ضربًا. كما تولَّوا مسئولية المتحدثين الذين يسمعهم العامة؛ فإذا لم يعجبهم أحدهم، حذَّروا مالك القاعة، الذي كان يُسرِع بإلغاء عقده.

جلس جون جروبي، أحد شركاء فيرن في مجال النفط من أوكلاهوما، إلى مائدة العشاء، وقال إن هذه هي الطريقة المُثلى للتعامل مع حيَّات الجرس. ولم يكن يدرك أن أحد هذه الحيَّات جالس قبالته؛ لذا لم يأخذ باني كلامه على محمل الإهانة، واكتفى بالإنصات بهدوء. قال: «هذا ما فعلناه في أرض الوطن؛ أطلقنا رابطة المحاربين القدامى عليهم، وهشَّمنا رءوسهم، فارتحلوا إلى حقلِ نفطٍ آخر. أنتَ تعامل المتمردين بتهذيبٍ بالغ يا فيرن.»

كانت آنابيل قد أجلسَت باني بجوارها، ليتسنَّى لها حمايته من محاولات الاعتداء. وبدأَت تُحدِّثه عن فيلمها الجديد «قلب الأم». فأثنت على قصته لأنها قديمة الطراز وجميلة! وقالت إنه ربما سيُحبِّذ استخدام وصف «مثيرة للعواطف»، لكن النساء ستُحبها لهذا السبب تحديدًا، وهي تعطيها دورًا رائعًا. كما أن فِي لديها سيناريو رائع لفيلمها الجديد: «الأريكة الذهبية» (ذا جولدن كاوتش). إنه عنوانٌ ساحر، ألَا يوافقُها الرأي؟ طيلة هذا الوقت، كان باني يستمع إلى جون جروبي، الذي كان صوتُه يعلو همساتِ آنابيل الخافتة، وهو يبارك جهود الرابطة. وودَّ باني لو سأله عن رأي المحاربين القدامى في «عصابة أوهايو» التي تسرق الأموال من رفاقهم ذوي الاحتياجات الخاصة.

وذكَر شخصٌ حيلةً أخرى للجنود العائدين، وهي رقابة أفلام الصور المتحركة. حكى أنه في يوم من الأيام، بدأ مسرح في إنجِل سيتي بعرض فيلمٍ ألماني، وهو «خزانة الطبيب كاليجار»، فأثار الاعتداء الألماني غضب الرابطة، واندفَعوا يرتدون حُللَهم العسكرية، وحاصروا المسرح وراحوا يضربون كل مَن تسوِّل له نفسُه الدخول. ضحك تومي بيلي؛ إذ ألهبَت حماسةَ المحاربين القدماء ورقةٌ من فئة خمسة دولارات، دفعَتْها جمعية منتجي أفلام الصور المتحركة! فهي لا تريد عرض الأفلام الأجنبية التي تعلو بسقف معايير المتفرجين!

تلا ذلك تعليق شمولسكي. كان في غاية الغباء؛ فلم يأخذ الكلام على محمل السخرية، كما أراد قائله، وعلَّق أن المنتجين لهم كل الحق في ذلك. قال شمولسكي، وهو يهودي من روثينيا أو روميليا أو رومانيا أو ما شابه، إننا لا نريد للأفلام الأجنبية أن تُعطِّل جداول الإنتاج الخاصة بنا. وبعد مرور ساعة أو نحو ذلك، سمعه باني يحكي عن اجتياح أفلام هوليوود للسوق الألماني، وأن الأمريكيين سيُسيطِرون على هذا القطاع في غضون ثلاث سنوات. علَّق باني: «وا أسفاه على المنهزمين!» فنظر إليه شمولسكي في حَيرة وقال: «هاه؟»

٨

سيعود باني من عطلة نهاية الأسبوع إلى إنجِل سيتي، وسيصطحب رايتشل إلى لقاء اتحاد الشباب الاشتراكيين. ففي قاعةٍ مغمورة، كان يجتمع خمسة وعشرون أو ثلاثون فتًى وفتاةً من الطبقة العاملة، مرةً واحدة أسبوعيًّا، لقراءة الصحف ومناقشة المشكلات السياسية والاقتصادية وتحديات الحركة العمالية والحزب الاشتراكي. لقد ترعرعَت رايتشل مع هذا التنظيم، وتمتَّعَت بمكانةٍ مرموقة؛ نظرًا لحصولها على التعليم الجامعي ولإحضارها «الرفيقَ روس» معها. ولم يستطع الشباب، الذين يُدرِكون الاختلافات الطبقية بشكلٍ كبير، أن يمنعوا أنفسهم من الشعور بالفرحة برؤية مليونير داعم للعمال على غير العادة، بل ساعدَ في وقتٍ سابق في دفع كفالة سجنائهم السياسيين.

وجرت معركة اليمين واليسار بين الشباب الاشتراكيين مثلما جرت بين الأجيال الأكبر سنًّا؛ وتجادل الجميع بشأن التكتيكات، وثارت حماستُهم بشكلٍ كبير. وكان للشيوعيين تنظيمٌ خاص بهم، وهو اتحاد العمال الشباب، وانخرط التنظيمان المتنافسان في معاركَ كلامية، فكانا يعقدان مناظراتٍ رسمية في بعض الأحيان؛ حيث يقفز الشباب فوق مقاعدهم من فَرْط حماستهم، ثم ينقلون هذا النقاش إلى بيوتهم وإلى أماكن العمل لعدة أسابيعَ لاحقة. كانت موسكو ضد أمستردام، والأممية الثالثة ضد الأممية الثانية، و«الحمر» (كناية عن الشيوعيين) ضد «الورديين» (وهو كناية عن الاشتراكيين الوسطيين). دار هذا الصراع نفسه داخل باني. كان بول واتكينز يسحبه ناحية التطرُّف، فيما تجذبه رايتشل مينزيس ناحية الاعتدال، والمعضلة هي أنه كان يتبنى آخِرَ رأيٍ يسمعه. فقد كان ميَّالًا لسماع آراء الآخرين، لدرجة أنه ينسى نفسه! لمَ لا يتبنَّى آراءه الخاصة؟!

كان من السهل نظريًّا الانتقال من الرأسمالية للاشتراكية بأساليبَ سلميةٍ تدريجية. وأي شخصٍ يمكنه إعداد هذه الخطوات. لكن عندما يتخذ الخطوة الأولى، يواجه حقيقة رفض الرأسماليين للتحول إلى الاشتراكية، وإعاقتهم لأي خطوة من شأنها تحقيق ذلك. هذه الحقيقة أعيَت العمال كلَّ مرَّة، بل أجبر الرأسماليون الحكومة على التراجُع عن الخطوات التي اتخذَتْها؛ بسبب ظروف الحرب الطارئة. كان بول محقًّا عندما قال إن الرأسماليين لن يسمحوا للعمال بالالتزام بالسلمية؛ إذ كانوا يَلجَئون للعنف في كل مرة، ويُنحُّون القوانين والدستور جانبًا عندما يحلو لهم ذلك.

هذا ما جعل باني ينظر بعين الشفقة للاشتراكيين. لنضرب مثالًا بخاييم مينزيس؛ كانت لديه رؤيةٌ طويلة المدى وصبرُ عاملٍ كبير في السن، فلم تمنعه سنوات العمل الشاق المنصرفة ولا السنوات القادمة من تأسيس الاتحاد. لكن لم يسمح له السادة باستكمال هذا البناء، وسرعان ما هدَموه بين ليلة وضحاها، وراحوا يرسلون جواسيسهم، ويعطون الرشوة للمسئولين ويزرعون بذور الفرقة، وفي فترات الاضطرابات اقتحمَت شرطتهم ورجالهم المسلحون المكاتب، فسجنَت القادة وأعادت العمال إلى العبودية. والعجيب في الأمر أن السادة كانوا يخدمون مصالح الشيوعيين وهم لا يدرون. يقول فيرن ومديرو النفط وبقية الجماعة المناهضة للاتحادات للطبقة العاملة: «لا، لا تستمعوا للاشتراكيين؛ لأنهم حفنةٌ من الرجعيين. سيخبركم الشيوعيون بحقيقتنا والكيفية التي سنتصرَّف بها!»

الأمر الوحيد الذي كان باني متأكدًا منه هو ضرورة تحديد العمال تكتيكاتِهم، دون إحداث ضغينة وانقسام في صفوفهم. لكنه صار يشكُّ في إمكانية حدوث هذا الأمر من أساسه. هذا النزاع بين الفصيلَين كان ينطوي على طبيعة المشكلة. فإن كان الفصيل يؤمن بالانتقال السلمي للسلطة فسيتخذ المسار السلمي، وإن كان يؤمن بعكس ذلك فسيتخذ المسار غير السلمي. إذا آمَنَ بقدرته على إقناع جماهير المصوِّتين، فسيتعامل بحذَر وكياسة وسيتجنَّب المتطرفين الذين ينفِّرون المقترعين بسبب أساليبهم العنيفة. لذا سيحاول إقصاء الشيوعيين عن تنظيمه، ويُثير بذلك مقتَهم، وسينعتونه بالمتساهل و«المتعاون الطبقي»، ويُصرُّون على عمالته للمديرين، وأنهم استأجروه لإبقاء العمال تحت سيطرتهم.

وفي نفس الوقت سيتَّهم الاشتراكيون الشيوعيين بالرشوة. ظلَّ خاييم مينزيس يتهم بعض الشيوعيين بالعمالة السرية، وأنهم أُجراء المديرين بهدف بثِّ روح الفرقة بين أعضاء الحركة وتعريضهم لمداهمات الشرطة. علم باني، من المحادثات التي سمعها من شركاء أبيه، أن كبار رجال الأعمال لديهم شبكةٌ معقَّدة من العملاء السريين، تهدف إلى تعطيل أنشطة الحركة العمالية. كان هؤلاء العملاء يعملون في كلا الاتجاهَين، فيستأجرون قادةً متشددين يغدرون بالعمال أو يلغون الاضطرابات، أو يعقدون إضراباتٍ طائشة لا أمل في الفوز فيها، أو يرسلون عملاءَ يتظاهرون بالتطرف، فيتسبَّبون في حدوث الانقسام بين التنظيمات، ويُغْوون القادة بارتكاب الجرائم. وربما يبدو بعيدًا عن التصديق القولُ بأن الخدمة السرية الحكومية متورطةٌ بشدة في هذا العمل، تحت قيادة الوطني العظيم بارني بروكواي. فعند محاكمة إحدى الجماعات الشيوعية علَّق القاضي الفيدرالي المشرف على القضية قائلًا إن إدارة الحزب الشيوعي، على ما يبدو، في قبضة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية!

٩

كان يراود باني حلمٌ جميلٌ دائمًا؛ أن ينبذ أصدقاؤه الضغينة وينسجموا معًا. لهذا السبب اصطحب رايتشل لزيارة بول وروث، كان يكنُّ لهم محبةً كبيرة، ولا بد أنهم يبادلونه نفس الشعور. لكن وا أسفاه، لم يبدُ أنهم كذلك! فقد تعامل الطرفان بتحفُّظٍ بالغ، وتجنَّبا الحديث في السياسة، كأنهما في زيارة للموناستري! لكن باني رغب في أن يتحدث الطرفان في السياسة؛ لأنه كان يُحاوِل فضَّ النزاع في داخله، وشعَر أنهما مؤهلان لأداء هذه المهمة؛ فهما من الطبقة العاملة وهو مجرد دخيل عليها. قد ينجح طرفٌ في إقناع الآخر، لكن لم يكن من السهل عليه تحديدُ الطرف الذي يريده أن يتحوَّل عن رأيه، والطرف الذي يريده أن يثبُت عليه!

استجوب باني بول، وعلم أنه تخلى عن حرفة النجارة؛ إذ يمنحه حزب العمال مرتبًا صغيرًا كي يكرِّس وقته للأمور التنظيمية. كان بول قد قابل جو وإيكاي مينزيس، الشابَّين اللذَين ينتميان للحزب «اليساري»، وتحدَّث باني عن الجهد الذي بذله مع رايتشل لإيقاف بِن سكوت في المحاكمة. ودَّ باني لو أن الاشتراكيين والشيوعيين يتعاونون معًا بدلًا من أن يساعدوا عدوَّهم في النَّيل منهم!

شجَّعَت المحادثة رايتشل في التعبير عن رغبتها في سماع أفكار الرفيق واتكينز. (كلما أراد اشتراكيٌّ إظهار الاحترام لبلشفيٍّ، ناداه بالرفيق، وهو مصطلح كان ساريًا قبل اندلاع هذا النزاع العائلي!) فسألَت عن كيفية إنجاح انتفاضةٍ جماهيرية في أمريكا، والرأسماليةُ تسيطر على جميع الأسلحة ووسائل التواصل الإعلامي. كما أنه صار لديها غازٌ سام من شأنه قتل آلاف العمال الثوريين في الحال. النتيجة المحتملة الوحيدة هي أن يردَّ العمال على الرأسماليين، كما حدث في إيطاليا، عندما سيطروا على المصانع، ثم اضطُروا إلى التخلي عنها لعجزهم عن إدارتها.

أجاب الرفيق واتكينز بأن إيطاليا لم تكن مالكة للفحم، بل اعتمدَت على بريطانيا وأمريكا لتوفيره، وهو ما منحَهما الفرصة لقمع العمال الإيطاليين. لقد تحرَّكَت الفاشية الإيطالية، في حقيقة الأمر، بدعم من المصرفيين الأمريكيين؛ إذ لم يجرؤ موسوليني وعصابتُه على تحريك إصبعٍ واحدة دون التأكُّد من حصولهم على التمويل من أمريكا. وفعلنا في إيطاليا مثلما فعلنا في المجر وبافاريا؛ على مستوى العالم كان الذهب الأمريكي يدعم استجابة العمَّال. كان بول قد شَهِد ذلك بأم عينَيه في سيبيريا، وقال إنه لن يفهم أحدٌ مغزى ذلك على الإطلاق حتى يختبر الأمر بنفسه. ولم يوجِّه بول اللوم إلى الرفيقة مينزيس لشعورها ذاك؛ إذ كان طبيعيًّا من شخص نشأ في السلم، لكنه شارك في الحرب، ورأى نضال الطبقة العاملة على أرض الواقع.

قالت رايتشل: «نعم، أيها الرفيق واتكينز، لكننا إذا حاولنا وأخفقنا فستزداد الأوضاع سوءًا!»

قال بول: «لو لم نحاول، فلن ننجح أبدًا، وإذا أخفقنا فسيزداد الوعي الطبقي، وستكون النهاية أقرب مما لو لم نفعل شيئًا. يجب أن نضع الهدف الثوري أمام الجماهير وألَّا نتركهم يقعون في فخ التسوية. هذا هو سبب نقدي للحركة الاشتراكية؛ أنها تُخفِق في إدراك القوى الفكرية والأخلاقية الكامنة في الطبقة العاملة، والتي يمكن استدعاؤها بالدعوة المناسبة.»

قالت رايتشل: «آه، هذا هو السؤال، ما هي الدعوة المناسبة؟ أريد الدعوة إلى السلام بدلًا من العنف. لأن السلام يبدو لي أكثر أخلاقية.»

أجاب بول أن مناشدة نمرٍ بالتزام السلمية قد تبدو دعوةً أخلاقية للبعض، لكنها تبدو له عديمةَ الجدوى. والدليل على ذلك ما فعلَته الطبقة الرأسمالية في السنوات التسع الماضية. فقد قضَت على ثلاثين مليون شخص، وعطَّلَت ثروات تُقدَّر بثلاثمائة مليار، وأفسدَت كل ما أنتجه جيلٌ كامل من الكادحين. لهذا السبب لم يدخل بول مع الرأسماليين في مناقشاتٍ أخلاقية؛ فهم حفنةٌ من المجانين القتلة، ولا بد من إزالتهم من السلطة بأي ثمن. وأيُّ وسيلة تحقِّق هذا الهدف هي وسيلةٌ أخلاقية؛ لأنه ما من شيءٍ غير أخلاقي بالمرَّة مثل الرأسمالية.

عندما رحل باني مع رايتشل، وصفت بول بالرجل الاستثنائي والخطير، بلا ريب، على الطبقة الرأسمالية. وقالت إنه لا يزال يُعاني من آثار ما بعد الحرب، والذين تسبَّبوا في الحرب سيتعيَّن عليهم أن يتعاملوا معه. بعد ذلك سألها باني عن رأيها في روث، فقالت إنها فتاةٌ لطيفة، لكنها تفتقد إلى الحيوية نوعًا ما، وسألَتْه إن كان يتفق معها في ذلك أم لا. حاول باني أن يشرَح لها أن روث عميقةُ الشخصية، جيَّاشة المشاعر، لكنها لا تُفصِح عنها إلا فيما ندر. فقالت لا بد أن تفكِّر روث في نفسها؛ لأنها ستُواجِه الكثير من الصعوبات، إذا ما اتبعَت بول في مسلكه البلشفي. اقترح باني عليها أن تساعد في تعليمها، لكنها ابتسمَت وقالت إنه ليس ساذجًا لهذه الدرجة؛ فلن يروق لبول أن يأتي اشتراكيٌّ إلى منزله ويسرق منه تعاطُف أخته. وهكذا أدرك باني أنه لا سبيل لتحقيق الوئام بين أصدقائه مهما بذل من جهد!

رأى باني بول في وقتٍ لاحق، وعرف منه رأيه في رايتشل. قال إنها فتاةٌ لطيفة، حسنة النية، ذكية، لكنها لن تستمر في موقفها البروليتاري ذاك لفترةٍ طويلة. فلن تحدث الثورة الاجتماعية في أمريكا بواسطة العمل الخيري الذي تؤديه خريجات الجامعات الشابات للطبقة الرأسمالية! لهذا السبب كل ما تفعله في صفوف اتحاد الشباب الاشتراكيين جهدٌ لا طائل من ورائه في معظمه؛ لأن المنظمات الاشتراكية تبذل جهودها في محاربة الشيوعية. وسيُسَر الرأسماليون أيما سرور بتوظيفها لأداء هذه المهمة!

لكن بطريقةٍ ما أدرك باني أن الوضع ليس على هذا النحو؛ فقد اتسم الرأسماليون بضيق الأفق وانعدام الرؤية! ففي غضون أيامٍ قليلة علم أن رايتشل تواجه معضلةً عويصة. كانت قد أخذَت دورة تدريبية مدتها أربع سنوات في الجامعة بهدف العمل في المجال المجتمعي، لكن حذَّرَتها صديقةٌ تأخذ بنصيحتها أنها تُضيِّع كل فرصها بعملها مع «اتحاد الشباب الاشتراكيين». لم يكن من السهل أن تحصل فتاةٌ يهودية من الطبقة العاملة على وظيفةٍ مهنية، حتى تزيد الوضع سوءًا بانتمائها للاشتراكية. فلا بد أن تنتظر حتى تحصُل على وظيفةٍ وتثبِّت أقدامها فيها على الأقل.

هكذا واجهَت رايتشل المزيد من المشكلات! ماذا ستفعل في هذه المعضلة؟ الإجابة هي أنها لن تتخلَّى عن اتحاد الشباب الاشتراكيين المحبَّب إليها. كانت تعلم أن الانتظار ليس خطأً في حد ذاته، لكن العقد ينفرط بانفراط حبةٍ واحدة منه؛ وإن سارت في هذا الطريق فلن تستطيع التوقف. لهذا قرَّرَت رايتشل أنها ستخاطر باحتمالية تعرض «اتحاد الشباب الاشتراكيين» لمداهمة الشرطة، أو إدانته بالتآمر في الصحف لزعزعة مبادئ الشباب الأخلاقية! وإنْ ثبتَت صحة كلام صديقتها أن الطبقة البرجوازية لا ترغب في استعمالها في تصريف جمعياتها الخيرية، فستُحاوِل العثور على عمل في الحركة العمالية. وانطلق باني للوفاء بالتزامه بتناول العشاء مع فِي تريسي، وذهب بوجهٍ حزين وضميرٍ مُعذب، لم يفلح في إخفاء أيٍّ منهما!

١٠

اقترَب موعد التخرج وانشغَل الطلاب باختيار وظائفهم المستقبلية. سأل الأب باني عما إذا كان قد اتخذ قرارَه في هذا الشأن، وردَّ باني بالإيجاب. قال: «لكن أخشى أن أخبرك يا أبي؛ لأن ما سأقوله سيُصيبُك بالتعاسة.»

حلَّت نظرةٌ قلقة على وجه العجوز المستدير المليء بالتجاعيد وسأل: «ما هي يا بُني؟»

قال: «حسنًا، أريد الرحيل لمدة عام، واستخدام اسمٍ جديد، والحصول على وظيفة في إحدى الصناعات الكبيرة.»

هتف الأب: «أوه، يا إلهي!» تلا ذلك فترةُ صمتٍ وجيزة، فيما حدَّق الأب في عينَي ابنه المضطربتَين. وسأل: «ماذا تقصد بذلك؟»

قال: «كل ما أسعى إليه هو فهم الطبقة العاملة، ولا سبيل آخر لتحقيق هذا الأمر.»

سأل: «ألَا تستطيع سؤالهم عما تريد معرفته؟»

أجاب: «نعم، يا أبي؛ فهم لا يمتلكون إجابةً واضحة عن هذا السؤال. لا بد من أن أختبر الأمر بنفسي.»

هتف: «رحماك يا إلهي، دعني أساعدك، يا بني! لقد مررتُ بتلك التجربة. ولن تجد سوى القذارة والحشرات والأمراض؛ كنتُ أظن أنني أنقذتُك من هذا الوضع، ووفَّرتُ لك حياةً كريمة!»

قال: «أعلم، يا أبي، لكن هذا خطأ؛ فلم يسِرِ الأمر مثلما توقَّعتَ. عندما يحصُل المرء على كل ما يريده بلا تعب، يصبح مدللًا وبلا إرادةٍ مستقلة. أُدرِك ما فعلتَه من أجلي، وأدينُ لك بالفضل، لكن يجب أن أحاول تجربة شيءٍ مختلف لبعض الوقت.»

سأل: «ألن تجد أي صعوبة في إدارة صناعة النفط؟»

قال: «قد أواجه بعض التحديات يا أبي، إن استطعتُ تولي الإدارة حقًّا. لكنك تعرف أنه لا يمكنني فعل ذلك. هذا العمل ملكٌ لك، وإنْ منحتَه لي فلن يسمح لي فيرن واتحاد المديرين بالتصرف كما أريد. لا، يا أبي، ثمَّة خطأٌ جوهري في صناعة النفط، ولن أستطيع ممارسةَ هذه الوظيفةِ مع البقية. أريد أن أغادر وأن أجرِّب عملًا مختلفًا بنفسي.»

سأل: «أتعني أنك ستذهب بمفردك؟»

قال: «لديَّ زميل يشاطرني نفس الرأي وسنذهب معًا. اسمه جريجور نيكولاييف.»

هتف: «ذلك الروسي! ألم تجد زميلًا أمريكيًّا يرافقك؟»

قال: «حسنًا، هذا ما حدث يا أبي، فلم تُثِر الفكرة اهتمام أحد الأمريكيين.»

تلا ذلك صمتٌ طويل. وسأل: «هل أنتَ جادٌّ فيما تقوله؟»

قال: «نعم، يا أبي، لقد عزمتُ على الأمر.»

عقَّب الأب قائلًا: «أنتَ تعلم، يا بني، أن الصناعات الكبرى في غاية القسوة، أو معظمها على أي حال. فبعض الرجال يتأذَّون والبعض الآخر يُقتَلون.»

قال: «أجل، هذه هي المسألة.»

علَّق: «ما قُلتَه صعبٌ جدًّا على أبٍ لا يملك إلا ابنًا واحدًا وقد وضع عليه كل آماله. لقد فكَّرتُ كثيرًا بشأنك كما تعلم، وأنتَ السبب الرئيس وراء كدحي.»

قال: «أعلم يا أبي، ولا تظن أنني لم أعانِ بسبب هذه الحقيقة، كل ما في الأمر أنني لا أستطيع إيقاف نفسي.»

ساد الصمت من جديد. سأل: «هل فكَّرتَ في أمر فِي؟»

أجاب: «نعم.»

سأل: «وهل أخبرتَها بما تنوي فعله؟»

قال: «لا، أجَّلتُ الأمر مثلما فعلتُ معك. أعلم أنها لن تسمحَ بذلك. وسأُضطَر إلى التخلِّي عنها.»

قال: «يجب أن يفكِّر المرء طويلًا، يا بني، قبل أن يُفرِّط في سعادته بهذه الطريقة.»

ردَّ: «لقد فكَّرتُ في الأمر من جميع الأوجه. لكن لا يمكن أن تكون حياتي مرتبطةً بمسار فِي السينمائي. سأشعُر بالاختناق من البذخ. فلديَّ قناعاتي الخاصة، ويتحتَّم عليَّ الالتزام بها. أريد محاولةَ مساعدةِ العمال، ولا بد أولًا أن أعرف شُعورَهم.»

قال: «أراك تتحدث كواحدٍ منهم يا بني؛ أعني الشيوعيين.»

ردَّ: «ربما يكون الأمر كذلك يا أبي، لكن أؤكِّد لك أن الشيوعيين لا يشاطرونك الرأي!»

حلَّ الصمت مرةً أخرى. كان مخزون الأب من الكلمات على وَشْك النفاد. قال: «لم أسمع بهذا الأمر من قبلُ في حياتي!»

ردَّ: «إنها فكرةٌ قديمة جدًّا، عُمرها ألفان وأربعمائة سنةٍ على الأقل.» وتابع باني يحكي قصة السيد الشاب سدهارتا، في بلاد الهند البعيدة، الذي يعرفه العالم الغربي باسم بوذا، وسرد كيف تخلَّى عن أراضيه وكنوزه، وخرج للسياحة بطستٍ كالشحاذين، على أمل أن يكتشف حقيقة الحياة التي لا يعرفها أهل البلاط. أضاف: «كان المكان الذي منحَه الملك للأمير يتألَّق بجميع محاسن الهند؛ إذ كان الملك حريصًا على سعادة ابنه. وحُجبَت عنه جميعُ مظاهر الحزن والبؤس والمعارف البائسة فلم يعرف بوجود الشر في العالم. لكن كما يتوق الفيل المُكبَّل لحياة الأدغال البرية، تشوَّق الأمير لرؤية العالم، وطلب إذن والده الملك لتحقيق مراده. فأمر سدودانا بتجهيز عربةٍ مُرصَّعة مقدمتُها بالجواهر وذات أربعِ خيولٍ ضخمة من أجل ابنه، كما أمر بزخرفة الطرق التي سيطرقُها بعربته.» انفجر باني ضاحكًا عندما رأى النظرة الحائرة على وجه أبيه. قال: «هل تريدني أن أصبح بوذيًّا أم بلشفيًّا يا أبي؟»

وفي الحقيقة حار الأب في الإجابة!

١١

في القرن الحالي، فُتِح عالمٌ جديدٌ من المعرفة، وهو العقل اللاواعي، وتردَّد الكثير من الأقاويل الغريبة بشأنه. وعُرف أن الإنسان ينال مطلبه بطريق العزيمة، فإذا حِيل بينه وبين مطلبه في بعض الأحيان، تمادت النفس ومرض الجسد. فالزوجة الغَيور قد تعاني من انهيارٍ عصبي، حقيقةً لا تكلفًا، حتى تنال اهتمام زوجها، وهناك أمثلةٌ أخرى على هذه الظاهرة الغريبة. لكن النظريات الفرويدية لم تتغلغل جنوب المحيط الهادي؛ لأنها لا تتوافق مع العقيدة الميثودية. لذا لم يُثِر هذا النمط شكوك باني، عندما أصيب أبوه بنوبةِ إنفلونزا شديدة، بعد تخرُّجه بفترةٍ وجيزة، وقبل رحيله مع جريجور نيكولاييف. واضطُر باني إلى تأجيل رحيله بالتأكيد، وظهرَت كل المشكلات الممكنة في بيته. ومرَّت أيامٌ عديدة كانت فيها نجاة الأب غير مؤكدة، وشعر باني بتأنيب الضمير، كما تنبَّأ فيرنون روسكو. وساورَه القلق حيال إدارته لثروة الأب التي تُقدر بالملايين!

تحسَّنَت حالة الرجل المسن، لكنه كان في غاية الضعف والوهن، وحذَّر الطبيب عائلتَه من أن نوبة الإنفلونزا قد تركَت قلبه في حالةٍ سيئة؛ لذا فإنه بحاجة إلى العناية وعدم التعرُّض للصدمات. ولا بد أن الأب كان يضحك بسعادة في أعماق قلبه؛ إذ لم يعُد بإمكان باني الرحيل على الإطلاق. وتعلَّق الأب بيد ابنه مثل طفلٍ صغير، فلم يجد باني مفرًّا من أن يجلس بجواره، ويقرأ عليه القصة الحزينة الرقيقة للسيد الشاب سدهارتا. هل أخبر الأب فِي بخطته السرية أم حدث تواصلٌ تخاطري بين عقلَيهما اللاواعيين؟ فقد كثُر تردُّدها على المنزل، وأظهرَت حنانًا وشفقةً بالغَين، ما ساهم في تقييد روح باني الجامحة بملايين من الحبال الحريرية.

بعد ذلك، أصبح الأب قادرًا على التجوُّل في الأنحاء، والجلوس على الشُّرفة تحت أشعة الشمس، فبدأ عقله الواعي الحكيم يعمل من جديد، وعلى الفور وضع خطة. قال: «كنتُ أفكر في مشكلتك يا بُني، وأدركتُ أن من حقك التعبير عن أفكارك. تُرى أيمكننا الوصول إلى حلٍّ وسط وتسمح لي بمساعدتك؟»

سأل: «كيف ذلك يا أبي؟»

أجاب: «حسنًا، يمكنك أن تحصل مني على المال، وتستخدمه كيفما تشاء، كأنه مالك الخاص. لن يروقني بالطبع أن أساعدك في أمرٍ يخالف القانون، لكن إن وجدت تعليمًا معينًا لا يدعو إلى العنف فلا بأس في ذلك، فهل سيفي بغرضك أن تحصُل على دخلٍ شهري مقداره ألف دولار لتمويل هذا؟»

ألف دولار في الشهر! يا إلهي! نسي باني معايير طبقته؛ لأن هذا المبلغ لا يغطي تكلفة مجموعةٍ من أمهار البولو أو يخت سباقٍ صغير؛ فقد كان يفكِّر بمعايير المتطرفين، حيث تُغطي ألف دولار شهريًّا التكلفة الكاملة لكليةٍ أو صحيفةٍ أسبوعية للعمال. لم يذكُر الأب شيئًا حول بقائه في بلده، لكنه كان يعلم أن العرض عبارةٌ عن رشوة؛ لأنه سيُضطر إلى إدارة التمويل! أذعن باني لهذا الإغراء، وأسرع يتصل برايتشل ليخبرها أن لديه وظيفةً محتملة من أجلها!

دعا باني رايتشل إلى الغداء، وكان عقله يقفز من خطةٍ إلى أخرى في طريقه إلى هناك بالسيارة. ستظل رايتشل سكرتيرة «اتحاد الشباب الاشتراكيين» بالراتب نفسه الذي كانت ستحصُل عليه لو عملَت مرشدةً اجتماعية. وسيستأجر الاشتراكيون الشباب قاعةً أكبر حجمًا، وسينشرون صحيفةً أسبوعية تستهدف المدارس الثانوية والكليات في إنجِل سيتي. وسيتحرَّر باني من الوعد الذي قطعه للبروفيسور كوبر بشأن عدم الترويج للاشتراكية في جنوب المحيط الهادي. سينجح في الأمر بلا أي شك! وسيعرف طلابُ تلك الجامعة وغيرهم الفكر المعاصر والحركة العمالية والاشتراكية، ولن يعرفوا كثيرًا عن الشيوعية بالتأكيد؛ لأن الأب سيرى ذلك تطرفًا، وقد يكون انتهاكًا للقانون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤