الساكن الجديد

اتفق «تختخ» مع الأصدقاء على أن يقوم كلٌّ منهم بمتابعة عدد من المشتبه فيهم، ليعرف كيف قضى يوم الحادث بالضبط … فكان على «مُحب» أن يعرف عنوان شركة الطيران التي يعمل بها الموظَّفون الأربعة، ويسأل عن أماكن وجودهم ساعة الحادث، وهل كانوا في العمل فعلًا أم أنهم غادروه لأي سبب … وكان على «عاطف» أن يتأكَّد من أن «كامل» ذهب فعلًا إلى النادي لمشاهدة مباراة الكرة … وأن يتأكَّد أن «سيد» قد سافر إلى «طنطا» في موعده، وكان على «نوسة» و«لوزة» أن تُساعدا «مُحب» و«عاطف» في عملهما، أمَّا «تختخ» فقد كانت له مهمة أخرى، لقد قرَّر أولًا أن يذهب لمحاولة مقابلة «محسن» للمرة الثانية؛ فقد خطر له خاطرٌ هام، لو استطاع أن يصل إلى التحقُّق منه لبدأ خطًّا جديدًا في حل اللغز.

كان الخاطر في رأس «تختخ» هو: هل دخل «محسن» السينما في ذلك اليوم حقًّا أم لم يدخل؟ صحيح أنه من الصعب التأكُّد من ذلك ولكن لا بد من المحاولة.

وهكذا قفز «تختخ» إلى دراجته واتجه إلى القسم، وهو يُفكِّر كيف يستطيع أن يُقنع الشاويش بالسماح له بمقابلة المتهم، أو لعله رحل إلى «حلوان»، حيث وكيل النيابة ليستكمل التحقيق هناك …

عندما اقترب «تختخ» من القسم كانت في انتظاره مفاجأة طيبة هذه المرة؛ فقد لاحظ وجود تاكسي تنزل منه فتاة على جانبٍ كبير من الجمال، ثم تتجه إلى القسم، فأسرع خلفها، وقرَّر أن يُجرِّب الحديث إليها … فقد فكَّر أنها قد تكون خطيبة «محسن»، وأنها قد حضرت لزيارته بعد أن قرأت الجرائد، ورأت صورته المنشورة مع أخبار الحادث! وقد صدق ظن «تختخ»، وكانت الفتاة فعلًا هي خطيبة «محسن»، فقد سألها «تختخ» في جرأة: هل جئتِ لزيارة «محسن»؟ كأنما يخشى ألَّا تكون هي، أو أن تُجيبه بطريقةٍ غير مهذبة، ولكن الفتاة أجابت بأدبٍ وظرف: نعم أنا خطيبة «محسن» …

تختخ: إن اسمي «توفيق» وأصدقائي يدعونني «تختخ»، وأنا صديق ﻟ «محسن» وأرغب في مساعدته، ولكني لا أستطيع دخول القسم لأسبابٍ خاصة، فأرجو أن تسألي «محسن» هل معه كعب تذكرة السينما التي دخل بها أول أمس؟ إن ذلك شيءٌ هام، وسوف أنتظرك في الخارج، وقولي ﻟ «محسن» ألَّا ييأس.

وقف «تختخ» بعيدًا عن القسم في انتظار عودة خطيبة «محسن»، ومرَّت نصف ساعة قبل أن تظهر الفتاة مرةً أخرى، فأسرع إليها فوجد عينَيها محمرَّتَين من أثر البكاء، وقد بدا عليها الحزن، فقال في لهفة: هل وجدتِ شيئًا؟ هل كعب التذكرة معه؟

قالت الفتاة: للأسف … إنه لا يذكر ماذا فعل ببقية التذكرة … ولكن في الغالب قد ألقاها على الأرض بعد خروجه من السينما … لقد فتَّش جيوبه جيدًا فلم يجد شيئًا … لقد انتهى الأمل تمامًا … وسوف ينقلونه اليوم إلى «حلوان» لتقوم النيابة بالتحقيق معه هناك.

أحسَّ «تختخ» بخيبة أمل شديدة؛ فحتى آخر خيط تعلَّق به انتهى، وسوف يَلقى «محسن» جزاءه المحتوم سواء أكان مظلومًا أم مجرمًا، ولكن «تختخ» تمالك نفسه وقال: لا تحزني على كل حال … إنني مؤمنٌ أن الغد سوف يحمل آمالًا جديدة، وخذي رقم تليفوني وعنوان منزلي، واتصلي بي إذا حدث جديد.

قالت الفتاة: شكرًا لك على كل حال، وسوف أذهب الآن لأخذ حاجات «محسن» من «البنسيون».

فكَّر «تختخ» بسرعة … فقد طرأت على رأسه فكرة قرَّر أن يُنفِّذها فورًا، فقال للفتاة: أرجو ألَّا تأخذي حاجات «محسن» الآن … أبقيها في مكانها واذهبي للجلوس ﺑ «الكازينو» الموجود على الكورنيش، وسأعود لك خلال نصف ساعة فلا تتحرَّكي.

كانت فكرة «تختخ» مدهشةً حقًّا … لقد قرَّر أن يذهب للسكن مكان «محسن» في «البنسيون»، ويُقابل كل من له صلة بالحادث … ويدرس مكان الحادث جيدًا، فقد يصل إلى شيءٍ جديد.

عندما وصل «تختخ» إلى غرفته كانت الفكرة قد اختمرت في رأسه تمامًا، فخلع ثيابه مسرعًا، وأخذ يتنكَّر في شكل شاب أنيق له شارب رفيع ونظارة سوداء كبيرة، ثم وضع في حقيبته بعض الملابس و«بيجاما»، ومن السلم الخلفي تسلَّل خارجًا من منزله، بعد أن أخذ معه كل ما يملك من نقود.

عندما وصل «تختخ» إلى «الكازينو» كانت الفتاة جالسةً وحدها فاقترب منها، ثم جلس بجانبها قائلًا: لا تخافي.

ذُعرت الفتاة ونظرت إلى الشاب ذي الشارب والنظارة في دهشةٍ شديدة، ثم قالت: ماذا تُريد؟ من أنت؟ لماذا تجلس بجواري؟

تختخ: لا تخافي إني «توفيق» … «تختخ»!

الفتاة: لا يمكن … انصرف فورًا وإلَّا استدعيت «الجرسون» لطردك …

قال «تختخ» مبتسمًا: عظيم جدًّا، إن التنكُّر متقن حقًّا … إنني «توفيق» الذي كنت معك منذ نصف ساعة … صديق «محسن». ثم مال حتى قرَّب وجهه من وجهها ونظر حوله فلم يجد أحدًا يراهما، فمدَّ يده ببساطة ورفع طرف شاربه بسرعة قائلًا: وحياة هذا الشارب أنا «توفيق»، ثم أعاد لصق شاربه مسرعًا.

وبرغم حزن الفتاة فلم تستطِع أن تمنع نفسها من الابتسام، وهزَّت رأسها معجبةً به وقالت: إنك شابٌّ مدهش … لقد أفزعتني ولكن قل لي: ماذا تُريد أن تفعل بالضبط؟

تختخ: سنذهب الآن إلى «البنسيون» … إنهم يعرفونك هناك أليس كذلك؟

الفتاة: نعم … فقد زرت «محسن» مع شقيقي بضع مرات.

تختخ: عظيم … ستُقدِّمينني هناك على أنني قريبك، ولْيكن اسمي «توفيق» كما هو، وتقولين إن حاجات «محسن» ستبقى في مكانها، وإنني سأستعمل غرفته إلى أن ينتهي التحقيق، ومن ناحيتي لن أتكلَّف شيئًا؛ فقد دفع «محسن» الإيجار مقدَّمًا … وأرجو أن أتمكَّن من الوصول إلى شيءٍ جديد.

قام «تختخ» ومعه الفتاة وسارا … كانت الشوارع غارقةً في الحر والشمس، وهو يحمل الحقيبة ويلبس «بدلةً» كاملة، فأحسَّ كأنه قد دخل إلى فرن مشتعل، ولكنه تحمَّل في سبيل المغامرة.

تمَّ كل شيء كما رسمه «تختخ»؛ فقد كان «جان» الذي ورث «البنسيون» عن عمته هناك، يجلس على المنصة في الدور الأرضي … وكانت «حسنية» الشغَّالة والطبَّاخ «عمر» يقفان معه، وبعد دقائقَ كانت «حسنية» تحمل حقيبة «تختخ» إلى الدور العلوي وتفتح له الباب، فدخل بعد أن منحها «بقشيشًا» سخيًّا؛ فقد كان متأكِّدًا أنها ستكون مصدرًا هامًّا للمعلومات.

أخذ «تختخ» يتأمَّل الغرفة … كانت صغيرةً وقديمة … بها دولاب وسرير ومكتب صغير وكرسي … وكرسي «فوتيه» … وكل شيء يبدو عليه القِدم، وكان بها نافذة تُطل على الحديقة، فتحها «تختخ» وأطلَّ منها إلى أسفل، فرأى بجوارها شجرةً ضخمةً عتيقة، تصل أفرعها الغليظة القوية حتى النافذة، فقال «تختخ» في نفسه: إن من يتسلَّق هذه الشجرة يستطيع أن يصل ببساطة إلى النافذة ويدخل الغرفة.

وبعد أن فكَّر قليلًا في هذه القفزة الممكنة، اتجه إلى أرضية الغرفة الخشبية. كانت قديمةً ككل شيء في المكان، وقد تشقَّقت الألواح في أكثر من ناحية وبرزت، وكان من الممكن حقًّا أن تُخفى النقود تحتها، ثم توضع السجادة وعليها الكرسي كما حدث. وتنهَّد «تختخ» وهو يقول لنفسه: من المؤكَّد أن الشاويش «فرقع» معه كل الحق؛ فالأدلة كلها تُحيط بالمتهم، ومن الصعب جدًّا أن يجد الإنسان ثغرةً واحدةً في التحقيق وفي الأدلة.

انتهى «تختخ» من فحص كل شيء جيدًا، ثم نشط إلى العمل. كان أهم شيء يُريد عمله هو الحديث إلى الشغَّالة «حسنية» وإلى الست «دولت»، وهكذا مدَّ يده إلى الجرس واستدعى «حسنية».

جاءت الفتاة مسرعة؛ فقد كان البقشيش السخي الذي دفعه «تختخ» مازال يُدفِّئ جيبها، ولعلها ستحصل على بقشيشٍ آخر.

وصلت «حسنية» فقال لها «تختخ»: إنك تعرفين أنني تربطني ﺑ «محسن» وخطيبته قرابة، وهذا الحادث قد أثَّر علينا كثيرًا وأُريد أن أسألك بضعة أسئلة … بدا على الفتاة الخوف وقالت: أنا لا أعلم أي شيء، لقد كنت خارج «البنسيون» عندما وقع الحادث … ثم أخذت دموعها تسيل قائلة: الله يرحمك يا مدام «روز»، لقد كانت طيبة … إنها هي التي ربَّتني؛ فقد جئت إلى هذا المكان صغيرةً لا أعرف لي أمًّا ولا أبًا … وقد ربَّتني صغيرة … وكانت تنوي أن تُزوِّجني من الطبَّاخ «عمر»، ولكن كل شيء انتهى الآن …

تختخ: هل أنت مخطوبة للطبَّاخ؟

حسنية: نعم يا سيدي، وقد كان في الخارج معي عند وقوع الحادث.

تختخ: هل أنت مقتنعة أن «محسن» هو الذي سرق النقود؟

حسنية: لا أدري يا سيدي … ولكنه كان آخر من دخل الغرفة لدفع الإيجار لمدام «روز» وكان أول الشهر، ولعله رأى النقود الكثيرة ففقد عقله وسرقها.

تختخ: هل أنتِ متأكِّدة أنه كان آخر من خرج من «البنسيون» في ذلك اليوم؟

حسنية: هذا ما قاله الجميع … ولكني أنا لم أرَ شيئًا …

تختخ: ما هو سر الخلاف الدائم الذي كان بين الست «دولت» ومدام «روز»؟

فوجئت «حسنية» بالسؤال فقالت: هل عرفت هذا أيضًا؟

تختخ: إنني سمعت فقط عن هذا الخلاف …

حسنية: لقد كانت مدام «روز» ساخطةً على الست «دولت»؛ لأنها لا تدفع إلَّا خمسة جنيهات فقط؛ لأنها تسكن بإيجارٍ قديم، ولأن غرفتها صغيرة، وكانت مدام «روز» تُريدها أن تدفع مثل الباقين، أي سبعة جنيهات ونصف جنيه، ولكنها رفضت، وهكذا كانتا تتشاجران طول الوقت، وخاصةً أنه ليس عند الست «دولت» ما يشغلها، فكانت تُضيع وقتها في هذا الخناق.

تختخ: ألم تصطلحا أبدًا؟

حسنية: أبدًا … أو نادرًا، حتى إن الست «دولت» كانت تُعطي الإيجار للأستاذ «محسن» ليدفعه لها؛ حتى لا تلتقي هي ومدام «روز» وجهًا لوجه، فيثور ساعة الدفع بينهما الشجار حول قيمة الإيجار.

اكتفى «تختخ» بهذا الحديث فصرف «حسنية»، ثم جلس وحيدًا يُفكِّر … فهناك عشرات الأشياء يجب أن يُفكِّر فيها، وقرَّر أن يُقابل الست «دولت» ويتعرَّف عليها، باعتباره ساكنًا جديدًا في «البنسيون» وجارًا لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤