الفصل الثالث

عصر الرومان

من سنة ٢٩ق.م إلى ٣٩٥م

زار استرابون مصر في عصر الرومان ووصفها من الوجهة الجغرافية وصفًا غاية في الدقة، لكنه مع الأسف أمسك عن الكلام على مورادها المالية إمساكًا تامًّا، وقصر وصفه على أنها أصبحت الآن ولاية رومانية تدفع جزية جسيمة (راجع الكتاب ١٧ الفقرة ١٢).

ثم روى في «الكتاب ١٧ الفقرة ١٣» أن دَخْل القطر في عهد بطليموس أوليت بلغ ١٢٥٠٠ تالان (٢٧٠٠٠٠٠ج.م)، وعندئذٍ جالت بفكره ضخامة هذا الإيراد، فقال: أية المبالغ يا تُرَى كان هذا القُطْر يعجز عن توريدها في عهد حكومة الرومان القديرة، وقد كان يورد من قبلُ قدرًا طائلًا كهذا في عهد أسوأ الملوك وأردئهم؟

هذا ومع ما قاله استرابون من عبارات الثناء والمديح على الإدارة الرومانية، فإنه لم يذكر أي رقم عن إيرادات مصر في عهدها.

ومع التسليم بأن هذه الإدارة كانت أجل وأرقى كثيرًا من إدارة أواخر ملوك البطالسة، فإنه يلوح لنا أن ضخامة الدخل التي ذكرها استرابون لا يمكن أن تُعزَى كلها إلى هذا السبب.

وقد كان حكم الرومان لمصر يختلف كثيرًا عن حكم اليونان لها؛ لأنه بينما كان ملوك البطالسة يعتبرون أنفسهم ملوكًا وطنيين، ويقنعون بما تدرُّه أملاكهم عليهم من الخيرات دون التجائهم إلى ربط ضرائب باهظة، كان الرومانيون على العكس لا سيما أغسطس الذي صيَّر البلد ملكًا خاصًّا له، واصطبغ بصبغة الفاتح والسيد الأجنبي، ورمى وراء ظهره مصلحة الأهالي ورفاهتهم، وكان قَلَّمَا يعبأ بمصالحهم أو ينظر إليها، ووجه كل همه لتسيير أحكامه عليهم بكيفية تجلب له كل ما يستطاع من المنافع.

وأيَّد استرابون مسألة وفاء النيل وغمر مائه جميع الأراضي، الأمر الذي كان يسوغ جباية الخراج بتمامه بانتظام (راجع الكتاب ١٧ الفقرة ٢) فقال:
في الأزمان السابقة لحكم بيترون Pétrone لما كانت مياه النيل ترتفع إلى أربعة عشر ذراعًا، كان الناس يعتبرون أن الفيضان بلغ النهاية القصوى، وأنه أصبح في حيِّز الإمكان إنتاج أكبر محصول، ولما كانت المياه تصل إلى ثمانية أذرع فقط، كانوا على العكس يتوقعون نزول القحط، فتبدلت هذه الأحوال جميعها في عهد بيترون بحيث أصبح فيضان النيل إذا وصل إلى اثني عشر ذراعًا، كان لا بد من الحصول على أعظم محصول، حتى إنه حدث في سنة من السنين أن الفيضان لم يجاوز الثمانية أذرع، ومع ذلك لم يشعر إنسان بحدوث مجاعة، وليس في ذلك من عجب؛ لأن هذا هو النتيجة الطبيعية للإدارة الرشيدة. ا.ﻫ.
وقال رينيه Reynier في هذا الصدد (راجع كتاب مصر في عهد حكم الرومان ص١٣٧):

لم يحدث أي تبديل أو تغيير في نظام الزراعة بمصر؛ لأن النظام السالف روعي في وضعه الحالة الطبيعية للإقليم في فصول السنة مراعاة دقيقة جعلته مرتبطًا بها ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أنه لم يكن في حيز الإمكان إحداث تغيير أو تبديل فيه دون أن يجر ذلك إلى إفساده. ولقد استطاع الرومان تبديل الألفاظ إلا أنهم اضطروا إلى إبقاء الأشياء على ما هي عليه، ومع ذلك فإن مجاوزتهم حد السلطة والمفاسد التي تركها ارتشاء الأشخاص الذين أظلتهم المحسوبية وعدم جدارة الإمبراطورية؛ ألحقت الأذى والضرر بالمزارعين والفلاحة.

ومجاوزة حد السلطة هذه كانت تعدِّيًا على القانون، ولم تكن بمثابة نظام جديد. ا.ﻫ.

ومن الواضح الجلي أنه لم يحدث أي تغيير من الوجهة الإدارية، ولكن يلوح لنا أنه لا بد من أنه حدث تغيير كلي في ملكية الأراضي، فأغسطس حل بحكم الطبع محل البطالسة، وامتلك جميع أراضيهم، ومن ثَمَّ يشك المرء في أن طبقة الكهنة قد نالت في عصره نفس المراعاة والامتيازات التي كانوا يتمتعون بها من قبلُ.

أما طبقة رجال الحرب فبالطبع قد توارت أشباحها أمام جيش الاحتلال الروماني الظافر، وما حل بأرض هاتين الطبقتين فغامض وغير معلوم لدينا.

أما من جهة تقدير الخراج فإن ماركاردت روى عنه في كتاب «دليل المؤلفين الرومانيين» (ج١٠ ص٢٩٤) ما يأتي:

استمر فرض الخراج الذي بواقع خُمْس المحصول لغاية القرن الخامس بعد الميلاد، ولما كان في عهد البطالسة جانب من هذا الخراج يُدفَع نقدًا، والجانب الآخَر يُدفَع عينًا، فلا يُستبعَد أن الجانب العيني في عصر الرومان كان أكبر منه في عصر البطالسة، وأنه كان يستنزل من أصل الجزية كما كان الحال في هذا العصر. وكذلك كان الشأن في باقي المستحقات العينية بمصر في زمن الإمبراطورية، مثل: البلور، وأوراق البردي، والمنسوجات الكتانية والمشاقة، وغير ذلك مما كان يحتاج إليه البلاط الملكي والمصالح.

ويُؤخَذ من النص المتقدِّم أن مقدار ضريبة الخراج الذي كان مقرَّرًا في هذا العصر هو ٢٠٪ من المحصول، وأن أسلوب الري الذي كان معمولًا به في هذا الحين هو ذلك الأسلوب العجيب الذي وصفه لنا استرابون. وكان من فوائده أنه متى بلغ الفيضان اثني عشر ذراعًا يكون الوصول إلى جني أكبر محصولٍ من الأمور المحققة، وأنه إذا لم يصل إلا إلى ثمانية أذرع فقط لا يشعر أحد بحلول مجاعة، ومن ثَمَّ ينبغي أن نكون واثقين من أن المساحة التي كانت تغمرها المياه والمحصول الذي كان ينتج منها لا يقلان بلا مراء عنهما في عصر الفراعنة إن لم يكونا أزيد من ذلك. هذا، ومع الاسترشاد بما جُبِي في عصر العرب الذي كان بلا نزاع أقل عمرانًا وازدهارًا من عصر الرومان؛ نقدر أن القطر كان في حالةٍ تمكِّنه من أن يدفع بلا عناء خراجًا قدره ٤٥٠٠٠٠٠ج.م عن مسطح قدره ستة ملايين من الأفدنة، أيْ بواقع ٧٥ قرشًا عن الفدان الواحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤