يوم المفاجآت

استيقظ «تختخ» مبكِّرًا جدًّا وأسرع يرتدي ملابس تنكُّره، وذهب إلى «البنسيون» قبل أن يستيقظ أحد … فتسلَّق الشجرة مرةً أخرى … ودخل غرفته، ثم فتح بابها ونزل إلى الصالة، وكم كانت دهشته أن وجد «كامل» نائمًا وهو جالس على كرسي في الصالة! … وكان أول ما خطر ببال «تختخ» أن يكون «فوزي» قد هرب، فأسرع إلى غرفته، وكم أحسَّ بالغضب لأن مخاوفه تحقَّقت؛ فقد كانت الغرفة خاليةً ولا أثر ﻟ «فوزي» فيها! … إذن أفلت العصفور من القفص، هكذا قال «تختخ» وهو يتأمَّل الغرفة الخالية … لقد استيقظ «فوزي» في الخامسة على الأكثر، ثم ترك «البنسيون» وذهب إلى حيث لا يدري أحد …

لم يكن أمام «تختخ» ما يفعله في هذه الساعة المبكِّرة من الصباح إلَّا أن يذهب إلى غرفته ويستلقي على سريره … لقد أفلت «فوزي» بالأمل الباقي لتبرئة «محسن»، ولم يعد في إمكانه أن يفعل شيئًا … فهو لن يستطيع مطاردته في مصر كلها … إن هذا هو واجب رجال الشرطة، أمَّا هو فسوف يعود إلى منزله في نفس اليوم … وأخذ يلوم نفسه لأنه لم يبقَ في «البنسيون» ليُراقب «فوزي» بنفسه، بدلًا من أن يترك رقابته ﻟ «كامل» الذي استسلم للنوم … استسلم «تختخ» للنوم وهو بملابسه، وعندما استيقظ كانت الساعة التاسعة، ووجد «كامل» قد ترك له ورقةً مع الشغَّالة «حسنية» يقول فيها: آسف جدًّا لأنني استسلمت للنوم … وعندما استيقظت في السابعة وهو موعدي المعتاد؛ وجدت أن «فوزي» قد رحل … فأرجو أن تُبلِّغ رجال الشرطة حالًا … وقد اضطُررت للذهاب إلى العمل، ولم أشأ أن أوقظك من النوم …

غادر «تختخ» «البنسيون» متجهًا إلى بائع اللبن … وبعد أن ترك رسالةً تليفونيةً للمفتش «سامي»، أخبره بما حدث من «فوزي».

وصل «تختخ» إلى محل ألبان «السلطان»، الذي يعمل فيه «فتحي»، فوجد أنه خرج لتوزيع اللبن على الزبائن … فجلس في مقهًى قريب ينتظره، وقد استغرق في خواطرَ يائسة … بعد أن أفلت منه «فوزي»، وبعد نحو ساعة حضر «فتحي»، ولمحه «تختخ» وهو ينزل من على دراجته، التي يُوزِّع عليها اللبن فأسرع إليه.

قال «تختخ»: أُريد أن أتحدَّث معك قليلًا يا «فتحي» عن مدام «روز».

بدأ الارتباك على بائع اللبن الشاب وقال: ماذا تُريد أن تعرف عن مدام «روز»؟ لقد ماتت.

تختخ: إنني أعرف أنها ماتت، ولكني أُريد أن أتحدَّث إليك عن يوم حادث السرقة؛ فقد كنتَ هناك.

قال «فتحي» بصرامة: أرجوك يا أستاذ لا تحشرني في هذا الموضوع، إنني لا أعرف شيئًا.

تختخ: بل أنت تعرف أشياء كثيرة … وإذا لم تتحدَّث معي فسوف تُضطر إلى الحديث إلى رجال الشرطة، ومن الممكن أن يكونوا هنا في خلال دقائق.

فتحي: ماذا تُريد يا أستاذ؟ … أرجوك اتركني في حالي، فليس لي دخل في هذا الموضوع …

تختخ: إنني لا أتهمك بشيء … فقط أُريد أن أسألك بعض الأسئلة.

فتحي: تفضَّل.

تختخ: هل ذهبت إلى «بنسيون» «روز» في يوم الحادث؟

فتحي: نعم ذهبتُ إلى هناك مرَّتَين.

تختخ: كم كانت الساعة في المرة الأولى؟

فتحي: حوالي الحادية عشرة إلَّا ربعًا.

تختخ: صِف لي بالضبط جميع خطواتك منذ دخولك إلى «البنسيون» حتى خروجك منه.

فتحي: لقد تأخَّرتُ في ذلك اليوم عن موعدي المعتاد، لذلك فكَّرت أن مدام «روز» قد تدفع لي الحساب، وأنه لا داعي لذهابي مرةً أخرى في نفس اليوم، فلمَّا دخلت من الباب الخلفي كما اعتدت أن أفعل ولم أجد أحدًا، ناديت على «حسنية» ولكنها لم ترد، فتركت كمية اللبن المعتادة، ثم صعدت إلى الدور الثاني وتوجَّهت إلى غرفة مدام «روز».

تختخ: كانت ما تزال حية؟

فتحي: طبعًا يا أستاذ كانت حية … وكانت تجلس في سريرها، فطلبت منها ثمن اللبن.

تختخ: كم كان المبلغ المطلوب؟

فتحي: ثلاثون قرشًا كالمعتاد.

تختخ: ماذا حدث؟

فتحي: قالت إنه ليس معها فكة … فتشتْ في حقيبة يدها فلم تجد، ثم مدَّت يدها تحت مخدة السرير، وأخرجت لفةً كبيرةً من النقود كلها من فئة «العشرة جنيهات والخمسة جنيهات» … وطلبت مني أن أعود في الواحدة بعد عودة «حسنية» و«عمر» من السوق …

تختخ: ألم يكن معكَ أنت فكة؟

فتحي: لا يا أستاذ … قد يكون معي بقية جنيه أو خمسين قرشًا … ولكن عشرة جنيهات لا يمكن، فأنا أجمع النقود صباحًا وأُسلِّمها إلى صاحب المحل، ولا يبقى معي إلَّا بعض القروش التي أملكها أنا شخصيًّا.

تختخ: هل أنت متأكِّد أنها لم يكن معها فكة؟

فتحي: طبعًا يا أستاذ … وهل هناك داعٍ لأن أكذب عليك؟ إنني حتى لم أقل للمعلم ماذا حدث عندما علمت بموتها، ودفعت الثلاثين قرشًا من جيبي حتى لا أتعرَّض لأسئلة رجال الشرطة.

تختخ: ولماذا تخاف من أسئلة رجال الشرطة؟

فتحي: في الحقيقة إنني عندما عدت في حوالي الثانية إلَّا ربعًا، وجدت باب المطبخ مفتوحًا، ولكن «حسنية» لم تكن موجودةً فيه، فدخلت المنزل وناديت عليها ولكن لم يُجبني أحد … وبعد ثوانٍ مرَّ أمامي الأستاذ «فوزي»، وكان يبدو مضطربًا، فتركته وصعدت إلى غرفة مدام «روز»، آملًا أن تكون حصلت على الفكة المطلوبة، ولكني وجدتها نائمةً فلم أشأ أن أوقظها، وقرَّرت العودة الساعة الخامسة، عندما أُوزِّع اللبن على بعض البيوت في المساء، فوجدت رجال الشرطة يملئون المكان … وقابلت الأستاذ «فوزي» الذي طلب مني ألَّا أتقدَّم بشهادتي، حتى لا يشك فيَّ أو فيه رجال الشرطة، فتركت المكان ولم أذكر لأحدٍ هذا الكلام … وأرجو يا أستاذ ألَّا تقوله لأحد … فأنا بصراحةٍ لي سابقة سرقة … وإذا علم رجال الشرطة بوجودي في مكان الحادث؛ فسوف يقبضون عليَّ وأفقد عملي …

تختخ: ولكنهم قبضوا على الفاعل وهو الأستاذ «محسن» …

هزَّ «فتحي» رأسه، ثم قال: صدِّقني يا أستاذ أنا لا أظن أن الأستاذ «محسن» هو مرتكب الحادث … فهو رجلٌ لطيف ومؤدَّب، وكان دائمًا يُحييني ويتلطَّف معي … لا يمكن أن يكون هو …

تختخ: ومن الذي تشك فيه؟

فتحي: لا أعرف يا أستاذ … لقد نهانا الدين عن الظن بالناس، أعوذ بالله من الظن …

تختخ: أنصحك أن تذهب وتدلي بشهادتك لرجال الشرطة؛ فقد تبرئ الأستاذ «محسن».

فتحي: سوف يضعونني في الحبس فورًا، وإذا عرف المعلم أن لي سابقةً فلن يُعيدني إلى عملي مرةً أخرى … وأنا رجلٌ متزوِّج وعندي بنت، وقد استقمت وتبت إلى الله فدعني وشأني.

تختخ: أعدك ألَّا يُضايقك رجال الشرطة إذا بقيت في مكانك، ولم تُغادر «المعادي» حتى أطلبك، فهل تعدني بذلك.

فتحي: أعدك يا أستاذ وأُقسم لك برقبة بنتي «فاطمة» إنني لن أترك مكاني حتى تطلبني.

تأكَّد «تختخ» من صدق «فتحي»، وكان الوقت يمضي سريعًا وهو يُريد أن يعود حتى يُعاود الاتصال بالمفتش … فقد ضاقت الحلقة حول «فوزي»، ولا بد من العثور عليه …

عاد «تختخ» إلى «البنسيون» وسأل إذا كان أحدٌ قد سأل عنه، فوجد رسالةً من «مُحب» يُريد الاطمئنان عليه … فأسرع يتصل به وروى له بسرعةٍ ما حدث منذ تركهم أمس، حتى عودته إلى «البنسيون» بعد مقابلة «فتحي»، ثم طلب منه أن يُسرع هو و«عاطف» إلى الشركة التي يعمل بها «فوزي» لعله يجده هناك، ثم يتصل به إذا كانت هناك معلوماتٍ هامة.

أدار «تختخ» قرص التليفون ليطلب المفتش، ولكن الحرارة ضاعت من التليفون ولم ينطق. جرب مرةً … ومرة … وعشر مرات، ولكن التليفون أصبح جثةً هامدةً ليس فيه حرارة …

لم يُضيِّع «تختخ» الوقت، بل صعد إلى فوق وقابل السيدة «دولت»، وسألها إن كانت قد سمعت صوت أقدام بائع اللبن يوم الحادث، فقالت: طبعًا، إنني أعرف وصوله من صوت دراجته وأواني اللبن التي ترن … وقد سمعت صوت خطواته وهو يدخل غرفة مدام «روز» ويخرج منها.

تختخ: هل كان ذلك قبل أو بعد سماعك الشهقة، وصوت جسم مدام «روز» وهو يسقط على الأرض؟

دولت: بالطبع جاء بائع اللبن قبل ذلك بدقائق … ربما عشر دقائق تقريبًا.

تختخ: هل دفعت إيجار حجرتك لمدام «روز» في يوم الحادث؟

دولت: نعم …

تختخ: كم …؟

دولت: المبلغ الذي أدفعه منذ عشرين عامًا، خمسة جنيهات ورقة واحدة.

سمع «تختخ» في هذه اللحظة من يُنادي عليه، فأدرك أنه مطلوبٌ على التليفون، فاعتذر للسيدة «دولت» ثم أسرع ينزل السلم جريًا، حيث وجد المفتش يتحدَّث إليه …

قال «تختخ»: هل علمت بما حدث؟ لقد هرب «فوزي».

المفتش: علمت … فقد بحث عنه الضابط في الشركة، فقالوا إنه لم يحضر اليوم، وسأل عنه في «البنسيون» فلم يجده هناك.

تختخ: إذن لقد أفلت منا إلى الأبد.

المفتش: لا تخف … لقد عرفنا أنه من «الإسكندرية»، فوضعت له عدة كمائن على مدخل المدينة، ولن يستطيع دخول «الإسكندرية» إلَّا بعد القبض عليه.

تختخ: هذا عظيم، الآن فقط أُحس أنني مطمئن إلى أن الطير لم يهرب منا … وماذا بخصوص الأستاذ «سيد»؟

المفتش: لقد ثبت فعلًا أنه ذهب إلى «طنطا» في نفس اليوم الساعة العاشرة والنصف صباحًا … وما زال هناك في إجازة لمدة أسبوع.

تختخ: هناك معلوماتٌ جديدة عن «فوزي»، لقد عاد إلى «البنسيون» في يوم الحادث، وقد قابله بائع اللبن ولكنهما اتفقا معًا على الصمت، وقرَّرا ألَّا يتحدَّثا إلى رجال الشرطة، وبالنسبة ﻟ «فتحي» فهو خائفٌ منكم؛ لأن له سابقةً وخشي أن تقبضوا عليه، فيطرده صاحب المحل من عمله … وقد وعدني أنه لن يُغادر «المعادي» حتى تسألوه … وأرجو يا حضرة المفتش أن تُعاملوه برفق، وألَّا تُخبروا أحدًا عن سابقته فقد وعدته بحمايته.

المفتش: لا بأس … سوف نُنفِّذ وعدك له … إلَّا إذا ثبت أن له صلةً بحادث السرقة.

تختخ: بالتأكيد … وبهذه المناسبة يا حضرة المفتش أين «محسن» الآن؟

المفتش: لقد نُقل إلى سجن مصر تمهيدًا لمحاكمته.

تختخ: أُريد أن تسأله سؤالًا واحدًا خطر ببالي.

المفتش: أي سؤال؟

تختخ: هل المبلغ الذي دفعه لمدام «روز» كإيجارٍ لغرفته كان فكةً أم لا …؟

المفتش: وما دخل الفكة وغير الفكة في حادث السرقة؟

تختخ: هناك فكرة في رأسي قد تُؤدِّي إلى شيء.

المفتش: لا بأس، سوف نسأله السؤال ونُبلغك.

وانتهت المكالمة … فصعد «تختخ» إلى غرفة السيدة «دولت» لإكمال الحديث معها، ولكنه وجدها نائمةً في كرسيها، وقد ارتفع شخيرها يملأ جو الغرفة الصغيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤